مفتي الجماعة في جوار الله

مفتي الجماعة في جوار الله

بقلوب ملؤها الحزن والأسى تنعي “التقوى” إلى قرائها الكرام مفتي الجماعة الإسلامية الأحمدية، وعَلمًا من أعلامها حضرة سيف الرحمن الملك، حيث لقي رفيقه الأعلى في 25 أكتوبر الماضي بكندا، عن عمر يناهز 75 عامًا. إنا لله وإنا إليه راجعون.

وُلد حضرته في 11 نوفمبر 1914 في قرية “كهوتكه” بمحافظة سرجودها (باكستان). وكان اسم والده السيد دوست محمد الملك.

كان ثمرة حلوة للابتلاءات والمحن التي مرت بها الجماعة سنة 1934، والتي سببها حينئذ جماعة المشائخ الأحراريين. وكان حضرته بين هؤلاء المشائخ وأتباعهم الفوضويين الذين جاءوا قاديان، لإحداث الشغب هنالك بمساندة الحكام الأنجليز. كان يلقي في تلك الأيام خطبًا مُلهبةً ضد الأحمدية في مسجد “نيلاجنبد” بلاهور. ولما كان سعيد الفطرة، باحثًا عن الصدق، تأثر جدًا بالسلوك الجميل الذي أبداه أهل قاديان الأحمديون. فمال إلى دراسة الجماعة بجدية وتحقيق أمرها بدون تعصب. وقرأ كتب الجماعة، وقَبِل الأحمدية في 1936.

وقف حياته لخدمة الإسلام في 1939. فعينه أمير المؤمنين عندئذ حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، أستاذًا في المدرسة الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة). فدرَّس فيها النحو، والفقه، والأدب العربي.

وعند وفاة حضرة مولانا محمد سرور شاه (أول مفتي للجماعة) في 3/6/1947 قلده حضرة إمام الجماعة هذا المنصب، فلم يزل بعون الله على هذا المنصب الجليل حتى يوم وفاته. كما عُيّن فيما بعد أستاذًا في الجامعة الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة). وعند وفاة حضرة سيد مير داود أحمد عميد الجامعة الأحمدية في 1973 عينه أمير المؤمنين حضرة مرزا ناصر أحمد رحمه الله الخليفة الثالث لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، عميدًا لها. فقدم خدمات جليلة في هذا المنصب حتى 1984 حين تدهورت صحته، فسافر إلى كندا للعلاج، ثم أقام هناك عند أولاده. ولم يزل هناك يستنزف دمه لخدمة الإسلام.. يحقق ويؤلف كتبًا قيّمة بأمر من أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره العزيز، إلى حين الوفاة.

ولقد صلى على روحه الطاهرة أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز، صلاة جنازة الغائب في 3 نوفمبر 1989 قبل خطبة الجمعة في مسجد “فضل” بلندن، وأشاد بعمله الغزير وبخدماته الجليلة أيمّا إشادة حيث قال:

“لقد أعطى الله تعالى حضرة سيف الرحمان الملك مفتي الجماعة علمًا وافرًا، وفراسة مؤمنة، وروح طاعة غير عادية. كما وهبه توازنًا نادرًا بين القلب والعقل. كان حضرته شخصية جميلة للغاية. ربطتني به صلات عديدة. فكنت تلميذًا له في الجامعة الأحمدية، وعندئذ بدأت عظمته تنكشف علي. كان غاية في التواضع، مع علم واسع جدًا، وعطفٍ شديد على تلاميذه. كان ذكيًّا لدرجة أنه كان يدرسنا أصعب المواد وأدق المسائل بطريق بسيطة سهلة جدًا، لم أكن أحتاج بعده لمطالعة الكتب، بل كل ما درسني صار نقشًا على قلبي. كما لم يكن تلاميذه يحتاجون بعده لمذاكرة المواد وحفظها. على أساتذة الجامعة الأحمدية الآن أن يتأسوا بحضرة الملك سيف الرحمن، رحمه الله، حتى يبقى فيضه هذا ساريًا فيها.

كان حضرته في 1934 شابًا متحمسًا بين صفوف المشائخ الأحراريين المشهورين بالفحش والبذاءة والذين جاءوا قاديان عندئذ لإحداث الشغب والغوغاء فيها ضد الجماعة. وكان يقود بعض هذه المسيرات الغوغائية التي هاجمت قاديان لتدميرها تمامًا.

لو قارنتم بين حياة حضرته وبين حياة أولئك المشائخ المتفحشين لعرفتم عظمة هذا الإنسان ولعجبتم من عاقبته الحسنى. فلو بقي على حالته الأولى لصار شيخًا متفحشًا ليس هدفه من الحياة إلا سب الكرام وكيل الشتائم، وبث الشقاق وبذر النفاق، وبالتالي إثارة المسلمين لهدم المساجد وضرب رقاب إخوانهم المسلمين من الفرق الأخرى. فما أسوأها من عاقبة هذه. ولكن الله وقاه من هذه العاقبة السيئة، وأخرجه من الظلمات إلى النور.

وعلى الرغم من أنه كان من المشائخ الأحراريين المتفحشين إلا أنه بعد خروجه من صفوفهم لم يتكلم مع أحد بكلام جاف أبدًا، بل كان هينًا لينًا في سلوكه وكلامه. لم يسمع منه أحد أبدًا حتى ولا كلمة تثقل على السمع أو القلب. فهذا هو الانقلاب الروحي الذي وهبه الله تعالى بعد قبول الأحمدية.

وآخر عمل قام به حضرته قبل وفاته هو أنه كتب لي رسالة يطلب فيه الدعاء. إنه يستحق دعواتنا بكثرة.

وبما أنه كان من العلماء المتبحّرِين الذين قلما يأتون إلى الدنيا فلا بد من ملء هذا الفراغ الذي أحدثته وفاته. سوف نشعر بهذا الفراغ بكل تأكيد إلى مدة من الزمن. لذا على شبابنا أن يسعوا لملء هذا الفراغ برفع مستواهم العلمي. إنني إذ أحث الإخوة على الدعاء له، أحضهم على الدعاء أيضًا لأولاده، ولعلماء الجماعة الآخرين حتى يهبهم الله المزيد من العلم ومعرفة العلم، كيلا تشعر الجماعة بأي نقص وفراغ من ناحية العلماء.

قبل 14 أو 15 عامًا كتب حضرته رسالة هامة وسلمها لداعيتنا الشاب السيد هادي علي. وقد أخبرني هذا الأخير أن حضرته كان سلمها إليه يوم عيد الأضحى في تلك السنة، وقال له:

“فيه عبارة أحب أن تُكتَبَ على لوح قبري، ولكني يجب ألا تفتح هذا الظرف ولا تقرأ ما فيه. عندما يحين رحيلي عليك بتقديمها إلى الخليفة عندئذ، وله أن يُحقق أمنيتي أو يرفضها، ولكن يجب أن تبلغها إليه”.

وهذه العبارة كما يلي: “بسم الله الرحمن الرحيم، نحمده ونصلي على رسوله الكريم.

نظرًا لأعمالي لا أحسبني جديرًا بالدفن في “بهشتي مقبرة” (مقبرة الجنة)، ولكني لست قانطًا أيضًا نظرًا لأفضال ربي الكريم، إذ أن كل حياتي رهينة بأفضاله، وإلا “من أنم كه مَنْ دانَمْ” (أي أعلم بنفسي وحقيقي). على أية حال لو منَّ الله عليَّ بفضله العميم بالدفن في (بهشتي مقبره) فأود أن تكتب على لوح قبري الآية التالية:

يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ .

وإذا لم يُؤذَن بهذا فأرجو كتابة البيت التالي.

(أي أن عالَمًا قد خرب بدون مائك، فحّول تيار النهر إلى هذا الاتجاه، يا مولاي).

وإذا لم يؤذن بذلك فتكتب الأبيات التالية لبابا طاهر الأصفهاني:

يا ربّ زِكَناه زِشْتِ خود مُنفعلَمْ

وأز فِعل بد خُوئى بخود خَجِلَمْ

.

فيضِ بِدِلَمْ زِ عالَم غيب رسان

تا مَحْو شَوَدْ خيالِ باطل زدِلَمْ”.

(أي يا ربي، إني نادم جدًا على ذنوبي، وخجول جدًا على أعمالي السيئة. أَدْرِكْني بفيضك من الغيب حتى ينمحي أثر الخيال الباطل من قلبي للأبد).

إنني أوصي مسئولي الجماعة في ربوة أنه إذ لم يُسمح لهم بكتابة آيات القرآن الكريم على لوحات قبر المسلمين الأحمديين بسبب عداوة علماء السوء هنالك الذين جعلوا من أنفسهم آلهةً يأمرون وينهون، فعليهم بترك مكان فارغ لكتابة الآية المذكورة آنفًا على لوح قبر حضرته رحمه الله حتى يأتي الله بأمره. وعندما يغير الله الأحوال فعليهم بكتابتها عليه. أما باقي العبارة فيجب أن تكتب بعينها”.

نُقل جثمانه الطاهر من كندا إلى ربوة حيث دُفن في (بهشتي مقبرة).

عليك تحيةُ الرحمان تترًا

برحماتٍ غوادٍ رائحاتِ

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

(التقوى)

Share via
تابعونا على الفايس بوك