قبس من تاريخ المغرب

قبس من تاريخ المغرب

عرفت منطقة الشمال الإفريقي فبل الإسلام حقباً تخللتها سلسلة من الأحداث والحضارات المتعاقبة كالرومانية

والبيزنطية والوندالية الخ … وبالرغم من أن هذه الحضارات الوافدة كانت تحمل كما كبيرا من العلوم والرقي الذي لا سبيل للمقارنة بينه وبين ثقافة الشعوب المستعبدة إلا أن هذه الحضارات الغازية لم تغز بدافع تنويري أو مشروع حضاري إنساني يستفيد منه السكان الأصليون وإنما بنظرة استعلاء واستصغار لأهالي المنطقة ( البربر) وفق منهجية السادة والعبيد التي انتهجها الغزاة ؟؟ لقد عان البربر وهم سكان شمال أفريقيا القدامى من ويلات أطماع خارجية قادمة من وراء البحر المتوسط ذاقوا فيها ألونا من القهر والعدوان، ولعل الفرقة والشتات والعصبية القبلية التي كانت تطغى على السكان البربر بالإضافة إلى شاعة رقعتهم الجغرافية كان من بين أقوى المحفزات المشجعة على الاختراق الأجنبي ليكون البربر لقمة سائغة يسهل الاستحواذ عليها . إن النهج الذي انتهجته كل من الحضارات الوافدة إلى شمال أفريقيا قبل مجيء الإسلام لا يختلف بعضه عن بعض ، إذ لم يكن فتحهم هذا فتحا حضاريا وإنما غزوا استعماريا استهدف هوية وثقافة وثروة البربر ومكتسباتهم وخصائصهم الذاتية .

لقد اختزنت ذاكرة البربر وسجلات تاريخ شمال افريقيا القديم أحداثا تؤكد مدى الممارسة الاستبدادية للممالك

والحضارات القادمة من الشمال المتوسطي كالرومانية والبيزنطية والوندالية ، فالرومان مثلا لما استعصى عليهم

إخماد ثورة البربر بالقوة حاولوا دمجهم واستمالتهم نحو المسيحية التي تبنتها الامبراطورية كدين رسمي لها، وبالرغم من ذلك لم يتمكن الرومان من ترسيخ مبدئهم الديني وسط القبائل البربرية بالشكل الذي كانوا يأملون تحقيقه ولم تعد المسيحية الرومانية الدين الموحد الذي يساعد الحكام الروم في توسيع نفوذهم وسط البربر، ولعل عزوف القبائل البربرية عن اعتناق المسيحية راجع إلى إدراك البربر لموقف الكنيسة ورجالاتها المنسجم مع قادة الروم وسياساتهم الاستعمارية. لقد أدراك البربر موقف رجال الكنيسة بعدها شاهدوا مساندتهم وموافقتهم وحتى مشاركتهم في تشيد القلاع الرومانية الحصينة فأصبح القساوسة والحكام الغزاة سويان في عيون البربر.

وأما الفترة الوندالية بالمنطقة فقد شهدت بدورها أحداثا دامية استهدفت وجود البربر إذ سالت فيها دماؤهم أمام همجية المحتل ولعل المصطلح “الوندال” أو باللاتنية  vandalisme فيه دلالة اصطلاحية تخزن في معناها همجية كبيرة مشتقة من اسم  الوندال وذلك لكثرة الدماء التي سفكت في عهدهم (١).

لم يختلف نهج كل من الرومان والوندال عن البيزنطيين في اضطهاد البربر نظرا لعقلية مشتركة وهي عقلية مستعمرة، لقد ذاق البربر مرارة البزنطيين أيام القائد البيزنطي ( سيرجيوس ) الذي عنف السكان بقوة لا تجد الرحمة طريقها إليها من شدة البطش القائم على الأسر ونهب للمحاصيل الزراعية وفرض جبايات باهظة أرهقت كاهل الناس وأجبرتهم على قبول ما لا طاقة لهم به . وقد سرد التاريخ مجازر سيرجيوس البيزنطي الذي أمر بقتل ثمانين شخصا من نخبة البربر وأعيانهم وهم يشكون الجور الذي لحق بالأهالي ترهيبا وكبحا للمطالب البربرية العادلة (٢).

في ظل هذه الظروف التي عاشها البربر في شمال افريقيا نما حقدهم وكراهيتهم الحاكم القادم من الشمال حقبة

تلو أخرى ومن جيل إلى آخر. لقد حملت الحضارات والممالك القادمة من الشمال إلى المنطقة المغاربية سيلاً من المظالم عاشها القدامى بصبر وثبات. حضارات لم تحمل رسالة حضارية مسالمة، ويكفي منتقدي الإسلام من المستشرقين تدليلا المقارنة بين دخول الحضارة الإسلامية إلى شمال أفريقيا وردود فعل ساكنيها وبين الحضارة الرومانية في فترتها المسيحية؟ فأين هو الإسلام الذي زعم اعداؤه انتشاره بالسيف؟ أين هذا الزعم الباطل وها هي دلالات التاريخ تشهد بترحيب البربر برسالة الإسلام عن رغبة لا عن رهبة وبقبولهم إياه ومساهمتهم في نشره والتبشير به … لقد اطمئن البربر على صدق رسالة الإسلام ونزاهتها وعدالتها القائمة على التقوى والمساواة والرحمة. فدخل فيه الناس افواجاً بعدما أبصرت أعينهم النور. هذا هو الإسلام الذي يروق لبعض الطاعنين المستشرقين اتهامه بالعنف في حين أن قوة السيف شهدت مداها وحدتها في عهد عزوهم تحت يد الرومان والوندال والبيزنطيين كما أوضحنا سالفا. فعلى المستشرقين أن يفكروا جلياً كيف أمكن للبربر أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى مجاهدين مدافعين عن الدين الحنيف لو كان زعم القوة صحيحاً ؟ لقد استخدمت الحضارات السابقة قبل الإسلام مختلف أصناف بطشها وسطوتها لإرغام سكان شمال أفريقيا البربر والتأثير عليهم ولكن دون جدوى .

فَلَو كانت رسالة الفتح الإسلامي قائمة على البطش كما تتهم لكان رد فعل البربر مثلما كان مع الحضارات

الماضية التي غزت المنطقة ولما رحب سكان الأندلس بقدوم الفاتح البربري المسلم طارق ابن زياد والذي سنتطرق إلى الحديث عنه في المقال القادم بحول الله.

ونختم هذا الموضوع بشهادة أحد المستشرقين المنصفين ( شارل برنتشارد ) الذي طعن في بعض أقلام المؤرخين

واصفا إياهم ” إنهم لم يكونوا أمناء نحو الإسلام، وكتاباتهم كانت إما لصالح الكنيسة أو الحكام “.(٣)

المراجع : ١.د. السيد عبد العزيز سالم : تاريخ المغرب الكبير .

٢. شارل أندريه جوليان : تاريخ أفريقيا الشمالية .

٣. المستشرق الفرنسي جون برنتشارد : المقدمة لدراسة القرآن .

مساهمة الصديق : ذ . أبو اشرف 

( المملكة المغربية )

Share via
تابعونا على الفايس بوك