فرقة في وحدة

كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد

لحضرة مرزا طاهر أحمد

رحمه الله تعالى

نقله إلى العربية

الأستاذ المرحوم الحاج محمد حلمي الشافعي

«رئيس تحرير التقوى السابق»

في صبيحة يوم الخميس، الثاني من آب عام 1990 اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت. فكشفت تلك الحادثة الغطاء عن هشاشة النظام العربي، وفتحت الباب لبداية تطبيق ما سمي بالنظام العالمي الجديد، الذي تكشفت فيه أنياب الدجال وأصبح يصول ويجول في العالم بلا هوادة ودونما رادع.

وقد تسارعت بعد ذلك الأحداث وتصاعدت، وها هو العالم العربي والإسلامي يعاني من آثار تلك الفاجعة وعواقبها وما تمخض عنها من دمار كبير ألمَّ بالأمة العربية والإسلامية.

وفي اليوم التالي كانت خطبة الجمعة التي ألقاها إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله تعالى)، تناول فيها هذا الموضوع الخطير وأعلن من خلالها أن القتال بين طائفتين مسلمتين هو من الأمور التي تناولها القرآن الكريم بالعلاج والحل، وأن المسألة ليست مشكلة عربية أو إقليمية، وإنما هي مشكلة إسلامية، ينبغي أن يُتَّبع في علاجها الوصفة القرآنية بأن يحلهـا المسلمون بأنفسهم بدلَ دعوة الغير للتدخل في أمورهم، حتى تكون يد الله تعالى مع أيدي المسلمين، وإلا تركهم لأنفسهم ولن يجدوا عندئذ علاجًا ناجعًا ولا حلاً صالحًا.

ومضت الأيام فالأسابيع ثم الشهور، وإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية يرقب الأحداث بعين المؤمن المسلم المشفق على أمر أمة محمد فاتخذ من خطب الجمعة المتواترة مئذنة يرفع منها صوت الإسلام.. صوت التقوى المجردة من الهوى وألاعيب السياسة وأباطيل الساسة والاتجار بالكلمات. ولكن قادة العرب والمسلمين كانوا قد عقدوا العزم على صمّ الآذان وإغلاق العيون، وجلس الشيطان على عجلة القيادة، وسار بهم إلى النهاية المحتومة.. فوقعت كارثة الخليج.

لقد تمكّن الدجال من سَوْق الأمم المتحدة، وجنّد أجهزة الإعلام، وحشَدَ قواه.. وأنـزلَ بالأمة الإسلامية أشد الضربات. وذلك، لسوء الحظ، بسبب ما قام به بعض حكام المسلمين من إجراءات خاطئة حمقاء. فأصاب الأعداء أمة المصطفى بجروح عميقة لن تندمل، فيما يظهر، لأمد بعيد. لقد ضاعت في الكارثة أموال وثروات ومدّخرات كانت كفيلة بإنعاش بلاد إسلامية تحتاج اللقحة وشربة الماء. وأُزهقت أرواحٌ، وسُفكت دماء، وانتهكت حرمات، وضاعت كرامات، وانقطعت أرزاق، وشردت جماعات، وغُرست أحقادٌ وثأرات، وضاع الأمن والأمان من الملايين. وانكشف غبار المعركة.. فإذا بالمتقاتلين المسلمين في خسارة.. وإذا الرابح في المعركة طرف آخر لم يشترك فيها، وخرج بمعظم الأرباح. نعم.. لقد نالت إسرائيل كل الغنم، وحققت أغراضها، وضمنت أمنها، وتوقدت مكانتها، واستقرت قريرةَ العين هادئة البال.

لقد نبَّه حضرته، أيده الله، أمةَ الإسلام وكذلك سكان دول العالم الثالث عن دموية حلم النظام العالمي الجديد. وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة على صحة كثير من هذه المخاوف، وما تخفي صدورهم أكبر والعالم الآن بانتظار مزيد من الويلات التي تلوح في الأفق.

فالعبادة الحقة لله تعالى، وبذل التضحية لأجله، وإحداث تغير داخلي تتطلب نضالا طويلا. يجب إعادة إنشاء الإسلام في نفوسهم بالتدريج، وهذه أيضا معركة هامة ينبغي على الأحمدية كسبها.

هذه السلسلة من الخطب قُدِّمت للقارئ العربي في صورة كتاب “كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد” بعد تعديلات مناسبة وإضافات ضرورية من صاحبها. وها نحن نقدم مختارات من هذا الكتاب اجتهدنا في اقتطافها وفقا لما رأيناه مناسبا للوقت أو المرحلة، أو لما أردنا أن نذكر به القارئ المؤمن النجيب. فإن الذكرى تنفع المؤمنين. آملين من الله تعالى التوفيق.

وإليكم فيما يلي المقتبس:

…… فبالرغم ما تسمعونه من أصوات ترتفع في الغرب ضد التفرقة العنصرية، حتى أنهم يعتبرون نسبة أحد إلى العنصرية سبة شديدة، ولكن ذلك كله رياء وتظاهر. فكل حركة قامت هذه الأيام ضد العنصرية إنما بدأها اليهود على نطاق واسع؛ وكان الهدف دائما وقف التعصب العنصري ضد اليهود وحدهم. وما دامت التفرقة العنصرية من جانب اليهود فلا حرج ولا اعتراض على ذلك. هناك دعاية عالمية واسعة النطاق.. تتردد في جنبات أوروبا وأمريكا بصفة خاصة لتحطيم أي حركة تمييز عنصري ضد اليهود. وفي هذا الصدد يحيون فظائع التفرقة العنصرية أيام النازي.. ويضعونها أمام الغرب في صورة مسرحيات ومطبوعات تُذاع في الآفاق، ويهددون بالويل والثبور حتى لا يحيي أحد هذه الجرائم ضدهم مرة أخرى. وفي الوقت ذاته لا يزال العقاب ينـزل بمجرمي الحرب القدامى حتى اليوم.. ليذكِّر الناس بأنه إذا حاول أحد منهم معارضة اليهود بمشاعر التعصب أو حاول اضطهادهم.. فلن يُغفر له ذلك أبدا.

فالحركة التي تجدونها ضد العنصرية هنا إنما هي في الواقع تتعلق بهذه الدائرة المحدودة. والواقع أن العنصرية تتزايد بين هذه الأمم بقوة عظيمة، ولكنها موجهة نحو بلاد الشرق وأفريقيا، أو ضد الإسلام.. حيث يقدمون الإسلام أحيانا بصورة أمة، ويستحثون مشاعر التعصب ضدها، وأحيانا يقدمونه كدين وكمجتمع، ويثيرون مشاعر العنصرية الدينـية والاجتـماعية ضده……

تَنامي العنصرية في أوروبا

والتغيرات التي وقعت في أوروبا، والتي أشرت إليها، سوف ينتج عنها تنامي القومية ثم العنصرية في أوروبا.. مع العلم أن هناك صلة عميقة بين القومية والعنصرية؛ والفارق الوحيد بينهما هو المجال. وسكان روسيا لا ينتمون إلى قومية واحدة. هناك أنواع شتى من الدول في العالم، بعضها تقوم على القومية وتستقر عليها؛ وبعضها تقوم على فكر معين. وفي دولة إسرائيل يجتمع الأمران معا: القومية والفكر. ولكن وحدة القومية في معظم بلاد العالم غير واقعية، وإنما تضم الدول قوميات شتى، ويجاهدون جميعا حتى لا تتجه أفكار القوم ناحية الفوارق القومية.. وإلا انقسم الوطن إلى أجزاء. وهذا أعظم مشاكل المملكة المتحدة. فمن ناحية هناك سكتلندا شمالا، وويلز غربًا، ثم إيرلندا. والاختلافات بين الشمال والجنوب تتخذ شكل الفوارق القومية. وأهم هذه الفوارق فيما بين الإنجليز والأسكتش، والإنجلــيز والويلـش، والإنجلـيز والإيـريش. ترون بريطانيا العظمى أو المملكة المتحدة دولة واحدة، عندما تتعرض لخطر خارجي أوسع مدى تتلاحم مصالح هذه الأمم سويا، وتقوى البلاد من الداخل، ويبرز مفهوم بريطانيا العظمى. ولكن عندما يأتي السلام ترفع الفوارق القومية رؤوسها، ويتهدد خطر فقدان الثقة فيما بينهم، وتبدو صلات الأنانية، ويشرعون في تقييم علاقاتهم بمعايير القومية. وتؤدي الأنانية على مستوى القومية إلى انقسامات ….

القومية الواحدة مفقودة

هذا مثال يبين أن معظم بلاد العالم سواء أمريكا أو المملكة المتحدة أو ألمانيا أو أية دولة أخرى.. لا تقوم حقا على أساس أمة واحدة. وبحسب قول العلماء، لو كانت هناك دولة تقوم على قومية واحدة فهي تركيا. ولكن هذا أيضا ليس صحيحًا في الواقع، لأن الأكراد يرون أنفسهم منفصلين تماما عن القومية التركية.. فقيمهم ولغتهم ومزاجهم مختلفة تماما عن الأتراك الآخرين. وهذا هو السبب في الكراهية الشديدة وفقدان الثقة بين القومين. ويقوم الأكراد بدعاية واسعة في العالم، والله أعلم بمدى ما في قولهم من صدق أو باطل.. بأنهم يتعرضون منذ زمن طويل لفظائع من جانب الترك. وباستثناء الأكراد، يمكن القول بأن تركيا وطن قومي يضم أمة واحدة…. وسوف يُعتبر صالح تركيا مرتبطا بفكرة اتحاد الأتراك في أنحاء العالم، واستخدام كلمة تركيا لبلد أوسع بكثير مما هي عليه الآن، وسيتولد مرة ثانية تصور تلك الدولة التي أُطلق عليها الإمبراطورية العثمانية.

المسلمون في الاتحاد السوفيتي

وفي الجانب الآخر يوشك أن يلعب الإسلام في تلك البلاد دورا. فالبلاد القريبة من إيران، أيًا كانت لغتها.. بها نفوذ إيراني، وسوف تستقطبهم إيران. وكون كثير منهم من الشيعة سوف تساعدهم إيران في هذا الشأن. ثم هناك شعوب سُنية، وبصرف النظر عن اللغة التي يتحدثونها.. سوف يجتذبهم عالم الإسلام السني بثرواته، وذلك إذا تركه العدو ليفيق.

على أي حال لقد وصل الاتحاد السوفيتي إلى مرحلة التفكك، وهو على وشك الانقسام. إذا ما برزت قوة مفاجئة تحول بينهم وبين الانقسام فهذا شيء آخر، أما إذا بقي الحال كما هو عليه، فلا أرى بحسب دراستي للموضوع أية قوة داخلية أو خارجية يمكن أن تحفظ الاتحاد السوفيتي. والسبب الأساسي في انقسامه أن وطنهم قام على نظرية، وذلك كما صنعت النظرية باكستان. إن قيام الاتحاد السوفيتي كبلد على خريطة العالم لا يستند إلى قومية معينة، وإنما إلى النظرية الشيوعية. أما قبل ذلك.. فقد كان غزو القيصر لكل هذه المناطق استعمارا محضا.. احتلت فيه هذه القوة الأوروبية كثيرا مما جاورها من المناطق الإسلامية، كما كان الأمراء المسلمون قد غزوا روسيا وحكموا الأجزاء الأوروبية منها. ثم تغير الموقف. وعند ثورة 1918م في روسيا أسست النظرية الفكرية وطنا لا يقوم على أمة. وبدأت روسيا دعاية قوية في العالم بأن الوطن لا يتأسس على القومية، وإنما يقوم على الفكرة. وقالوا إن نظريتهم عالمية، وسوف تقوم بها الأمة الشيوعية العالمية على الأرض. وانتفاعا من هذه الفكرة مهّدوا كثيرا لتوليد النـزاعات بين البلاد الصغيرة. وعندما انتشرت هذه النظرية قامت بعض المعارك ضد القومية. ولكنها صادفت في بعض الأماكن صِدامًا مكشوفًا مع الإسلام الذي يدعو أيضا إلى إقامة الوطن على أساس من النظرية، إذ إن الإسلام أيضا يدعو إلى إقامة وطن عالمي على أساس النظرية الفكرية. والحق أنه لا يوجد مفهوم للأمة غير ذلك….. عندما انهزمت النظرية الشيوعية في روسيا.. التي كانت محورًا ترتبط به الأمم بقوةٍ في الاتحاد السوفيتي، وانفلت الزمام منها.. فلا بد من الانقسام والفُرقة، ولا يمكن لقوة في العالم أن توقف ذلك.. إلا إذا حدث رد فعل بسبب ضغوط خارجية، ورأت هذه الأمم أن من صالحها الترابط مع بعضها. ولكن فكرة المصالح التي لمَّت شمل الولايات في أمريكا الشمالية ليست قابلة للتنفيذ في روسيا الآن؛ لأنه بالرغم من سابق اتحاد هذه الأمم تحت النظرية الشيوعية، فإنها عوملت معاملة غير عادلة باستثناء الأمم الغربية في الاتحاد السوفيتي. وحتى الجانب الأوروبي من الاتحاد كان مقسَّمًا إلى عدة أمم. وفيما يتعلق بالنظام الاقتصادي الروسي والتواصل بين هذه الأمم.. فواقع الأمر أن الشعوب المسلمة وبعض الأمم المتخلفة الأخرى لم يكونوا أبدا شركاء متساوين في الاتحاد السوفيتي. وبالنظر لمصالحـهم الاقتـصادية وازدهارهم الصناعي فإنهم لاقوا الإهمال، وبدلا من محاولة التعايش سويا تحت مفهوم المصالح المشتركة القومية فإن الموقف انعكس تماما. فليست هذه الأمم مستعدة للتفرق تلقائيًا بسبب انهيار النظرية الاشتراكية الروسية، بل إن ذكريات الفظائع والمظالم السابقة تحثّها على ذلك أيضا.

أما الإسلام فإنه كدين لا يستطيع في الوقت الحاضر أن يكون لـه تأثير هناك، لأن الغالبية العظمى من هذه الشعوب صاروا في الواقع غير متدينين، وإن دعوا أنفسهم مسلمين، ليس الشباب وحدهم، بل في القادة الدينيين أنفسهم لن تجدوا تصورا حقيقيا لذات الله عز وجل، وإنما هو مفهوم من نوع خيالي. فالعبادة الحقة لله تعالى، وبذل التضحية لأجله، وإحداث تغير داخلي تتطلب نضالا طويلا. يجب إعادة إنشاء الإسلام في نفوسهم بالتدريج، وهذه أيضا معركة هامة ينبغي على الأحمدية كسبها.

نعم، إن الإسلام سوف يؤثر عليهم بطريقة أخرى، ألا وهي علاقة الإسلام بالقومية. ويمكن أن يقوم المسلمون في الاتحاد السوفييتي بتطبيق مفهوم الأمتين الذي قدم دكتور إقبال شكلا منه، ليتحرروا من اتحاد الجمهوريات السوفييتية، ولحثهم على التمرد. ولكنهم لن يفعلوا ذلك لأنهم لا يؤدون الصلاة أو أنهم في الثورة الجديدة سوف يحرَمون من الحرية الدينية، وإنما الهدف عكس ذلك تماما. لسوف يبرز هذا المفهوم القومي كقوة عظيمة. إنهم في هذه الأحوال المتغيرة في الاتحاد السوفيتي.. يمنحون حرية دينية، ليس في المناطق المسلمة وحدها، وإنما في المناطق الأوروبية أيضا، ومن أجل النصرانية يقومون بتغييرات كثيرة في القـوانين.. سـوف تؤثر بالتأكيد في المناطق الإسلامية أيضا. فلو كان رد فعل المسلمين هذا لأجل الإسلام لرأينا تزايد تدخل الحكومة في أمورهم؛ ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما الواقع أنها لما كانت تتدخل في أمورهم لم يكن من جانبهم رد فعل. على أي حال.. لا يوجد في الوقت الحالي جزء من الاتحاد السوفييتي يستطيع طلب التحرر باسم الإسلام. فالأجيال الجديدة التي تفكر في التمرد على الحكومة المركزية الروسية ليس لهم علاقة بالإسلام.. بل الغالبية العظمى منهم لا تعرف كلمات الصلاة ولا تستطيع تلاوة القرآن الكريم. إن حب الإسلام يستيقظ، ولا ريب؛ وهذا هو الحب السوي الذي يجب أن ننتفع به، ولكن تحول الحب إلى عمل لَفكرةٌ خيالية لا علاقة لها بالواقع. وإنما حدث إلى الآن أن هذا الحب يتحول إلى عنصرية، أو إلى صورة قومية، ونتيجة لذلك تشب أفكار التمرد بين هؤلاء الناس.

مفهوم”الأمة الإسلامية”

وهذه أفكار سيستغلّها العالم الإسلامي من خارج روسيا. فعالم الإسلام السنّـي سوف يحاول استقطاب أصحاب هذه الأفكار، وعالم الإسلام الشيعي سيفعل نفس الشيء. كـذلك فإن الفوارق المذهبية والقومية الأخرى الموجودة بين طوائف الإسلام ستطفو على السطح لتتنافس كل منها في التأثير على أكبر عدد ممكن من مسلمي الاتحاد السوفييتي. وهذا ميدان للمعارك سوف ينفتح، وسوف يتضرر هؤلاء المسلمون السوفييت إذا لم تتحرك الجماعة الإسلامية الأحمدية بسرعة لتقدم لهم حقيقة الإسلام، ذلك الإسلام الذي لا علاقة لـه بالعنصرية، ولا علاقة لـه بذلك المفهوم عن القومية الموجود في العلاقات الدنيوية بين الأمم. إن للإسلام مفهومًا عالميا ينفي كل عنصرية وقومية؛ وحيثما توجد هذه النظريات الخاطئة يعاني الإسلام منها أضرارا فادحة. ولذلك أعلن القرآن الكريم في الآية التي تلوتها عليكم: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا بأن الناس متساوون.. ولا تفرقة بينهم إلا من حيث كونهم ذكرًا وأنثى. ولا يمكن أن تقوم عنصرية أو قومية على أساس من الذكر والأنثى. ولو فعلتم ذلك لكان خطأ محضا، لأنه بدون الذكر والأنثى لا يمكن للجنس البشري أن يستمر وجوده. ويعني قوله وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارَفوا .. ليعرف بعضكم بعـضا، ويتميز أفرادكــم بالأسماء…. وهكذا وضع القرآن الكريم هذا المثال مستخدما كلمة (تعارف)، فبين أنكم لو ذهبتم وراء ذلك لوقعتم في الحماقة والجهالة. انقسام الناس إلى أمم يمتد إلى حدود التعارف فقط. وإذا ما بقي هذا الانقسام للتعارف على الأمزجة والطبائع فلا اعتراض على ذلك، ولكن لا يحق لهذا الانقسام أن يتعداه.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. فلا يسمح القرآن الكريم للتفرقة بين أمة وأمة أخرى وبين فرد وفرد آخر إلا على أساس واحد.. ذلك هو التقوى. فإذا كان المرء تقيًّا لقي التكريم، بصرف النظر عن قوميته أو عقيدته أو لونه أو مولده. فالتقوى تربط ساكن إنجلترا بساكن ويلز، والتقوى توحد بين أهل ويلز وأهلِ إسكتلندا، والتقوى تصل بين الإسكتلنديين والإيرلنـديين. وبالمـثل ستجعل جميع هؤلاء في انسجام مع من يعيشون في أفريقيا، وتجعلهم في وئام مع العرب ومع أهل روسيا والصين واليابان وأمريكا، بل كل سكان الأرض الذين يتصفون بالتقوى سوف يتحدون سويا. وهذا هو مفهوم الأمة كما يقدمه الإسلام، وليس هناك أي مفهوم آخر للأمة. سيكون التكريم على أساس من التقوى وحدها. والتقوى وحدها هي التي تستحق ألا تغيب عن الذهن وتبقى ماثلة فيه دائما. والذين يتماثلون في المزاج، ويتحدون باسم الخير والفضيلة سوف يكونون أمة من المتقين، ولكن لا علاقة لها بالانقسامات أو الفوارق السياسية.

فُرقة في وحدة

وفي الوقت الذي تؤثر فيه هذه التغيرات في روسيا، ويتفاقم مفهوم القومية في صور خاطئة، يحدث هذا في أوروبا وبلاد الغرب أيضا، وتنشأ أنواع جديدة من التحيز العنصري تتصل بالداخل والخارج أيضا. فمن الداخل سوف تبدأ في أوروبا مشاعر عدم الرضا وفقدان الثقة، وهي بالتأكيد سوف تحرض أمة على أمة. إذا كانوا اليوم يغبط بعضهم بعضًا ففي الغد سوف يتحاسدون. تبدو أوروبا من جانب تتوحد، ولكن بذور الفُرقة قد بذرت في تيار الوحدة هذه، ولا مناص من أن تنبت في أوروبا المتحدة خلافات شديدة وسوف تُثار المزيد منها، بسبب عدم الثقة والغيرة بين بعضهم البعض. خذوا على سبيل المثال ألمانيا التي سوف تنهض كقوة كبرى. لا تتحدث بعض الدول صراحة عن مخاوفها من المخاطر المتوقعة من ألمانيا.. ولكنها في باطنها قد تنطوي على شيء من الخوف. أما هنا في المملكة المتحدة فإنهم يعبرون عن هذه المخاوف مرارا، ويقولون إن ألمانيا سوف تنهض كقوة عظمى، ومن المحتمل أن تعيد أخطاءها الماضية التي ترتبت عليها حروب عالمية كبرى. فمنذ فترة قريبة استقال نائب وزير من منصبه هنا لنفس السبب، عندما عبَّر عن هذه الأفكار في ألمانيا، واعتبرها الألمان أفكار الوزارة البريطانية، مع أنها كانت فكرته الشخصية. أما الوزارة فلم تتنصل من قوله فحسب، بل مع أن له حق التعبير عن رأيه..جعلته يستقيل. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل لا يزالون يرفعون أصواتا كهذه مرة بعد مرة. فمنذ وقت قريب في السويد، في مقابلة تليفزيونية مع أحد المفكرين البريطانيين وهو” أنتوني بيرجس”MR. ANTHONY BURGISS، وربما غطتها بعض الصحف أيضا، قدموا الضيف بوصفه مفكرا لـه معرفة عميقة بالإسلام، وله علاقات واسعة قديمة مع البلاد الإسلامية، ومكث بها مدة طويلة، وأحب دراسة الإسلام كثيرا حتى خُشي عليه من الدخول في الإسلام.. ولكن الله حفظه من هذا السخف! قدّموه كما لو أنه قد اقترب من الإسلام جدًّا حتى اكتشف شيئا ما فارتدّ راجعًا‍‍! قدموه على أنه الخبير بسياسات المسلمين وجوهر الإسلام. وكان هذا في الواقع هو الغرض من زيارته لأوروبا والإدلاء بآرائه في مناسبات عديدة. لقد جعل الإسلام هدفًا لهجماته الشرسة. وتتلخص أحاديثه في أنه لو كان هناك دين في العالم يناهض حرية الإنسان وحرية الضمير فهو الإسلام، وأن أشد الأخطار التي تواجه حرية الضمير اليوم تأتي من جانب الإسلام. وفي النهاية طُرح عليه ذلك السؤال الذي يتردد على ألسنة الإنجليز: في أي صورة سوف تنهض ألمانيا في هذا العالم؟ وقال في أثناء جوابه: كما أن ألمانيا تبرز هذه الأيام كخطر يتهدد أوروبا..كذلك ينتصب الإسلام خطرا يهدد حرية الضمير. عند ذلك تصدَّى لـه عضو من شرق أوروبا في المحفل الذي كان فيه، وعارضه بقوة قائلا: إن المثال الذي ضربته مثال خاطئ. قد أتفق معك في حال الإسلام، ولكن ألمانيا لن تكون خطرا. إني أعرف الجيل الحاضر جيدا. إنك تقوم بهذه الدعاية بدون أساس. ولكن هذه الأمور ليست من قبيل الدعاية، بل تتصل بسيكولوجية البشر. فالأمم التي تتصف في جوهرها بالأنانية، ويتصل مفهومها عن العدالة اتصالا عميقا بالقومية.. تتغير مفاهيمهم عن العدالة في المعاملات المتبادلة. فعندما يكون هناك نزاع خارجي.. تمتزج مفاهيم العدالة عند الإنجليز والويلش والإسكتش والأيريش وتتوحد وتبرز كمفهوم بريطاني. وبالمثل يبرز مفهوم ألماني واسع لا ينتمي إلى شرق ألمانيا أو غربها، ولا إلى شمالها أو جنوبها. فالوطنية تأخذ بالتدريج لون العنصرية، وتأخذ في الانتشار داخل الحدود الوطنية، وتتوحد الأمم الصغيرة وتكون جبهة ضد الأمم الأخرى. وعندما تتصادم مصالحهم جميعا مع العالم الخارجي يتغير مفهوم الوطنية إلى مفهوم العنصرية. فيبدأ مفهوم الأبيض والأسود، ويتصارع الحمر مع الصفر، ويقع ذو اللون البني فيما بين هؤلاء وهؤلاء، ويقاسون ويلات التعصب من الفريقين…..

تحاسُدُ روسيا والصين

أيًّا كانت الفوارق التاريخية بين روسيا والصين.. فإنهم ينسبونها عموما إلى اختلافهما في فهم الفلسفة الشيوعية وفي تفسيرها، ولذلك لم تتمكن الدولتان من الاتحاد. والحقيقة أن هذه الفوارق سطحية، وإنما الفوارق الجوهرية أن روسيا في قمة عظمتها وقوتها لم تتحمل أن تحكم الشيوعيةُ العالمَ عن طريق ذوي البشرة الصفراء من الصين، ولم تتحمل الصين أن يُحكم العالم من خلال الشيوعيين البيض الأوروبيين. فالغيرة التي كانت بين البلدين إنما كانت لما بين الأمة البيضاء والأمة الصفراء من تحاسد وغيرة. ومع أنها ظلت مكتومة ولم تبرز في هذه الصورة.. إلا أن العارفين بسيكولوجية القومية يعرفون أنها ليست صراعات على المفاهيم الشيوعية، وإنما هي الغيرة بين اللون الأصفر واللون الأبيض والأحمر..التي كانت وراء هذه الخلافات وما نشأ عن ذلك من عدم ثقة. وأيا كانت المواقف المتغيرة فإن هذه الفوارق سوف تزداد فيهم. وعلى الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تحارب هذه الفوارق مباشرة.

الغرب في قبضة إسرائيل

وفي الختام أناشدكم مرة أخرى الدعاء من أجل صالح العراق والعرب والأمة الإسلامية. لقد أوضحت الموضوع بالتفصيل من قبل، فلا داعي لتناوله مرة أخرى. الموقف الجديد الذي برز أمامنا، كما سبق وذكرته، يكشف كيف أن عالم الغرب قد وقع بِرُمَّته في قبضة إسرائيل، وبات فريسة لسياستها.. بحيث لا مفر لهم من القضاء على القوة العراقية الصاعدة.. لكي تضعف قوى البلاد الإسلامية الأخرى وتتفتت وتتفرق.. ولكن ينبغي عند التنفيذ ألاَّ تكون المعركة بحيث يقف المسلمون في جانب والنصارى في جانب آخر، أو أمم الشرق في ناحية وأمم الغرب في ناحية أخرى، بل سياستهم هذه المرة تمخضت عن خطة محكمة، ليدخلوا فيها بلادا أخرى حتى اليابان. وهناك بالفعل محاورات داخل اليابان للمشاركة في الهجوم لتدمير العراق؛ وقد قدموا بالفعل مشروعات أمام البرلمان الياباني لتغيير القانون الياباني الذي فُصِّل حسب إملاء قوى الغرب، والذي أرادوه قانونا لا يتبدل، والذي يقضي بألا يخرج الجيش الياباني عن حدوده الوطنية للمشاركة في أي حرب، وألا يتورط في أي عمليات عسكرية داخل حدود بلد آخر. وهو نفس القانون الذي فصّلوه لألمانيا ثم ألغوه. إنهم لعداوتهم للإسلام، ورطوا اليابان في هذه الحرب حتى تشارك في القضاء على القوة الإسلامية الصاعدة.. فلا يحتج أحد بأنها لعبة العالم الغربي وحده، ولا يكون هناك تقسيم شرق وغرب أو إسلام ولا إسلام، بل ينبغي أن تشارك بلاد عربية وإسلامية وغربية. اليابان قوة عظمى، ولها مصالح اقتصادية ترتبط كثيرا بالبلاد المنتجة للبترول. وحتى لا تبقى اليابان بمنأى عن الصراع فتكون الكراهية المتولدة عن هذه الحرب وقفا على الغرب وحده، خططوا أن تدخل هذه الدولة في هذا المأزق لتنال نصيبها من العواقب، خصوصا أنها المنافس الاقتصادي الوحيد للغرب. فإنهم بذكاء كبير وخطة خبيثة.. أشركوا اليابان معهم.

وسوف ألخص لكم ما يدور في الندوات، وما يقوله أهل الفكر منهم كي تعرفوا مدى فظاعة خطتهم، وكيف سيترتب عليها أضرار عميقة ولأجل طويل؛ أضرار لا يقتصر أثرها على عالم الإسلام وحده، وإنما سوف تصيب دول الشرق الأخرى أيضا؛ وربما لا تسترد بعض البلاد عافيتها من جرائها، وتمكث طويلا تلعق جراحها ولن يكون أمامها خيار بديل.

منافع يَجْنيها الغرب

أولا، هذه الحرب التي سوف تُفرض هناك، من أين يأتون بنفقاتها الهائلة، ومع ارتفاع أسعار البترول.. كيف يعالج الضرر الذي يصيب الصناعة الأوروبية؟ إنهم يعقدون ندوات في بلاد عديدة تلقيت التقارير عما دار فيها، ولا أستطيع أن أقدم لكم التفاصيل كلها.. لكن في ندائي للدعاء أخبركم بإيجاز أن الخطة تقضي بأن تتحمل البلاد العربية المسلمة كل نفقات هذه الحرب المسلَّطة عليهم. ولقد وقعوا تلك الاتفاقيات مع السعودية والكويت وبلاد أخرى، وسوف تلتزم السعودية بدفع النصيب الأكبر. ولما كانت معظم ثروة السعودية في قبضة الأمريكان فلا مجال للسعودية للتهرب من الدفع.

وثانيا، إنه بسبب ارتفاع أسعار النفط المرتقب وقعت اتفاقية بأن تسدد البلاد العربية للغرب أية أضرار مالية تترتب على هذه الزيادة. ولا نستطيع الجزم بالطريقة التي سُوِّيت بها تلك الاتفاقيات، ولكن أهل الرأي منهم بيَّنوا هذا الأمر بوضوح في تلك الندوات، ولا دليل لنا وراء ذلك. لقد صرحوا بأن العرب مضطرون إلى عدم تخفيض أسعار البترول المصدر للغرب حتى لا تطالب الدول الأخرى بتخفيض مماثل. وعلى أي حال لن يتضرر اقتصاد الغرب.. لأن العرب وافقوا على رد أي زيادة في أرباحهم البترولية من بلاد الغرب.

وثالثا، قرروا أن المسألة ليست مجرد استرداد الكويت، بل لابد من إبادة القوة المتنامية لصدام حسين..في كل موقع ومن كل وجه. لذلك تسمعون تلك الضجة الجديدة بأن صدام حسين لا يملك أسلحة كيماوية فقط، بل لديه أيضا أسلحة بيولوجية، يستطيع بها نشر الجراثيم المهلكة في الأماكن الأخرى، وأن عنده تكنولوجيا متقدمة لهذا الغرض، يصعب اتخاذ إجراءات وقائية ضدها. فعنده مثلا جراثيم الجمرة التي تصيب الجلد بأورام شديدة خبيثة تسمم الدم وتقضي على المصاب في حال أليم. ومع أن اكتشاف الجمرة كسلاح هو من اختراع الغرب إلا أنهم يقولون بأن العراق حصل على هذه التكنولوجيا، ولديه أسلحة التيفويد والكوليرا وأمراض أخرى كثيرة.

…. بل كل سـكان الأرض الذين يتـصفون بالتقوى سوف يتحدون سويا. وهذا هو مفهوم الأمة كما يقدمه الإسلام… سيكون التكريم على أساس من التقوى وحدها. والتقوى وحدها هي التي تستحق ألا تغيب عن الذهن وتبقى ماثلة فيه دائما.

ومع وجود أمصال واقية وشافية من هذه الأمراض إلا أنهم يذيعون الدعايات بأن العراق يعد مزيجا رهيبا من هذه الجراثيم لنشرها في العالم.. ويتعذر وقاية كل إنسان منها. وفي حدود علمي أنهم لم يذيعوا هذه الأمور على العالم إلا قبل أيام على الموقف الحالي، كما أن العراق لم يهدد بذلك، وكل ما هدد به العراق هو الحرب الكيمياوية؛ ولكنهم يستخدمون هذه الدعاية لشغل الرأي العام العالمي وخداعه والسيطرة عليه. والله تعالى أعلم بمدى ما في ذلك من حق أو باطل، ولكن هدفهم من ذلك أنْ لو دمرنا العراق بأكمله وسوينا به الأرض ولم نترك منه شيئا.. فلا بد من إقناع الرأي العام بالسبب وراء ذلك.

إنهم عندما يعلنون في الغرب أنهم عقدوا اتفاقيات حول كذا وكذا من الأمور فلا يعني ذلك أنهم يفشون أسرارهم، وإنما يفعلون ذلك مضطرين بغرض الدعاية.. لأنهم يعرفون أن أهل الغرب يميلون إلى الأسباب الاقتصادية كثيرا، ويقولون في أنفسهم لو كان هناك عجز فسوف نقاسي من أضرار اقتصادية كبيرة من جراء هذه الحرب.. فلن يسمحوا للسياسيين بدخول الحرب. فهذه أسبابهم الاضطرارية. ليس هناك جاسوس ينشرها، فهم بأنفسهم ينشرونها ويتحدثون عنها علانية، لأنهم يريدون إقناع الرأي العام الغربي، وهم يقبلون بهذه التضحية لتحريكه في اتجاههم. وهذا معناه أنهم قد أعدوا للحرب إعدادا تاما. بل إن عالم الإسلام نفسه مستعد لمساندته في هذه الحرب المفروضة للقضاء الأبدي على مصالح الإسلام على المدى البعيد. هل يمكن أن ينشأ في ذهن الإنسان فكر أشد فظاعة من أن معظم البلاد الإسلامية، بما فيها باكستان، سوف يعينون عالم الغرب معاونة تامة، ويتحملون مسئوليات أعمالهم كاملة.. لإبادة قوة إسلامية صاعدة بحيث يزول أثرها من فوق سطح الأرض؟!‍‍

نحن لا نملك سلاحا سوى الدعاء. ولقد طلبت من الجماعة الدعاء، ودعوت بنفسي. وإني على ثقة من أنكم ذكرتم هذا الموضوع في دعائكم. هذا خطر يتهدد كل عالم الإسلام. إنه ليس خطرا عاديا..بل سوف تتلوه أخطار كثيرة، وسوف تكون لـه ردود فعل، وتنشأ بعده نعرات قومية أكثر، ويتزايد مفهوم العنصرية، وسوف تمر خريطة العالم القادمة بمراحل من التغيرات العالمية، ولسوف تأخذ هذه الخرائط وقتا حتى تتشكل، ولكن إذا ما نشطتم في هذه المرحلة، ومن خلال دعائكم، ومن خلال قدراتكم الفكرية والخلقية.. إذا كنتم مستعدين لمحاربة كل هذه المخاطر، ولوضعتم جبهة جريئة بإزائها، عازمين بقوة وإخلاص كامل على ألاَّ تتأخروا أبدا عن أي تضحية لحماية الإسلام.. فإني أؤكد لكم أن دعاءنا وجهودنا المخلصة سوف تسيطر على الموقف في العالم بطريقة طيبة. وبإذن الله تعالى لن نَدَعَ المؤامرات ضد الإسلام لتنجح. اللهم أَعِنَّا ومَكِّنّا من ذلك. آمين!

26 أكتوبر 1990

Share via
تابعونا على الفايس بوك