من جوامع الكلم

من جوامع الكلم

قال رسول الله :

“وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ” (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)

يخبرنا رسولنا الكريم محمد المصطفى ويبشرنا بمجيء المسيح الموعود في الزمن الأخير عندما يرتفع الإيمان ولا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، فيأتي بالإسلام الصحيح ولو كان بالثريا، وكأن الإسلام عاد من جديد، كما قال النبي “يعود الإسلام غريبًا كما بدأ..”

فلاحظ أن رسول الله قد أطلق في هذا الحديث اسم “ابن مريم” على المسيح الموعود وكذلك أطلق في أحاديث صحيحة أخرى اسم “عيسى والمسيح”

فمن يكون المسيح الموعود به، ولماذا أطلق الرسول عليه هذه الأسماء.

وللإجابة على هذا السؤال علينا بحث الموضوع من عدة جوانب منها الجانب اللغوي والذي سيكون مدار بحثنا وخاصة موضوع التشبيه.

يقول مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا المسيح الموعود في هذا الصدد:

“فَتَرك تفاصيل هذا النبأ في وحيه، واختار إجمالاً لطيفًا مبهمًا كالمـُعمَّى. وجعل هذا الإجمال متجليا بالاستعارة ومصبوغًا من المجازات والكنايات، وأبعد من الإفهام والدرايات والقياسات، ليبلوهم أيهم يتبع أمرًا” (الخزائن الروحانية ، مرآة كمالات الإسلام ج5 ص 425-426).

يبين كيف أن الله سبحانه وتعالى استخدم الإجمال والاستعارة والمجاز والكناية في موضوع المسيح وبعثته.

فموضوع التشبيه واسع جدًا ولا تخلو لغة من اللغات إلا ولموضوع التشبيه نصيب وافر في الاستخدام العام في المحاورات والاستدلالات وغيرها. وبما أن اللغة العربية هي أم اللغات وأصلها ومنها اشتُقَت باقي اللغات كما أثبت ذلك المسيحُ الموعود فقد اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة كتابه القرآن المجيد. فلا بد أن تكون هي أم اللغات على الاطلاق في كل الأمور اللغوية ومنها التشبيه.. والاستعارة.. والمجاز.. والكناية.

إن البلاغة والتشبيه متلازمان، فكلما كان التشابه متطابقًا كانت البلاغة أقوى في إعطاء المعنى المراد. ولتوضيح ذلك نورد الجمل التالية. نقول:

  1. عليٌّ شجاع مثل الأسد.
  2. عليٌّ مثل الأسد.
  3. عليٌّ أسد.

فالجملة الأولى ذُكر فيها جميعُ أركان التشبيه: المشبَّه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه. وهذا أبسط أنواع التشبيه.

أما الثانية فترفع بالبلاغة درجة وذلك بحذف وجه الشبه منها.

أما الثالثة فهي أبلغ من سابقتيها لحذف وجه الشبه وأداة التشبيه منها.

أما إذا قلنا “جاء الأسد”، نقصد عليًّا، فهذه أقوى أنواع التشبيه وأبلغه. ولا يُفهم أن عليًّا قد تحوّل إلى الأسد الحيوان المعروف، بل إن شجاعته بلغت حد التطابق والمشابهة بشجاعة الأسد.

ولهذا فقد أطلق الرسول على المسيح الموعود اسم عيسى، وابن مريم والمسيح، ولم يقصد بأن المسيح الإسرائيلي سوف يعود بنفسه لأسباب كثيرة لا تخفى على من أراد الحقّ، وليس هنا المجال لبحثها. وإنما أراد رسولنا الكريم بأن مسيحًا محمّديًا مسلمًا يُبعث لإحياء دين محمد تابعًا للقرآن كما بُعث المسيح الإسرائيلي لإحياء دين موسى عليهما السلام تابعًا للتوراة.

ولأجل هذا التشابه المحكم والتطابق التام من حيث المهمة بين مسيحِ موسى ومسيحِ محمد صلوات الله عليهم جميعًا فقد استخدم الرسول أقوى درجات البلاغة، وسمى مسيحَه الموعود مسيحًا، وابنَ مريم وعيسى.

ومزيدًا من التوضيح نقرأ فيما يقوله الشيخ ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى” ص 316: “ولم يزل في عُرف الناس ومخاطباتهم أن يقولوا: فلان هنا، وهو بين أظهرنا ولم يمت، إذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يُعْمَل بها بينهم. وكذلك يقول القائل لمن مات: والله ما مات من خلَّف مثلك، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذًا لعالِمٍ تَعلَّم علمه قالوا: هذا فلان، باسم أستاذه، كما كان يقال عن عكرمة: “هذا ابن عباس”، وعن أبي حامد “هذا الشافعي”.

وإذا بعث المـَلِكُ نائبًا يقوم مقامه في بلد يقول الناس: “جاء الملك، وحُكمُ الملك، ورَسْمُ الملك”.

لنتأمل روعة ما فهمه الشيخ رحمه الله وما ذهب إليه من المعاني في هذه الأمثلة فإنه لم يفهم لمن قال لابن المتوفى أنا والدك بأنه أصبح والده الحقيقي وإنما أراد التشبه بوالده فأطلق على نفسه “أنا والدك”.

وكذلك يطلق اسم العالم على التلميذ النبيه النابغ في علم أستاذه ولا يقصد بأنه تحول إلى نفس الأستاذ.

نقول: إذا كان الإنسان العادي يستطيع أن يستخدم هذه الأمور البلاغية في التشبيه والمجاز والكناية كإطلاق أسماء الأشخاص على المشبه بها لتطابق التشابه أفلا يجوز للرسول محمد المصطفى وهو أفصح العرب أن يفعل نفس الشيء ويطلق اسم المسيح، وعيسى، وابن مريم، على المسيح الموعود لأمته لمطابقة التشابه بينهما من حيث المهمة؟؟

وعَودًا للشيخ ابن القيم رحمه الله حيث يستشهد بأبيات شعرية لشعراء جملوها بالتشبيه والمجاز والاستعارة. قال القائل الشاعر:

ومِن عَجَبٍ أني أحِنُّ إليهم

وأسأل عنهم مَن لقيت وهم معي

.

وتطلبهم عيني وهم في سوادها

ويشتاقهم قلبي، وهم بين أضلعي

وقال آخر:

خيالك في عيني، وذكرك في فمي   ومثواك في قلبي فأنَّى تغيب؟

قال آخر:

ساكن في القلب يعمُرُه

لست أنساه فأذكُرُه

قال آخر:

إن قلتُ: غبتَ فقلبي لا يصدّقني

إذ أنت فيه لم تَغِبِ

.

أو قلت: ما غبتَ قال الطرفُ: ذا كذب

فقد تحيرتُ بين الصدق والكذبِ

وقال آخر:

أحنّ إليه وهو في القلب ساكن

فيا عجب لمن يحنّ لقلبهِ

ما أجمل وما أروع هذا الكلام لما فيه من بلاغة التشبيه والمجاز.

ويقول الشيخ بعدها مباشرة يرد على اليهود والنصارى:

“من غلُظ طبعه وكثف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه وتعالى ستحل في الصورة البشرية وتتحدد وتمتزج بهما.. تعالى الله عما يقول الكافرون علوًّا كبيرًا.

اللهم لا تجعلنا ممن غَلُظَ طبعه وكثف فهمه كما حدث مع اليهود والنصارى، وافتح اللهم قلوبنا وقلوب إخواننا المسلمين إلى الإيمان بالمسيح الموعود ..

  رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (آل عمران: 194)
Share via
تابعونا على الفايس بوك