قرأتُ لك

يذكر الإمام السيوطي رحمه الله، أسباب تأليف كتابه: (نزول عيسى ابن مريم آخر الزمان)، فيقول:

وَرَدَ علَيَّ سؤال وهو: إن عيسى حين ينزل في آخر الزمان.. بماذا يحكم في هذه الأمة.. بشرع نبينا أو بشرعه؟ وإذا كان يحكم بشرع نبينا.. فكيف طريقة حكمه به؟ أبمذهب من المذاهب الأربعة؟ وإذا قلتم: بالاجتهاد، فكيف سيستنبط الأحكام؟ هل بالنقل الذي هو من خصائص هذه الأمة، أو بالوحي؟ وإذا قلتم: بالنقل، فكيف طريق معرفة صحيح السنة من مستقيمها. وإذا قلتم بالوحي، فبأي وحي؟ أوَحْيِ إلهام؟ أو بتنزيل ملكٍ. وجوابي على الشكل الآتي:

“إن المسيح سوف يحكم بشرع نبينا. وقد نصَّ على ذلك العلماء، ووردت به الأحاديث، واتفق عليه الإجماع.

فمن جملة نصوص العلماء في ذلك قول الخطَّابي في معالم السنن، عند ذكر حديث: “إن المسيح يقتل الخنزير”، فيه دليل وجوب قتل الخنزير على حكم شريعة نبينا .

ومن ذلك أيضا قول النووي في شرح مسلم: ليس المراد بنزول المسيح أن ينزل بشرع ينسخ شرعنا، بل صحَّتِ الأحاديث بأنه “حَكَمًا مُقسِطًا” يحكم بشرعنا، ويُحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس. وإليكم بعضًا من هذه الأحاديث:

أخرج الطبراني في الكبير، والبهيقي في البعث، بسند جيد، عن عبد الله بن معقل رضي الله عنه قال: قال رسول الله :

“يلبث الدجَّال ما شاء الله، ثم ينزل عيسى بن مريم مصدِّقًا بمحمد وعلى ملته إمامًا مهديًا.. وحَكَمًا عَدْلاً، فيقتل الدجال”.

وأخرج ابن حبان في صحيحه.. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول:

“ينزل عيسى بن مريم، فيؤُمُّهم، فإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمِع الله لمن حمده، قتل الله الدجال، وأظهر المؤمنين”.

وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: يهبط عيسى بن مريم، فيصلي الصلوات، ويجمع الجمع.

وأخرج أيضا من حديث ابن عباس ، قال: قال رسول الله : ” كيف تهلَكُ أمةُ أنا أولُّها والمسيح في آخرها”.

ثم يقول الإمام السيوطي رحمه الله: “عجِبتُ للسائل يسأل: إذا جاء المسيح وحكم بشرع نبينا فعلى أي مذهب من مذاهب الإسلام الأربعة يحكم؟ فهل خطر ببال السائل أن المذاهب الإسلامية منحصرة في أربعة مذاهب فقط؟؟ إن المجتهدين في هذه الأمة لا يُحصَون كثرةً. وكل من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين له مذهب.. كسفيان بن عُيَيْنَةَ، وسفيان الثوري، واللَيْث بن سعيد، وإسحاق بن راهوية، وابن جرير الطبري، ومذهب أبو داود السجَستاني”.

ثم يقول رحمه الله: “كيف يقلِّد نبي مذهبا من المذاهب، والعلماء يقولون إن المجتهد لا يقلِّد مجتهدًا. فإذا كان هذا المجتهد من آحاد الأمة لا يقلِّد فكيف يظن بالنبي أنه يقلِّد.

فإن قلت: يتعيَّن حينئذ القول بأنه يحكم بلا اجتهاد، قُلتُ: لا لَمْ يتعين ذلك، فإن النبي كان يتكلم بما أوحي إليه، ولا يسمَّى ذلك اجتهادًا. كما لا يسمى ذلك تقليدًا.

ثم يقول مؤلف الكتاب رحمه الله: “الثابت أن المسيح يُوحى إليه، وإليكم الأدلة على ذلك:

روى مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث النُّواس بن سمعان قال: فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم. فنزل عند المنارة البيضاء شرقيَّ دمشقَ بين مهرودتين.. واضعاً كفّيه على أجنحةِ مَلَكَينِ، فيتبعه، فيدركه عند باب لدٍّ، فيقتله. فبينما هم كذلك.. أوحى الله إلى عيسى بن مريم أني قد أخرجتُ عبادًا لي لا يَدَانِ لأحدٍ بقتالهم. فحرِّزْ عبادي إلى الطور. ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج”.

فهذا الحديث صريح في أن الله يوحي إلى المسيح عن طريق جبريل وبواسطته، لأنه السفير بين الله وبين الأنبياء.

وقد اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي . وهذا شيء لا أصل له. والدليل على بطلانه ما أخرجه الطبراني في الكبير، والبخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، وابن ماحه في سننه، والإمام أحمد في المسند: عن ميمونة بنت سعدٍ قالت: قُلتُ: يا رسول الله، هل يرقد الجُنُبُ؟ قال: ما أُحِبُّ أن يرقد حتى يتوضأ، فإني أخاف أن يُتوفَّى، فلا يحضره جبريل”.

فهذا الحديث يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض، ويحضر موت كل مؤمن حضره الموت وهو على طهارة.

كذلك ما أخرجه نعيم عن حماد في كتاب الفتن، والطبراني من حديث بن مسعود عن النبي في وصف الدجال قال: يمرُّ بمكة فإذا هو بخلقٍ عظيم فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل.. بعثني الله لأمنعه من حرم رسوله”.

” ثم رأيت في قوله تعالى:

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا (القدر: 5)..

عن الضحَّاك أن الروح هنا جبريل ، وإنه ينزل مع الملائكة ليلة القدر، ويُسلم على المؤمنين في كل سنة”.

ثم يؤكد رحمه الله: “أن ما يزعُمُه البعض من أن وحي الله إلى المسيح ليس حقيقيا بل هو إلهام.. قولٌ سقط ومهمل، وذلك لسببين:

الأول: مخالفةُ ذلك مضمونَ الحديث الثابت عن رسول الله كما تقدم من صحيح مسلم وغيره: “فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى “، وأنَّ هذا وحي حقيقي لا وحي إلهام.

ثانيا: إن الزعم مِنْ تعذُّر الوحي الحقيقي فاسد، لأن المسيح نبي.. فأي مانع من نزول الوحي عليه؟

فإن تخيَّلَ نفسه أن المسيح قد ذهب عنه وصف النبوّة.. فهذا قول يقارب الكفر. وإن تخيَّلُ اختصاصَ الوحي للنبي بزمن دون زمن.. فهو قول لا دليل عليه، ويبطله ثبوت الدليل على خلافه.

فثبت بذلك أنه لا يتنافى مع كونه ينزل تابعا للنبي وبين كونه باقيًا على نُبوتِّه، ويأتيه جبريل بما شاء الله من الوحي.

وإذا قال الزاعم: إن الوحي في حديث مسلم مؤوَّل بوحي إلهام. قلنا: قال أهل الأصول: التأويل صرف اللفظ عن ظاهره لدليل، فإن لم يكن لدليل فلعبٌ لا تأويل”. ولا دليل على هذا، فهو لَعبٌ بالحديث.

قال الزاعم: الدليل عليه حديث: “لا وحي بعدي”. قلنا هذا الحديث بهذا اللفظ باطل.

قال الزاعم: الدليل حديث: “لا نبي بعدي”.

قلنا: يا مسكين، لا دلالة على هذا الحديث بوجه من الوجوه.

لأن المراد: لا يحدث بعدي نبي يشرع بنسخ شرعي. كما فسره بذلك العلماء كابن حجر والقرطبي.

ثم يُقال لهذا الزاعم: هل أنت آخذ بظاهر الحديث؟

فإنَّ هذا يُلزمك أحد أمرين: إمَّا نفي نزول عيسى أو نفي النبوة عنه. وكلاهما كفر”.

* * * *

لقد أكد هذا الإمام الجليل رحمه الله أمورًا أساسية تتعلق بدعوة المسيح الموعود والمهدي المنتظر :

الأمر الأول: أن المسيح الموعود نبي تابع وليس مُستقلاً، وأنه عامل بالشريعة الإسلامية، وداع إليها.

الأمر الثاني: أنه يتلقى الوحي الحقيقي، وليس وحي الإلهام، كما يزعم البعض، وأن جبريل ينزل عليه ويتصل به.

والأمر الثالث: أن النبوة التي خُتمتْ هي نبوة التشريع فقط، لأن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة وباقية إلى يوم القيامة.

والأمر الرابع: أن الاعتقاد بنفي نزول المسيح وعدم التمسك بهذا النزول أو نفي النبوة عنه يوردُ الكفر.

والأمر الأخير والأهم هو أن ما أكده الإمام السيوطي رحمه الله هو ما أعلنه مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ، ومن أجل هذه الأمور كفَّره أدعياءُ العلم والمعرفة المتعصبون. هداهم الله ما هدانا، وعلَّمهم كما علَّمنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك