مع هموم مالك الحزين

مع هموم مالك الحزين

محمد نعيم الجابي

يكتبها: د. محمد نعيم الجابي[1]

في مجلس العزاء

كانت ملامح (مالك الحزين) تنمُّ عن الحزن العميق وكنت أعلم أن قريبه قد توفي فبادرته بكلمات التعازي ولكن (مالك الحزين) تنهَّد وقال: لو كان الأمر يتعلّق بقريبي فالأمر يهون ولكن الأمر يتعلّق بموتٍ آخر!!..

وكعادتي تركت مالكًا يسترسل في الحديث لأنني أعلم أن الحديث سيخفف عنه.. قال لي: ذهبت إلى العزاء وقلبي يعتصره الألم لأنني أكنّ للمتوفى محبّةً وودًا وفوجئت عند دخولي مجلس العزاء بخلّوه من القادمين ويبدو أنني كنت أول الحاضرين… جلست أنتظر وبعد قليل دخل ثلاثة من الرجال يحمل أحدهم مكبرًا للصوت ما لبث أن ثبته في وسط الغرفة وأخذ يمدُّ الأسلاك الكهربائيّة مما جعلني متأكدًا من أنه كهربائي بارع ولكنه فاجأني عندما خلع سترته وارتدى عباءةً وأخرج مسبحةً طويلة وجلس في صدر الغرفة وهنا أدركت أنه الرجل الذي سيرتل الآيات القرآنيّة؟؟..

أحد الرجال الثلاثة اقترب مني وهو يلاحظ دهشتي وهمس في أذني: هذا هو أبو البشر.. سيعجبك صوته كثيرًا وهو أفضل من يقوم (بالخَتمَة) وعندما تساءلت ماذا تعني بالخَتمَة!! ضحك ومدّ لي “بكرت فيزيت” ملون وقال: اجلس إلى نهاية مجلس العزاء وستعرف.. نظرت في الحال إلى “كرت الفيزيت” فوجدت رسمًا لمصبِّ قهوة وسجادة صلاة وقد كتب بالخط الكوفي عبارات إعلانيّة مثل: متوفر لدينا قهوة مُرَّة، كراسي، مشايخ… اتصلوا على الرقم…..

بدأ المعزُّون بالقدوم وكان أحدهم يدخل فيجلس ويستمع لقليلٍ من القرآن ويشرب فنجانًا من القهوة المرّة ومن ثم يقف وفي الحال يهبُّ أقارب المتوفّى بالوقوف وينطق بعبارة (عظَّمَ الله أجرَكم) ليردَّ عليه أقارب المتوفّى بعبارة (شكرَ الله سعيكم).. كان صوت أبو البشر يعلو من وراءه تتردَّد آهات الجالسين التي ذكَّرتني بالحفلات الغنائيّة، كانت القراءة تمتدُّ لترتيل عدة سور ومن ثم يُنهي القارئ القراءة ويطلب من الحاضرين قراءة الفاتحة وهو يهديها إلى روح الميت!! وهنا التفتَ إليَّ (مالك) وهو يقول: ترى هل تخاطب سورة الفاتحة الأحياء أم الأموات؟ قلت له: نحن ندعو فيها.. اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم.. ولا أظنُّ الأموات بحاجة إلى هداية!!..

وأكمل (مالك) قصته بعد أن شرب كوبًا من الماء.. وقال: أما صاحِبَي أبي البشر فكانا يزرعان المكان حركةً وهما يجلبان القهوة المرّة ويوزعان معها “كروت الفيزيت” الملونة!!

كان المشهد يسرق مني مشاعر الأسى ليزرع مشاعر النفور وأنا أرى مجلس عزاء صديقٍ حميم يتحوّل إلى طقوسٍ روتينيّة تقوم على رجالٍ امتهنوا مهنة رثاء الميت.. وما جعلني أُحجم عن الذهاب فضولي بأن أعرف ما هي الخَتمَة التي لم نقرأ عنها في القرآن الكريم الذي يستمعون له بطرب مُفرط..

عند انتهاء القارئ من القراءة اجتمع جميع الموجودين من أقرباء وأصحاب الميت وبدأ المقرئ بترديد عبارة: لا إله إلا الله بنغماتٍ متفاوتة الطول والنغم ومن وراءه كان الجميع يردِّد ما يقول.. استمر الأمر لمدة ربع ساعة ثم رفع المقرئ يديه بالدعاء بعباراتٍ منمَّقة مكررة وانتهت (الخَتمَة) بقراءة الفاتحة من جديد على روح الميت..

وهكذا خرجت من مجلس العزاء وجئتُ إليك كي تُعزِّيني بأمةٍ فارقت الروحُ منها الجسدَ..

[1] كاتب من القطر العربي السوري

Share via
تابعونا على الفايس بوك