معجزة ولادة عيسى ويحيى وسببها

ومن عقائدنا أن عيسى ويحيى قد وُلدا على طريق خَرْقِ العادة، ولا استبعادَ في هذه الولادة. وقد جمع الله تلك القصتين في سورة واحدة، ليكون القصةُ الأولى على القصة الأخرى كالشاهدة. وابتدأ مِن يحيى وختَم على ابن مريم، لينقُل أَمْرَ خرق العادة من أصغر إلى أعظم.

وأما سرّ هذا الخَلق في يحيى وعيسى فهو أن الله أراد من خلقهما آية عظمى. فإن اليهود كانوا قد تركوا طريق الاقتصاد والسداد، ودخل الخبث أعمالَهم وأقوالهم وأخلاقهم وفسدت قلوبهم كل الفساد، وآذَوا النبيين وقتلوا الأبرياء بغير حق بالعناد، وزادوا فسقا وظلما وما بالَوا بَطْشَ ربّ العباد. فرأى الله أن قلوبهم اسودّت، وأن طبايعهم قسَتْ، وأن الغاسق قد وقَب، ووَجْهَ الـمهجّة قد انتقَب. وفسدت التصوّرات كأنها ليل دامس، أو طريق طامس. وجاوزوا الحدود، ونسوا المعبود، وتسوّروا الجدران، ونسوا الديّان. وكانوا ما بقي فيهم نور يُؤمنهم العِثار، ويُري الحق ويُصلِح الأطوار، وصاروا كمجذوم انجذمت أعضاؤه، وكُرِهَ رُواؤُه. فإذا آلتْ حالتهم إلى هذه الآثار، لعنهم الله وغضب على تلك الأشرار، وأراد أن يسلب من جرثومتهم نعمةَ النبوة، ويضرب عليهم الذلة، وينـزع منهم علامة العزة. فإن النبوة لو كانت باقية في جرثومتهم، لكانت كافية لعزّتهم، ولَمَا أمكنَ معه أن يشار إلى ذلّتهم. ولو ختم الله سلسلة النبوة العامة على عيسى، لما نقص من فخر اليهود شيء كما لا يخفى، ولو قدّر الله رجوع عيسى الذي هو من اليهود، لرجع العزّة إلى تلك القوم ولنسخ أمر الذلة، ولبطل حكم الله المعبود. فأراد الله أن يقطع دابرهم، ويجيح بنيانهم، ويُحكِم ذلّتهم وخذلانهم. فأولُ ما فعل لهذه الإرادة هو خلق عيسى من غير أب بالقدرة المجردة. فكان عيسى إرهاصًا لنبينا وعَلَمًا لنقل النبوة، بما لم يكن من جهة الأب من السلسلة الإسرائيلية. وأما يحيى فكان دليلا مخفيا على الانتقال، فإن يحيى ما تولّد من القوى الإسرائيلية البشرية، بل من قدرة الله الفعّال. فما بقي لليهود بعدهما للفخر مَطرَحٌ، ولا للتكبر مَسرَحٌ. وكان كذلك ليقطع الله الحِجاجَ، وينقّص التصلفَ ويسكّن العَجاجَ.

ثم بعد ذلك نقل النبوة من ولد إسرائيل إلى إسماعيل، وأنعم الله على نبينا محمد وصرَف عن اليهود الوحيَ وجبرائيلَ. فهو خاتم الأنبياء لا يبعث بعده نبي من اليهود، ولا يردّ العزّة المسلوبة إليهم، وهذا وعد من الله الودود. وكذلك كُتب في التوراة والإنجيل والقرآن، فكيف يرجع عيسى، فقد حبَسه جميعُ كتب الله الديّان؟ وإن كان راجعا قبل يوم القيامة.. فلا بد من أن نقبل أنه يكذِب إذ يُسأل عن الأمّة في الحضرة، ففكِّرْ في قوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلتَ للناس… (1) ثم فَكِّرْ في جوابه، أصَدَقَ أم كذَب بناء على زعم قوم يرجعونه مِن وسواسِ الخنّاس؟ فإنه إن كان حقا أن يرجع عيسى قبل يوم الحشر والقيام، ويكسِر الصليب ويُدخل النصارى في الإسلام، فكيف يقول إني ما أعلم ما صنعتْ أمّتي بعد رفعي إلى السماء؟ وكيف يصح منه هذا القول مع أنه اطّلـع على شِرك النصارى بعد رجوعه إلى الغبراء، واطلع على اتخاذهم إياه وأمَّه إلـهَينِ من الأهواء؟ فما هذا الإنكار عند سؤال حضرة الكبرياء إلا كذبا فاحشا وترك الحياء. والعجب أنه كيف لا يستحي من الكذب العظيم، ويكذِب بين يدي الخبير العليم! مع أنه قد رجع إلى الدنيا وقتَل النصارى وكسر الصليب وقتل الخنـزير بالحُسام الحسيم. وما كان مكَث ساعة كغريب يمرّ من أرضٍ بأرضٍ غيرَ مقيم، ولا يفتش بالعزم الصميم، بل لبث فيهم إلى أربعين سنة، وقتَلهم وأسَرهم وأدخلهم جبرا في الصراط المستقيم. ثم يقول: لا أعلم ما صنعوا بعدي.

فالعجب كل العجب من هذا المسيح وكذبِه الصريح! أنؤمن بأنه لا يخاف يوم الحساب ولا سوط العقاب، ويكذب كذبا فاحشا يعافه زَمَعُ الناس، ويرضى بزور يأنَف منه الأراذلُ الملوّثون بالأدناس؟ أيجوّز العقل في شأن نبي أنه رجع إلى الدنيا بعد الصعود إلى السماء، ورأى قومه النصارى وشِركهم وتثليثهم بعينيه من غير الخفاء، ثم أنكر أمام ربه هذه القصة، وقال: ما رجعت إلى الدنيا الدنيّة، ولا أعلم ما بالُ قومي مُذْ رُفعتُ إلى السماء الثانية؟ فانظروا أي كذب أكبر من هذا الكذب الذي يرتكبه المسيح أمام عين الله في يوم الحساب والمسألة، ولا يخاف حضرةَ ربِّ العزة؟

فالحاصل أنه لما منَع القرآن نـزولَ المسيح من السماء في الآية التي هي قطعية الدلالة، تَعيَّنَ إذًا من غير شك أن المسيح الموعود ليس من اليهود بل من هذه الأمة. وكيف وإن اليهود ضربت عليهم الذلة؟ فهم لا يستحقون العزة بعد العقوبة الأبدية. فاعلموا أن خيال رجوع عيسى يشابه زبدًا، وأن محبوس القرآن لا يرجع أبدا.

ثم إذا فُرض رجوعه فيستلزم هذا كَذِبَ سيّدِنا خيرِ البريّة، فإنه قال إن المسيح الآتي يأتي من الأمّة. وليس من الأمّة إلا الذي وجد كماله من فيوض المصطفى، ولا يوجد هذا الشرط في عيسى، فإنه وجد مرتبة النبوة قبل ظهور سيدنا خاتم الأنبياء، فكماله ليس بمستفاد من نبينا ، وهذا أمر ليس فيه شيء من الخفاء. فجعلُه فردا من الأمة جهلٌ بحقيقة لفظ “الأُمّة”، وخلاف لكتاب حضرة الكبرياء. فلا شك أن إدخاله في الأمة كذب صريح وترك الحياء. ففكِّرْ في ذلك إن كنت من أهل الاتقاء.

والحاصل أن الله سلب من اليهود بعد عيسى نعمة النبوة، فلا ترجع إليهم أبدا في زمان خير البرية. وكون عيسى من غير أبٍ وبلا ولدٍ دليلٌ على ما مر بالدلالة القاطعة، وإشارةٌ إلى قطع تلك السلسلة الإسرائيلية. فلا يجيء نبي من اليهود لا قديم ولا حديث في دَور النبوة المحمدية، وعدٌ من الله ذي العزة. وكما نـزَع النبوةَ منهم كذلك نزع منهم ملكهم وغادرهم الله كالجيفة. وكان تولُّدُ يحيى من دون مسّ القوى البشرية، وكذلك تولُّدُ عيسى من دون الأب وموتُهما بدون ترك الورثة علامةً لهذه الواقعة. وأما المسيح المحمدي فله أب ووُلْد من العنايات الإلهية، كما كُتب أنه “يتزوج ويولد له” من الرحمة، فكانت هذه إشارة إلى دوام السلسلة المحمدية وعدم انقطاعها إلى يوم القيامة.

وعجبتُ كل العجب من الذين لا يفكرون في هذه الآيات، التي هي لنبوة نبينا كالعلامات، ويقولون إن عيسى تولَّد من نطفة يوسف أبيه، ولا يفهمون الحقيقة من الجهلات. ومن المعلوم أن مريم وُجدتْ حاملا قبل النكاح، وما كان لها أن تتزوج لعهدٍ سبق من أمها بعد الإجحاح. فالأمر محصور في الاحتمالين عند ذوي العينين: إما أن يقال إن عيسى خُلق من كلمة الله العلام، أو يقال – ونعوذ بالله منه – إنه من الحرام. ولا نجد سبيلا إلى حمل مريم من النكاح، فإن أُمّها كانت عاهدتِ الله أنها يتركها² محرَّرةً سادنة، وكانتì عهدها هذا في أيام اللِّقاح. وهذا أمر نكتبه من شهادة القرآن والإنجيل، فلا تتركوا سبيل الحق والفلاح. هذا لمن استوضحتْه فطرتُه، ولا تقبَل خارقَ العادة عادتُه. وأما نحن فنؤمن بكمال قدرة الله الأعلى، ونؤمن بأنه إن يشأ يخلق من ورق الأشجار كمثل عيسى. وكم من دود في الأرض ليس لها أبوانِ، فأي عجب يأخذكم من خلق عيسى يا فتيان؟ وإن لله عجائبَ نفَضتْ عندها أكياس الكياسة، وغرائبَ ظلَع بها فرسُ الفراسة، بل في كل خَلْقه يظهَر إجبالُ القرائح ويظهَر إكداءُ الماتح والمائح. والذين ينكرونها فما قدروا الله حق القدر، وقعدوا في الظلمات مع وجود نور البدر، وبعُدوا من الضياء، فهفا بهم إلى الظلام البَينُ المطرِّحُ والبُعدُ المبرِّحُ. والعجب منهم أنهم مع كونهم ضالّين تمشَّوا أمام الناس كالخِرّيت، وما فرَقوا واقتحموا المَوامي المهلِكة كالـمَصاليت، فهلكوا في الفلوات كالحائر الوحيد، واستسلموا للحَين وما انتهوا من القول المبيد. فلم يأمنوا عثارا، بل زلّوا في كل قدم ورأوا تبارا. وشجّعوا قلوبهم طمعًا في صيد العوام، وزعَرهم ظلمةُ الجهل فما ارتعوا وما امتنعوا من الاقتحام.

(مواهب الرحمن)

(1)  المائدة:117

² هكذا ورد في الأصل سهوا، والصحيح:تتركها“، كما ورد في طبعة “الخزائن”. (الناشر)

ì هكذا ورد في الأصل سهوا، والصحيح: كان. (الناشر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك