مزايا قرآنية خالدة
ألا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون   (يونس 56)

التفـسير:

أي أَنَّ كل شيء في السماوات والأرض مِلك لله تعالى، فالسعي لإرضائه  بالفدية أو لإغراء عباده الصالحين بالمال لينثنوا عن هدفهم أمْرٌ عبث لا جدوى منه، لأنهم سوف يحققون هدفهم لا محالة. لقد حاول أهل مكة بشتى  الطرق إغراء النبي ليكفّ عن محاربة الشرك، فما كان جوابه لقومه  إلا أن قال: “والله، لو وضـعوا الشمـس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه، ما تركتُه”. (السيرة لابن هشام).

كذلك لَمَّا بَادَأَ الفُرسُ المسلمين القتالَ ودخلت جنود المسلمين في الأراضي الإيرانية ردًّا على عدوانهم سعوا للتصالح مع المسلمين نظير أموال عرضوها عليهم، ولكن المسلمين رفضوا عرضهم هذا ليحقق الله على أيديهم ما وعدهم بِهِ (تاريخ الطبري،  أحداث السنة الرابعة عشرة للهجرة).

والواقع أَنَّ ملوك الدنيا يحتاجون إلى الأموال ولذلك يفرحون بما يُعرَض عليهم من فدية وخَراج، ولكن الله هو الذي خلق الأموال، فلا وزن ولا قيمة للفدية عنده، اللهم إلا أن يقـدّم إليـه المرءُ نفسَـه ضحيةً. والله تعالى يتقـبل ضحـية النفـس لأنهـا وسيـلة لتطـهير النفوس البشرية.

فاعملوا أن سرّ نجاحه لا يكمن في كثرة العُدة والعتاد والأصحاب، وإنما نجاحه منوطٌ كليةً بكتابه العظيم المتّسم بمحاسن ومزايا لا يمكن أن يقف في وجهها مقاوم ولا معارض  لمدة طويلة، بل لا مناص له من الرجوع إليها وقبولها في نهاية الأمر.

هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يونس:57)

التفسـير:

أي أنهم يستغربون  أن يُقام أحد منهم نبيًا وينجح أيضًا. ألا يفكّرون في التطورات الحاصلة أمامهم كل يوم، حيث يرتقي البعض وينحط البعض الآخر؟ فكيف يستغربون إذًا  أن ينتصر مَن بعثه الله الذي إليه يُرجَع هؤلاء، بل كل شيء في الكون سوف يرجع إليه ليقضي بينهم بقضائه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُـدًى وَرَحْمـَةٌ لِلْمُـؤْمِنِينَ   (يونس: 58)

شرح الكلمات:

موعظة: وَعَظَه: نَصَحَه وذكّره بِمَا يليّن قلبَه من الثواب والعقاب. وقال الخليل: الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب. الموعظة: كلامُ الواعظ من النصح والحثّ و الإنذار  (الأقرب).

التفسـير:

لقد نصحهم من قبل بأسلوب لطيف للغاية أن لا خير في تمني العذاب، فلا تطالبوا به. ثم بيّن لهم بشتى الطرق ما في العذاب من حِكم وأهداف، والآن يقول لهم: تعالوا أخبركم كيف يكون النجاح حليفًا لمحمد رسول الله . فاعملوا أن سرّ نجاحه لا يكمن في كثرة العُدة والعتاد والأصحاب، وإنما نجاحه منوطٌ كليةً بكتابه العظيم المتّسم بمحاسن ومزايا لا يمكن أن يقف في وجهها مقاوم ولا معارض  لمدة طويلة، بل لا مناص له من الرجوع إليها وقبولها في نهاية الأمر.

والمزايا التي يتحلى بها كتابه هي كما يلي:

الميزة الأولى

أنـه موعظـة، وذلـك يـعني:

أولاً: أَنّه يحتوي على نصـائح مخلصة نافعة. وما يقال عـن نصحٍ وإخلاصٍ لا بدّ أن يقع في القلوب، فعندما ستُدركون أن محمدًا لا يريد بنصائحه مكسبًا شخصيًّا، ولا يطمع بها في مال ولا جاه ولا حكم، وإنما يريد بها مصلحتكم وخيركم، فسوف تنجذبون إليها تلقائيًا.

وثانيًا: أنّ فيه مطالبَ ومفاهيمَ ترقّ لها القلوب وتلين، إذ يركّز على حب الله وخشيته بحيث لا يستطيع حتى أقسى الناس قلبًا أن يقاومه.

وثالثًا: أَنه يعلّم من أسرار الفلاح والرقي ما يأخذ بمجامع القلوب ويحيّر النفوس بدلاً من أن يولّد فيها نفورًا وكراهية تجاهه.

