الجن .. في القرآن الكريم

الجن .. في القرآن الكريم

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن بين الحقيقة والخرافة (4)

سورة الحِجْر

ثم نأتي بعد ذلك إلى سورة الحجر إذ يقول تعالى:

وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرهُمْ إَنَّهُ حَكيمٌ عَلِيمٌ* وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ منْ حَمَأٍ مسْنُونٍ* وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِن نارِ السَّمُومِ (الحجر: 26-28)

هذه هي الآية الأولى من القرآن الكريم التي تتحدث عن خلق الإنسان والجان. وهي تشير إلى صفة رئيسية في الإنسان، تولدت فيه بعد أن مر بسلسلة مديدة من الإعداد والتطوير.. حتى وصل إلى هيئته الحالية.

وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن الإنسان مخلوق من تراب، ومن طين، ومن صلصال، ومن ماء. وعلى ضوء هذه الآيات يمكن أن نتعرف على المراحل الأساسية التي مر بها خلق الإنسان من البنية المادية. ولكن الأهم من ذلك هو أن نتنبه إلى الصفات الرئيسية الكامنة في الفطرة البشرية والملكات التي اختُص بها دون سائر المخلوقات.

قد نستخلص من آيات الخلق البشري أن المادة التي بدأ منها البناء الجسدي هي الماء الذي يغطي نسبة كبيرة من القشرة الأرضية. واختلط الماء بالتراب الذي يكون على سطح الأرض. وإذن فالبداية من الطين. وإذا جف الطين غلُظَ وصار صلصالا، ثم يجمد ويكون كالفخار. ثم تعرَّض الصلصال لسلسلة من تأثيرات إشعاعية وكيميائية وفيزيائية.. فتخلقت الجزيئات الأولية التي تتكون منها المركبات العضوية. وباستمرار هذه العمليات تزداد المركبات تعقدا وتنوّعا حتى تنتهي إلى اللبنة الأولى التي تتكون منها الخلية الحية (RNA,DNA).

ولا يغيبن عن البال أن القرآن أعلنها صريحة بأن الماء هو مصدر الحياة لكل مخلوق يعيش ويدب على هذه الأرض ويعتمد على مادتها في بقائه حيا… حيث قال:

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 31) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (النور: 46)

والجان من الأحياء التي تعيش في الأرض وتدب عليها، فهو مخلوق من الماء، والماء ضروري لاستمرار حياته. والماء مادة موزونة محسوسة، وإذا دخلت في بنية كائن جعلته حتما محسوسا موزونا. وإذن فالجان من الخلق المحسوس الموزون.. وليس من الخيالات أو غير الماديات كما يظن البعض.

وتفاصيل عملية الخلق بعد ذلك من الأمور المادية الكونية .. التي تخضع للبحث العلمي، ويمكن للباحثين أن يصلوا إلى نتائج تشبع فضولهم. كما أنها ستبقى لغزا يتحدى العلمَ ليحاول حله.. بما يساعد على تقدم البشرية وتطورها. ولا مجال للأدعياء هنا فيزعم بعضهم علما في هذا المجال على أساس من خرافات الأقدمين أو خيالات المحدَثين.

كما كان مخلوقا نافرا، لا يأنَس إلى غيره ولا يأتنس به غيره .. يميل إلى العزلة ليأمن شر أعدائه، ويتربص بفرائسه.. كان جانًّا.

وقد اختارت الآية الكريمة “المرحلة الصلصالية” من خلق الإنسان… هي القدرة على التشكل بيسر، والاحتفاظ بالشكل المكتسب حتى تتدخل قوَى التشكيل لتغيره. والصفة الثانية هي الرنين، وهي الانفعال الصوتي.. فكما أن الصلصال إذا جف تصلب وصار فخارا، يحدث رنينا إذا اصطدم بجسم صلب.. كذلك الإنسان إذا ما اشتد عوده بحرارة الوحي السماوي فإنه ينفعل به ويردده ويُسمعه لمن حوله. فالإنسان متطور غير جامد، وهو قابل للتكلم وإذاعة ما يتعلمه.

هكذا بدأ خلق الإنسان، وتطوَّر حتى صار إنسانا، وهكذا يمضي في تطوره قُدُما. وتلفت الآية الكريمة أنظارنا إلى حقيقة أن الصلصال قابل للتشكل، فإذا خلا من الماء تصلب وصار هشًّا قابلا للكسر.. فإذا نزل عليه الماء أمكن إعادة تشكيله. وهكذا الإنسان وهو في طريق تطوره معرَّضٌ للضلال والسقوط، ولا بد له من ماء السماء الروحاني (الوحي) ليعيد إليه القدرة على اكتساب شكل سوِيٌّ جديد. نعم، إن معاول الشهوات وأحداث الحياة وصروفَها تعمل على تحطيمه، ولكن ماء السماء -أي الوحي- يعيده إلى منهج الله إنسانا سويا.

ولم يكتسب الإنسان تلك الصفات بين عشية وضحاها، وإنما قطع المراحل من الماء والتراب إلى الطين، ثم الحمأ المسنون، ثم الصلصال حتى صار بشرًا سويا.. في أحقاب طويلة. وفي الخطوات الأخيرة من هذه المسيرة التطورية كان أسلاف الإنسان -أي البشر البدائي- كائنات أشبه بالوحوش الأوابد، يسكنون الغابات وكهوف الجبال، وتحكم تصرفاته الغرائزُ الحيوانية البدائية: غريزة الحفاظ على النوع. وكانوا يتعاملون مع بعضهم ومع غيرهم من منطلق تلك الغرائز، فكان القتل والسلب والعدوان والإفساد في الأرض نشاطا يوميا عاديا. وكان هذا الكائن البشري البدائي سريع الانفعال، شديد الاستجابة لغرائزه، يغلب على طبعه التأجج والثوران. كان كشعله من نار السموم، يندفع اندفاع الرياح الساخنة. كما كان مخلوقا نافرا، لا يأنَس إلى غيره ولا يأتنس به غيره .. يميل إلى العزلة ليأمن شر أعدائه، ويتربص بفرائسه.. كان جانًّا.

وكانت عملية التسوية الإلهية في البشر تفعل فعلها يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل. وكانت خاصيتا التعلم والتأقلم في البشر أمضى أسلحته في هذا المسار تُعيناه على التقدم والارتقاء. ثم نمت فيه روح الجماعة، وبرزت ملكاته العظيمة الكامنة.. حتى بلغت ذروتها في الاستعداد لوحي السماء. وهكذا تأدَّن الله الخالق البارىْ المصوِّر أن يخرج إلى الوجود سيد المخلوقات.. ذلك هو (الإنسان)، الكائن الاجتماعي، الودود الأنيس، الذي قُدّر له أن يصعد سلَّم الرقي قُدما.. ويتعلم عن الله مباشرة، ويتأهل ليكون خليفةً على الأرض. واستحق بذلك أن تسجد له الملائكة سجود تأييد وتكريم وخضوع معه لأمر الله تعالى من أجل تحقيق الهدف من خلقه. وهكذا جاء آدم ليكون الحلقة الأولى من سلسلة مباركة جليلة الشأن من الترقيات في جميع المجالات..ماديا وفكريا وروحانيا.

ولقد اختتمت السلسلة ووصلت ذروة جمالها وكمالها في شخص”آدم الأعظم” والإنسان الأكمل.. رسول الإسلام وحامل القرآن سيدنا محمد المصطفى .

إن آيات سورة (الحجر) تشير إلى الطبيعة التقدمية في البشر، وتحكي لنا عن المراحل الأولى لنشأته، ومرحلة ما قبل الخلافة وتلقى الوحي.. وهي التي وُصف فيها البشر بأنه (جان)، والتي صوَّرها القرآن في سورة البقرة على هيئة حوار على لسان الملائكة.. في قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة: 31)

فهذه هي الحياة المبكرة في حياة البشر، عندما كانوا وحوشًا في سلوكهم، يعيشون في صراع واقتتال على الطعام والجنس. ويعيشون حياة النفور والاختفاء من بعضهم ومن أعدائهم وفرائسهم. ولكن الملائكة تعكس الأسماء الحسنى والصفات القدسية على الكون، وتملأه بالحمد والتقديس لرب العرش العظيم.

قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: 31)

نعم ليس هناك أية غرابة في ذلك. فإن الخلاق العليم قد أودع في هذا البشر -الذي يسفك الدماء ويفسد في الأرض- من القدرات والملكات ما يؤهله لاستقبال الوحي السماوي، ويستحق الخلافة والطاعة والتكريم. ولقد عبّر عن ذلك قوله تعالى:

إِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: 30)

فعملية التسوية الإلهية هذه -وهي التقويم والتعديل والتكميل- تشمل التسوية الجسدية ثم التسوية الروحية، التي تصل إلى ذروتها بشرف الكلام مع الله تعالى، وتلقي الوحي الإلهي الذي يرفع الكائن البشري من رتبة ( الجان) إلى مقام (الإنسان).. وكأنه وُهِب روحًا جديدة تؤهّله لمهام الخلافة، إذ لا بد للخليفة من أن يحمل قبسا من نور من استخلفه، ومسّةً من عطره، ورونقا من صبغته. ولا يتأتّى ذلك إلا لمن عرف الأسماء الحسنى، واكتسب منها في نفسه ما يستطيع أن يُشعّه على من حوله. وعملية النفخ في قوله تعالى:

نفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (الحجر: 30)

تعني دفع التعليم الإلهي في فكره وقلبه ليعرف ربه ومنهج ربه. ويتأكد هذا المعنى من قوله تعالى:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا.. (الشورى: 53)

فالروح هو الوحي القرآني الذي ينفخ في نفس المؤمن قوًى جديدة. وأيضا يتضح المعنى من قوله تعالى:

  وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا.. (البقرة:32)

وليست ثمة أسماء جديرة بالتعلم بحيث يرتقي بها الإنسان فوق مستوى الملائكة الكرام إلا (الأسماء الحسنى).

وما يتشدق به البعض في تفسير قوله تعالى أن الله علم آدم الأسماء، فيحصرون هذا التعليم ويُقصرونه على أسماء الأشياء، فهو قول متهافت. فالإنسان البدائي في كل مكان على الأرض يتحدث بلغة خاصة، ويطلق الأسماء على المسميات التي وقعت تحت حسِّه، ومن ثم وجدت على الأرض عشرات اللغات، فهل علم الله آدم كل تلك اللغات ليعلمها لأبنائه من بعده. وإذا كان الأبناء يستطيعون تسمية جميع الأشياء، فلماذا لا يستطيع آدم؟

وتعليم الأسماء الحسنى بمعنى ترديدها وحسب لا يكفي وحده.. وإنما المراد تعلم مدلولاتها، والعمل بحسب هداها، والسير في أنوارها، والتشبه بالمتصف بها – جل وعلا. فهذا هو العلم الذي يُكسب آدم تلك الكرامة التي تؤهله لخلافة الله تعالى. ولا بد للخليفة من أن يحمل في نفسه قبسا من نور من استخلفه.

فمجرد تعلم الأسماء لا يميز الإنسان على الملائكة الذين هم جند الله المشرفون على الكون ويعرف كل منهم ما اختص به من أسماء مكوناته. ويدل تعلم الأسماء على أمرين: الأول هو تعلم لغة تستوعب الأسماء كلها، وتكون وسيلة فعالة في ارتقاء الإنسان اجتماعيا وثقافيا. والثاني أن يتعلم الإنسان أسماء خاصة.. بفهمها والاتصاف بها ترتفع مكانة الإنسان.

ولقد بيّن لنا سيدنا الإمام المهدي أن الله أخبره أن اللغة العربية هي أمُّ اللغات. تعلمها سيدنا آدم عن الله تعالى، وتحقق له بتعلمها لسان يكفل له ولجماعته ونسلهم الحياة الاجتماعية والتقدم الروحاني. وأثبتت الدراسات التي قام بها بعض أتباع سيدنا المهدي وجود آثار واضحة تدل على أن اللغة العربية موجودة في لغات البشر.

ومجمل القول: إن الله تعالى زوَّد خليفته آدم بملَكات وقدرات أهّلته للرقي الروحي، ثم تفضل عليه بكلامه، وجعل منه الخليفة الأول والنبي الرسول الأول. أصبح سكان الأرض وقتئذ بمنزلة أبنائه الذين كلِّف برعايتهم وأُمِروا بالدخول في طاعته. وكان على الملائكة بحكم وظيفتهم أن يكونوا أول مُعين له في مهمته النبوية. فالملائكة خلق من جند الله تعالى، من وظائفهم نصرةُ أنبيائه، وخدمة رسالتهم. ولكن بعض البشر كانوا -ومازالوا- على نفورهم من الحدود والآداب مستسلمين لغرائزهم. كانوا -وما زالوا- (جانًّا) ينفرون ويفرون من التمدن والتحضر والإستئناس.. يرفضون الخضوع للقوانين، والارتباط بالمواثيق، والالتزام بالعهود، ويتمردون على التقاليد الجديدة، ويتمسكون بما ألفوه من تقاليد وعادات وأعراف. وبزعامة كبيرهم “إبليس” الذي أعلن العصيان والرفض، وأبدى الكبر والغطرسة.. عزموا على المناهضة والوقوف في وجه المنهج الإلهي. ولذلك صدر القرار الإلهي في مواجهة العصيان والتمرد.. بأن يبوء المتمرد باللعنة والسقوط إلى الحضيض، والحرمان من الرحمة والمحبة والنور الإلهي. وحذَّر الله آدم وجماعتَه من عدوه وعصابته، وأمره ألاّ يختلطوا بهم أو أن يطمئنوا إليهم.. لأنهم يضمرون الشر والغدر.

ولقد بيّن لنا سيدنا الإمام المهدي أن الله أخبره أن اللغة العربية هي أمُّ اللغات. تعلمها سيدنا آدم عن الله تعالى، وتحقق له بتعلمها لسان يكفل له ولجماعته ونسلهم الحياة الاجتماعية والتقدم الروحاني.

ومضت الأيام.. فأنْسَتْ آدمَ صرامةَ التحذير الإلهي. ولعله حسِب أنه بوسعه توصيل دعوته الإصلاحية إلى جماعة إبليس. وهكذا أوقعه ظنُّه هذا في مخالفة غير مقصودة. وكان الظنُّ شيطانا أنساه الحذر. ولقد أعرب القرآن عن حُسن نوايا آدم في قوله تعالى:

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ.. فَنَسِيَ.. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه:116)

نعم، إن آدم لم يكن عازما على مخالفة التحذير، وإنما كان ناسيا تحت تأثير رغبته الشديدة في أن يؤدي مهمته، ولعله ظن العداوة قد فَتَرت، والتمرد قد زال. وإذن فقد اختلط آدم بقوم إبليس وتعايش معهم وأكل من زادهم تعبيرا عن حسن النية، أي (أكل من شجرتهم)، فاستطاع قوم إبليس أن يتحسسوا مواطن الضعف في جماعته، فكشفوا ثغوره، واطلعوا على مكامن الوهن، فكأنهم عرّوه (وكشفوا سوءاته)، وبذلك تمكن أعداؤه من مهاجمته وإجلائه وقومه عن جنتهم الغنية بالثمار والماء والخيرات. وحاول آدم أن يدفع المهاجمين من الأعداء بشباب قومه الذين هم بمثابة (ورق الجنة)، ولكن لم يكفِ ورق الجنة لستر العورة بعد أن أُخِذوا على غِرة.

ومنذ ذلك الزمن.. والصراع قائم بين بني البشر، فمنهم أهل الحق والخير والسلام والمودة.. من أمثال آدم وسلسلته، ومنهم أهل الباطل والشهوات والكبر والشر.. من أمثال إبليس وجنوده. وواقعة النسيان والطرد من الجنة ما انفكت تتكرر عبر القرون، إلى أن جاء نبي الإسلام لهداية الجنس البشرى بأجمعه، وها هو كتابه المجيد يحذر أمته من الوقوع في شراك الشيطان، والغفلة عن الدرع الواقي من طعناته.. إنه يوصينا بلباس التقوى الذي يستر المؤمن ويغطي منافذ الشيطان فلا يجد إليهم سبيلا. هذا، وكل من نَهج منهج إبليس فهو إبليس مثله، وكل من تزعم فريقه إلى الشر فهو إبليس. وكل خاطر ينسى الحذر شيطان، وكل موسوس بالشر شيطان كذلك.

وجدير بالملاحظة أن قصة آدم مع إبليس تتكرر في القرآن الكريم مرات عديدة، وفي كل مرة جاء فيها ذكر من رفض الدخول في طاعة (آدم) سماه القرآن (إبليس)، والذي حرَّض آدم وأوقعه في النسيان سماه القرآن (شيطانا). وهذا دليل كاف على أن إبليس شيء والشيطان شيء آخر.. ولكل منهما موقفه ودوره الذي يختلف عن دور الآخر وموقفه. ولكن هذا لا يمنع من أن يطلق على أمثال (إبليس) وصف (شيطان) باعتباره محرضا على الشر وزعيما للشياطين.

سورة الإسراء

فإذا واصلنا التلاوة إلى سورة (الإسراء) حيث يقول الله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْر رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلا قَليلا * وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا * إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا * قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَت الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ في هَذَا الْقُرْءانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (الإسراء:86-90)

يتضح من الآيات الكريمة أنها تتحدث عن القرآن المجيد، فتجيب من يتساءل عن مصدره بأنه من عند الله تعالى، وأنه لا دخل لأحد غير الله به.. فهو من أمر الله مصدرا ونزولا وحفظا، وأنه نعمة جليلة، بل هو أعظم نعمة على البشرية. إن علم البشر محدود، ولا سبيل لارتقائهم في المجال الروحي إلا بهداية السماء وما يتنزل من وحيها، ولو أنهم حُرموا منه ما استطاعوا أن يجدوا بديلا عنه ليرسم لهم منهج الحياة الذي يحقق لهم الهدف من وجودهم، ويوجههم إلى سعادة الدنيا والآخرة. إنه من عند العليم الخبير، ولا يمكن أن يأتي العالم كله…إنسه وجنّه…بمثله أبدا.. ولو تضافرت علومهم وجهودهم. ومع أن هذه حقيقة بيّنة لكل ذي لُب، إلا أن أكثرهم للأسف ينفرون ويصدون. لنتأمل قوله تعالى: صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ وقوله فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ . فالقرآن وحي الله إلى النبي .. موجه إلى الناس.. جميع الناس بلا استثناء..بصِنفَيْهم أي الإنس والجن. ويؤكد ذلك أن التحدي جاء موجّهًا للفريقين.. أي لجميع المخاطبين به، ليبين لهم جميعا أنه لو اجتمعت جهود الإنس على كثرتهم.. والجن على قدراتهم وتفوقهم.. لا ينجحون في الإتيان. بمثل القرآن منهجا إلى الله تعالى، يحقق سعادة الدنيا والآخرة. ويلاحظ أن ذكر الإنس جاء لأول مرة قبل الجن، ذلك لأن جماعة المشعوذين أوهموا الناس أنهم يستعينون بقوىً خفية وأرواح مستترة تُسِرَّ إليهم بأسرار الغيب والعلوم. فجاء التحدي للإنس ومن يدعون بأنهم أعوان لهم من الجن.

والآية بوجه عام توجه التحدي البليغ إلى كل الناس: عامتهم وخاصتهم، جمهورهم وصفوتهم، شعوبهم وقادتهم.. أن يأتوا بمثل هذا القرآن معنىً ومبنى.. مصدرا وأثرا.. صدقا وشرفا. (يُتبع)

[1] رئيس تحرير «التقوى» السابق
Share via
تابعونا على الفايس بوك