عصمة الأنبياء الحلقة الثالثة و الأخيرة

عصمة الأنبياء الحلقة الثالثة و الأخيرة

جلال الدين شمس

الفصل الخامس

الدليل العقلي والوجداني على عصمة الأنبياء

ومن سنن الله تعالى التي لا تتغير، هو أنه لما ينهمك الناس في الغي ويرتكبون السيآت، ويرتادون مراتع الشهوات، ويتمرّغون في حمأ الآثام والأرجاس، ويخلدون إلى الأرض متبعين أهوائهم، وتنطفئ جذوة محبة الله من قلوبهم، ويضعف فيهم الإيمان، وتكثر الذنوب، فعندها يرسل الله عبدًا من عباده لإصلاحهم، ويؤيده بالآيات والمعجزات، لكي يظهر جلال الله وعزته وعظمته، ويمكّن محبته في أفئدة الناس، ويرجعهم إلى ذكر الله ليتطهروا من أقذار الذنوب وأوساخ الآثام، يكون أسوة لهم، وقدوة يقتدى بها، وميزانا لتمييز الأخلاق الحسنة من الرديئة. وبالنظر لكونه مظهر الله ونائبه في الورى.. فإن الله يعصمه ويكلؤه من الذنوب والخطايا، لأنه لا يجوز أن يكون نائب القدوس إلا قُدُّوسا.

ولما علمنا أن النبي المرسل هو إنسان كامل، يرسله الله إلى البشر ليهديهم إلى الصواب، ويرشدهم إلى ما يحتاجون إليه من معرفة الله وطاعته، والإحتراز من معصيته، ويحملهم على ما فيه حفظ كمالاتهم ومصالحهم الشخصية والنوعية في الدين والدنيا، ويزجرهم عما يضرهم فيهما، وليقربهم إلى طاعة الله، ويبعدهم عن معصيته، وينبههم من رقدة الغفلة، وينقذهم من ثورة الهوى والضلال.. فضروري أن يكون هو معصوما من نقص الأوامر الإلهية، لأن نفوس البشر المحتاجة إلى الإصلاح والترويض، والإرشاد والتقرب إلى الله، لا تنقاد لمن يدعوها إلى الله والشريعة، ويعظمها ويوبخها عن شهواتها، إذا كان هذا الداعي ممن يخالف أوامر الله، ويتمرد على أحكامه، وينقاد إلى أهوائه وشهواته، مع ادعائه المعرفة والرياسة الدينية. فلذلك لا يصغى إلى إرشاده عاقل، ولا يعتني به لبيب، على العكس، يستهزئ الناس بمثل هذا الواعظ، قائلين له: إهد نفسك أولا وأصلحها وأرشدها، ثم التفت إلى إصلاح غيرك وإرشاده.

ثم إن صدور الذنب والعمل القبيح من الرسول الذي هو الرأس والرئيس والقدوة في الدين، يكون سببا لأن يقتدى به سائر الناس لأنه هو قدوتهم، وبعمله يصبح داعيتهم إلى الإقدام على الذنوب والتهاون بالشريعة. وذلك لأن الوجدان يشهد ويحكم بأن الرئيس الديني الذي له صلة بالله تعالى إذا أذنب، ولم يقدر أن يكبح جماح نفسه عن الشهوات، فلا بدع ولا غرو إذا عمل مثلُه أتباعه، وهم لا صلة لهم بالله مثله، ولجوا في اقتراف الذنوب واتباع الشهوات والأهواء، واستساغوا كل منكر، طالما هم يرون أن الله لم يعصم نبيه ورسوله ومن جعله قدوة لهم، فكيف يعصمهم وليس لهم به صلة كصلة من اختاره لهدايتهم وإرشادهم. وما أصح ما يلهج به الناس وهو القول الدارج على ألسنتهم: إذا فسد العالِم فسد العالَم.

ثم نحن نرى أن الملوك لا يرسلون أحدًا لاصلاح رعاياهم المتمردين والخارجين على شريعة المملكة وقانونها إلا إذا اطمئنوا إليه، وتأكدوا من أنه لا يخالف تلك الأنظمة والقوانين، ولا يخرج على أوامرهم التي يصدرونها إليه، لكي يتم الإصلاح المنشود، و لئلا تفسد الرعية بفساده، وهم لو كانوا يعلمون الغيب وما تخفي الأنفس وما تعلن، لعرفوا كيف ينتخبون، وإلى من يطمئنون، وعلى من يتكلمون وكذلك هم لو وجدوا إلى المعصوم سبيلا لما عدلوا عنه إلى غيره، ولما اتخذوا منه بديلا. فكيف يمكن أن يرسل الله العليم الخبير، القدير القدوس، لإصلاح خلقه من يعلم بأنه سيتمرد على أحكامه، ويعصي أوامره ويخالف شريعته وإرشاده، اللهم إلا أن نقول إن الله يأمر بالذنوب ولا ينهى عن المنكرات، وأن الأنبياء كلهم إنما يقترفون ما يقترفونه من الذنوب “على عزم النصارى” تحت قانون الله وشرعته.. تعالى الله عن أن يأمر بذلك علوًّا كبيرًا.

وما أجمل قوله تعالى في ذكره الحكيم

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ،

وقوله تعالى

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

 فالحكمة تقتضي لاصلاح الخلق وهدايتهم أن يرسل الله أنبيائه معصومين مبرئين، محفوظين من كل إثم وكبيرة، لكي يتخذهم الناس أسوة لهم في الاجتناب عن المعاصي، وفي الإتيان بصالحات الأعمال.

الفصل السادس

الأدلة النقلية على عصمة الأنبياء الأطهار

إن الأنبياء عليهم السلام كما ذكرت آنفًا، لكونهم مظاهر صفات الله ونوابه في الأرض، يعيشون معصومين ومنزهين عن الذنوب والمعاصي؛ ويكون وجودهم دليلا على كون الله الذي أرسلهم قدوسًا حقًا، وأن خلود في هذه الأرض لأية حركة وفكرة إجتماعية إلا لحركاتهم وتعاليمهم. وليس هذا الأمر بالأمر الظني أو الحدسي، وإنما هو حقيقي واقعي. وكلما انتشر الفساد في الأرض يرسل الله رسله لمحوه، لأنه لا يبقي على الفساد شيء؛ وقد شاهدنا صحته بأم أعيننا، إذ أرسل الله في زمننا عبده المسيح الموعود، الذي كانت تنتظر مجيئه الأمم قاطبة. وقد ظهر من الإسلام، وحصل على مرتبة النبوة بفضل اتباع خاتم النبيين محمد ، الذي يمكن لفرد من أمته أن ينال أقصى المراتب الروحانية باتباعه وإطاعته الكاملة. وفي اعتقادي أنه لو كان من الممكن للإنسان أن ينال درجة أعلى من درجة النبوة.. لكان يمكنه أن ينالها بواسطة اتباع محمد ، لأن الكتاب الذي أوتيه نبينا هو كتاب كامل، يحتوي على كل التعاليم السامية، والطرق التي توصل الإنسان إلى أعلى ما يمكنه الحصول عليه من المراتب الروحانية.

وقد تحدى حضرة المسيح الموعود جميع الناس بقوله ما تعريبه:

“لعمري لا يمكنكم أن تتهموني بكذب أو افتراء أو خداع في أوائل حياتي بينكم، فتحسبون أنه من كان هذا شأنه من عادة الكذب والإفتراء لا يبعد أن يكون قد اختلق هذا الأمر من عنده. ألا فهل منكم من أحد ينتقد شيئا من شؤون حياتي؟ وما ذلك إلا فضل منه أنه أقامني على التقوى منذ نعومة أظفاري. إن في ذلك لآية للمتفكرين”. (تذكرة الشهادتين).

وقد سعى خصومه سعيًا حثيثًا، ولم يألوا جهدًا في تنقيب أحواله، ولكنهم لم يقدروا أن يثبتوا عليه خطيئة ما. وكذلك كان المسيح ابن مريم ، فقد تحدى قومه وقال: “من منكم يبكتني على خطيئة”. وقد أخطأ إخواننا المسيحيون إذ اتخذوا قوله هذا دليلا على ألوهيته، لأن جميع الأنبياء أعلنوا بهذا الأمر. وقد ذكرت لكم قول المسيح الموعود، الذي هو خادم سيد الأنبياء محمد المصطفى ، بأنه تحدى الناس مثل عيسى بقوله: “ألا فهل منكم من أحد ينتقد شيئا من شئون حياتي؟” كذلك قال نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام كل إلى قومه:   أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . وكذلك نادى سيد الخلق محمد بصوت جهوري وأعلنه على مرأى ومسمع من أعدائه الألداء وخصومه الأشداء بقوله:

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ،

أي ها أنا قد أمضيت فيكم وبين ظهرانيكم حياتي كلها، طفلاً ويافعا، ومراهقا وبالغا، وشابًا وكهلا، لا يخفى عليكم شيء من حالاتي، وما عزبت عنكم أقوالي، فهل بينكم من يقول بكذبي أو بظلمي، أو هضمي لحق أو خداعي أو سعي للملك والإمارة؟ لقد اختبرتموني في كل ميدان، وجربتموني في كل حال، فشاهدتم أن قدمي لا تزيغ أبدًا عن جادة الصواب ومحجة الإعتدال، وألفيتموني منزها عن كل عيب، حتى لقبتموني بالأمين والصادق.

وهكذا فكل الأنبياء بعناية الله يعيشون معصومين من الجرائم والآثام، قبل دعوى النبوة وبعدها، لما يريد الله بهم من حفظ وكرامتهم، وتنزيه رسالتهم، ويكونون أفضل الناس مروءة وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال. وهم يكونون فانين في محبة الله تعالى، وتموت أهواؤهم النفسانية وجذباتها، لا يتكلمون ولا يعملون عملا إلا حسب مشيئة الله وإرادته. وإلى هذا الأمر تشير الآية القرآنية:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .

ولا يخفى أن العمل في عُرف الشرع يطلق على الفعل الذي يكون مقرونا بالنية، كما يدل عليه الحديث: (إنما الأعمال بالنيات). وقد أخطأ الذين قالوا إن الله اتخذ ولدا، لأن الله تعالى منزه عن الفناء والتغير والحدوث، فلا يجوز أن يكون له ولد. وبما أن النصارى اتخذوا عصمة المسيح كحجة على كونه ابن الله، لذلك رد الله عليهم بقوله إن جميع الأنبياء كانوا عبادًا مكرمين عند الله تعالى معصومين، لا يسبقونه وهم بأمره يعملون.

وإذا قالوا بأنهم يعبدون المسيح رجاءً في شفاعته لهم، قال: إنه لا يمكن لأحد أن يشفع لأحد إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون. وإذا قالوا بأنه ادعى الألوهية بنفسه قال: إن جزاء مدعي الألوهية أن يلقى في جهنم مذمومًا مدحورًا.

فليفكر إخواننا المسيحيون الذين يعتقدون أن يسوعهم كان يدعي الألوهية، هل يمكن أن يكون مسيحهم هذا معصومًا حسب عقيدتهم من حيث القرآن المجيد؟ كلا! لأن الآية تقول:

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ .

فهذه الآية تصرح بعصمة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

الآية الثانية

والآية الثانية التي تدل على كون الأنبياء معصومين من الجرائم والآثام والذنوب التي يعاقب عليها الإنسان هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ .

فلو ارتكب الأنبياء الذنوب التي يستحق مرتكبها العذاب حسب وعد الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، فلا يصدق قول الله تعالى :

أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ .

إذن فالأنبياء كلهم معصومون من جميع الأعمال السيئة التي يعاقب عليها الإنسان في الآخرة.

الآية الثالثة

يقول الله تعالى:

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة: 125).

والمراد من الظالم في هذه الآية الذي لا يطيع أوامر الله تعالى تمام الإطاعة كما أطاع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمراد من العهد في هذه الآية إما عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان المراد عهد النبوة ثبت أن النبوة لا تعطى للظالمين. وإذا كان المراد عهدَ الإمامة وجب أن لا تثبت الإمامة للظالمين. وإذا كان الظالم لا يمكنه أن ينال الإمامة فبالأحرى أن لا ينال النبوة أيضا، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إمامًا يؤتم به ويقتدى به. فهذه الآية دليل واضح على أن النبي يكون مطيعًا لله في جميع أوامره مخلصا له، ولا يكون ظالمـًا أبدًا.

الآية الرابعة

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (آل عمران: 162).

إن الله نزه في هذه الآية كل نبي من أي نوع من الخيانة، وقال أنه لا يجوز أن يتهم الإنسان نبيًا من الأنبياء بأي نوع من الخيانة، لأنه لا يمكن أن تصدر خيانة من نبي، لأن الخائن يأتي بما غل يوم القيامة. ومعلوم أن الأنبياء معصومون من العذاب، وشأنهم أنهم لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون.

الآية الخامسة

يقول تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (الأحزاب: 58-59)

انظروا كيف قرن الله ذكر رسول الله مع اسمه، ولم يقبل كما قال عند ذكر المؤمنين والمؤمنات: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ، لأنه سبق في علم الله أنه لا يصدر عنه إثم يجوز للناس أن ينسبوه إليه. وقس عليه بقية الأنبياء عليهم السلام، لأن جميع الأنبياء جاءوا على منهاج واحد، كما تشير إليه الآية: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ . والآية: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ .

وكذلك توجد آيات أخرى تدل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، وفي الآيات التي ذكرناها كفاية ومغنية للمتدبرين وأولي الأبصار.

الفصل السابع

في معنى الاستغفار

ولقد طعن كثير من الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام لعدم حقيقة الاستغفار، وقالوا إنهم لو كانوا معصومين لما استغفروا الله تعالى. وبما أن هذا الاعتراض ناجم عن جهلهم بمعنى الاستغفار، فلذلك يحب علينا أن نبين حقيقة الاستغفار، قبل أن نجيب على مطاعنهم التي وجهوها إلى الأنبياء الكرام.

إن لفظ الاستغفار من باب الاستفعال، من (غفر) وأصل الغفر التغطية والستر. يقال: غَفَره يغفِره غفرًا، ستره وكل شيء سترته فقد غفرته، وتقول العرب: اصبغ ثوبك بالسواد فهو أغفر لوسخه، أي أحمل له وأغطي له. والغفارة خرقة توقي بها المرأة خمارها من الدهن (تاج العروس).

وفي المفردات للراغب: الغفرُ إلباس الشيء ما يصونه من الدنس. فمعنى الإستغفار طلب الغفران أي الحفاظة والستر.

وكذلك قال العيسى:

وإنَّ وراء الأَثْلِ غزلانُ أَيكةٍ    مضمَّخةٌ آذانُها والغفائر

ومعنى الغفائر ماغطين به رءوسهن

وقال ذو الرمة:

سقى دارها مستمطر ذو غفارة،

والغفارة سحابة رقيقة تكون فوق أخرى كثيفة وقالوا هو الغفر. (تاريخ ابن عساكر).

ولما كان الإنسان خلق ضعيفًا، وما كانت عنده قوة لأن يقي بها نفسه من الدواعي السيئة ويقاوم الأهواء النفسانية، وقد أودع الله فيه هذا الضعف لكي لا يستكبروا ويدعي استغناء في ذاته، بل يشعر دائما بالاحتياج إلى القوة التي أوجدته في هذا العالم، لذلك كان ضروريا أن يطلب من الله الحفاظة والستر على نتائج هذه الفطرة الضعيفة المهلكة.

فالاستغفار يتضن معنيين: طلب الحفاظة والعصمة، بمعنى أن لا يصدر منه الذنب أو الزلة والخطيئة، التي كان يمكن صدروها حسب مقتضى ضعف الطبيعة البشرية. والثاني: طلب الحفاظة والستر على النتائج السيئة للذنب الذي صدر منه.

ولا يخفى أننا من حيث مقتضى فطرتنا لا نتمنى بأن تغفر ذنوبنا الماضية فحسب، بل نود من صميم أفئدتنا أن لا تصدر عنا الذنوب مطلقًا. وتوجد في القرآن المجيد آيات كثيرة.. تدل على أن الاستغفار ليس لطلب الحفظ فقط من عقاب الخطيئة التي يرتكبها الإنسان، بل يحق لنا أن نستغفر الله من دون أن يصدر عنا ذنب ما، ولذلك قال تعالى في وصف المؤمنين: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ . وكذلك قال في شأن أصحاب الجنة: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الذاريات: 18-19).

فتعيين وقت السحر للاستغفار دليل واضح على أنه لا توجد ملازمة بين الاستغفار والخطيئة بل المقصود من الاستغفار في وقت السحر الطلب من الله أن لا يصدر عنهم الذنوب.

  1. وكذلك قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ (البقرة: 222). وأيضا قال في آية أخرى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ .

وبما أنه لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة آثما كما قال تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (التحريم: 9). فالمراد إذن من المغفرة في هاتين الآيتين بأن الله يستر على الضعف الموجود في قواهم، ذلك الضعف الذي كان يمكن أن يكون مانعا من الرقي الروحاني، فلا يصدر منهم أي ذنب في الجنة.

  1. وقال تعالى في شأن المخطئين في غزوة أحد: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران: 156) ، ثم قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران: 160).

فالمراد من الاستغفار بعد العفو أن يطلب لهم من الله أن لا تصدر عنهم خطيئة مثل هذه مرة أخرى. وكذلك هو معنى قوله تعالى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا ، أي احفظنا من أن يصدر عنا ذنب.

  1. وقال تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التحريم: 9).

وظاهر أن استغفارهم لا يكون في نتيجة الذنوب الصادرة منهم، لأن الجنة لا يوجد فيها لغو ولا تأثيم. فالمراد من استغفارهم طلبهم الزيادة من نور الله وأن يغطي النور الموجود عندهم بأعظم منه، فهم لا يفتأون يدعون الله ويطلبون المزيد، لأن نور الله غير محدود، فهم يطلبون المزيد من الله على الدوام.

فالاستغفار في الحقيقة هو دعاء للرقي في الدرجات الروحانية التي لا نهاية لها. وبما أن الأنبياء يرون تجليات الله ويشاهدون أنواره تعالى في هذا العالم، فلذلك هم يستغفرون دائما، ويطلبون من الله أن يزيدهم في المقامات الروحانية وأن يستر حالتهم الموجودة بحالة لم يشاهدوها بعد، تكون أرقى وأكمل وأجل وأعظم. ويدعونه تعالى أن يستر ضعفهم، ويزيدهم قوة للرقي الروحاني، الذي لا نهاية له. فهم يشعرون في الاستغفار السرور الحقيقي دائما وأبدا، لأنهم يتقربون بواسطته إلى محبوبهم، ويرون الاستغفار وسيلة للوصول إلى المدارج الروحانية العليا اللانهائية. ولذلك قال رسول الله : “إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة”، مع أن الله قال في حقه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأَنعام: 163).

فالإنسان العارف بالله، المشاهد أنواره تعالى وتجلياته، يكثر من الاستغفار. وأما الذي بينه وبين الله سبحانه حجاب، والذي هو غريق في لجج بحر الأهواء النفسانية، وملوث بأنواع الذنوب والآثام، كيف يمكنه أن يلتفت إلى مثل هذا الدعاء. وهو لا توجد له علاقة بالنور، لأن نور فطرته منطفئٌ؟

  1. وكذلك أمر الله رسوله بالاستغفار في سورة النصر بقوله: وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً (النصر: 4)، مع أن الله تعالى كان أخبر في سورة الفتح التي نزلت قبل سورة النصر بزمن غير قصير عن غفران ذنوبه كلها حسب تفسير الخصوم وذلك في قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (الفتح: 2-3)، فلا يجوز أن يكون الأمر بالاستغفار في سورة النصر لأجل الذنوب الصادرة.
  2. 6. وقال تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (هود: 12). فالذين امتنعوا عن ارتكاب السيئات وصبروا على الأعمال الصالحة فما معنى المغفرة لهم وهم ما أتوا بذنب.
  3. وكذلك ذكر الله صفته أنه غفور في حق من لا يوجد له ذنب كما قال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة: 174)، وقال: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة: 183).

وموجز القول إن حصر معنى الاستغفار في طلب الغفران للذنوب الصادرة ظلم عظيم وجهل فادح مبين.

يقول الإمام الرازي: (المراد توفيق العمل الحسن، واجتناب العمل السيء، ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران، والغفران هو الستر على القبيح، ومن عصمه فقد ستر عليه القبائح. ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا، وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه، كما كان للنبي ، وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود). (التفسير الكبير)

الفصل الثامن

معنى الذنب

ويعلم كل من درس القرآن المجيد دراسةً دقيقةً، أنه يوجد بين الذنب، والجرم والإثم، والفسق، فرق لطيف، وأن الله لم يقل في آية ما إن المذنب المطلق يلقى في جهنم، كما قال ذلك عن الأثيم والمجرم وغيرهما كما في آية: أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ، وفي آية: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ (الدخان: 44-45). فلو كان لفظ الذنب مرادفا لهذه الألفاظ لأردفه الله كذلك بعقاب جهنم. فلفظ الذنب في القرآن المجيد ورد بمعنى عام، ولما استعمله الله تعالى بمعنى الجرم أشار إليه كما قال:

وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (القصص: 79).

وقد استعمل لفظ الجرم والإثم والفسق والجناح مع مشتقاتها في القرآن المجيد مائتي مرة تقريبا، ولفظ الذنب استعمل زهاء أربعين مرة، ولكن مع وجود استعمال الجرم والإثم بهذه الكثرة.. فإن الله لم يستعمل قط في حق الأنبياء سوى لفظ الذنب. وهذه قرينة قوية بأن لفظ الذنب في حق الأنبياء لم يستعمل بمعنى الجرم أو الإثم الذي يعاقب عليه الإنسان في الآخرة.

كذلك بين الخطيئة والإثم فرقٌ وهو أن الخطيئة هي ما لا ينبغي فعله، سواء بالعمد أو بالخطأ. أما الإثم فهم ما يحصل بسبب العمد. والدليل على ذلك قوله:

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ (النساء: 112).

فبيّن أن الإثم ما يكون سببا لاستحقاق العقوبة.

وقد ذكر صاحبُ (محيط المحيط) عن (الكليات) لأبي البقاء.. الفرق بين الذنب والإثم وقال: (وبين الذنب والإثم فرق من حيث أن الذنب مطلق الجرم، عمدًا كان أو سهوًا، بخلاف الإثم، فإنه ما يستحق فاعله العقاب، فيختص بما يكون عمدًا).

تعريف الذنب الذي يعاقب عليه الإنسان

لا يكون الإنسان مجرمًا أو آثما أو مذنبا إلا إذا استحق العقاب بنقض أمر من أوامر الله. ولا يستحق العقاب إلا إذا كان ذلك الأمر موجودًا قبل نقضه. وثانيا، لابد وأن يكون ذلك الأمر قد بلغه قبل ارتكابه. وثالثا، يجوِّز العقل السليم أن مرتكب ذلك الإثم استحق العقاب باقترافه، فإذا فُقِدَ أحد هذه الشروط في مرتكب الإثم فلن يكون آثما ولا مجرما، ولا يعاقب عند الله تعالى.. وفي الفصل السادس قد أثبتنا من القرآن المجيد أن الأنبياء معصومون من كل عقاب كما قال الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (الأنبياء: 102-103).

Share via
تابعونا على الفايس بوك