عقيدة الثالوث في الميزان

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبَها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريبًا. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية لـه حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح، الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيِّم: «المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال» لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة «التقوى» نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتًا وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين وأراضيهم من قِبل «الدجال».. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين.

وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. «التقوى»

الفصـل السادس

الثـــالوث

لقد فحصنا حتى الآن الدوافع التي أدت إلى تكوين أسطورة تأليه المسيح عيسى ودوره المزعوم كابن الله في ما يسمى بالثالوث. ولكن الشخص الثالث في عقيدة الثالوث المسيحية، وهو الروح القدس، يبدو لغزًا غامضًا.

لماذا لا تكفي عقيدة “اثنان في واحد”؟ وأين الحاجة لتقديم الكيان الثالث في هذه العقيدة الأساسية؟ ليس ثمة مبرر من الناحية المنطقية، ليحتل الكيان الثالث حيّزًا في المفهوم  المسيحي للألوهيـة. إن هارنيك Harnack، أحد المعلقين على هذه المسألة، يرى أن المسيحية قد قُدّمت في البداية كإلهة أسطورية صغيرة إلى جانب الإله والمسيح. ثم أُدخلت فيها الكنيسة على أنها الروح، وذلك لتضفي عليها صبغة الألوهية؛ وهكذا تم اختراع الشريك الثالث الذي بدون ذكر الروح فيه كان بلا معنى. وقد استُخدم هذا كسلاح ناجع ضد اليهودية (باعتبار أن فكرة الثالوث هي أمر لازم، وغيابها في اليهودية هو خلل عقدي كبير!).(1)

وحول الموضوع نفسه يقول القسيس  K.E.Kirk في بحثـه: “تطور عقيدة الثالوث”:

“إننا نتوجه طبعا إلى كتّاب تلك الفترة لنكتشف الأسس التي أقاموا عليها معتقدهم. إننا مضطرون لأن نقر بأنه لا أساس لهم. والسؤال الذي عرض عليهم لم يكن “لماذا ثلاثة أشخاص؟”، بل “لماذا ليس ثلاثة أشخاص؟”

ويتابع الكاتب ليشير إلى الفشل الكامل لدى الفكر المسيحي في تقديم أي تبرير منطقي لعقيدة الثالوث. وإن الثالوث المسيحي كان يمكن شرحه على ضوء أنه في الأساس مفهوم ثنائي تمّ ربطه بكيان ثالث مختلف بغية رسم صورة أكثر كمالاً.(2)

نحن نعتقد أن هذا الوجود قد تطور ونما تدريجًا تحت تأثير فلسفات وأساطير وثنية قديمة قد كثرت أيام الإمبراطورية الرومانية. وأن تبادل الأفكار لا بد أن يكون قد جرّ رجال الدين المسيحي ليُقرّروا مكانة روح القدس. وكما أن هناك أدلّة وفيرة على وجود مثل هذه المعتقدات والطقوس الدينية التي صوّرت الله تعالى وكأنه مركّبٌ من ثلاثة كيانات في كيان واحد. وليس من الصعب تتبع المصدر الأساس لعقيدة الثالوث المسيحي.

وبعد كل هذا، إذا أمكن للاثنين أن يصبحا واحدًا، والواحد اثنين، فلماذا لا يمكن للثلاثة أن يصبحوا واحدًا أيضًا؟

ويعود الأمر إلى العلماء الباحثين ليقرروا متى وكيف تأصلت بالضبط الشخصية الثالثة – ضمن الإله المسيحي- في العقيدة المسيحية، ولكن ذلك خارج نطاق البحث حاليًا. وما نريده هنا هو أن نختبر سخافة مثل هذه المزاعم التي يرفضها الفهم البشري السليم كليةً. إن الفطرة البشرية لترفض الأفكار المتضاربة والمتناقضة في ذاتها.

التداخل في عقيدة الثالوث

عندما يحاول المرء تصوّر الصلة المتداخلة للمكونات الثلاثة للإله المسيحي، فإن السيناريوهات الممكنة التي تبرز هي ما يلي:

أ. هذه الكيانات لها مظاهر أو جوانب مختلفة لشخص واحد.

ب. هم أشخاص ثلاثة يتقاسمون الخلود فيما بينهم بالتساوي.

ج. هم ثلاثة أشخاص وبعض صفاتهم فردية ومتميزة لا يشتركون فيها بشكل كامل.

د. هم ثلاثة أشخاص في واحد، ولهم صفات متشابهة تمامًا، متداخلة بعضها ببعض دون أن يكون لأحدهم وظيفة منفصلة عن الآخر.

وسندرس فيما يلي كلاً من هذه الإمكانيات واحدة بعد الأخرى.

أ. مظاهر وهيئات مختلفة لشخص واحد

فيما يتعلق بالإمكانية الأولى فلا حاجة لمناقشتها بالتفصيل لأنه قد لا يوجد اليوم مسيحي يصدق بأن يسوع المسيح هيئةٌ أو مظهر لله تعالى خلافا لكونه شخصا منفصلا. فالمؤمنون بالثالوث يصرّون على كونهم ثلاثة أشخاص قد دُمجوا في شخص واحد.

وحالما يقبل المرء السيناريو عن شخص واحد لـه مظاهر مختلفة تعمل معًا، فإن مفهوم الثالوث، أي ثلاثة آلهة في إله واحد يذوب ويتلاشى في الهواء، ولا يبقى هناك ثالوث على الإطلاق. عندئذ سيموت الإله الأب نفسه بدافع رحمته من أجل خطايا البشر. في هذه الحالة سيكون الأمر مجرّد مرحلة انتقالية للشخص ذاته، فالمظاهر ليست أشخاصًا، وكذلك فإن الهيئات لا تخلق كيانات منفصلة. إن أي كائن بشري يمكن أن يمرّ بالكثير من الحالات والأمزجة المختلفة دون أن ينقسم إلى شخصين أو ثلاثة أو أكثر. ولذلك إذا قرّر الله أن يموت من أجل البشرية الخاطئة، فلا بدّ أن يكون الله نفسه الذي يفعل ذلك وليس مجرّد مظهر من مظاهره!

وهكذا بالنسبة إلى الحالة التي نحن بصددها فإن ذلك الجانب أو المظهر لله الذي لعب دورًا حيويًا في التضحية الإلهية من أجل البشرية الخاطئة، يمكن أن يُفهم أنه مجرد عرْضٍ لصفة من صفاته تعالى. وعليه فإذا اعتبرت رحمة الله على أنها شخص، وأن ذلك الشخص قد أعطي اسم المسيح، فإن ذلك الشيء الذي مات، هو رحمة الله!

ياله من تناقض عجيب أن رحمة الله قد انتحرت بسبب شفقتها على البشرية الخاطئة!

وذلك يتضمن أنه لم يبق لدى هذا الإله أية رحمة لثلاثة أيام وثلاث ليال.

لنتذكر أن يسوع في هذا السيناريو لا يُعامل كشخص منفصل مستقلّ، بل كصفة أو مظهر من مظاهر الله الذي يصبح فيه نوعًا من الرحمة المتجسدة. على أية حال، فإن ذلك الإله المسيحي يظل كيانًا إلهيًا مفردًا غير قابل للانقسام!

ولهذا فإذا مات شيء ما خلال هذه العملية، فلا بد أن يكون هو إمَّا ذات الله، أو صفته الرحمانية التي لعبت الدور الأساسي في هذا الموضوع! وهكذا فليس هناك خيار سوى الإيمان إمّا بموت رحمة الله أو بموت الله الرحيم نفسه!

ولقد تنشأ تعقيدات كثيرة عن الزعم بأن مظاهر شخص واحد يمكن محوها من الوجود مؤقتًا أو بشكل دائم. وهذا السيناريو يمكن أن يُفهم بمجرد تطبيقه على التجربة البشرية. فمثلاً يمكن للإنسان أن يفقد سمعه أو بصره مؤقتًا أو على الدوام، ولكنه رغم ذلك يبقى ذات الإنسان الحي. إن موت صفة أو خاصية في شخص ما، هو في الحقيقة موت جزئي للشخص نفسه. وحسب التحليل النهائي، فإن الخاسر أو المعرَّض للمعاناة يظل هو الشخص ذاته.

ب. أشخاص مختلفون يتقاسمون الخلود

لو كانت عناصر الألوهية المسيحية مكونة من ثلاثة أشخاص مختلفين يتقاسمون الخلود في الوقت نفسه، لبرز السؤال حول العلاقة بينهم. فإذا كان ثلاثة أشخاص يشكّلون إلهًا واحدًا من الأزل إلى الأبد، فلا بدّ أن يكون لكل واحد منهم ذات مستقلة، بحيث أن معاناة أحدهم – إذا كان من الجائز أصلا أن يعاني – ستكون تجربته الخاصة به وحده. ويمكن للآخرَين أن يتعاطفا معه دون أن يستطيعا المشاركة في معاناته. وبطبيعة الحال فإنه من المستحيل تخيّل آلية التفكير وعمليات صنع القرار لدى هذا الإله، ولكن الزعم بأنه في الواقع ثلاثة أشخاص قد صيغوا في واحد يبرّر المحاولة للربط بين العمليات الفكرية الثلاث المستقلة.

والسيناريو المحتمل الذي يبرز هنا، مثله كمثل طفل بشري يولد بثلاثة رؤوس. إن هذا الشيء القبيح يمكن الإشارة إليه على أنه شخص واحد لأن له جذعا واحدا وأربعة أطراف. ولكن وجود ثلاثة رؤوس يكوِّن مشكلة في وصف الطبيعة الحقيقية لهذه الرؤوس.

إذا تسنى لهذه المخلوقات الغريبة أن تعيش طويلاً بحيث تقدر على الكلام والتعبير عن نفسها عندها فقط يمكننا أن نتساءل عما يحدث داخل الرؤوس الثلاثة. وفي حال غياب هذه المعرفة لن يكون ممكنًا الإعلان عن هذه الرؤوس أنها شخص واحد له ثلاثة عقول أو ثلاثة أشخاص في جسد واحد!

من الغريب أن هذا الجانب الهام في العقيدة المسيحية لم تشرحه الأناجيل مطلقًا. وفي كل ما يخص المسيح أو روح القدس، فليست هناك إشارة ولو خفيفة إلى أنهما شخصان مختلفان ولكنهما مشتركان في عمليات التفكير ذاتها وكذلك في المشاعر ذاتها. وإلا، فإن اعتبار الروح القدس كيانا منفصلا عن المسيح هو أمر يستحيل استنتاجه (من الإنجيل)، خاصة أثناء الفترة التي كان فيها المسيح محصورا في جسده البشري.

والأسئلة التي لا بد أن تبرز حول ما حصل حقًا لشخص المسيح خلال تلك التجربة فيما يتعلق بالعنصرين الآخرين لإله المسيحيين، فهي كالتالي:

1- هل شارك الجزءان الآخران أي الله الأبُ، والروحُ القدس معًا، بأي شكل في تكوين جسدِ المسيح أو تجاربه المتعلقة بذلك الجسد؟

2- هل كان المسيح هو الساكن الوحيد في ذلك الجسد، ومن ثم لم يشرك في تجربته المتعلقة بالجسد أيًّا من الجزأين الآخرين من الثالوث؟

إن التشعّبات المتعلقة بالأمر الأول قد تم بحثها مسبقًا. وأمّا فيما يتعلق بالأمر الثاني فإن المزيد من التعقيدات تنشأ حول صلة يسوع، في ذلك الوقت، بالكيانين الآخرين من الثالوث.

هل صار عيسى كيانًا منفصلاً بنفسه كلية خلال تلك الفترة، أم ظل جزءًا لا يتجزأ عن العنصرين الآخرين، إلا أنه ظل يقيم في مكان على شكل جسدٍ بشري حصرا؟

والآن لدينا سؤال آخر يتطلّب الإجابة:

3- هل كان كيان يسوع الإلهي السماوي محصورًا كله في جسده البشري، أم كان قد قُذف خارج التكوين الإلهي المشترك للإله الأب والروح القدس كالإصبع الصغيرة البارزة عن جسم الأميبا؟!

إن هذا السيناريو يقودنا إلى التصديق بأن عيسى كان أعظم من شريكيه خلال تلك المرحلة لأنه قد شارك بالتساوي في شكل الوجود مع الأب وروح القدس، في حين أنهما لم يشاركا في الإصبع البارزة من وجوده البشري.

ولأجل تسهيل فهم الأمور فإن هناك محاولة توضّح التناقض والسخافات الكامنة في هذا التصور من خلال تصور حالات افتراضية مختلفة. وبطبيعة الحال يجب ألا يأخذ القُرَّاء التوضيحات حرفيًا.

والمسألة التي أمامنا هي هل هناك شخص واحد يبدي صفات مختلفة، أو أنه يمر بمراحل مختلفة. هذا يقودنا إلى التأمل في مسألة ثلاثة في واحد أو واحد في ثلاثة، وبخاصّة من زاوية الحالات المختلفة باعتبار أنها متميزة بعضها عن بعض، وتُظهر شخصيات وأمزجة مختلفة بواسطة الشخص نفسه. وهذا الأمر قد درسناه بشكل مطول في فصل سابق.

ومن الضروري هنا إعادة التأكيد على فكرة أنه إذا كان شخص واحد، أو كيان واحد، يبدي مظاهر مختلفة، فإنه لا يستطيع أن يُبدي تلك المظاهر المختلفة معًا في آن واحد دون أن يقسّم نفسه إلى أجزاء مختلفة.

خذ مثلاً كمية وقياسا معينا من الماء. إن هذا الماء يمكن أن يتحوّل بأكمله إلى بخار أو جليد دون المساس بمكوناته الأساسية. فإذا أردنا رؤية الأطوار المختلفة لهذا الماء في آنٍ واحد، يجب أن ينقسم الماء إلى ثلاثة أجزاء ليكون ثلثه جليدًا، وثلثه بخارًا وثلثه سائلاً. فيصبح كل شكل مختلفًا عن الآخر دون أن يشارك أحد المظهرين الآخرين في صفاتهما في الوقت ذاته.

وعليه فإن كمية الماء المحددة قد انقسمت إلى ثلاثة أقسام ولكن سيكون بالتأكيد حجم كلّ من هذه الأقسام أصغر من حجم الماء الكلي، ولا يستطيع أحد أن يعلن أن هذا القسم واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد. وهكذا، فإن تقمّص المسيح في صورة يسوع البشرية مع البقاء على هاتين الحالتين، عيسى الإنسان والإله الأب، إنما هو أمر لا يُصدق!

إن جميع البشر قد خُلقوا من العناصر ذاتها، ولكن توافُق وتشابُه بعضهم ببعض لا يجعلهم شخصًا واحدًا. بل إن خصائصهم وتفردهم وتميّز بعضهم عن بعض هو الذي يقسمهم إلى كيانات عديدة مختلفة، رغم أنهم في جوهرهم مخلوقون من المادة نفسها. وعليه فلا يمكن للمرء أن يدعوهم “واحدًا في خمسة بلايين”، أو “خمسة بلايين شخص في واحد” رغم أنهم جميعًا مشتركون في العنصر البشري الواحد.

دعونا الآن نفحص السؤال نفسه من زاوية أخرى:

إذا كان عيسى لفترة ما منفصلاً ومتميزًا عن الإله الأب من ناحية، وعن الروح القدس من ناحية أخرى، ففي أي مكان أقام ذلك الوجود المتميّز والمنفصل للمسيح؟

تذكروا أنه على المرء أن يفهم المسيح بكونه متميزًا كليًا ومنفصلاً عن الأب والروح القدس، وأن تضحيته من أجل إخوته البشر، أو بتعبير آخر، لإخوته البشر إلى حد ما، يمكن أن ينظر إليها بأنها بكاملها تجربته الشخصية خلاف تجربة الأب والروح القدس.

من الواضح أن ذلك سيؤدي بنا إلى اعتبار أن المسيح وحده ينقل قدرات عقله أو فكره إلى جسد المسيح المادي. عندها يمكن أن نفهمه كمن مر بتجربة لم يشاركه فيها العنصران الآخران في عقيدة التثليث المسيحية. يا له من أمر محيِّر للعقل؟!

ج. أشخاص مختلفون بصفات مميزة

لو كان الإله الأب ويسوع الابن وروح القدس ثلاثة أشخاص ولكلّ منهم صفته الخاصة التي لا يشاركه فيها الآخران بشكل كامل، عندها لا يمكن اعتبارهم “ثلاثة في واحد” و”واحد في ثلاثة”.

إن الاندماج الكامل للثالوث في وحدة واحدة يمكن أن يُفهم فقط إذا أصبحت الشخصيات والصفات والمهام وجميع الخواص لدى الأشخاص الثلاثة متطابقة بعضها مع بعض دون أية خواص تميز الواحد عن الآخر.

وهذا يقدم سيناريو يمكن تشبيهه إلى حد ما بالتوائم الثلاثة المتشابهين الذين يمثّلون – فيما يتعلق بعقولهم وقلوبهم وأحاسيسهم ووظائف أعضائهم – انسجامًا تامًا بحيث إن التجربة الفردية لأي واحد منهم تصبح مشتركة مع الآخرَين بشكل كامل.

فإن حدث ذلك فإن شيئًا من الثالوث الإلهي، أي الإله والابن والروح القدس يصبح مفهومًا بوضوح أكثر. ولكن المشكلة ستظل قائمة فيما يتعلق بالأجساد الثلاثة التي تحوي الأشخاص الثلاثة المتشابهين. وهذا لا ينطبق بالطبع على مفهوم المسيحية للثالوث.

وبنظرة ثانية يضطر المرء أن يتصور جسدًا واحدًا له شخصيات ثلاثة. ومثل هذه الشخصية المسماة بالتوأم الثلاثي يمكن تصورها فقط إذا أمكن لجسم واحد أن يحوي ثلاثة أشخاص، الأمر الذي يطرح مشاكل كثيرة في حدّ ذاته. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى أن الله ليس له جسد، وبالتالي فإن تشبيهه بجسد بشري، كما يُقترح، غير قابل للتطبيق. ونحن بالطبع ندرك تمامًا أن الله ليس له جسد بالمفهوم البشري، ولكن المشكلة تظل قائمة وهي أنه كيف يُتصور أن ثلاثة كائنات روحية توجد في صورة ثلاثي متطابق تمامًا مكون من ثلاثة أشخاص، ولكنهم مع ذلك واحد من جميع النواحي الأخرى.

وهناك مشكلة أخرى يمكن أن تواجِه ذلك الثلاثي إذا افترضنا وجوده وهي علاقتهم فيما يخص بالعبادة. هل “الثلاثة في واحد” من الشخصيات الروحية للذات الإلهية سيَعبُد بعضُها بعضًا؟ أم هل سيكونون جميعًا موضع عبادة من مخلوقاتهم، دون أن يمارسوا أية عبادة فيما بينهم؟

ومع أن العهد الجديد يذكر مرارا وتكرارا المسيحَ عيسى، وهو يعبد الله الأب ويطلب من الآخرين أن يفعلوا الشيء ذاته، إلاَّ أن الإنجيل لم يَذكر عبادة الروح القدس للإله الأب. ثم لم تتم أية محاولة من قِبل عيسى، حسب شهادة العهد الجديد، لكي يحمل الآخرين على عبادته هو أو عبادة الروح القدس! إن المرء ليندهش من هذا الغياب الكامل للإشارة إلى عبادة ما سوى عبادة الله الأب وحده!

وبالرّغم من الممارسة العامة بين المسيحيين لعبادة يسوع كونه ابن الله مع عبادتهم الله الأب، لم تُسجل أية شواهد على أن أحدًا من حواريي عيسى المسيح قد عبده أبدًا، أو أن عيسى قد حضّهم على عبادته خلال فترة إقامته على الأرض.

وحتى لو كان قد فعَل ذلك، فإن ذلك من شأنه أن يثير أسئلة كثيرة تستحيل الإجابة عليها. وينطبق المبدأ نفسه على الروح القدس أيضًا ويثير سؤالاً: لماذا لم يطلب الروح القدس من أيّ إنسان أن يعبده؟

إن حالة كونهم “ثلاثة في واحد” بمعنى أن ذاتهم العليا أو وعيهم لوجودهم كان واحدًا، رغم انقسامه إلى ثلاثة مظاهر أو وجوه لهو موضوع قد تم بحثه مسبقًا بشيء من التفصيل. إن كائنًا يملك هذه الأوصاف لا يمكن منطقيًا أن يُعتبر ثلاثة أشخاص في واحد. وعلاوة على ذلك فإن المظاهر لا تُعبد ولا هي تَعبد ذاتَها المركزية.

ولكي ندرك أنهم أشخاص مختلفون، عليهم أن يكون لكل منهم كيانه المستقل على صورة ذات تشير إلى وعيهم كأشخاص. وإلا فإن قضية الإشارة إلى أنفسهم أو إلى غيرهم بـ “أنا” و “أنت” و “هو” لا تنشأ بتاتًا.

إن تطبيق التثليث على كائن واحد يمكن إدراكه فقط على أنه صفات ليس إلا. وفيما يتعلق بالصفات فإنها لا تقتصر على ثلاثة. سواء أعرفنا هذه الصفات أم لم نعرفها، فإن الله بإمكانه أن يتصف بصفات عديدة. ولكي نختم هذا البحث، فإننا نؤكد من جديد أن مسألة العبادة، فيما يتعلق ببعضهم بعضًا، يمكن أن تُثار فقط إذا كانوا أشخاصًا مختلفين لا يتمتّعون بمكانة وميزات متساوية. ففي هذه الحالة يكون واحد فقط جديرًا بالعبادة، والمتوقع من الاثنين الآخرَين – بسبب كونهما أقلّ شأنًا منطقيًا – أن يعبداه. ولكن في هذه الحالة سوف تتلاشى “الوحدة في الثالوث” وتزول. وليس ثمة طريق لوجود كلا الأمرين أي: ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة معًا وفي آن واحد.

هذا يذكّرني بطريفةٍ أحب أن أشرككم فيها:

رُوي أن جحا الساخر المشهور أضحك كثيرًا تيمور لنك أثناء غزوه لبغداد لدرجة قرر أن يأخذه معه كغنيمة وعيّنه كبير مهرجي القصر. ويقال إن جحا في إحدى المرات وجد في نفسه رغبة عارمة في أن يأكل لحمًا لوحده، حتى لم يعد قادرًا على مقاومة رغبته تلك؛ فاشترى من الجزار رطلين من أفضل اللحم. ثم مضى إلى البيت وأمر زوجته أن تحضّر له من ذلك اللحم شواءً لذيذًا، على ألاَّ يمسه أحد غيره، ولا حتى زوجته. ولسوء حظه، ما كادت زوجته تنتهي من تجهيز الشواء حتى قدم إليها بعض إخوتها في زيارة مفاجئة. وكانت تلك مفاجأة سارة جدًّا لها، ولكن كان مقدّرًا لهذه الزيارة أن تكون مفاجأة غير سارة لجحا. فقد كانت رائحة الشواء الطازج المغرية أقوى من أن يقاومها الإخوة؛ وما تبع ذلك كان نتيجة منطقية. وبعد أن أنهوا التهام الشواء حتى اللقمة الأخيرة استأذنوا أختهم القلقة للمغادرة. رتّبت الزوجة أمرها تحسبًا لمجيء جحا وأعدت له عذرًا مناسبًا. وحين وصل جحا البيت واشتم بقايا رائحة الشواء الشهي طلب بلهف كبير وجبة اللحم. فأشارت الزوجة إلى القطة التي كانت أفضل حيوانات جحا الأليفة، وقالت: أَخرِج اللحم من هذه القطة، إن استطعت! إذ بينما كنتُ منشغلة بالعمل، التَهَمَتِ القطة الشواء كله. فأخذ جحا القطة ووضعها في كفة الميزان ووجد بالصدفة أن وزنها كان رطلين بالضبط. عندها التفت جحا إلى زوجته وسألها بلطف: إنني يا عزيزتي أصدّقك طبعًا، ولكن إذا كان هذا هو الشواء فأين القطة إذن؟! وإذا كانت هذه هي القطة فأين الشواء إذن؟!

أَدَعُ النكتة جانبًا؛ وأصرِّح لكم أنني لا أوجه هذا النقد أبدًا إلى التعاليم الحقيقية الصحيحة لعيسى ، بل إن هذا البحث مجرد محاولة لنقد العقائد المسيحية السائدة التي نعتقد أنها قد انحرفت بعيدًا جدًّا عن تعاليم المسيح الأصلية.

بعد أن أنكرنا وجود أيّ مرجع في الإنجيل يشير إلى أن يسوع كان يُعبَد، يبقى أمامنا أن نشرح المرجع الوحيد الذي يشير إلى هذه القضية في إنجيل لوقا، الإصحاح 24 العدد 52: (فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم)

يزعم الكثير أن هذه الجملة تقدم دليلاً على أن عيسى نفسه قد وعظ أتباعه أن يعبدوه. ولكن العلماء المسيحيين المعاصرين يدركون جيدًا أنه قد ثبت عن هذه الجملة أنها مزورة ولا تستحق أن تُعتبر جزءًا أصليا من إنجيل لوقا.

دعونا الآن نعود إلى موضوع الممارسة العامة، سواء كانت مدعومة بالدليل في الأناجيل أم لا. بناء على الممارسة الشائعة لدى الكثير من الطوائف المسيحية اليوم، إن يسوع يُعبد فعلاً بصفته ابن الله. ومع ذلك جميعهم يتّفقون على أن يسوع الذي يعبدونه كان يعبد الله الأب وحده. وعبثًا حاولتُ مرارًا إذ سألت علماء مسيحيين ضالعين عن السبب الذي حدا بعيسى أن يعبد الله الأب، إذا كان هو ذاته جزءًا لا يتجزأ من ذلك الإله، وكان مندمجًا في الله كليَّةً كي يخلق نوعًا من الوحدة (الإلهية) رغم وجود ثلاثة أشخاص، ولكنني لم أتلقّ ردًّا شافيًا.

هل قام المسيح عيسى مرةً بعبادة العنصر الثالث من الثالوث، أي الروح القدس؟ وهل عبَدَ نفسَه إطلاقا؟ وهل عَبَدَت الروحُ القدسُ يسوعَ المسيحَ أبدًا؟ وهل الإله الأبُ عَبَد أحد العنصرين الآخرين قط؟ فإذا لم يحدث هذا فلماذا؟

قد تضطر الإجابة على هذه الأسئلة المسيحيين بأن يعترفوا بأن التفوق الواضح هو لله الأب على العنصرين الآخرَين في الثالوث.

من هذا يظهر أن العناصر الثلاثة للثالوث ليست متشابهة في المنـزلة، بل هي “ثلاثة في ثلاثة” إذا كانت ثلاثة، ولكنها ليست “ثلاثة في واحد”.

وحين يُواجه العلماء المسيحيون مسألة يسوع الذي يعتقدونه ابنا لله حيث قد عَبَدَ اللهَ الأبَ، يقولون بأنه كان الإنسان الذي عبَدَ الإلهَ الأبَ وليس يسوع ابن الله الذي فعل ذلك.

وهذا يعيدنا إلى البحث الذي قمنا به مسبقًا، هل كان ثمة كائنان واعيان يمتلكان جسد عيسى نفسه، فكان لأحدهما الوعي البشري وللآخر وعي ابن الله؟

ثم لماذا تجاهل وتجنب هذا الإنسانُ الإلهَ الابنَ الذي في داخله ولم يعبده هو؟

إن الرجلَ نفسه، يسوعَ شريكَ المسيح، كان عليه أن يَعبد العنصر الثالث، الروح القدس، ولكنه لم يفعل ذلك مطلقًا.

إن العبادة تصرف عقلي وروحي يعبَّر عنه أحيانًا برموز جسدية، ولكنه يظل عملاً مترسِّخًا ومتأصلاً في الكيان الذهني والعاطفي للشخص.

ومن هنا لا بد أن يُقَرَّر من الذي كان يقوم بالعبادة حين كان عيسى يعبد الله.

لقد عالجنا مسبقًا هذا السيناريو بجميع تعقيداته، والذي يظهر منه أن المسيح ابن الله هو الذي قام بالعبادة. فإذا كان الإنسان هو الذي كان يعبد الإلهَ الأب، وإن لم يعبد المسيحَ (الإله الابن) مطلقًا، فلماذا إذن – يا تُرى – يخالف المسيحيون هذه الأسوة الحسنة التي قدمها عيسى بنفسه؟! (3)

ولماذا بدأوا بعبادة يسوع مع الله، بينما يسوع الإنسان لم يَعبد أبدًا شريكَه المسيحَ رغم قربه منه؟!

أَدَعُ النكتة جانبًا؛ وأصرِّح لكم أنني لا أوجه هذا النقد أبدًا إلى التعاليم الحقيقية الصحيحة لعيسى ، بل إن هذا البحث مجرد محاولة لنقد العقائد المسيحية السائدة التي نعتقد أنها قد انحرفت بعيدًا جدًّا عن تعاليم المسيح الأصلية.

د. أشخاص مختلفون بصفات متماثلة ومتساوية

دعونا نفحص ثانية، ومن زاوية مختلفة هذه المرة، مبدأ “ثلاثة في واحد” كما في الثالوث المسيحي كأشخاص ثلاثة متميزين يشبه بعضهم بعضًا بشكل كامل!

نحن في هذا السيناريو لا نتكلم عن شخص واحد بهيئات وعناصر مختلفة لكنها مجتمعة في واحد، وإنما له ثلاثة أشكال منفصلة كالتوأم الثلاثي. إننا نشير هنا إلى التوأم الثلاثي المتشابهين إلى حد أن تشابههم لا ينتهي بمشابهة الأشكال فقط بل يتعدى ذلك إلى التفكير الكلي وعمليات الحس والشعور فيشتركون في الأفكار والحس والتجارب بصورة متطابقة. ففي هذه الحالة على المرء أن يعترف بأن الاثنين من بين عناصر التثليث الثلاثة هما زائدَان عن الحاجة. وإذا تّم التخلّص منهما، فإن هذا لن يؤثّر البتة على العنصر الباقي من الثالوث والذي سيظل عنصرًا كاملاً في حد ذاته.

والقرآن الكريم أيضًا يثير السؤال ذاته حين يشير إلى الحقيقة بأن الله إذا أراد أن يُهلِك ويقضي على وجود عيسى المسيح والروح القدس، فهل سيؤثِّر ذلك عليه وعلى جلاله وبقائه وكماله؟ ومن يقدر على أن يمنعه تعالى من فعل ذلك؟ (سورة المائدة الآية: 18)(4)

وهذا يعني أن جميع الصفات الإلهية سوف تظل سارية المفعول إلى الأبد، وعليه فإن مفهوم الثالوث – كما هو معروض في هذا السيناريو – يصبح بلا معنى وبلا ضرورة.

وعلى أية حال، فإذا كان من المفترض أن الأشخاص الثلاثة في الثالوث يؤدون مهامّا مختلفة، فمِن الواضح إذَن أن العناصر الثلاثة كلها تصبح أساسية لتكوين الذات الإلهية. ففي هذه الحالة سيكون ثمة آلهة ثلاثة يتعاون بعضهم مع بعض ويعيشون معًا في انسجام تام، وهكذا يمكن أن يُعتبروا فقط كآلهة “ثلاثة في ثلاثة”، وليس “ثلاثة آلهة في واحد”.

ثم لو اقتُرح أن الثالوث يشبه حالة شخص واحد بوظائف ومهام عضوية مختلفة جميعها مجتمعة في واحد، لأمكن عندئذ طبعًا إبقاءُ الوحدة الإلهية وليس الثالوث الإلهي.

نحن هنا لا نبحث في قضية شخص ذي وظائف عضوية مختلفة، بل في ثلاثة أشخاص متشابهين بشكل كامل، كل واحد منهم يؤدي مهامًا مشابهة لمهام الآخرين ومع ذلك يحافظ على فرديته. ما نناقشه هنا يقدِّم حالة شخص مفرد بأعضاء مختلفة، إلى هنا ليس في الأمر ما يناقض المنطق. ولكن عندما تُعتبر الأعضاء أنها أشخاص لهم حقوقهم الخاصة، وفي الوقت نفسه يُعتقد أنهم يشكِّلون شخصية هي واحد في مجموعها، عندها تُخرق حدود المنطق ويصبح النقاش بكامله غير مقبول.

لا شك أن للأعضاء فرديتها، ولكن فرديتها جزء من أجزاء شخصية أكبر، لا تتألف من هذا العضو الواحد فقط، بل من أعضاء أخرى أيضًا.

إن جميع هذه الأعضاء في الإنسان تُدعى إنسانًا في مجموعها. وطبعًا فإن بعض الأعضاء تؤدي وظائف أدنى نسبيًا والإنسان يظل إنسانًا بدونها أيضًا ولكن بصورة غير كاملة.

الإنسان المكتمل يجب أن يشتمل على جميع الأعضاء التي يمتلكها كائن بشري عمومًا؛ ومجموع هذه الأعضاء يجعله إنسانًا متكاملاً.

فمثلاً إذا أخذنا حالة إنسان يُدعى بولُس، فلا يمكن للمرء القول: بما أن كبد بولس وقلبه ورئتيه وكليتيه لها فرديتها ووظائف تؤديها، لذا فهي شخصيات متفردة متميزة تمامًا عن بولس. إن التميز الكامل يمكن أن يتحقق فقط إذا كانت الكِليتان – على سبيل المثال – تعملان تمامًا كل ما يعمله بولس في مجموعه. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن أعضائه الأخرى.

وهذه القضية سوف تتطلب أن غياب عضو ما لن يؤدي إلى حدوث أي تغير في شخصية بولس بأيّ شكل كان، أو بالمقابل، فإن بولس حتى بدون رئتيه وقلبه وكِلْيتيه ودماغه، وحتى بإزالة جميع أعضائه يظل ويبقى بولس التام في حد ذاته. وذلك لأن جميع هذه الأعضاء مماثلة ومتشابهة تمامًا، ويظل شخص بولس سالمًا، بغض النظر عن غياب هذه الأعضاء.

إذا كان هذا هو سيناريو “الثلاثة في واحد”، فمن الخطأ القيام بأية محاولة لانتقاد العقائد المسيحية بالمنطق، لأن المنطق الذي ينطبق على العقيدة المسيحية المعاصرة إنما هو منطق ساحرات “ماكبث” (Macbeth) عندما قُلن: “الجمال هو القبح، والقبح هو الجمال.”

Share via
تابعونا على الفايس بوك