الجن.. في القرآن الكريم

الجن.. في القرآن الكريم

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن.. بين الحقيقة والخرافة(5)

 

سورة الكهف

وفي سورة (الكهف) قال الله تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْليسَ.. كَانَ مِنَ الْجِن فَفَسَقَ عنْ أَمْرِ رَبّهِ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذريَتَهُ أَوْليَآءَ مِن دُوِني.. وَهُمْ لَكُمْ عدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا!! (الكهف:51)

بعد أن تناولت السورة موضوع أهل الكهف كمثال طيب للفتية المؤمنين الذين آثروا حياة الكهوف والعزلة على الكفر والمتع الدنيوية، ثم ضربت مثل صاحب الجنتين واغتراره بما أوتي من مال وولد، وذكرت مثل الحياة الدنيا، وبيَّنت مدى حقارتها كهدف يجري خلفه عبّاد المادة، وأشادت بقيمة العمل الصالح الذي يبقى أثره.. حذّرت أمة محمد من الانقياد إلى دعاة المادية، والاغترار بالمتع الدنيوية.. وما فيها من جاه أو سلطان. ثم استطردت تذكرهم بإبليس وموقفه من آدم ( ).. إذ رفض الإذعان لأمر الله تعالى واتباع الهدي الإلهي الذي جاء آدم.

هذا المغرور المتكبر، المحرض على الشر، الرافض لتعاليم السماء، المثل السيّء لكل عاصٍ من بعده، والأسوةُ القبيحة لكل ضال، هل يليق بعاقل أن يتخذ منهجه ومسلكه ومن سار على طريقته من الأبالسة اللاحقين – بديلا لمنهج الله؟ إنه أعلن عداوته للحق والخير والهدى، فهو عدو لكل فضيلة، مخرب لكل صلاح.. فمنذا الذي يتخذ من عدوه صديقا، ويترك خالقه ورازقه ومحبَّ الخير له؟ إن من يفعل ذلك لهو أحمق ظالم لنفسه حقا.. إذ يشتري الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، والشقاء بالنعيم!!

إن منهج الله يراد به سعادة البشر في حياتهم الدنيا وفي الآخرة.. أما مناهج زعماء الكفر والإلحاد والمادية والفوضوية والنفعية والاستغلال، ومستغلي الشعوب ومضلليهم، ومصاصي دماء العامة ومستعبديهم، فبضاعتهم مُنِتنة، لا تورثهم جميعا إلا الهلاك والخلود في التعاسة والشقاء. إن صلاح الدنيا وسلامها لا يمكن أن يتحقق بالموالاة لهؤلاء الأبالسة، الذين لا يعنيهم من الأمر كله إلا شهواتهم المادية، ومراكزهم الدنيوية، التي تخوِّل لهم السلطان والتسلط والشهرة، وتسيير دفة الأمور وتقدم الصفوف ولفت الأنظار. ومن ورائهم أهل النفاق من آكلي الفضلات والرمم.. يتملقونهم وينفخون في باطلهم بين الناس، ويحصلون بذلك على شيء من الفتات. أما ما يصيب الناس بعد ذلك فلا يعنيهم أبدا. إنهم لا يرفعون شعارًا إلا لتخدير العامة وتضليلهم، ولا يسُنون قانونا ولا يسلطون أجهزة إعلامهم وزبانية شرطتهم.. إلا حفاظا على مصالحهم، ودعما لهيبتهم، ومسايرة لأهوائهم وشهواتهم. ولا يدخلون حربا إلا إرضاء لغرورهم، أو طمعا في إغتصاب ما بيد غيرهم، أو كسبا لمواقف سياسية كاذبة.

كيف لعاقل أن ينسى ما فعله إبليس «الزعيم الأول».. مع آدم «النبي الأول»؟ إن الآية الكريمة تنبه الناس ليعرفوا الفرق بين إبليس وآدم. إن آدم وخلفاءه مرايا للكمالات الإلهية. وإبليس وذريته تماثيل وأصنام الغطرسة والكِبر، واستعراض القوة والسلطة، والتضليل بكاذب الوعود وباطل من الأماني ذات الرنين المدَوِّي.. والمضمون الأجوف الفارغ من الصدق والخير!! ما أتعس ذلك الذي لا يفرق بين الأبالسة في ثيابهم الثمينة، وكلماتهم المعسولة المسمومة.. وبين أهل السماء في تواضعهم وصدقهم، وفي تقواهم وطهرهم، وفي ترفعهم عن الماديات والدنايا، وفي زهدهم في طلب السلطان والعلو في الأرض، وفي تمسكهم الفعلي بمنهج الله، وفي قدوتهم الطيبة لما يدعون إليه من خير.

ويلاحظ هنا أن القرآن وصف إتباع المنهج الإبليسي بأنهم (ذريته).. لأنه قائدهم الأول، فهو منهم بمنزلة الوالد وهم الأبناء.. وذلك مماثلا لوصف الناس بأنهم بنو آدم باعتباره معلمهم وإمامهم الأول إلى الهدى والخير.. وأنهم مكلفون بإتباعه وطاعة منهجه، فهو كوالدهم وهم بنوه.

وقوله تعالى اسْجُدُوا لِآَدَمَ يعني تكليف الملائكة بالعمل في خدمة الرسالة التي يقوم بها آدم.. فهو سجود تكريم وتبجيل وتأييد. وصدور الأمر للملائكة هو الخطوة التنفيذية الأولى في المشروع الذي قدَّره الله في قوله تعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .. ولا بد أن يتضمن بعث آدم ودخول الجميع في نطاق التكليف بطاعته، لأن هذا هو الأصل والمراد. ويتضح ذلك من قوله فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وهذا يعني أن إبليس ومن هو منهم قد صدر لهم الأمر الإلهي بالطاعة عن طريق الدعوة النبوية من آدم.

كما يُفهم أيضا من قوله تعالى اسْجُدُوا لِآَدَمَ أي اسجدوا لله مع آدم أو لأجله. فاللام تفيد السببية أو المعيّة، فتكون اسجدوا بسبب مهمة آدم، أو إقرارًا بأنه مستحق للخلافة.. أي نفذوا أوامر الله المتعلقة بمهمة آدم، وأعينوه في مهمته.. مصداقا لقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. (غافر: 52) فالسجود هو لله تعالى مع آدم أو لأجله.

كما أن الآية تميز بين صنفين من البشر، صنف أسمى من الملائكة، أطاعوا أمْرَ الله فأمَر الله الملائكة بالسجود معهم تأييدًا ومؤازرة من أجل ازدهارهم وفلاحهم. وهؤلاء هم آدم وبنوه. وصنف ثاني سقط حتى صار أحط من الأنعام، فرفضوا طاعة الله في حين أن الملائكة القائمة على الأسباب قد أطاعوا جميعا وأدوا واجبهم. هؤلاء هم إبليس وذريته.

سورة النمل

وفي سورة النمل يقول الله تعالى:

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (النمل: 11)

كعادة الأنبياء.. مر موسى بعديد من التجارب الروحية، ذكر القرآن بعضها. وهي من الوحي الذي يكلم الله به المصطفين من عباده. وفي هذه التجربة رأى موسى في الكشف -أثناء رحلة العودة مع أهله من سيناء- أن هناك نارًا، فلما جاءها ناداه الله تبارك وتعالى وأمره أن يذهب إلى فرعون لإنقاذ قومه بني إسرائيل من نير فرعون واضطهاده لهم. ووهب الله سيدنا موسى آيات تؤيده في مهمته، وفي نفس الوقت تدله على كيفية القيام بها. وكانت عصا موسى واحدة من هذه الآيات، تعينه على إثبات صدقه.

وما يراه الرائي في الكشف هو من الأمور التي تحتاج أحيانا إلى تأويل وتفسير. وبيان هذا الكشف بحسب تأويل الرؤى كمايلي: النار تأويلها (المحبة الإلهية) وحرارتها، ففيها الدفء والهداية، تشعهما في كل اتجاه فتباركَ مَن فيها ومَن حولها. أما العصا فهي (قوم موسى) أي بنو إسرائيل. والجان -وهو الحية الصغيرة السريعة- ترمز لــ (عدو). ويبين الكشف أن موسى مكلَّف بالعودة إلى قومه بني إسرائيل، لأنه إذا تركهم استمروا في فسادهم وحياتهم الشريرة، وظلوا أعداء لأنفسهم. ولكن إذا أخذهم وضمهم إلى رعايته انقلبوا عصا مباركة فيها النفع والخير، وليس من ورائها أذى. ومحبة الله تعالى سوف تشمل الجميع.. تبث فيهم دفء الحياة الصالحة، وتجعل منهم جماعة متآلفة متآزرة من الأتقياء الصالحين.

غير أن ما يعنينا في هذا البحث هو ما جاء في الآية الكريمة وصفا لعصا موسى التي ألقاها فإذا هي تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ، وفي آية أخرى ذكر الله تعالى أن موسى ألقى العصا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (طه: 21)، فإطلاق اسم الجان على الحيّات والثعابين التي تتميز بالاختفاء عن الأنظار.. يدل على أن الكلمة لا تطلق على الأرواح الشريرة فقط كما يتصور بعض الناس.. وإنما تطلق أيضًا على الثعابين والحيّات وغيرها من الدواب والحشرات المشابهة في اختفائها.

وبعد ذلك جاء في السورة نفسها -سورة النمل- قوله تعالى:

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (النمل: 18)

وتشير الآية إلى بعض النعم الإلهية التي تَفضَّل الله بها على سليمان ، إذ آتاه مُلكًا كبيرا بمعيار زمانه، يقوم على حمايته جيش عظيم. كان جيشًا منظمًا، جمع فيه كل القوى المتاحة له. فكان فيه فِرَقٌ من المقاتلين الأشداء من قبائل الجبال المشهود لهم بالصلابة والبأس والمهارة القتالية العالية وهم (الجن)، وفِرَقٌ من قوات المشاة العادية وهم (الإنس). وفِرَقٌ من القوات ذات الحركة السريعة من الفرسان، أو من رجال المخابرات الذين يتراسلون ويتواصلون عن طريق الحمام الزاجل أو غيره.. وهم (الطير). ويمكن أن يكون (الجن) هم المقاتلون الخبراء في التمويه والتخفي، وذوي المهارات الخاصة في الإنشاءات، أو بلغة عصرنا «سلاح المهندسين»، وجسم الجيش من المشاة والفرسان. ثم السلاح الخاص من ذوي المؤهلات العليا في الفكر والعلم أو المستشارين -بلغة العصر- وهم (الطير).

وإذا ربطنا بين هذه الآية وما جاء في سورة الأنبياء في موضوع مماثل:

وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * …. * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (الأنبياء: 80-83)

يتبين لنا أن الجبال والطير كانت مسخرة مع داود والد سليمان (عليهما السلام). والتسخير هو الإجبار والإذلال، أو الاستخدام بأجر أو بغير أجر. ولا مجال للجمع بين داود.. الإنسان الملك النبي، وبين الجبال الجامدة والطير والأعجم.. والآية في معرض الحديث عمّا آتاه الله داود وسليمان من الحُكم والعِلم وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (الأنبياء:80). وليس في تسبيح الجبال والطير ما يُقوي ويساند حكم داوود أو يزيد علمه. ومثل هذا الأمر لا يكون تكريما يُذكر في مجال الحديث عن النعم التي يتمناها المسلمون ويعملون على اكتسابها. إن هذا المعنى يجعل من داود راهبًا أو «درويشًا» يعيش في الجبال بين الوحش والطير.. ممسكًا بمسبحة يتمتم بكلمات التسبيح لله تعالى، فتردد الجبال والطير تسبيحاته؛ هذا على فرض أنها تفهم قولَهُ، أو أن لها لغة يفهمها داوود. المهم أن داوود لو كان يفعل هذا ما نجح في أن يكون مَلِكًا قويًا ذا حكمٍ وسلطان.. يشتغل بسياسة ملكه العظيم، ويُبلغ رسالته كنبي معلِّم لقومه، وهُم أوْلى بوقته من الجبال والطير.

الواقع إن تسبيح الله تعالى لا يصدر إلا من كائن مُدرك مُريد. والإنسان وحده هو المسبِّح الحقيقي لله تبارك وتعالى. أما إذا نُسب التسبيح لغير الإنسان.. فإنما يكون بمعنى الخضوع لله تعالى، كما يعني تسخير هذه الكائنات كي تُعين الإنسان وتحمله على التسبيح. فالملائكة الكرام يسبحون الله.. لأنهم جنده المنفذون لأمره، وما يقومون به يعكس في الكون كمالات الله تعالى، فيدركها الإنسان العاقل فيسبح الله. وتسبح الجبال وغيرها من الكائنات بمعنى أنها تكشف للإنسان ذي البصيرة كمالات خالقها وربوبيته الحقة، فيهتف مسبحا بحمده شاكرًا لأنعمه. فقول الله تعالى:

وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلـكِن لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُم (الإسراء: 45)

يعني أن الإنسان إذا كان من أولي الألباب ونظر في خلق الله كله لتبين له بكل وضوح أن خالق هذه الكائنات إله كامل المحاسن منزه من قوله تعالى:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ .. ( آل عمران: 192 )

والمراد بالجبال التي تسبح مع داود هم أهل الجبال، أي القبائل الجبلية المعروفة بشدة المراس، والتي تمكَّن داود من إخضاعها والسيطرة عليها تحت حكومته بفضل الله تعالى ونصره. ومثاله قول الله في سورة يوسف:

وَاسأَلِ القَريَةَ الَّتي كُنّا فيها وَالعيرَ الَّتي أَقبَلنا فيها.. (يوسف:83 )

أي اسأل أهل القرية وأهل القافلة. هذه القبائل الجبلية خضعت لداود ، وسارت وراءه توطيدًا لحكمه، وعملاً لنشر تسبيح الله، والعمل بشريعته تعالى في دولة بني إسرائيل الأولى.

والطير هم علية القوم.. الخاصة من العلماء والمفكرون وأهل التقوى والصلاح الذين أعانوا داود على تسيير دفة الحكم، وتوطيد المنهج الإلهي في ربوع دولته وبذلك كانت بني إسرائيل في عهد الملك النبي داود دولة صالحة، يتردد في جنباتها تسبيح الله تعالى وشكره على نعمتي الملك والنبوة.. وما يترتب عليهما من نعم أخرى جزيلة.

هذا، ويخبرنا القرآن الكريم أن الكون بسمائه وأرضه وجباله وبحاره وطيره ووحشه وأنعامه.. كله مسخر للإنسان إلى يومنا هذا وأن بوسعه أن يجعله وسيلة لتسبيح الله تعالى إذا ما أحسن استخدامه في خدمة إخوانه في الإنسانية، وإذا أقام به حكومة الله في الأرض.

فالتسخير لم يكن خاصا بداود وحده وإنما هو نعمة عامة للإنسان عبر الدهور. قال – عز من قائل:

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ (الجاثية:14)

والمراد بالشياطين الذين يغوصون ويعملون أعمالا أخرى.. العمال المهرة وأهل الحرف، كالنجارين والبنائين والحدادين. فالشياطين تشمل الغواصين المهرة من أهل الخليج العربي الذين كانوا يغوصون لطلب اللؤلؤ والمرجان. وقد شرحت آيات سورة (ص) عملهم في قوله تعالى:

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (ص:38)

فالشيطنة هنا تعني الخروج على المألوف، أي المهارة الزائدة في الحرف والفنون. ولقد رُوي عن رسول الله أنه قال:

“الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ” (سنن أبي داود). وهذا يعني أن البعد عن المألوف والشذوذ شيطنة. كذلك من الشيطنة أيضا: العصيان والخروج على النظام، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى، تكملة للآية السابقة:
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (ص:39)

وهؤلاء هم المتمردين على حكم سليمان، الذين مكنَّه الله تعالى من قهرهم وسجن زعمائهم، والسيطرة عليهم وإدخالهم في خدمة مملكته. وقد روي عن ابن عباس وعن ابن مسعود ومجاهد y  أن الشياطين هم زعماء الفتنة، أي زعماء الثورات والانقلابات والاضطرابات والخروج على النظام. وكلمة “الشياطين” بمعنى زعماء الفتن وردت أيضا في قوله تعالى:

وَإِذاَ خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ (البقرة).

ومجمل القول أن داود وجد المعاونة في أداء مهمته النبوية كداعية إلى عمارة الأرض وتسبيح الله تعالى..ممن جعلهم الله في خدمته من القادة والعلماء والصلحاء ومهرة الصناع. وقد اتسع ملكه وتوطد حتى استخدم الطير في نقل البريد والربط بين أجزاء دولته. ولقد أقام له العمال المهرة من المنشآت ما يُظهر عظمة مُلكه.. مما يكشف للناس سبوحية الله وقدوسيته.

ولقد ورث سليمان أباه داود (عليهما السلام) في الملك، وجعله الله نبيا. وازدهر ملك بني إسرائيل ازدهارا عظيما في عهده، وكانت جنوده كثيرة العدد والعدة مرهوبة الجانب، موزعة على أسلحة متخصصة، منها سلاح المهندسين والانشاءات وهم الجن، وسلاح المشاة وهم الإنس، وسلاح المخابرات والمستشارين والفرسان وهم الطير.

ويتضح اهتمام سليمان بالفرسان من قوله الله تعالى:

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (ص:33)

فهو يهتم باستعراض الخيل الأصيلة وفحصها، ويُعرب عن حبه لها حب الخير.. لأنها من أسلحة إعلاء كلمة الله وذكره. وعندما تختفي عن نظره يستعيدها ويكشف عن رفقه بها وسعة درايته بتعليمها.

أما اهتمامه بتدريب الطير واستخدامها وتفهم عاداتها وقدراتها فيبدو من قوله تعالى على لسان سليمان:

..يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ.. (النمل: 17)

فعلم منطق الطير أي لغته.. يعني أنه -بفضل الله- توفر لديه المختصون الذين يجيدون تدريب الطيور بحيث تفهم الطير ما يراد منها، وكأن رجاله والطير يعرفون لغة بعضهم البعض. ويمكن أيضا أن تكون الآية الكريمة إشارة إلى المستوى العلمي الرفيع، الذي توافر في شخصه وفي أهل العلم من رجاله. فالطير هنا قد تعني أيضا العلماء ذوي الفكر العالي والأدب الرفيع. أما علمه الغزير وتشجيعه لأهل العلم فيتبين من قوله تعالى:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا (النمل:16)

وقوله:

فَفَهَّمناها سُلَيمانَ وَكُلًّا آتَينا حُكمًا وَعِلمًا ( الأنبياء: 80)

وأما اهتمامه بالإنشاءات والبناء والسفن وما إلى ذلك فيبدو جليا من الآيات العديدة التي تتحدث عن عمليات الغوص والبناء والقدور الكبيرة لإطعام الجيش العظيم، والسفن الضخمة التي كانت تمخر عباب البحار شهورا لتنقل تجارته الواسعة. ويظهر اهتمامه بالمخابرات عن البلاد المجاورة لملكه من تفقده المنتظم لعيونه الذين بثهم في الخارج ليأتوه بالأخبار، والتقائه بهم في مواعيد محددة يسمع تقاريرهم، ومنهم “الهدهد”، الذي كان عينًا له في بلاد سبأ، ولعله سُمي بهذا الاسم الحركي لمقدرته الكبيرة على النبش وراء الأخبار والأسرار الدفينة.

وكان والده داود قد أخضع الأقاليم الجبلية المجاورة، وحشد أهل العلم والخبرة في خدمته، واستخدام الطير في المخابرات والمراسلات، كما يتبين من قوله تعالى:

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (ص:18)

وتتبين قوة جيش سليمان وهيبته مما قالته (النملة) تُحذر قومها -وهم قبيلة كانت تسكن واديا بين الجبال، سمي باسم وادي النمل، إما لكثرة مستعمرات النمل به، أو لأن القبيلة كانت كثيرة العدد، أو لأن القبيلة كانت تعرف باسم قبيلة النمل. وظاهرة تسمية الناس والقبائل بأسماء الحيوانات والحشرات هي شائعة مثل أسماء: أسامة وحيدر، وهما اسمان للأسد، وأبو ذر (الذر: النمل)، وبني كلب وغيرهم. فحذرتهم المرأة الخبيرة من التعرض لجيشه أثناء مروره بواديهم حتى لا يقضى عليهم دون جهد كبير.

ولا أحسب أن عاقلا يتصور أن حشرة النمل تستطيع أن تتعرف على الجيوش وقادتها وقوتها. أو أن النمل يصدر منه صوت أثناء اتصال أفرادها مع بعضها البعض، أو أن سيدنا سليمان يسمع هذه الأصوات ويدرك معانيها.. فليس هناك أي إشارة في القرآن تدل على ذلك. كما أنها ليست معجزة لسليمان لأنه لم يشهدها أحد معه فتكون دليلا على صدقه مثلا.

والناس يجوبون المناطق التي يسكنها النمل ولم يشهد أحد هروب النمل إلى بيوتها عندما يطأ الناس مناطقها. كما أن حديث النملة يدل على أنها عاقلة تخاطب جماعة العقلاء، كما يبين قوله تعالى:

قالَتْ نَمْلَةٌ يَآ أَيَّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (النمل:19)

فواو الجماعة في ادْخُلُوا والضمير في مَسَاكِنَكُمْ

و لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ للعقلاء، بينما نجد أن الله تعالى عندما تحدث إلى جماعة النحل -وهي حشرة مثل النمل- خاطبها بصيغة التأنيث، دلالة على غير العاقل، فقال:

اتَّخِذِي منَ الجِبَال بُيُوتًا.. كُلِي منْ كُلِّ الثَّمَرَات.. فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً.. يخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا.. (النحل:69)

كذلك فإن الأماكن التي تعيش فيها الحشرات والحيوانات والدواب، ومنها الإنسان، تسمى بيوتا، مثل بيوت النحل وبيت العنكبوت وغيرها، ولكن بيوت الإنسان هي التي تسمى “مساكن” لأن الله جعلها سكنا يسكن فيها الإنسان، كما في قوله تعالى:

وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا (النحل:81)

ولفظ مَسَاكِنَكُمْ في الآية يدل على أن النمل كان قبيلة من البشر العقلاء وليس من الحشرات والهوام.

ولنتابع في هذه المناسبة بعض أحداث قصة سليمان لنحرر أفهامنا من بعض الخرافات التي دارت حولها.

يحكي القرآن الكريم:

قالَ يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِهَا قبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قال عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا ءَاتيكَ بِهِ قَبْل أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْه لَقَوِيٌّ أَمينٌ * قالَ الَّذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ: أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْل أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. (النمل:39-41)

تتحدث الآية عن ذلك العميل السري -أو ضابط المخابرات باصطلاح العصر- “الهدهد”، الذي اكتشف أخبار منطقة تسمى “سبأ”، ولعل أهلها كانوا من أهل اليمن الذين هاجروا إلى الشمال في تخوم فلسطين، وأطلقوا هذا الاسم على أرض مهجرهم كما هي عادة المهاجرين، وكانوا غافلون عن عبادة الله فكانوا يسجدون للشمس، وكانت ترأسهم وتسوس أمورهم سيدة. وكلف سيدنا سليمان هذا الضابط بالعودة إلى سبأ ليحمل رسالة منه إلى المرأة الحاكمة. وبعد تشاور وتحاور قررت المرأة أن تذهب مع وفد من رجال قومها لتزور سليمان فتصالحه وتهادنه. وعاد (الهدهد) إلى سليمان بالأخبار.

أراد سليمان أن يبين للملكة القادمة خطأ عبادة الشمس، وأن يبهرها بملكه العظيم، وما تحت يده من إمكانات هائلة، ليكون ذريعة لإقناعها بنبوته وما أوتيه من حكمة وهدى؛ ومن ثم هدايتها إلى الخالق الحقيقي الذي يستحق العبادة. ولتحقيق هذا الهدف طلب من خبرائه (الملأ) أن يصنعوا له عرشا يماثل عرشها الذي وصفه (الهدهد) بأنه عرش عظيم. فتقدم أحد المستشارين (من الجن)، وهو فنان ماهر (عفريت) واثق من مقدرته – فقال: أنا أصنعه لك قبل أن تغادر مقامك في هذه المنطقة.. ومن عادة الملوك أن تكون لهم مقامات (قصور أو استراحات ملكية بلغة العصر) في المواقع الهامة، يقضون فيها فترات تطول أو تقصر حسب مقتضيات الظروف. ولعل سليمان كان يتوقع وصول المرأة مع وفدها قبل ذلك بكثير، فلم يبد على وجهه علامة الموافقة. فتقدم مستشار آخر من أهل العلم والتخطيط، يجيد حسابات التشغيل وحشد مهرة العمال عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ وقال إنه يستطيع إنجاز المهمة قبل أن يعود رسول الملك من مهمته، وبذلك يكون العرش جاهزًا قبيل وصولها قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. أي قبل أن يرجع إليك رسولك.

وتمضي الآيات بعد ذلك تسرد الأحداث.. فتمت صناعة العرش، وحمد سليمان ربه، وطلب من رجاله أن يجهزوا صرحا من الزجاج يُجْرون الماء من تحته. وجاءت المرأة، فشاهدت وأدركت بذكائها الرسالة الضمنية فيما أعده لها سليمان، فاقتنعت بوحدانية الله تعالى وأسلمت له، وآمنت برب سليمان.

أما الرسالة فقد كانت درسا عمليا ذكيا. عندما رأت المرأة الصرح حَسِبَتْهُ لُجَّةً أي ظنته ماء جاريا فشمّرت عن ثوبها، ولكن سليمان أفهمها أن ما ترينه ليس الماء.. وإنما زجاج صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ يجري الماء من تحته. فأدركت المرأة الرسالة النبوية الذكية. لقد ضرب سليمان لها المثل الذي يوضح كيف أن الشمس التي تراها بحواسها المادية ليست هي الإله المعبود، ولكن الإله الحق هو الذي يُسيِّرها ويسير الكون كله معها. إنه إله لا تدركه الأبصار لأنه فوق المادة وفوق الأبصار. إنه موجود وإن كان لطيفا مستترا عن العيون. لقد رأت المرأة الماء ولم تر الزجاج لأنه شفاف لطيف، ولكنه موجود والماء يجري من تحته. وهكذا فهمت المرأة، واطمأن قلبها، وأسرعت تُبدي ندمها على ما فرط منها من عبادةٍ لمظاهر قدرة الله الخالق، وأعلنت بيعتها لسليمان على عبادة الله وحده.

قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل: 45)

والمثل العملي الذي ضربه سليمان للمرأة لا يزال صالحا لتوجيه أنظار أولئك الذين لا يؤمنون بالله، زعمًا منهم أنهم لا يعترفون بوجود إلا بما يقع تحت حسِّهم. إنهم هم أنفسهم يعترفون بوجود الُجزَيْء والذرة والإلكترون والموجات اللامرئية والكهربائية وغيرها.. يعترفون بوجودها على أساس من دراسات آثار وجودها في معاملهم ومختبراتهم. وها هو الكون كله.. مختبر هائل ليُعمِلوا فيه عقولهم وعلومهم.. وفي وسعهم -إذا حرروا عقولهم من إسار التعصب والهوى- أن يروا يد القدرة الإلهية في ذرات الكون أو في عمالقة المجرات. إن من يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيهن، وفي خلق أنفسهم وغيرهم من الكائنات.. ليرون الحكمة والعظمة والتنظيم والتدبير والرعاية والقوامة الكاملة.. التي لا تكون إلا لخالق واحد، ليس كمثله شيء، له الأسماء الحسنى، فتبارك الله أحسن الخالقين! (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك