شرح الكلمات:
طيِّبا-من طاب يطيب. الطيب: الحلال. يقال: مال طيب أي حلال (الأقرب).
الطيب ما تستلذه الحواس والنفس (المفردات). فالآية تعني: كُلوا ما هو حلال شرعا وما هو لذيذ أيضا.
خُطوات-طُرُق وسبل، ومفردها خطوة.. وهي ما بين القدمين من المسافة (الأقرب).
التفسير:
بداية من هذه الآية تناول الله بيان الجانب الثاني من النبأ الإبراهيمي.. (يعلِّمهم الكتاب والحكمة)، أي أن ذلك النبي سوف يوقفهم على أسرار الشريعة. فتناول القرآن الكريم أولا –أكل الحلال والطيب، لأن أعمال الإنسان تابعة للحالة الذهنية، وهذه تتأثر بالغذاء.
وقوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا).. يعني لا تكتفوا بالنظر هل ما تأكلونه حلال أم لا، بل يجب أن تروا أهو طيب أم لا. فإذا كان أكل شيء لا يناسبكم.. سواء لأنه مضر بصحتكم، أو لم تتعودوا على أكله بسبب ظروف بيئتكم، أو أن طبعكم لا يميل إلى أكله.. فلا تأكلوه لمجرد أن الشريعة أحلَّته. لا تنظروا إلى الحل والحرمة فقط، بل يجب أن تختاروا من الطعام ما يوافق طبعكم وأحوالكم وعاداتكم ولا يضركم. مثلا، إذ كان أحد مصابا بالزكام والسعال فإن أكل الأطعمة الحامضة قد يزيد مرضه، وإذا كان يعاني من الإسهال فلا يتناول الخبز واللحم، أو إذا كان مصابا في كبده فلا يأكل طعاما يسبب الإمساك والغازات.. فإن هذه المأكولات وإن كانت حلالا فهي ليست طيبة له مع هذه الأمراض، لأنها سوف تضره. وقد جمع الله هنا الطيب والحلال لبيان أن من واجب المؤمن ألا يأكل الحلال فقط.. بل الطيب أيضا.. فلا يأكل ما يكون فاسدا ضارا بالصحة، أو يسبب ثقلا لمن يأكل معه.. أي يسبب نفورهم أو تقززهم.
قوله تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي لا تسيروا في الاتجاه الذي يسير فيه الشيطان، فهو عدوكم.. يجب الابتعاد عنه.
بعد الأكل والشرب ذكر الشيطان ليشير إلى أن الذي لا يأكل الحلال، ثم لا يختار الطيب من الحلال.. فلا بد أن يتبع الشيطان، لأن ما يأكله الإنسان من غذاء يتقوى به الجسم ويتأثر. والجسم الذي يتهيأ ويتأثر بالحرام الضار لا بد أن يدفع بالإنسان إلى الشر لا إلى الخير.
عارضه أهل مكة معارضة شديدة. لماذا؟ لأنهم قالوا: أنترك الدين الذي كان عليه آباؤنا؟ وكأنهم لم يكونوا ينظرون إلى الحُسن الذاتي في الشيء وإنما كانوا ينظرون إلى الحُسن العُرفي الموروث. ومع أن هذه الأمور كانت جهالة إلا أنهم ضحّوا لأجلها بأموالهم وعزهم وأهليهم لتبقى لهم هذه الأشياء من آبائهم.
شرح الكلمات:
السوء –كل ما يغُمُّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية (المفردات).
الفحشاء-الفحشاء والفاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب، وقيل: كل ما نهى الله عنه؛ والبخل في أداء الزكاة (الأقرب). الفُحش والفحشاء والفاحشة ما عظُم قبحه من الأفعال والأقوال (المفردات).
التفسير: إن اتباع الإنسان خطوات الشيطان يوقعه في مختلف السيئات مثل سوء الظن والكذب والبغض والجهل والكسل والغفلة والجبن والكِبْر والديوثية (عدم الغيرة وفقدان الحياء) والكفران وغيرها، وكل هذه المعاصي يتضرر بها الإنسان نفسه، وقد أشير إليها بكلمة السوء.
وإذا لم يصلح الإنسان نفسه فإن الشيطان يدفعه إلى ارتكاب الفحشاء.. أي المعاصي التي يتضرر بها الآخرون مثل الخيانة والاتهام والظلم والخداع والقتل والسرقة والضرب والسب والشتم ومساندة الباطل والرشوة وغيرها، وكلها جرائم تتعلق بالآخرين وتصيبهم بالأضرار.
وعندما يزداد في المعاصي والسيئات فإن الشيطان يدفعه لمبارزة الله تعالى أو يسلبه الحياء فيرتكب السيئات أمام الناس بلا خجل؛ ويفتح فاه طعنا في أوامر الله؛ أو يفتري على الله.
فكأن الشيطان يدفعه أولا إلى ارتكاب ما يضر به نفسه، إلى أن يقل فيه الحياء، فيدفعه إلى ارتكاب شرور يتضرر بها الآخرون، ثم يزيده سوءا، فيتلفظ بما يُعتبر انتهاكا صارخا لحرمة الله تعالى، وسخرية بتعاليمه ودينه.. وهكذا يدفعه إلى جهنم بالتدريج. إن الشيطان لا يدفع الإنسان إلى ارتكاب الكبائر مرة واحدة، بل تكون وساوسه خطوة خطوة.. فأولا يحضه على ارتكاب خطية صغيرة، ثم يأمره بعدم الحياء، ثم يدفعه للافتراء على الله.. فكأنه يبدأ مع الإنسان بالصغائر وينتهي به إلى الكبائر.
التفسير:
لقد بين هنا أن من نتائج اتباع الشيطان أنه إذا قيل لمن يتبعونه: أطيعوا الله، يصابون في عقولهم لدرجة أنهم يقولون: بل سنتبع ما كان عليه آباؤنا. عندما بُعث النبي عارضه أهل مكة معارضة شديدة. لماذا؟ لأنهم قالوا: أنترك الدين الذي كان عليه آباؤنا؟ وكأنهم لم يكونوا ينظرون إلى الحُسن الذاتي في الشيء وإنما كانوا ينظرون إلى الحُسن العُرفي الموروث. ومع أن هذه الأمور كانت جهالة إلا أنهم ضحّوا لأجلها بأموالهم وعزهم وأهليهم لتبقى لهم هذه الأشياء من آبائهم.
وردّ الله على ذلك: (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون).. هل تتبعونهم وإن كانوا أغبياء جهلاء؟ إن آباءكم هلكوا بسبب جهلهم وغبائهم، فهل تريدون أيضا الهلاك باتباع خطواتهم؟
نفس هذا العائق يحول دون انضمام الناس إلى جماعتنا في أغلب الأحيان. يقولون: هل نترك ما كان الناس يتبعونه لقرون؟ هذا صعب جدا. فهذه الآية تقدم أكبر ما يثيره معارضو الإسلام من اعتراض: لن نتبع إلا ما وجدنا عليه آباءنا.
وليس المراد من (قالوا) أنهم بالضرورة يقولون هذا بلسانهم، وإنما هناك من لا يتلفظون بهذا القول، ولكنهم مستمرون في الرفض للسبب نفسه. فالقول ورد هنا مجازا كما ورد في العربية: امتلأ الحوض وقال قطْني (الأقرب).. أي قال بلسان الحال قد اكتفيت. كذلك هناك من بلسان حالهم يقولون: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.
يقول الله: إذا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.. فهل يستمرون في اتباعهم. يتبع الإنسان غيره لسببين: إما أن يكون عاقلا جدا. أو نال الهدى من الله تعالى. فهل يتبعه رغم انعدام الأمرين فيه؟ إن تعاليم آبائكم ينقصها الأمرين، فلا هي تصمد للعقل، ولا تؤيدها شهادة السماء.
والعجيب أن الناس لا يختلفون مع آبائهم في أمور الدين، ولكنهم في الأمور الدنيوية يختلفون معهم. هناك آلاف الأمثلة لذلك.. حيث لا يتبع الأبناء آباءهم في أمور الدنيا، وإنما ينظرون إلى مصلحتهم ومنفعتهم. كل يوم يركبون القطار ولا يقولون إن آباءنا كانوا يركبون الحمير.. فلماذا نركب القطار؟ كما لا يتبعون الآباء في الأمور العقلية والمنطقية والعلمية.. وإنما يستفيدون بنور العلوم الجديدة ويتبعونها. ولكن فيما يتعلق بالدين فيعتبرون آباءهم عقلاء نوابغ، وهكذا يناقضون أنفسهم بأنفسهم. وعندما تُقدِّم لهم مثل هذه الأدلة الواضحة الجلية لا يلقون لها بالاً ويعرضون عن الحق.
شرح الكلمات:
ينعِق –نَعَق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها. نعق الغراب: صاح. نعق المؤذن: رفع صوته بالآذان (الأقرب).
نداء –النداء: رفع الصوت وظهوره (المفردات).
صمّ– جمع أصَمّ، ومن معانيه الرجل الذي لا يُطمع فيه (الأقرب).
التفسير:
في هذه الآية تمثيل وتشبيه مركب. حُذف فيه المضاف وتقديره (ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق). فالرسول هو الداعي للكفار، ومثله كمثل الراعي يصيح بغنمه لتأتي إليه، ولكنها لا تسمح ولا تفهم من صوته إلا النداء. كأن هؤلاء الكفار يسمعون دعوة محمد صباح مساء، ويتلى عليهم وحي الله في كل حين.. يدعوهم إلى الصلاح والتقوى وخشية الله، ولكنهم يسمعون الكلمات كالحيوانات، ويصل الصوت إلى آذانهم دون أن يدركوا حقيقته، فلا ينفكّون يسيرون سيرتهم الأولى.
وهنا ينشأ سؤال: هل من الضروري أن يتم التطابق الكلّي بين المشبَّه والمشبَّه به؟.. وهو غير موجود هنا. والجواب أنه ليس ضروريا أن يكون في التمثيل المركب تطابق تام بين أجزاء المشبه والمشبه به، وإنما يكفي لصحته أن يكون هناك مشابهة خاصة في أمر بين المشبه والمشبه به. وهذا ما قاله سيبويه (إملاء ما مَنَّ به الرحمن، تحت هذه الآية).
وهناك سؤال آخر: إذا كان مثال الكفار كمثال الغنم، فإن الغنم تسمع نداء الراعي، والكفار يسمعون نداء النبي .. فلماذا سماهم صمًّا؟
الجواب: ليس المراد أنهم صمّ في الظاهر، وإنما هم صمّ من الناحية المعنوية، أي أنهم لا يستطيعون سماع الحق. وكلمة (بُكم عمْي) أيضا توضح هذا المعنى.. فإنهم بُكم أي لا يستطيعون قول الحق، وعُمْي أي لا يستطيعون رؤية الحق، وهم بالمثل صمّ أي لا يستطيعون سماع الحق. فكأنهم يسمعون الصوت ولكنهم لا يدركون حقيقته، ولا يحدِثون بحسب ذلك تغيرا في أنفسهم. يسمعون الكلمات فقط ولا يفهمون الحقيقة، وعدم فهم الحقيقة لا ينفي سماعهم الدعاء والنداء.
وهناك معنى آخر وهو أن (صم) هنا بمعنى من لا يُرجى منهم نفع ولا فائدة. وهذا المعنى موجود وثابت لغة، كما ورد “الأصم”: الرجل الذي لا يُطمع فيه.
والمعنى الثاني للآية أن مثل الكفار كمثل الحيوانات التي يدعوها داع، فتجري إليه بسماع صوته دون أن تدرك المراد من صوته. فهُم يتبعون بعضهم البعض اتباع الغنم دون تدبر في دعوة الداعي: أهي نافعة لهم أم ضارة. ينظرون فقط إلى زعيمهم أو رئيسهم أو قبيلتهم، وبعد ذلك يُغلقون كل باب للتعقل والتدبر مقلدين تقليدا أعمى. وكأن عندهم الآذان، ولكنهم لا يدركون ما إذا كان ما يدعون إليه مكان هلاك ودمار أم مكان أمن وسلام لهم. وعندهم الألسن، ولكنها فقدت الجرأة على قول الحق. ولهم العيون، ولكنهم لا يبصرون بها طريق السلامة والأمن.
المعنى الثالث للآية أن مثل هؤلاء الكفار كمثل الذي يصرخ ويصيح ويدعو الأصنام لنصرته، ويكون صراخه إما بالدعاء أو النداء. والدعاء ما يسمع من الصوت أو لا يسمع، والنداء ما يسمع.
يقول الله إن الأصنام التي يدعونها لنصرتهم لا تسمع دعاءهم ولا نداءهم، وكأن عمل هؤلاء الكفار هو مواصلة الدعاء والنداء.. وإلا فإن ما يدعونه لا يسمع لهم دعاء ولا نداء؛ فلا فائدة هناك من دعائهم. وفي هذه الصورة تعتبر (إلا) زائدة.. وتقدير الجملة: ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع.. أي أن هذه الأصنام لا تسمع مطلقا.. ولكنهم لا ينفكون يدعونها وينادونها.
فإنهم بُكم أي لا يستطيعون قول الحق، وعُمْي أي لا يستطيعون رؤية الحق، وهم بالمثل صمّ أي لا يستطيعون سماع الحق. فكأنهم يسمعون الصوت ولكنهم لا يدركون حقيقته، ولا يحدِثون بحسب ذلك تغيرا في أنفسهم. يسمعون الكلمات فقط ولا يفهمون الحقيقة، وعدم فهم الحقيقة لا ينفي سماعهم الدعاء والنداء.
وبالنظر إلى هذا المعنى ينشأ سؤال: إذا كانوا يصرخون فكيف قيل إنهم بُكْم؟ والجواب أنهم بكْم بمعنى أنهم لا يعترفون بالحقيقة. والدليل على ذلك كلمتا (صم وعمي) فكما يعني الصم من يغلقون آذانهم عن سماع الحق والعمي من لا يبصرون الحق، كذلك البكم يعني أنهم من الناحية الروحانية بكم، ولا يستطيعون قول الحق علنا. لو كانت كلمة “بكْم” وحدها لصح الاعتراض، ولكن كلمتي “صم وعمي” توضحان المعنى الصحيح.
الترتيب والربط:
وعلاقة هذه الآية بالتي قبلها هي أن الأولى تقول (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا).. فكأن دعوة محمد إياهم كدعوة أحد الحيوانات. إنهم يسمعون الصوت ولا يرون ضرورة تلبية هذا النداء، وإنما يتبعون آباءهم باستمرار. وهذا بناء على المعنى الأول للآية.
وبناء على المعنى الثاني للآية تكون علاقتها بالتي قبلها أن الله قال في الأولى (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون).. أي أنكم تتباهون باتباع آبائكم، ولكنهم ما زالوا يصيحون ويصرخون أمام الأصنام ولم تُجْدهم شيئا. فإصراركم (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) كمثل الذي ينادي الأصنام ولكن لا يجديه نداؤه نفعا ولا يتلقى جوابا.. فنداؤكم وصراخكم أمام أصنامكم اتباعا للآباء لن ينفعكم أبدا.