معنى "كان الناس أمة واحدة"
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(213)

التفسير:

يقول الله تعالى إن هؤلاء لا يدركون الآن حقيقة هذه الأنباء. لأن الدنيا ماثلة أمامهم بكل زخارفها ومفاتنها، وقد ثَمِلوا بقوتهم وأموالهم حتى قالوا في أنفسهم: أنى للمسلمين أن يُلحقوا بنا الهزيمة؟ بل يسخرون منهم بسبب هذه الأنباء ويضحكون منهم، ويعيرونهم قائلين: نحن نحصل على جزائنا نقدا ويدا بيد، فأين جزاؤكم؟ ولكن هؤلاء الكفار سيدركون في يوم قريب كيف نلحق الهزيمة بهم ونكتب الغلبة للمسلمين. فقال: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة).. عندما يأتي يوم القيامة سوف يتغلب المتقون على الكفار، ولا شك أن مشهد (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) سوف يتكرر مرة بعد أخرى بعد الموت، عندما يدخل الكفار جهنم، ويدخل المؤمنون الجنة ويصبحون فوقهم للأبد.. لأن الآخرة ليس بها مباراة حتى يكون هناك احتمال لتفوق أهل النار على أهل الجنة في أي وقت، ولكن الحقيقة أن الناس لا يعتبرون بما سوف يحدث يوم القيامة لأنه لم يأت بعد، فلا يمكن أن يقدَّم أمامهم كحجة أو دليل على صدق الإسلام.

إذًا، فالمراد من يوم القيامة هنا إنما هو ذلك اليوم الذي تمَّ فيه فتح مكة على يد محمد رسول الله ولحقت الهزيمة بالكفار. اليوم الذي رأت فيه الدنيا مشهدا عظيما عجيبا. فالذي كان وحيدا بدون معين ولا نصير، وكان عرضة لاضطهاد القوم.. أصبح حاكما. أما الذين كانوا ملوكا وحكاما للبلد فأصبحوا محكومين خاضعين. وبقوله (والذين اتقوا) نبّه المؤمنين أنكم أحوج ما تكونون إلى التقوى إذا أردتم تحقيق غلبة حقيقية. نعم، إن الإيمان متاع غال، ولكن إذا لم يصحبه العمل فلا قيمة له عند الله.

وقوله: (والله يرزق من يشاء بغير حساب) ليس في حق الكفار وإنما هو في حق المسلمين. عندما ينال الإنسان شيئا بغير حساب فمعنى ذلك أن يُعطى أكثر مما يستحق كجزاء. أما عندما يُعطى بحساب فيأخذ بقدر ما يستحق. وفيه إشارة إلى أن المؤمنين سوف يُعطون جزاء أكثر كثيرا مما يستحقون.

كما قال فيه للكفار إنكم ستحاسبون على ما عندكم، وتُسألون كيف أنفقتموه. أما ما يناله المسلمون فلا يحاسبون عليه. أو كأنكم أيها الكفار.. تعملون كموظفين وعمال، وتستوجبون العقوبة إذا خنتم في هذه الأموال. ولكن ما يُعطى المؤمنون فهو كهدية.. لهم حق التصرف الكامل فيها.

الحقيقة أن المعاملات على نوعين: ما يتم بين الأصدقاء، وما بين السيد وخدمه. ولما لم يكن هناك غيْرِية أو دُونِية بين الأصدقاء لذلك يقول الله تعالى: إننا نعطي المؤمنين بغير حساب ونعاملهم معاملة الأصدقاء. والدليل على ذلك أن الرسول قال: سوف يدخل أمتي في الجنة سبعون ألفا بغير حساب (البخاري، الرقاق). وأما إذا كانت هناك غيرية ودونية بين الإنسان ومن سواه فإنه يحاسبه بشدة ويجازيه بحساب. لذلك لا نجد في القرآن في حق الكفار أنهم يُعطَون بغير حساب، وإنما ورد في حقهم (إن الله سريع الحساب) (آل عمران: 20). وقال النبي (من نوقش الحساب عُذّب)، فسألته السيدة عائشة: ألم يأت في القرآن (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال النبي : (فذلك العرض) (المرجع السابق).. أي المراد بالحساب هنا أن يكون حسابا دقيقا.. وإلا فإن المؤمن يحاسب حسابا عابرا.

ويعني قوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب) أيضا أنه سوف يجازيهم جزاء لن ينقطع. ولما كان الوعد في هذه الآية عن الغلبة المادية الدنيوية فيعني أن الله سوف يجزيهم بأكثر مما بذلوا من تضحيات. ونرى أن ما أعطى الله المسلمين كغلمان للمصطفى في هذه الدنيا كان بلا حساب. صحيح أن تضحياتهم كانت تبهر العيون، ولكن ما أعطاهم الله من أجر غير عادي، سواء في الدنيا أو في الدين، كان يفوق تضحياتهم كثيرا. فمن الناحية المادية بوَّءهم الله عرش المجد، ومن الناحية الروحانية أعطاهم بركات عظيمة توَّجَها بشهادة أبدية على رضوانه فقال (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (التوبة: 100).

كما رد بقوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب) على شبهة عند الكفار: كيف تتغلب عليهم هذه الحفنة من المسلمين؟ فقال إنه إذا أنعم على قوم أعطاهم بغير حساب. أنتم ترون حسابيا أن تغلُّب الواحد على اثنين مستحيل، ولكن الله يعامل المسلمين معاملة مختلفة تماما، فلا يتغلب الواحد منهم على اثنين منكم، بل سوف يتغلب الواحد منهم على عشرة منكم، ويرجع رافعا لواء الفتح والظفر خفّاقا.

فالحقيقة أن الله قد بيّن أنه لا بد أن يكون مع كل نبيٍّ كتابٌ عندما يُبعث.. أي ليجعل الناسَ يعملون بكتاب من عند الله تعالى. لم يقل القرآن هنا إن كل نبي يأتي بكتاب جديد

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (214)

التفسير:

هناك اختلاف كثير وحيْرة بين المفسرين عن هذه الآية: فهل كان الناس أمة واحدة من الصلحاء، ثم بعث الله النبيين وحصل الاختلاف … أم أن الناس كانوا أمة واحدة من الأشرار ثم بعث الله النبيين لهم؟ وعندي أن الناس صاروا أشرارا مختلفين، فبعث الله النبيين. والدليل على ذلك أن الله يقول في القرآن الكريم إنه يرسل أنبياءه عند فساد الناس. بل يتأكد هذا من آيتنا هذه نفسها؛ حيث قال الله تعالى (مبشرين منذرين). ويدل الإنذار على أنه كان هناك أناس قد ابتعدوا عن الله. والدليل الآخر أيضا في نفس هذه الآية وهو قوله تعالى (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) مما يعني أنه كان هناك اختلاف بين الناس في بعض المسائل، فجاء الأنبياء لإزالته ولتوحيد الناس.

أما لماذا قال (أمة واحدة) فجوابها ما ورد في الحديث النبوي (الكفر ملة واحدة) أي أن أصل أصول الكفر هو إبعاد الناس عن الله تعالى. كما قال أيضا إن الإسلام ملة واحدة بمعنى أن جميع الأمم التي أسلمت لله هي أمة واحدة، لأن مبادئها واحدة، وإن كان هناك اختلاف في تفاصيل الشرائع. فلا يعني قوله تعالى (أمة واحدة) أنهم كانوا على وفاق وحب، وإنما يعني أنهم جميعا كانوا كفارا ليس بينهم صلحاء. والجماعة المختلفة عن هؤلاء الكفار إنما هي جماعة المؤمنين فقط. فمهما كان الكفار مختلفين في بعض النواحي، إلا أنهم متفقون في العمل على أساس واحد.. هو إبعاد الناس عن الله تعالى.

أو يمكن اعتبار (كان) للحال وليس للماضي، ويكون المعنى أن الله قد جعل الإنسانية أمة واحدة.. أي أن الحيوانات الأخرى أيضا أمم ولكنها ليس أمة واحدة، وإنما الإنسان أمة واحدة لأنه مدني الطبع ويعيش مع أبناء جنسه، والنتيجة الحتمية لذلك هو الاختلاف والشقاق. فالنعمة العظيمة محاطة أيضا بأخطار جسيمة، وعندما يعيش الإنسان بين أناس آخرين فإنه يتعلم منهم مساوئهم أيضًا. عندما تتفاقم هذه العيوب المدنية والاختلافات الناجمة عن عيشهم معا يرسل الله أنبياءه لإزالتها، ويجمعهم على دين واحد، بدلا من أن يتخذ كل منهم له دينا بسبب العناد. ويقال: إذا كان هذا المعنى صحيحا لقالت الآية: كان الناس أمة واحدة فتشاجروا واختلفوا، فبعث الله النبيين. والجواب أن الفاء في قوله (فبعث) تدل على أن ما بعدها نتيجة لما قبلها. والواضح أن كون الناس أمة واحدة لا يترتب عليه بعْث الأنبياء، فلا بد أن يكون هناك كلام مقدَّر يشير إليه قوله تعالى (فيما اختلفوا فيه).

وقوله (وأنزل معهم الكتاب بالحق). قال (الكتاب)، ولم يقل (الكتب).. ذلك أن الكتاب يشير إلى جنس الكتاب. والمعنى أن كل نبي يأتي بكتاب، سواء كان كتابا قديما أو جديدا. يظن بعض الناس جهلا منهم أن كل نبي يأتي بكتاب منفصل مستقل، ولكن هذا خطأ تماما، ولا يؤيده أي دليل تاريخي، ولا القرآن الكريم. ولو قالوا أنّ (أنـزَل) تعني أن الله لا بد قد أنـزل على كل نبي كتابا مستقلا، فنقول إن هذه الكلمة قد وردت في حق غير الأنبياء في القرآن الكريم، فهل نقول إن هؤلاء أيضا أُعطوا كتابا من عند الله؟ لا يقبل أحد بهذا القول. فمثلا يقول القرآن الكريم: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون) (آل عمران:73).. مع أن الجميع يعرفون أن ما نزل على المؤمنين إنما هو ما نزل على الرسول. فلا يمكن أن يستدلوا بكلمة (أنزل معهم الكتاب)أن كل نبي يُعطى كتابا مستقلا. كما أن كلمة الكتاب لا تُثبت دعواهم. فلو كان كل نبي قد أعطي كتابا مستقلا لقال الله تعالى (أنزل معهم الكتُب) بدلا من الكتاب. ولم يقل الله ذلك، لأن هناك آلافا من الأنبياء ولم تنزل آلاف من الكتب معهم.

وقال الله في موضع آخر من القرآن الكريم: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفَّينا من بعده بالرسل) (البقرة: 88).. أي أرسلنا من بعد موسى الأنبياء بالتوالي، ولكن كانت مهمتهم فقط أن يروجوا للتوراة ويدْعوا الناس للعمل بأحكامها.

فالحقيقة أن الله قد بيّن أنه لا بد أن يكون مع كل نبيٍّ كتابٌ عندما يُبعث.. أي ليجعل الناسَ يعملون بكتاب من عند الله تعالى. لم يقل القرآن هنا إن كل نبي يأتي بكتاب جديد، وإنما قال يأتي بكتاب، ويمكن أن يكون هذا الكتاب قديما أو جديدا. فعقيدة أنه لا بد لكل نبي أن يأتي بكتاب جديد مستقل عقيدةٌ تتعارض صراحة مع القرآن الكريم، بل تتعارض مع تاريخ الأنبياء الطويل.

وقوله (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه). ضمير الغائب للفعل يحكم يمكن أن يرجع إلى الله تعالى، أو إلى الرسول أو الكتاب، أي أن الله أو رسوله أو كتابه يزيل الاختلاف بين الناس. وهذا يؤكد أن الاختلاف يكون قبل بعث الأنبياء فيزيله الله ورسوله وكتابه.

وقوله (وما اختلف فيه إلا الذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) يدعو إلى الشك في أن الاختلاف حصل بعدهم، ولم يكن قبلهم، ولكن هذا غير صحيح، لأنه بقوله (إلا الذين أُوتوه) بيّن أن هذا الاختلاف هو عن الكتاب، وهذا ما يحدث حتما بمجيء الأنبياء، وليس هو ذلك الاختلاف الذي يكون قبل الأنبياء في صورة الفرقة والتشتت. فالاختلاف الأول هو ما كان بينهم رغم كونهم أمة واحدة، أما هذا الاختلاف فهو اختلافهم عن صدق الكتاب بعد أن قام الدليل عليه.

ولو قيل إنه لم يذكر من قبل مثل هذا الاختلاف الثاني.. فما معنى قوله (وما اختلف فيه)؟ والجواب: هناك سؤال مقدر ينشأ من قوله تعالى (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).. وهو إذا كان الغرض من بعث الأنبياء هو إزالة الاختلافات.. فما الفائدة من بعثهم وقد خلقوا الاختلافات بمجيئهم؟ فردّ الله تعالى: إن هذا الاختلاف غير الاختلاف السابق. ومثال الاختلاف الأول أن يمرض أحد ولا يكون هناك دواء، ومثال الاختلاف الثاني أن يوجد الدواء للمريض ولكنه لا يتناوله. فالاختلاف الأول اختلاف الاضطرار وكان تداركه واجبا. أما هذا الاختلاف فقد حصل في معرفة الحق. الاختلاف الأول كان فسادا في فساد، أما هذا ففيه أمل لهداية الناس، فقد جاءهم الحق، فليقبلوه إذا أرادوا. أما إذا اختلفوا الآن فلا بد أن يكون هذا الاختلاف بسبب عنادهم.

والجواب الثاني أن هذا الاختلاف الثاني قد حدث من قِبَل الذين أوتوا هذا الكتاب، أي لم يقع هذا الاختلاف إلا من قبل الذين أرسل إليهم هذا التعليم أو هذا النبي، أما الآخرون فلا يختلفون في هذا التعليم؛ وفي هذا دليل على أن الاختلاف السابق ليس بسبب مجيء هذا النبي أو الكتاب أو التعليم، لأنه لو الأمر كذلك ما مدح هذا التعليم أولئك الذين لم يخاطَبوا به أو الذين جاءوا بعده. الواقع أننا لو نظرنا لوجدنا أنه بعد مضي عهد الأنبياء يمدح الناس تعليمهم.. كما يفعلون اليوم بتعليم المسيح وإبراهيم وموسى وزردشت عليهم السلام، فكل الناس يمدحون هذه التعاليم قائلين ما أروعها! بينما يعارضون الكتاب الموجه إليهم. فثبت أن التعليم أو النبي ليس سببًا للاختلاف، وإنما يحدث الاختلاف بعد أن يأتي النبي بتعليم، فيقول الناس: لماذا نطيع هذا الرجل؟ أو كيف نتبع هذه التعاليم وهي تخل براحتنا؟

وقوله تعالى (بغْيا بينهم) يبيّن أيضا أن هذا الاختلاف الثاني يرجع إلى ما يوجد بينهم من اختلاف سابق. فهؤلاء يكونون معتادين على البغي والعداوة فيما بينهم قبل مجيء النبي أيضا، وهذه العادة هي التي تدفعهم إلى معارضة النبي، فيقولون: كيف يمكن أن نتبع هذا الشخص؟ أو لماذا نصدقه ما دام فلان قد صدّقه، أو أنه يتبع عقيدة كذا وهي عقيدة أعدائنا. فلن نصدقه حتى لا نهان أمام الأعداء. فمثلا في هذا الزمن رفض الأحناف تصديق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود لأنه قد أيّد الوهابيين وأهل الحديث في أمر كذا وكذا. وكذلك قال الوهابيون: لا نصدق به لأنه قد أيد الأحناف في عقيدة كذا وكذا. فسبب اختلافهم مع النبي هو ما يوجد فيهم من عداوة سابقة قبل مجيئه.

والحقيقة أنه بمجيء النبي تتكون جماعة تؤمن بالله وتعمل بتعاليمه، لذلك فإن مجيئه يؤدي إلى اختلاف في الظاهر ولا شك، ولكن صاحب البصيرة الروحانية يدرك أن قوة الاختلاف تضعف بمجيء النبي.. لأن عدد الذين ابتعدوا عن الله يقِلُّ وينقص، بتواجد جماعة كبيرة تعبد الله وحده. فالاختلاف لا يكون بسبب الكتاب، وإنما يؤدي الاختلاف السابق إلى الاختلاف اللاحق حول الكتاب، أو إنما البغي الموجود بينهم –والذي لا دخل للرسول أو أتباعه فيه-هو الذي يدفعهم إلى الاختلاف مع هذا الكتاب، ويؤكد أنهم هم الذين يبغون.. مع أن الله يهيئ لهم ما فيه مصلحتهم ورقيهم.

وبقوله (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) قدّم ردا رابعا على هذا الاعتراض وقال: لا يمكن أن يُتهم الأنبياء بإثارة الاختلاف. ألا ترون أنه لم يكن قبلهم مَن يقبل الحق، وبمجيئهم وُجدت الآن جماعة تقبل الحق؟ فالواقع أن الاختلاف لم يُخلق بمجيئهم. وإنما انمحى بهم. فعلى سبيل المثال: لو كان هناك مائة ألف واقعين في أوهام وظنون عن الله تعالى، وقَبِل ألفٌ منهم هذا الرسول، وظل الآخرون على ما هم عليه، فمعنى ذلك أن الاختلاف قد قَلَّ. فقد خرج ألف شخص من وحْل الاختلاف الخيالي، وثبتوا على صخرة اليقين والثبوت، بحيث يستطيعون أن يشهدوا جلال الله تعالى.

فمعنى هذه العبارة أن الله هدى المؤمنين إلى أمر اختلف فيه الناس. والضمير في كلمة “فيه” في قوله (وما اختلفوا فيه من الحق) يرجع إلى الحق. فالحق صفته. والمعنى أن الشيء الذي اختلفوا فيه صفته أنه حق أو من الحق؛ فهدى الله إليه المؤمنين. أو تكون (مِن) بيانية، والمعنى أن الله هداهم إلى شيء اختلف فيه الناس مع أنه حق.

وهناك سؤال: إذا كانوا مؤمنين مسبقا.. فما معنى قوله (فهدى الله الذين آمنوا)؟ والجواب أن الإنسان في بعض الأحيان ينادي شخصا باسمه الحالي ويشير إلى حاله السابق …كما يقال: هذا الملك عندما وُلد حدث كذا وكذا. فالحديث عنه عندما كان مولودا وقبل أن يصبح ملكا. أو يقولون هذا العالم عندما كان يدرس في المدرسة، ومع أنه صار عالما بعد الدراسة، ولم يكن عالما وقت الدراسة في المدرسة. إذا فـ (المؤمنون) هي صفتهم الحالية وردت في ذكر أحداث سابقة تشريفا لهم، وكي لا ينسب إليهم الكفر في أي وقت. أو أطلق عليهم هذا الاسم نظرا لقدرات إيمانية خفية فيهم.. أي أنهم كانوا يتأهلون للإيمان ويعملون ما يؤدي إليه.

فقوله تعالى (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه الحق بإذنه) يبين أن الناس لما خالفوا تعاليم الله فإنه وفّ‍ى في حق حفنة من المؤمنين الوعودَ التي قطعها مع قوم النبي ككل، وحقق لهم كل الانتصارات التي كانت مقدرة للقوم ككل. وإلى ذلك يشير حديث للنبي يقول فيه إن لكل شخص بيتين: بيت في الجنة وبيت في جهنم (البخاري: التفسير). وعندما يظلم أحد مؤمنا فإن الله يأخذ بيت الظالم في الجنة ويعطيه للمؤمن، ويعطي الظالم بيت المؤمن في جهنم. وبما أن الكفار خالفوا كتاب الله بدون مبرر، وعرَّضوا المؤمنين إلى أنواع العذاب.. أمر الله أن يعطي هذه الحفنة من المسلمين كل النعم المقدّرة للقوم كله. ويحرم القوم منها بسبب ظلمهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك