القتل باسم الدين الحلقة السادسة

الفصل الثامن … رحمة للعالمين ..

“كانوا من المهارة بحيث أدركوا أن مشاعر المسلمين أشد ما تكون إثارة عندما تبلغهم إهانة حقيقية أو متوهمة للنبي ، فأعلنوا على الناس أن كل جهودهم تهدف إلى المحافظة على نبوة النبي ، وردّ الهجمات عن شرفه.. ونجحت اللعبة، واجتذبوا عددا أكبر من المتفرجين إلى اجتماعاتهم. ولما كان بعض الخطباء من حزب الأحرار متمرسين في اختيار الكلمات والتعبيرات، واللعب بالتشبيهات والاستعارات، ويحسنون تزويق حديثهم بلمحات من الفكاهة البذيئة.. سرعان ما اكتسبوا لهم شعبية..” (لجنة تحقيق القاضي منير)

ذم الأنبياء قديم قدم النبوة نفسها، ولم يسلم منه سيدنا محمد ، فقد استهزأوا  به، لا في الفترة المكية وحدها وإنما في المدينة أيضا عندما كان يملك المقدرة على العقاب. فقد كان لليهود ألسنة حداد، ومزاح مغرض، فلم يدعوا فرصة للسخرية بالنبي إلا اغتنموها.

وبعد الهجرة تحالف المكيّون مع اليهود لوقف تقدم الإسلام. وكان المنافقون قد شرعوا في أعمال الطابور الخامس. ففضلا عن مكائدهم وحربهم  أنشأوا شبكة اتصالات لبث الإشاعات ضد الإسلام. كان دعاتهم من الشعراء الذين وصفهم (ماكسيم رودنسن Maxim Rodenson) بأنهم صحافة اليوم، ووصفهم (كارمتشيل Carmichael) بأنهم مؤججو نار المعارك.. فعيروا مسلمي المدينة بأنهم أذلوا أنفسهم وسلموا أعنتهم لغريب عنهم. أنشد (أبو عفق) و هو من بني عمرو بن عوف.. يتعجب من مسلك بني قيلة، أي الأوس والخزرج:

>

لقد عِشْتُ دَهْرًا وما إنْ أَرَى

من الناس دارًا ولا مجمَعَا

.

أَبرَّ عهودا وأَوفَى لمن

يعاقد فيهم إذا ما دعا

.

من أولاد قيلةَ في جمعهم

يهدُّ الجبالَ ولم يخضعا

.

فصدَّعهم راكبٌ جاءهم

حلالٌ حرامٌ لشتى معا

.

فلو أن بالعز صدقتهم

أو الملك .. تابعتُمُو تُبَّعَا

أراد أبو عفق أنهم رفضوا الخضوع لملك اليمن المشهور (تُبَّع)، فما الذي جرى لهم حتى يقبلوا التسليم للاجيء جاءهم من مكة، فهدَّ جاهَهم، وحلل وحرم فيهم.

وفي نفس الوقت اختير كعب بن الأشرف رئيسا لليهود، واغتم لخسارة قريش في يوم بدر، فقال يرثي قتلاهم ويحرض قريشا على النبي :

ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا

عن القول يأتي منه غير مقاربِ

.

أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة

لقوم أتاني و دهم غير كاذبِ

.

فإني لباك ٍ ما بقيتُ و ذاكر

مآثر قوم مجدهم بالجباجبِ

يقول لأهل المدينة أن اطردوا ذاك السفيه الذي لا معنى لقوله. ويدفع لومهم لبكائه على قتلى بدر الذين يربطهم به ود صادق، وسيبقى ذاكرًا أمجاد أهل مكة طول حياته.

من الواضح أن الغرض من هذه الحملة البذيئة المسعورة هو بذر بذور الفرقة بين الأنصار والمهاجرين من ناحية، وبين الأوس والخزرج من ناحية أخرى. وكادت الحملة تؤتي ثمارها عندما أمر (شعث بن قيس) من بني قينقاع، أحد فتية اليهود أن ينشد بعض الشعر الذي قيل في يوم بعاث، وهو يوم كان بين الأوس والخزرج، وانتصر فيه الأوس، أمام جماعة تضم القبيلتين. فذكر القوم ذلك اليوم، وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن. وتواعدوا وتنادوا: السلاح السلاح! وما أن بلغ الخبر النبي حتى أسرع إليهم فيمن معه من المهاجرين، وقال لهم:

“الله الله! أبدعوى الجاهلين وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر، وألّف بين قلوبكم”؟

ونزل بهذه المناسبة قول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران: 101-104)

هكذا كان القلق والاضطراب الذي أثاره الشعراء في المدينة عندما قرر النبي أن يوقف حملتهم ضد أمن الجماعة الإسلامية، وطلب المتطوعين للقضاء عليهم. من الواضح أنهم أصبحوا خطرا يقضى على السلام. والقول بأنهم قُتِلوا لمجرد أنهم سبُّوا النبي وهجوه لتزييف لحقائق التاريخ. كما أن الاستناد إلى هذه العقوبات كسابقة لقتل من يسبون النبي ، إما خيانة متعمدة أو جهل مطبق بالتاريخ. إن جريمة (سب) النبي ليست من الجرائم التي شرع لها القرآن الكريم حدا من الحدود. والواقع أنها جريمة لا عقوبة عليها في الدنيا أبدا، إلا إذا صاحبها ظروف مغلظة، ذلك لأنها كجريمة الارتداد.. تقع عقوبتها في يد الله تعالى وحده. ويسلك القرآن المجيد سبيل المودة  بدلا من السيف لصيانة الشرف الإلهي وشرف أنبيائه. يقول تبارك وتعالى:

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (الأَنعام: 109)

إن الاحترام والتكريم والمحبة والتقدير نحو شخص ما تنبع كلها من القلب. وقد تخرص القوة الألسنة، وتثير الفزع، ولكنها يترتب عليها الازدراء وعدم التوقير. ولذلك أخذ القرآن بالطريق الإيجابي في الأمور التي تتعلق بالقلب. فعن احترام النبي وتبجيله يقول القرآن الكريم:

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (الأحزاب: 57-59).

والقرآن المجيد واضح جدا في موضوع (السب)، فهو يعلّم المسلمين ألا يحقروا الآلهة الباطلة التي يعبدها المشركون والكفار. كما أنه لم يشرع عقوبة دنيوية لمن يبدي منهم عدم الاحترام للنبي ، فقد أعد الله تعالى له لعنة الدارين وعذاب الآخرة.

والآن كيف كان (الأسوة الحسنة) يعامل من يسبونه؟ فلنرجع إلى كبير المنافقين، عبد الله بن أبيّ بن سلول، بعد موقعة بني المصطلق (عام 6 ه، 727 م) عندما ماء ٍيقال له (المريسيع) حدثت مشادة بين رجلين أحدهما من المهاجرين والثاني من الأنصار، فقد تزاحم أجير لسيدنا عمر بن الخطاب يدعى جهجاه بن مسعود مع سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف من الأنصار. يقول المؤرخ ابن إسحاق:

(فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ الجهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان عنده رهط من قومه “فيهم زيد بن أرقم وكان غلامًا حدثا” فقال: أَوقَدَ فعلوها؟ قد نافَرُونا وكاثَرُونا في بلادنا. والله ما عدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأولون: سَمِّنْ كلبَك يأكُلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، ومشى به إلى رسول الله وذلك بعد فراغه من عدوه. فأخبروه الخبر، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال مُر به عبادَ بن بشر فليقتله. فقال رسول الله : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن آذَنُ بالرحيل)

نعم، كان طبيعيا أن ينزعج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحدث كثيرا. فقد ذكره صياح الجهني: يا للأنصار، وصياح الجهجاه: يا للمهاجرين.. بصيحات القبائل يوم بعاث ويوم البسوس التي استمرت أربعين عاما. لو أن عبد الله بن أبيّ أفلح في الوقيعة بين الأنصار والمهاجرين لرجعوا إلى الحروب القبلية، ولضاعت إلى الأبد رسالة الوحدة الإسلامية التي نسجت من قبائل العرب المتناحرة أمة واحدة قوية. كان النبي مستاء حتى إنه أمر القوم بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل فيها. (تاريخ إسحاق)

ويشير القرآن المجيد إلى هذه الواقعة في قوله تعالى:

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (المنافقون: 8-9)

وعندما سمع عبد الله، ولد عبد الله بن أبي، بهذه الواقعة ذهب إلى النبي وقال له:

“يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغت عنه، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمتِ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله يعيش في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا”  (السيرة النبوية لإبن هشام)

كان حكام المسلمين الذين أدركوا لماذا عامَلَ النبي عبد الله بن أبيّ وغيره من المنافقين واليهود بما عاملهم به، راغبين عن خَلق شهداء بالباطل، فلم يسلكوا سبيل عملية حماية شرف الرسول، أو (ناموس الرسول) بحسب التسمية الباكستانية. فقد تكونت في قرطبة بين عامي 850 و 859 ه جماعة من المسيحيين المتحمسين تحت قيادة يولوجيوس Eulogies. واعتزمت هذه الجماعة شتم النبي علانية حتى يقتلوا وينالوا الشهادة!.. ولكن قضاة قرطبة رفضوا إسداء هذا الجميل إليهم، واكتفوا بسجنهم.

ويحكي ويل دورانتWill Durant ، حادثة مشابهة فيقول:

“ذهب الراهب القرطبي إيزاك إلى القاضي وأبدى رغبته في اعتناق الإسلام. ولما شرع القاضي مسرورا في عرض مبادئ الإسلام وشرحها له.. قاطعه الراهب قائلا: إن نبيك قد كذبك وخدعك. عليه اللعنة ذلك الذي جر خلفه كثيرا من التعساء إلى الجحيم! فاستنكر القاضي قوله، وسأله: هل أنت سكران؟ فأجاب الراهب بقوله: إني في تمام عقلي، أُحكم علي بالموت! فأمر القائد بسجنه، ثم استأذن الخليفة عبد الرحمن الثاني في إطلاق سراحه على أنه مجنون” (ويل دورانت، تاريخ الحضارة، نيويورك، سيمون وشستر، 1950، ج 4، ص 301)

ولقد سمع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، مفتي السلطنة العثمانية أيام السلطان سليمان الكبير، بتوقيع عقوبة الإعدام على من اعتاد سب النبي علنا. ومضى شيخ الإسلام مصرًّا على عدم الاستخفاف عند إصدار حكم الإعدام، وأكد رغبته في تجنب أحكام الإعدام الناجمة عن الاستهتار أو الحقد. وأعلم أن المذنب لا يحكم بكونه معتادا (بمجرد شهادة رجل أو اثنين)، بل يثبت الاعتياد بشهادة مسلمين لا يعرف عنهم التعصب ومبرئين من الهوى. ولكن هناك ملحقًا هامًا لهذه التقوى، أصدره شيخ الإسلام أبو السعود، فحواه أن تلك الفتوى لم يكن لها سند من القرآن أو السنة، وأنه يعلم أن عقاب المرتد يستقر بين يدي الله تعالى وحده. ولعل صدور تلك الفتوى كانت تحت ضغط سياسي قوي، لأن الملحق ألغاها وأبطل مفعولها تماما.. عندما نص على أن الكفار لا يعدون مذنبين إذا هم صرحوا (بمضمون كفرهم) أي كفرهم بنبوة محمد .

الواقع أنه لا يمكن تقديم تعريف شرعي لنوعية إيمان المسلم ومدى احترامه للنبي . وبالمثل لا يمكن إكراه كافر على اعتناق الإسلام أو تكريم النبي تحت تهديد السلاح. لذلك لم يشرع الله تبارك أو تعالى أي عقوبة دنيوية على الارتداد أو سب النبي الأكرم . وعلى الرغم من كلمات الاستخفاف القبيح التي نطق بها عبد الله بن أُبي عند ماء المريسيع فإن النبي لم يعاقبه.

إن وجود عقوبة دنيوية على هاتين الجريمتين يسهل على رجال الدين المشتغلين والمرتزقين بالسياسة منهم استغلال العقوبة واتخاذها ذريعة لأغراضهم، فيحطون من شأن الدين باستخدام حدوده في أهداف دنيوية، ويستغلون العقيدة الدينية لمصالحهم الخاصة. (لجنة تحقيق القاضي منير).

في هذه الأيام، يتهم علماء الديوبانديين وأهل الحديث، (ونعوذ بالله من ذلك).. يتهمون الجماعة الإسلامية الأحمدية بإهانة النبي . وباتهامهم هذا لا يكادون يدركون أنهم يجهزون بأيديهم أداة تدميرهم أنفسهم. فالديوبانيون وأهل الحديث والوهابيون أتباع المصلح النجدي محمد بن عبد الوهاب، هم في الواقع أقلية ضئيلة بالقياس إلى الغالبية من أهل السنة في معظم بلاد الإسلام.. وهم أيضا متهمون بجرأتهم على النبي والتهوين من شأنه. كما أن الديوبانديين والوهابيين يكفرون عامة المسلمين من أهل السنة لأنهم يبالغون في تعظيم قدر النبي إلى درجة الشرك بالله حسب رأيهم. فمنهم مثلا من يقول بأن النبي ليس له ظل لأن جسده مملوء من النور! منهم من يقول أنه إذا ما انتهى الإنسان من إنشاد (موعود شريف) التي أشاعها الشاعر التركي سليمان شلبي، يقول: يا نبي! سلام عليك) فتحضر روح النبي عند ذاك ، ومن ثم يجب على الحاضرين جميعا أن يقفوا إجلالا واحتراما! وكذلك هم يصلون عند قبره ويقبلون شباكه. وللبريلويين وأهل السنة معتقدات وأعمال كثيرة تعد من الشرك عند الديوبانديين. ولقد أزال الوهابيون ساحة المدافن التاريخية بالمدينة والمعروفة باسم (جنة البقيع) وحاولوا إزالة قبة المسجد النبوي، وما منعهم من ذلك إلا شدة ردود الفعل من مسلمي العالم. وبسبب هذه الأفعال من هدم المقابر والأضرحة والقباب يتهم عامة أهل السنة في العالم الوهابيين بأنهم يشوهون ويحقرون اسم النبي . ويعتقد البريلويون أن علماء الديوبانديين أمثال مولانا محمد قاسم النانوتوي والشيخ أشرف علي التهانوي لا يعتقدون بــ(ختم النبوة). وفي كتيب باسم (إيمان العلماء الديوبانديين).. كتب الشيخ عبد المصطفى أبو يحيى محمد معين الدين الشافعي القادري الرضوى التهانوى يقول:

(أيها المسلمون! انظروا كيف أن هذا القول اللعين الشيطاني الدنس دمر أساس (ختم النبوة). انظروا كيف أن المولوي قاسم النانوتوي لا يؤمن بختم النبوة، في حين أن المولوي رشيد أحمد والمولوي خليل أحمد وغيرهم من علماء الوهابية صرحوا بكفر منكر ختم النبوة) (ديوباندي مولويون كا إيمان، لويل بور).

وباسم حماية النبي وهو المثل الأعلى في الحياء والاحتشام وصل المجادلون من الفريقين البريلويين والديوبنديين.. إلى درك من السوقية والإسفاف حتى إنها أهونها يؤذي الأسماع ويجرح المشاعر. كتب شورش كاشميري وهو من مدرسة الديوباند في منشور تحت اسم (كافر ساز ملا ملان): إن (كل من يرمي الرئيس الأعلى للديوباند بالكفر فهو كذاب). وقال في نفس المنشور: (إن ّ علماء البريلويين يتاجرون في الدين وشريعة النبي ليكسبوا قوتهم. إنهم ولدوا في خدمة حاشية لورد كلايف Lord Clive، أعداء الرابطة الإسلامية والقائد الأعظم محمد علي جناح مؤسس باكستان). وفي منشور آخر قال: (إن هؤلاء القوم “أي البريلويون” أحط من لَبِنَة في مرحاض مولانا حسين أحمد وسيد عطاء الله شاه البخاري) (المرجع السابق).

ويرد البريلويون على هذه التهم المهينة ردا بلا طعم. قالوا: إن هذا الذي يفتري علينا وعلى النبي رجل قضى حياته يتسكع في الأحياء الحمراء المشبوهة.. الرجل الذي أطلق على (نهرو) الهندوسي لقب النبي.. يأتي اليوم ليتهمنا بأننا نبيع شريعة النبي وصرخوا قائلين: لماذا لا يدعي محمد قاسم النانوتوي كافرا؟ وكيف نقبل أشرف علي التهانوي من المسلمين؟ أليسوا هم رواد الطريق للقاديانيين؟ من علّمك السباب يا مصطفى؟ من علمك الكفر؟ لقد تجردت عن ثيابك وتخليت عن حيائك. ألم يعد لديك أي إحساس بالحشمة أو الأدب؟ لقد أحدثت الاضطراب باسم (ختم النبوة)، وأشعت الفوضى بدعوى السلام. إنك تجمع المال باسم (النبوة)، وأشعت الفوضى باسم السلام، وتتسول باسم النبي .

وقال الشاعر سيد محمد تنها:

من أين لك أن تعرف قدر أحمد رضا؟

اذهب وتشمَّم سراويل الهندوس المنتنة..

الذهب نبيك، والتبر إلهك..

أنت من حزب من يظهر لك الإبريز..

لقد أمضيت عمرك كله في الكفر..

أني لك أيها الكهتري الهندوكي أن تدخل في الإسلام؟

أيها النمرود، كيف لك أن تمجد الله؟

إن مكانك هناك بين الهندوس، فاذهب إليهم..

ومجِّدْ معهم باسم هاري هاري..

قارن بين اللغة والأسلوب والمضمون في هذا الهجوم البريلوي على علماء الديوباند وبين قائمة الاتهامات التي يفتريها الديوبانديين ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية:

  • ينكرون ختم النبوة،
  • يشوهون اسم النبي ،
  • صنيعة الإمبريالية البريطانية،
  • عارضوا قيام دولة باكستان،
  • يعارضون الجهاد،
  • يوالون غير المسلمين،
  • إنهم عربدة باسم الدين.

يتبادل أهل السنة والجماعة (البريلويون) وطائفة الديوبانديين تهمة تشوية سمعة النبي . وكما رأينا فيما سبق أن (جماعت إسلامي) وصفتْ (جماعة أهل القرآن) بأنهم أسوأ من الأحمديين. ولم يسلم الشيعة، من تهمة الحط من قدر النبي لادعائهم أن عليًّا شريكه في النبوة.

زار الباحث الكندي (ولفرد كانتول سميث) شبه القارة الهندية، وشاهد المجتمع المسلم في الهند وباكستان عن كثب. ورمى المسلمين بتهمة (التعصب الناري العنيف). قال في كتابه (الإسلام في الهند الحديثة):

“يسمح المسلمون بالتهجم على الذات الإلهية، فهناك منشورات إلحادية وجماعات علمانية. أما تشويه سمعة محمد فإنها تثير تعصبا ناري العنف حتى في أشد قطاعات المجتمع تحررا..)

Wilfred Cantwell Smith, Modern Islam in Id, IA, Lahore 1947

وهذا التقييم لمزاج المسلمين غير سليم، لأن البروفسور كانتول سميث لجأ إلى التعميم. والحقيقة أن المولويين والقيادات الدينية ذوي النزعة السياسية.. هم الذين يحلو لهم القول بأن مشاعر المسلمين أسهل ما تكون هيجانا، وأشد ما تكون ثورة عند إهانة حقيقية أو متوهمة في جانب النبي .

لا شك أن الأغنياء والفقراء، المثقفين والأميين، المتقين وغير الورعين.. كلهم يتحدون في حب النبي محمد المصطفى ، ويعتبرون (الفناء في الرسول) قمة الشعور الديني. ولكن ما من مسلم يغفل عن أن أعلى تجربة روحية للنبي كانت المعراج.. عندما أحاطت به سحابات ملائكية، حلقت به إلى الحضرة الإلهية.. إلى حيث لا يصل ملاك وإن كان في منزلة جبريل. إن القادة المسلمين الجوعى إلى السلطة السياسية هم الذين ينسون أن شهادة (محمد رسول الله) تأتي بعد شهادة (لا إله إلا الله).

ليست هناك وسيلة لقياس الحب والاحترام. لقد كتب المحبون والمتصوفون الشعر دواوين، ووهبوا حياتهم محاولين الإعراب عن مشاعرهم.. فما استطاعت لغة أن تفصح عنها تمام الإفصاح. يمكن للمولويين أن يتصفحوا أشعار الح ، ولكنهم لا يفهمونها. ولم يكن الأمر وليد مصادفة أن كان مؤسس الحركة الإسلامية الاحمدية اسمه (غلام أحمد). فيا له من شرف! ويا لها من منزلة! و يا له من مجد! يرد حضرته على من يتهمونه (إفكًا وزورًا) بتشويه سمعة النبي الأكرم ، ويرد على نقاد الإسلام من أمثال كانتول سميث.. الذين يتهمون المسلمين بالإغضاء عن المقام الإلهي بمثل قوله:

إني لنشوانٌ بعشق محمد ٍ

مِن بعد حب الله جلّ جلالُهُ

>

إنْ كان هذا الكفر إني لكافر

ربي شهيد قد سباني جمالُهُ

ويقول أيضًا:

أيا حبي، يا محسني..

ليت حياتي تضحى في سبيلك..

فمتى كنت لا تبالي بهذا العبد..

وحجبت عنه كرمك..

ويقول حضرته أيضًا:

إذا كانت العادة في مدعي محبتك..

أن تجز أعناقهم أمام عتبتك..

فليعلم الجميع أني أول مطالب بهذه المكافأة..

(مرزا غلام أحمد، إزالة أوهام، وآئينة كمالات الإسلام)

لقد أعلن حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، بوضوح وصدق، إيمانه بأن النبي له المكانة العليا بوصفه (خاتم النبيين)، فقال:

“إن أساس عقيدتنا، وخلاصة إيماننا، أنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. والملة التي نحن عليها في حياتنا الدنيا، والملة التي سنغادر مقامنا الانتقالي ونحن عليها بفضل الله تعالى هي أن سيدنا ومولانا العظيم هو محمد ، وأنه خاتم النبيين، وأن نبوته نعمة جليلة.. تهدي الإنسان رأسا إلى ربه، وأنه وصلت به إلى كمالها الذي لا مزيد عليه” (مرزا غلام أحمد، إزالة أوهام، أمرتسار، 1891، ج 1، ص 138)

وقال أيضا:

“إن المنزلة العليا التي تجمع كل ما هو خير.. هي منزلة سيدنا ومولانا خاتم النبيين محمد المصطفى . إنها منزلته الفريدة التي لا تطال” (مرزا غلام أحمد، توضيح المرام، أمرتسار، 1308 ه، ص 23)

كاتب تلك الفقرات التي سقناها آنفا هو حضرة مرزا غلام أحمد الذي يقال عن أتباعه أنهم (غير مسلمين)! ومن سماهم بهذا الاسم؟ إن الذين رموا أتباع مؤسس الحركة الأحمدية هم من المسلمين الذين وصفهم السير محمد إقبال في قصيدة طويلة بلغة الأردو، قال فيها:

إنهم ذوو أيد عاجزة.. وقلوب كافرة ملحدة..

مجتمعهم يصيب نبيهم بالحسرة والعار.

لقد ولى منهم محطمو الأصنام.. وسكن فيهم صانعو الأوثان..

أبوهم كان إبراهيم، لكن الأبناء ورثوا اسم آزر.

عصابة من السكارى.. جديدة وغريبة.. وخمرهم أيضًا جديد وغريب.. كعبتهم تضم مقاما جديدًا .. والأصنام أيضا هناك جديدة.

صلاة الفجر ما أثقلها على قلوبكم..

كم تؤثرون النوم على عبادتي!

شهر رمضان شديد الوطأة عليكم..

فتسعون للتنصل من احتماله.

أخبروني الآن، هل يدور بخلدكم قانون الولاء؟

إنما تقوم الأمم بالإيمان.. إن ضاع إيمانهم هلكوا..

إن تعطل قانون الجاذبية انتثرت كوكبة النجوم بعيدا..

لماذا أنتم قوم مجردون من كل حيلة؟

ما من أمة أخرى في العالم تستهتر بموطنها..

إنكم كحظيرة تعشش فيها الخنافس، وتبقى فلا ترحل.

إنكم لتبيعون قبور آبائكم.. وتقولون: فعل سديد..

إذا كنتم تربحون من أحجار المقابر، وذاع عنكم هذا الصيت..

فلم لا تتاجرون في الأصنام، إذا أتيح لكم تصيد بعضها..

تتعالى الصيحات: يا مسلمون! لكنهم اختفوا وغابوا عن الأبصار..

ويرجع الصدى: أليس هناك مسلمون صادقون في أي مكان؟ المسيحيون مثلكم الأعلى وقدوتكم في نهج الحياة! والهندوكية ثقافتكم!

هؤلاء المسلمون عار وخزي حتى عند اليهود..

إن لديكم ما يكفي من السادات والمرزيات والأفغان وكل الباقين..

ولكن، هل تستطيعون إلا الادّعاء بأنكم مسلمون.. لو كان حق يقال؟

ها هو السير إقبال، الفيلسوف والمفكر وأبرز الشخصيات في الهند الإسلامية خلال القرن العشرين، يعلن أن مسلمي العصر معرّة حتى بالنسبة لليهود. وأنهم يبيعون حتى قبور أسلافهم. ثم إذا به بعد ذلك يريد أن يميز مابين “المسلمين هؤلاء”! وبين الأحمديين. لذلك، كتب عام 1936 رسالة مفتوحة إلى باندت جواهر لال نهرو، زعيم الأغلبية الهندوسية في المؤتمر الوطني الهندي، والذي كان أول من تولى بعد ذلك رئاسة الوزارة الهندية، يطلب منه إعلان الجماعة الإسلامية الأحمدية أقلية غير مسلمة! وبالطبع فإنهم في دستور الهند العلمانية تجاهلوا هذا الطلب، بيد أن الأمر كان عند علماء ديوباند كان مسألة حياة أو موت.

لقد احتل الهندوس مسجد (البابري) في (أجودهيا)، وحولوه تحت حماية الشرطة إلى معبد (رام جانما بهومي).

وطالبت فرقة أخرى من الهندوس بتحويل مسجدي (بنارس وكاشي) إلى معابد لهم. وكانت معظم الهندوس يثيرون المشاعر لإلغاء القانون الملي الخاص بالمسلمين. هذا ماجرى لقوم يرفضون أنبياء الله تعالى وأهل السلام.. فوقفوا ممزقين، محرومين من نعمة السلام الذي سعوا لتعكير صفوه.. فاستولدوا بذلك العنف والإرهاب.

(يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك