لم يعد أبو بكري قاضيًا للقضاة

لم يعد أبو بكري قاضيًا للقضاة

عيسى عبد الكريم

خلال الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبرًا مفاده أن مجموعة مسلمة من المتأسلمين قامت بتشكيل حاجز مسلح وهمي على أحد الطرقات في بلد عربي شقيق، ثم قامت بإيقاف حافلة تقل عددًا من المدنيين، فأنزلت تسعة عشر فردًا من الركاب وقامت بقطع رؤوسهم ذبحًا بالسكاكين والفؤوس قبل أن يلوذ أفرادها بالفرار تاركين على جثث ضحاياهم رسالة يقولون فيها “إنهم فعلوا ذلك تقربًا إلى الله لأن هؤلاء كَفَرة وأنهم بمثابة الأضحية في هذا الشهر الكريم”.

إلى هنا أتوقف مع هذا الخبر إعلاميًّا لأتوقف بعد ذلك مع نفسي ولأمدٍ بعيد مقلِّبًا في ذهني الدوافع الحقيقية التي حذت بهؤلاء المجرمين لارتكاب مذبحتهم تلك!..

إنها بحسب زعمهم دوافع دينية!.. فهل يعقل أن يوجد في هذا الكون إله يطلب من عباده المؤمنين أن يقوموا بمثل هذه الأفعال التي تأباها الوحوش؟

لأن الوحوش لا تقتل أوتفترس إلا إذا كانت جائعة أو معرضة للخطر..أما هؤلاء فيقتلون ليدخلوا الجنة! ويطلبون من الآخرين أن يحذوا حذوهم ولو بالإكراه. فأية جنة تكون حين يكون رُوّادها من أمثال هؤلاء؟

بالتأكيد إني أرفض أن أذهب إلى مثل تلك الجنة لأشارك هؤلاء السفاحين نِعَمهم، بل وأُفضّل عليها أية محرقة سواء كانت نارية أو غير نارية. وعند هذا الحد سرحت مع أفكاري إلى الماضي البعيد حيث كان الحكام من السفاحين واسترجعت حكاية رمزية كنت قد سمعتها منذ نعومة أظفاري وكأنها قد صنفت لأبناء زمننا الحاضر.

تقول هذه الحكاية:

كان في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي والي الكوفة شخص اسمه أبو بكري وكان هذا الرجل يسلب الناس أشياءهم، ويقطع عليهم الطريق، ويقتل من يرفض الامتثال لرغباته، فوصلت مآسي الناس إلى أذن الحجاج الذي خشي بدوره أن تهتز هيبته في أعين رعيته إذا ما استمر أبو بكري في غيّه وشروره، فما كان منه إلا أن أرسل من يناديه في شعاب الجبال وبطاح الأودية: يا أبا بكري، إنزل، إن مولانا الحجاج يريدك وقد أعطاك الأمان.

سمع أبو بكري النداء، فنزل من مخبئه، وذهب للقاء الحجاج الذي أكرم وفادته، ثم قال له بعد ذلك: لقد قررنا توليتك منصبَ قاضي القضاة. وكان الحجاج بفطنته يرمي من وراء ذلك إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، أما الأول فكان إيقاف شرور أبو بكري وإلهائه بمنصبه وبذلك يحتفظ الحجاج بهيبته. وأما الثاني فكان إخافةَ من تُسوّل له نفسه من الرعية بماضي أبو بكري، ولا أحد يجرؤ على الخروج عن طاعة الحجاج.

امتثل أبو بكري للأمر في الوقت الذي لم يتقبل عقله مثل هذه الفكرة أو هذا التكليف، ذلك نظرا لماضيه المظلم وأيضا لكونه لا يلمّ بأبسط أبجديات أو قواعد القضاء.

خرج أبو بكري من مجلس الحجاج مع حاشيته إلى مجلس القضاء وبدأ مزاولة مهامه على الفور. وفي يوم من الأيام بينما كان قاضينا في مجلسه إذ بجنازة تعبر الطريق أمام ناظريه فما كان منه إلا أن أمر الموكب بالتوقف، ثم تركِ الميتِ مكانه والابتعاد حتى يأذَن لهم بالعودة. انصاع الناس للأمر وابتعدوا عن المكان. حينذاك نزل أبو بكري من مجلسه وتحرك إلى جانب الميت ورفع الغطاء عن وجهه ثم انحنى فوق الجثة لبعض الوقت، بعد ذلك عاد إلى مجلسه مشيرًا لأفراد الموكب بالمضي مع ميتهم في سبيلهم. قام الناس بدفن الميت ثم رجعوا إلى الحجاج مسرعين مستغيثين، فاستوضحهم عما بهم، قالوا له: شكونا لك أبو بكري وهو يقطع الطريق على الأحياء، فما بالك وهو يقطع الطريق على الأموات ويعتدي على حرماتهم، وقد فعلها اليوم وكان الميت فتاة في ريعان شبابها. اشتط غضب الحجاج وأرسل من أحضر له قاضي قضاته حيث سأله مغاضبًا: ويحك أفعلتها مع فتاة ميتة؟ أجاب أبو بكري بهدوء ورباطة جأش وثقة بالنفس: حلمك يا مولاي، والله لم أفعل في هذه المرة ما يغضب الله أو يغضبك، ولا أعلم إن كان الميت ذكرًا أم أنثى. إن كل ما فعلته هو أني همست في أذن الميت أن يقول لمن سبقوه إلى الدار الآخرة أن لا يأسفوا ولا يحزنوا على فراق الدنيا وأهلها لأن أبو بكري أصبح قاضيًا للقضاة. إن حكايتنا مع أمثال أبو بكري ممن أرادوا الوصاية على شرع الله وعلى عباد الله لم تنته بعد رغم أن حكاية أبو بكري قد انتهت، فها هم يذبحون هنا، ويقتلون هناك، ويصدرون فتاويهم القراقوشية التكفيرية ضد مخالفيهم في مكان ثالث، وكأن الله سبحانه وتعالى قد عهد إليهم برقاب عباده. الأمر الذي لم يعهد لخاصة رسله وأنبيائه وها هو يقول جلت قدرته لحبيبنا ونبينا محمد المصطفى :

  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (النحل: 126)

وفي مكان آخر يقول تبارك اسمه لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام:

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه: 44-45)

فما بال هؤلاء المتأسلمون ممن خرجوا على القانون السماوي وعلى القانون المدني ذبحًا وتقتيلاً واغتصابًا وبلطجة… ألم يعلموا بعد أنه لا يوجد في زمننا الحاضر أي مكان لمن هم على شاكلة أبو بكري، كما أنه لا يوجد حجاج آخر ليمنحهم الأمان. ألم يأن لهؤلاء أن يفهموا بأنه إذا لم تعجبهم الحياة بيننا في دعة وسلام. فبإمكانهم البقاء في شعاب جبالهم، ولكن هذه المرة دون أن يقطعوا الطريق على الأحياء أو على الأموات. إن كل الطلاء الأسود الذي ينتجه العالم بأسره لا يمكنه أن يجعل إسلامنا العظيم أسود اللون، وهم بأفعالهم يريدون تسويد وجه الإسلام الأغرّ مثل قلوبهم وضمائرهم السوداء: أتراهم لم يسمعوا الحديث الشريف الذي يقول: “الناس عيال الله وأحبكم إلى الله أحبكم لعياله”

وهل أصبح قطعُ رقاب العباد هو عنوان محبة هؤلاء لخلق الله؟ …

أيها المتفيقون عيشوا كما تشاؤون، ولكن دعونا نعيش ونعتقد كما نشاء، ونؤد شعائر الله كما يريدها هو لا كما تريدونها أنتم. إنه لمن الأجدر لكم والأجدى بكم أن تسدُّوا رمق الجائع، او أن تأووا مشَّردًا، أو أن تتصدقوا على محتاج. بدل أن تُرهبوا الناسَ وتقطعوا الرقاب. إني أراكم تضُنّون على الناس بالكلمة الطيبة فكيف لكم أن تعطوهم جنة عرضها السماوات والأرض. ولتعلموا أن هذه الجنة قد أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين وليس لقطاع الطرق. أترى ألم يأن لكم أن تعرفوا بأنه لا يمكن للإسلام أن يستقر في القلوب التي يدخلها بقوة السيف والاكراه والنفاق لأنه في الأصل لم يدخلها بل جرى القول به على الشفاه والألسن فقط. إن الإسلام يستقر بالمحبة واليقين في القلوب المطمئنة التي يدخلها ويعشعش في جنباتها. وبمثل هذه القلوب كانت عزة وعظمة الإسلام والمسلمين، وبمثل أفعالكم كانت الردة وعصور الظلام والانحطاط وكان انهيار الأمة الإسلامية التي أحنت رقابها لحفنة من شُذّاذ الآفاقِ في الوقت الذي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى:

وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (النساء: 142)

يا أيها الذين أظلمت نفوسكم وقلوبكم اتقوا الله في أنفسكم أولاً وفي خلقه وعباده ثانيًا، ثم ابحثوا عن قبس من نور الله لتضيئوا به ظلماتكم، فعسى الله أن يعيد لهذه الأمة عزتها وكبريائها وطهارتها ومجدها حتى لا يكون لأي كافر في هذا الكون سبيلٌ أو سلطانٌ عليها.

إلهي، إنا نلوذ بك ونقف على عتبتك أذلاء خاشعين، ونستجير بك ونتوكل عليك، ونرفع لك أكفّ الضراعة أن تهدي الضالين من عبادك إلى سبيل الرشاد، وأن تغفر للمسيئين من عبادك ما كبر من ذنبهم وما صغر، وأن تُثبّت من آمن منهم بالقول الصالح والعمل الصالح.

إلهي، من يتوكل عليك فإنك حسبه، وقد توكلنا عليك لأنك نعم المولى ونعم النصير.

إلهي، إنّا لا نريد أن تيتِّم أطفال عيالك ولا أن ترمِّل نساءهم ليكونوا غنائم لنا، ولكنا ندعو أن تُصلح أحوالهم وأن تهديهم إلى سبيل الرشاد والفلاح إلى صراطك المستقيم.

إلهي، إنك ما خلقت هذا الكون عبثًا ولا نريد بجهلنا وأنانيتنا أن نعبث به.

إلهي، أعنّا على أن نكون من عبادك المخلصين الفائزين وأعنا على أن نحبك ونحب كلّ خلقك، وأعِنَّا على أن نتقي شرور أنفسنا.

إلهي، أعِزّ أُمَّتَك بصلحائها وأَعْلِ شأنها بأخيار علمائها، وأَعِنَّا كي تكون أعمالنا خالصةً لوجهك لا حُبّا في جنتك ولا رهبًا من نارك.

إلهي، أعِنّا على أن نشكرك ونذكرك ونحسن طاعتك، إلهي أَعِنّا بجلالك عن حرامك وبرضاك عن سخطك وبفضلك عمن سواك.

إلهي، وسِعتَ كلَّ شيء علمًا، ففقهنا في أمور ديننا ودنيانا.

إلهي، إنك من تهدي فلا مضلَّ له ومن تضلِلْ فلا هادي له. بجلالك وجمالك ورحمتك وقدرتك إلهي اجعَلْنا من المهتدين المهديين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك