عصمة الأنبياء الحلقة الثانيـة

عصمة الأنبياء الحلقة الثانيـة

جلال الدين شمس

الفصل الرابع

هل جميع بني آدم مُخطئون؟

وليُعلم أنَّ جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الذنوب والآثام التي يُعاقب عليها الإنسان ويُلقى في نار جهنم، ولكنهم مع ذلك ليسوا بمعصومين عن لوازم البشرية كالنسيان وغيره[1]. والأنبياء هم طائفة اصطفاهم الله من بين الخلق لهداية الناس وإرشادهم، فهو يكلؤهم ويحفظهم من أكل أمرٍ يوجب الطعن في قداستهم، وليس كما يقول النصارى بأنّهم مع ارتكابهم كل رذيلة حتى جريمة الزنا يبقون أنبياء، بل هم يكونون لله ويكون الله لهم، ويتربّون في حضن محبة الله. وتوجد آياتٌ كثيرة في القرآن المجيد تدلُّ على عصمتهم، ولكن قبل إيرادها نُجيب على تلك الشُبهات التي أوردها المؤلفون المسيحيون في مؤلّفاتهم من القرآن والأحاديث، محاولين إثبات مزاعمهم بأنَّ جميع بني آدم وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم آثمون ومخطئون.

الشبهة الأولى

يدلُّ على فساد الناس أجمعين الآية الآتية: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ . إذن الأمر مؤكّد أنَّ النفس في كل إنسان ميّالة إلى القبائح وشديدة الرغبة بالمعاصي. ولا يخفى أنَّ (ال) في كلمة النفس[2] هي للجنس. (مباحث المجتهدين).

الجواب: إنَّ الخواجة غبريال لو قرأ الآية كلها لَعَلِمَ فسادَ ما ذهب إليه، وعلِمَ أنَّ هذه الآية لا تنقض ما ندَّعي به من عصمة الأنبياء، لأنَّ الآية تستثني بعض النفوس كما قال تعالى:

إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ،

ونحن أيضًا نقول بأنَّ الأنبياء بعناية الله ورحمته يبقون معصومين، كي يكونوا أسوةً للناس في الإتيان بالأعمال الصالحات، والتجنُّب عن الرذائل والسيئات، ويتغلّبون على النفس الأمّارة بفضل الله ورحمته.

نعم إنَّ النفس الأمّارة سجيّتها أنها تميل بالإنسان إلى السيئات، ولكن يمكن له أن يكبح جماحها بواسطة النفس اللوّامة التي ذكرها الله في الآية: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي التي تعذل الإنسان، وتوبّخه على كل فكرة خبيثة تسري إلى قلبه الطاهر السليم، وهكذا يشتدُّ اللوم والتعذُّل إلى درجةٍ يصل بها الإنسان رويدًا رويدًا إلى آخر مرقاة من مراقي التقدُّم الروحاني، وتخلو نفسه فيها عن كل ضعفٍ ووهن، وتمتلئ من الملكات الروحانية، وتتصل بربّها اتصالاً لا تكاد تحيا بدونه طرفة عين. فهي تنطلق تجري إلى الله مندفعةً اندفاعًا شديدًا لا يحول دونه حائل، وتجد جنّتها في هذا العالم كما تُشير الآية القرآنية:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي .

ففي مثل هذه الحال تغتذي النفس من ربوبية الله، وتُسقى سُلاف المحبة الإلهية، وتدخل الملائكة عليها من كل باب، ولا يقدر الشيطان أن يجد إليها سبيلاً للأمر بالشرّ، كما قال رسول الله بأنَّ الله سلّطه على شيطانه فلا يأمره إلا بخير. وليس معناه أنَّ الشيطان كان يأمره بخير، وإلا لا يكون شيطانًا، وإنّما المراد أنَّ تأثيرات الشيطان التي تقع في نفوس الناس قد حفظ الله نفس رسول الله منها، فلا تجد تأثيراته وتحريكاته السيئة إلى نفسه سبيلاً.. إلا أن تنقلب خيرًا، كمثل الماء الكدر إذا ما مرَّ من المصفاة خرج منها رائقًا صافيًا. وهكذا يكون الأثر الذي يُلقيه الشيطان إلى رسول الله ، فإنَّ قلبه الطاهر النقي يُصفّيه ويرمي خارجًا ما كان فيه من الشر، ويقبل ما كان فيه من الخير. وهذا هو معنى إسلامه.

ولما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة محفوظًا من تأثيرات الشيطان، إذ أنه يدخل حينذاك في زمرة المخلصين، الذين لا يقدر الشيطان أن يتسلَّط عليهم أو يُغويهم. ولكن الخواجة غبريال ورفقاءه يحقُّ لهم أن يقولوا إنّه لا يمكنهم أن يُطهِّروا نفوسهم من الذنوب والإجرام إلا بانتحار يسوع المسيح لأجلهم، وأن يعملوا ما يريدون من الأعمال السيئة بحجة أنَّ النفس لأمّارةٌ بالسوء. وأما نحن المسلمين، فنرى حسب تعليم القرآن المجيد، أنَّ النجاة لا تحصل للإنسان إلا أن يسعى لأن يُزكّي نفسه في هذا العالم، ويُحيلها بالأخلاق الحسنة، كما قال تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا .

  وأما الرواية التي ذكرها الخواجة غبريال: “فجَحَدَ آدم، فجَحَدَتْ ذريّته، ونَسِيَ آدم، وأكل من الشجرة، فَنَسِيتْ ذريّته”.. فلا تدلُّ على أنَّ الأنبياء غير معصومين من الآثام التي يُعاقب عليها الإنسان في الآخرة، بل إنَّ لفظ (نَسِيَ)، وكما سنُبيّن في موضعه، يدلُّ على أنَّ ما صدر من آدم كان من النسيان. والنسيان لا يُعاقب عليه يوم القيامة أبدًا.

الشبهة الثانية

ومما يدلُّ على أنَّ الجميع أخطأوا الآية التالية أيضًا:

وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا .

ألا يدلُّ هذا دلالةً واضحة على أنَّ جميع الناس يرتكبون المعاصي، فمنهم من يعذّب قليلاً ثم يُعفى عنه، ومنهم من يخلد في النار. (مباحث المجتهدين).

الجواب: لفهم تفسير الآية المذكورة لا بدَّ أن يفهم القارئ أولاً أمرين:

الأول: إنَّ من عادة العرب التفنُّن في الكلام، والعدول من أسلوبٍ إلى آخر، تطريةً له وتنشيطًا للسامع.. فتعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى المتكلم، وبالعكس كقوله تعالى:

حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ،

وقوله:

وَاللَّـهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ،

وقوله:

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . (سورة الزخرف).

.. وكقول امرىء القيس:

تَطاولَ لَيلُك بالأَثمدِ

ونامَ الخليُّ ولمْ تَرقُدِ

.

وباتَ وباتَتْ له ليلةٌ

كليلةِ ذي العاثرِ الأَزْمَدِ

وذلك مِن نبأٍ جاءني

وخُبِّرتُه عن أبي الأسودِ

ويُقال لهذا النوع في علم البديع: الالتفات.

الثاني: أنَّ وجوب دلالة (ثم) على الترتيب مع التراخي مخصوص بعطف المفرد. وقد تجيء (ثم) لمجرَّد الاستبعاد، نحو: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّـهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ، وقد تجيء بمعنى الابتداء نحو: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ، وبمعنى (واو) التي هي بمعنى (مع) نحو: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، أي مع ذلك كانوا آمنوا، ولمجرَّد الترقّي، كقول الشاعر:

إنَّ من سارَ ثم سارَ أبوهُ    قبلَهُ ثم قبل ذلك جدُّهُ

وللترتيب في الأخبار كما يُقال: بلغني ما صنعتَ اليوم، ثم ما صنعتَ أمسِ أعجب. وقد تجيء فصيحةً لمجرّد استفتاح الكلام وزائدة نحو: “لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم” (محيط المحيط).

فبعد أن عَلِمنا معانيَ (ثم) نقول: إنَّ الله بعد ذكر الأنبياء قال:

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا .

ثم بعد ذلك وصَفَ الجنة فقال:

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا .

ثم ذكر الله سبب تركهم الصلاة واتباع الشهوات، وهو عدم إيمانهم بالآخرة والبعث بعد الموت.

وهذه حقيقةٌ لا تُنكر، وهي أنَّ سبب انتشار الفسق والفجور وترك العبادات، هو الضعف في العقيدة وعدم الإيمان بالآخرة. لذلك ذكر الله اعتراض الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات والردّ عليه بقوله تعالى:

وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـٰنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا * وَإِن مِّنكُمْ … ..

هنا التفات، والمراد منه أولئك الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وتدلُّ عليه القراءة الثانية

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا .

(ثم) هنا للترتيب في الأخبار، أي أنتم تَرِدونَ جهنم، وأما المتقون فنُنجّيهم منها.[3]

وليس المراد بأنّكم تَرِدون وتخرجون منها بسرعة، بل وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا أي نتركهم في جهنم.

وتوجد آياتٌ كثيرة في القرآن تدلُّ على أنَّ المتقين لا يدخلون جهنم أبدًا، منها قوله تعالى:

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (سورة الزُمر)

ومنها قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ .

  والمعنى الثاني لهذه الآية أن (ال) في الظالمين تفيد التخصيص، والمراد أنَّ الظالمين على قسمين: القسم الأول المتقي الظالم الذي يُنجيه الله. وقد مدحه في الآية:

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ .

والقسم الثاني: الكفار والمشركون الظالمون الذين يُكبُّون في نار جهنم جزاءً بما كانوا يعملون. وقد ذكر الله في هذه الآية أنَّ المتقّي تمسُّه النار، وتفصيله أنَّ المتقين يُلقون أنفسهم في نار هذه الدنيا التي هي دار الابتلاء والامتحان، فهم يذوقون فيها أنواعًا من الاستهزاء والتعذيب، وتنزل عليهم الخطوب والمصائب والشدائد تترًا، ويُزَلزَلونَ زلزالاً شديدًا، ويُضطهدونَ اضطهادًا مروعًا، وتُحدق بهم المخاطر والخوف من جميع الجهات. ولكنهم مع ذلك لا يتقاعسون، ولا يتوانون، ولا يجبُنون. فتُمثَّلُ لهم جهنم في هذا العالم بصورة التكاليف الشاقة، التي لا يستطيع أحدٌ غيرهم الصبر عليها، وتكون أعراضهم وأموالهم وأنفسهم مستهدفة للمخاطر، فهم يقبلون بكل سرور دخول هذه الجحيم المتأجّجة في سبيل الله، ويَرِدون حياض الموت بسرورٍ وابتسام، قتلاً لأهوائهم النفسانية. ولما يستوفي الابتلاء حقّه يهبهم الله من سُلاف المحبة الإلهية، وعندها يرون أنفسهم في الجنة التي لا خوف على الداخلين فيها ولا هم يحزنون.

وإلى هذا المعنى تُشير الآية القرآنية:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .

وإلى هذا يُشير ما رُويَ عن مجاهد في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ، قال: مَن حُمَّ من المسلمين فقد وَرَدَها. وفي الخبر: الحمَّى كِيرٌ من جهنم، وهي حظُّ المؤمنين من النار. وعن عائشةرضي الله عنها أنَّ النبي قال: ((الحُمَّى من فَيْحِ جهنم، فأبردوها بالماء. وكذلك قال الحمَّى حظُّ أُمتّي من جهنَّم. وقال الحمَّى: حظُّ المؤمن من النَّار يومَ القيامة.

وورد في الحديث: حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات، فالذين يتخلّون عن الشهوات النفسانية التي هي أصل النار، ويُورِدونَ بأنفسهم الموت عليها ينجون يوم القيامة من النار. ولكن الذين عاشوا مَرِحِين مُتبختِرين في مراتع الشهوات التي حُفَّت النار بها يَصْلَونَ فيها، لأنّ الإنسان يحمل في جوفه جحيمًا من الأهواء والشهوات، ويشعر في نفسه بلفحاتها اللذّاعة عند الخيبة والخسران وعدم الوصول إلى مآربه، ولذلك فإنّه حينما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية، ويُدركه القنوط الأبدي، يكشف الله له تلك الأماني وحزازات الحسرات.. في صورة النار الملتهبة.

وهناك معنى آخر لهذه الآية، وهو أن الله يُري كل شقيّ وسعيد يومَ الآخرة بصورة تمثيلية – هل هو قد سلك سبل السلام في الحياة الدنيا، أو اختار طرق جهنم وسُبل الهلاك والموت. ففي ذلك اليوم يكون سبيل السلام الذي هو الصراط المستقيم، وقلَّ من يمشي عليه بالاستقامة. وهو دقيقٌ جدًا ممثلاً للناس بصورة صراطٍ أرقّ من الشعرة وأحدَّ من السيف. ويرى العارف السالك عليه بعينيه الروحانية.. على يمينه ويساره جحيمًا ملتهبة، ولما نؤمر بالمرور عليه.. فإذا كنا من السالكين صراط الله المستقيم في الدنيا، والمسارعين في الخيرات والسابقين في الفضائل والكمالات.. نجتازه سِراعًا كلمح البصر، أو كسرعة البرق، طائرين بقوة الإيمان. وما ذلك إلا لأننا مررنا عليه قبل ذلك في الحياة الدنيا، ولا يسري إلى قلبنا خوفٌ ولا جزع، كما قال تعالى:

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ .

وكذلك قال:

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ .

ولكن الذي لم يسلك الصراط المستقيم بالاستقامة في الحياة الدنيا، لا يقدر أن يمشي عليه في ذلك اليوم أيضًا، بل يسقط في جهنم مذءومًا مدحورًا. كما قال تعالى:

وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .

وليس معنى الورود الدخول فقط، كما قال قوم: إنه ليس المراد من الورود الدخول، وقالوا: لا يدخل النار مؤمنٌ أبدًا لقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ .

فعلى هذا يكون المراد من الورود الحضور والرؤية كما قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ .. أراد به الحضور. ومن قال بدخول المؤمنين النارَ أيضًا يقول من غير خوفٍ ولا ضررٍ ولا عذابٍ البتة، بل مع الغبطة والسرور، لأنّ الله تعالى أخبرهم أنّهم لا يحزنهم الفَزَعُ الأكبر. وفي الحديث: “تقول النار جُزْ يا مؤمن، فقد أَطْفَأَ نُوْرَكَ لَهَبِي”. وعن جابر عن النبي سُئل عنها فقال: “إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال بعضُهم: أَليسَ قدْ وعدنا ربُّنا أن نَرِدَ النارَ؟ فيقالُ لهم: قد وردتُموها وهي خامدةٌ”.

وعن ابن مسعود أنه قال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا يعني القيامة والكناية راجعة عليها. فلا يوجد في الآية ما يدلُّ على أنَّ جميع الناس يُعذّبون في الآخرة في جهنم أبدًا.

الشبهة الثالثة

يقول الخواجة غبريال: وما يدلُّ على أنَّ الجميع أخطأوا الآية الآتية:

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ .

  الجواب: إنَّ هذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من يتعامى عن ذكره، أي يعرف أنّه الحق ثم يتجاهل ويتعامى عنه، كقوله تعالى:

وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ

نُقيّض له شيطانًا فهو يكون قرينه، لأنّ الإنسان خُلِقَ مدنيّ الطبع. فالرجل الذي يُؤثر الباطل على الحق، ولا يختار مجالسة الصلحاء وصحبة الأبرار، يكون قرناؤه وأصحابه شياطين وأشرارًا. ولا نعلم كيف استدلَّ الخواجة غبريال من هذه الآية على كون جميع البشر خاطئين.

الشبهة الرابعة

ويُستدلُّ على أنَّ الجميع أخطأوا من هذه الآية:

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ .

والمعنى بيّن أن الإنسان فاسدٌ خاطئ، ولولا فضل الله ورحمته لما تزكَّى أحدٌ مطلقًا.

الجواب: بما أنَّ الأنبياء وعباد الله المخلصين يكونون مورد فضل الله ورحمته، فإنه يُزكّيهم ويحفظهم من جميع الآثام والأجرام التي يُعاقب عليها الإنسان في الآخرة، فلا تخالف هذه الآية ما ادَّعيته من عصمة الأنبياء الكرام.

توريث الخطيئة

وأما القول بأنَّ ذرية آدم عليه السلام ورثت عنه الميل إلى الخطيئة فليس بصحيح، وإلا فليقل لنا المسيحيون من أين جاء الميل إلى الخطيئة في آدم ومن أين ورثها؟ إنَّ الإسلام يعلّمنا بأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، أي الفطرة الإسلامية، فأبواه يهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه. وكذلك كانت تعتقد فرقة (البيلاجيسيين) أصحاب (بيلاجوس) البريطاني ورفيقه (سلستيوس) الإيرلندي، وكانا كلاهما راهبين في رومية، وقد رأيا أنَّ مما يمنع السعادة الأبدية القولَ بسريان الخطيئة الجسدية إلى نسل آدم والاعتقاد بأنَّ الإنسان يحتاج إلى تجديد القلب بنعمةٍ من الله تمنعه من الإقدام على الخطيئة وتُقبل به إلى التوبة. ومن ثم شرعا في إبطال هاتين العقيدتين، وعلَّما الناس بأنَّ خطيئة آدم وحوَّاء لا يؤاخذ بها أحدٌ من ذريتهما وأنَّ امتناع الناس عن الخطيّة لا يتوقف عن تلك النعمة، وأنَّ الإنسان موكول في الأعمال إلى اختياره، فمن عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها. (كتاب سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان، مطبوع في بيروت سنة 1876، ص 147).

ولو سلّمنا بصحة توريث الخطيئة فيكون المسيح أكثر خطايًا وذنوبًا من الآخرين، لأنّه هو أيضًا كان، كما ذكرنا، ابنَ الإنسان: “يسوع المسيح ابنُ داود”.. (متى، 1:1)، “أما ابن الإنسان فليس له أينٌ يسند رأسه”.. (متى، 8: 20)، “جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب.. (متى، 11:29). وهكذا ورد في حقه في الأناجيل الأربعة لفظ ابن الإنسان نحو أربعين مرة. ومعلوم أنَّ المسيح وُلد من بطن مريم عليها السلام.. (متى، 1:3)، وأنَّ المرأة هي التي أُغوِيَتْ، يقول بولس: (وآدم لم يغو ولكن المرأة أُغويَت فحصلت في التعدي). رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس:

وها هو حكم مولود [4]المرأة فاسمعوه: من يخرج الطاهر من النجس، لا أحد. (أيوب 4:14) فكيف يتبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة. (أيوب 4:25).

فلو فرضنا أن خطيئة آدم 50 درجة تكون خطيئة حواء ضعفها على أقل تقدير أي 100 درجة. لأنها هي التي تسببت في اغواء آدم فالولد الذي يولد من أبوين يرث النصف من والده والنصف الآخر من والدته فيكون إرثه 75 درجة وأما الذي يكون من الأم فقط فيأخذ حصتها بكاملها ويكون إرثه 100 درجة.

فولادة يسوع المسيح من دون نطفة أب لا يبرره بل يجعله حسب اعتقاد المسيحيين بتوريث الخطيئة أعظم ذنبًا من الذين ولدوا من أبوين. ولا يخفى أن المسيح حسب تعليم القرآن المجيد لم يكن إلا بشرًا رسولاً كما قال تعالى:

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (المائدة: 76)

وكذلك قال:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ

فالمسيح أيضًا كان رجلاً.

فإذا لم يقبل الخواجه غبريال ما ذكرناه من تفاسير الآيات .. فلا مندوحة له من قبول كون يسوعهم أيضًا يدخل النار وأنه كان خاطئًا غير معصوم، والعياذ بالله. (يتبع)

1 يقول مرقس: “فقال يسوع: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه.. كيف دخل بيت الله في أيام أبياثار رئيس الكهنة، وأكل خبز التقدمة الذي لا يحلّ أكله إلا للكهنة وأعطى الذين كانوا معه” (مرقس صح 2). وقد أخطأ يسوع في بيان هذه الواقعة ونسي أنَّ هذه الواقعة حصلت في أيام نوب أخيمالك الكاهن كما هو مذكور: “فجاء داود إلى نوب إلى أخيمالك الكاهن. فاضطرب أخيمالك عند لقاء داود وقال له: لماذا أنت وحدك…. فأعطاه الكاهن المقدَّس لأنه لم يكن هناك خبز إلا خبز الوجود المرفوع من أمام الربّ” (صموئيل 1، 21). أبيأثار كان ابن أخيمالك: “فنجا ولد واحد لأخيمالك ابن أحيطوب اسمه أبياثار وهرب إلى داود”. (صموئيل 1- 22). فيسوع المسيح كذلك كان يُخطئ ناسيًا في بعض الأحيان. فافهم!

[2] يقول المسيح : “نفسي حزينةٌ جدًا”. فهذه الآية إذن تشمل نفس يسوع المسيح أيضًا.

[3] وليعلم أنَّ الله استعمل في كلامه الألفاظ مصروفةً عن حقائقها، كما قال الله تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ، مع أنَّ حقيقة القرض هي ان يطلب الإنسان عند الاضطرار من إنسان آخر دَينًا بشرط الأداء إلى أجلٍ مسمّى. ولكن الله مستغنٍ عن كل احتياج. فلم يرد الله من استعمال لفظ دَيْن إلا الأداء فقط، بمعنى الله أخذ على نفسه عهدًا بأنَّ الذي يُنفق في سبيله بصدقٍ وإخلاص وحسن نية فإنّه يعوّضه أحسنَ منه. وكذلك قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ ، مع أنَّ حقيقة البلاء أن يكون المبتلي جاهلاً بالنتيجة التي تظهر بعد الامتحان، ولكن الله ليس كذلك، بل الغرض من ابتلاء الله هو أن يُظهر على المبتلي حقيقة إيمانه وان يُظهر للآخرين إخلاصه أو نفاقه، ومحاسنه الباطنية أو عيوبه المخفيّة. كذلك المراد من لفظ النجاة في هذه الآية أنَّ المتقين ينالون مرادهم ولا يمسّهم السوء كما قال تعالى:

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

[4] كذلك ألحق الله عيسى بذرية نوح كما قال:

وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (85) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ  (الأَنعام 85-86)

فثبت أنه كان إنسانا فقط من ذرية نوح لكون أمه من ذرية نوح.

Share via
تابعونا على الفايس بوك