الميزة الثانية

أَن فيه شفاء لما يتولّد في قلب المرء من وساوس وشبهات في أمور الدين. الواقع أن الإنسان مهما بلغ من التردّي والانحطاط  فإنه تنتابه من حين لآخر رغبة ملحّة في معرفة الحق وتصبو نفسه لإدراك الحقيقة. إنه يريد أن يكتسب طمأنينة فيما يتعلق بذات الله تعالى، والوحيِ والدعاءِ وعالم المعاد وغيرها من الأمور الروحانية. ولكن الأديان الباطلة أو المشوَّهة منها ليست بقادرة على أن تمنحه طمأنينته المنشودة، بل تزيده شكوكًا وشبهاتٍ في هذه القضايا الهامة لديه. فيقول يا ليت لي طريقًا لدفع هذه الوساوس. يقول الله تعالى هنا: هؤلاء سيجدون ضالتهم في القرآن الكريم. سوف يجدون كيف أنه يطهّر نفوسهم من كل ما يختلج فيها من وساوس وشبهات، وكيف تنجذب إليه قلوبهم بحيث لن يستطيعوا ردّه عنها.

الميزة الثالثة

إن الإنسان عندما يطّلع على سيرة أهل الله تعالى، ويعرف كيف أنهم أحرزوا مكانة سامية في التقرب الإلهي واليقين، وكيف أنه تعالى كشف لهم عن معارف دينية دقيقة، فإنه يتمنى بكل قوة لو يتحول إيمانه النظري إلى إيمان عملي مبني على الخبرة والعيان، فيرى بعينه ما رآه أهل الله من ألطاف إلهية من قبل. هذه الرغبة لا تزال تولّد اضطرابًا وهيجانًا في قلوب كثير من الناس، والله يُطمئنهم بأنهم سيجدون في هذا الكتاب ضالتهم المنشودة، إذ يمنحهم الطمأنينة القلبية والهداية الحقيقية التي توصلهم بربهم، وعندما يدرك الناس أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يوصل الإنسان بربه، وليس هناك أيّة وسيلة أخرى، فسوف يندفعون إليه تلقائيًا.

الميزة الرابعة

ومِنَ الناسِ مَن تكون عقولهم سطحية فلا يستوعبون بها دقائق العلم والوجدان، وإنما هي الترقيات المادية التي تجذب أنظارهم، ولكي يهتدي مثل  هؤلاء البسطاء إلى الحق وَعَدَهم الله في هذا الكتاب بأنواع النِعم والبركات، فمن آمن به نال من الله نعمًا وأفضالاً وحقّق بعونه تعالى رقيًا ماديًا. فهؤلاء العامة الذين لا يقدرون على إدراك حقائق الأشياء وإنما ينظرون إلى تأثيرها ونتائجها حينما سيرون أنواع الرقي المادي المنوط بتصديق هذا الكتاب فإنهم سوف يؤمنون به رغبةً في هذه النعم المادية .

إذا تدبرنا هذه المزايا الأربع للقرآن الكريم أدركنا أنه لم يزدهر الإسلام بل ولا أي دين آخر، إلا بفضل هذه المزايا والكمالات. فالذين كانوا أرق طبعًا وأرهف حسًا قبلوا الإسلام وانتفعوا بتعاليمه وبما فيها من نصح صادق ومخلص. وأما الذين لم يملكوا طبائع حساسة بهذه الدرجة اطمأنوا بما في الكتاب الكريم من أدلة عقلية، وأما من كانوا أدنى منهم حسًا وشعورًا فاتعظوا برؤية ما أحدث القرآن الكريم من تطور مدهش وعظيم في أخلاق المسلمين، وما تشرفوا به من الوصال بالله ، وأما الذين كانوا أغلظ الناس طباعًا أيقنوا بصدق الإسلام عن طريق ما حققه المسلمون من رقي مادي بفضل تعاليم القرآن، فدخلوا فيه أفواجًا.

لقد أثار البعض اعتراضًا على قوله تعالى (شفاء لما في الصدور) وقالوا: إنما تتولد الأفكار في الدماغ، فما المراد من قوله بأنه شفاء لما في الصدور أو القلوب؟

والجواب: إن الأمور الروحانية ذات صلة وثيقة بالقلب، وقد شهد على ذلك جميع أهل الله بتجاربهم الشخصية. وكما أننا لا نقدر على أن نعلم بالمقاييس المادية   ماهية الروح، وما بينها وبين الجسد من علاقة، كذلك من المستحيل أن نعرف ماهية علاقة الروح بالقلب باستخدام القوانين المادية. فلا مناص لنا من أن نصدّق ونوقن بشهادة هؤلاء الذين مرّوا بأَنفسـهم بتجارب روحـانية والذين هم مجمعـون على أن للقـلب صلةً يقينية بالأمور الروحانية.

أما كون الأفكار تتولد في الدماغ فلا يتعارض مع كون القلب ذا صلة قوية بالروحانيات، إذ من الممكن تماماً أن يكون لبعض التغيرات الواقعة بالدم تأثير خاص على كون الأفكار صالحةً أو فاسدة. وبما أن الدم ذو صلة بالقلب فقد يكون القلب مؤثرًا بهذا الشكل على الأفكار تأثيرًا خفيًا. ثم إنه من البديهي أن الغذاء له تأثير قوي على أفكار الإنسان، وهذا التأثير الغذائي على النفس لا يحصل إلا عن طريق الدم الذي له صلة واضحة بالقلب، وهكذا نستطيع القول بأن القلب أيضاً منبع للأفكار. ولقد ذكر القرآن هذا المعنى في مكان آخر مبيناً أن الغذاء الطيب له صلة عميقة بالأعمال الصالحة حيث قال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا (المؤمنون: 52)

وهذا التأثير الغذائي على النفس لا يحصل إلا عن طريق الدم الذي له صلة واضحة بالقلب، وهكذا نستطيع القول بأن القلب أيضًا منبع للأفكار. ولقد ذكر القرآن هذا المعنى في مكان آخر مبينًا أن الغذاء الطيب له صلة عميقة بالأعمال الصالحة حيث قال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا (المؤمنون: 52)

قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 59)

التفسـير:

أي أن هذه النِعَم إنما تُنال بفضل الله وتوفيقه، ولا أحد يستطيع تحصيلها بقوته وجهوده. فمن كان يؤمن بالله لا ينبغي له أن يزهوَ بثرائه أو يفاخر بعشيرته، إذ لا وزن لهذه الأشياء ولا قيمة لها إزاء ما يهبه الله تعالى من فضله ورحمته، وإنما على الإنسان أن يفرح ويفخر على الأشياء التي أكّد الله على صحتها ومنفعتها.

وضمير الغائب في قوله تعالى (هو خير) قد يرجع إلى الفضل الإلهي أو إلى عملية الحصول على الفضل، وقد يرجع إلى القرآن الكريم الذي قد سبق الكلام عنه آنفًا، والمراد: أنكم تسألون وأنتم المغرورون بأموالكم وعشائركم: كيف ستتحقق الغلبة لمحمد وهو دونكم مالاً وأضعفكم جاهاً؟ ألا فاعلموا أن السلاح الذي أعطيناه محمدًا هو سلاح القرآن وإنه يفوق كل ما لديكم من أسلحة وثروات وعشائر، ولن يصمد سلاحكم ولا ثراؤكم ولا جاهُكم في وجه هذا السلاح الجبار، بل إن الفوز والغلبة سيكونان حليفَيْ محمد وحده.

ما أعظَمَ وما أروَعَ الحقيقةَ التي يذكـرها القرآن الكـريم هنـا، حيـث يقول: إن الحقائق الروحانية هي التي تعلو على الماديات. لا شك أن الحق يبدو في أول الأمر أضعف شيء في الوجود، ولكنه ينتصر على كل شيء في آخر المطاف. لو أدرك الناس هذه الحكمة لما آثروا الأشياء المادية على الحقائق الروحانية قط.

إن الحقائق الروحانية هي التي تعلو على الماديات. لا شك أن الحق يبدو في أول الأمر أضعف شيء في الوجود، ولكنه ينتصر على كل شيء في آخر المطاف. لو أدرك الناس هذه الحكمة لما آثروا الأشياء المادية على الحقائق الروحانية قط.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آَلله أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ (يونس: 60)

التفسـير:

لقد أعلن من قبل أن محمدًا قد أوتي كتابًا يطهر القلوب من الشكوك، والآن بدأ يبرهن عن ذلك بذكر عادة كانت رائجة بين الكفار، وما كان بيدهم أي دليل على صحتها إلا أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، بينما عقولهم ما كانت تطمئن بها، وهي عادة تحريم الأشياء أو تحليلها دونما دليل.

الواقع أن الطعام هو من أهم الضروريات الأساسية للناس، وأن إرشادهم في شأنه هو من الواجبات الأولية في كل دين، ولكن لم يكن لدى الكفار بل لدى العالم كله أي تعليم سليم كامل في هذا الصدد، لأنهم كانوا يحلّلون ما شاءوا، ويحرّمون ماشاءوا دونما قانون ولا ضابط. وما كان العقل ليرضى بهذه الفوضى. إذ يجب أن يحرَّم الشيءُ بناءً على برهان طبّي أو خُلقي أو روحاني، لأن تحريم الشيء إنما يكون لوجود عيب فيه من هذه النواحي، ولكنّ تحريم الأشياء تحريمًا اعتباطيًا يعني وكأن الله قد خلقها عبثًا دون أي هدف. ومثل هذه العادة الفوضوية لا بدَّ من أن تبث الشكوك في قلوب الناس. ولا يستطيع أي دين القضاءَ على هذه الشبهات إلا الذي يبين للتحليل والتحريم قواعد محدّدة حكيمة يقبلها العقل السليم مقتنعًا، وإن الإسلام وحده يمتاز عن سائر الأديان بهذه الميزة، إذ وضع لذلك قواعد معينة وحكيمة، فلا يسمح بتحريم الأشياء أو تحليلها بصورة عشوائية.

كما وجّه بذلك سؤالا إلى الكفار  يقول: ما هو السبب وراء عداوتكم للإسلام؟ هل هناك عادات أو تقاليد ينهاكم عنها وهي نافعة ومفيدة في الواقع؟ هل تغضبون مثلاً حين ينهاكم الإسلام عن تحريم الأشياء أو تحليلها دونما سبب؟ لقد كانت عادتكم هذه من التفاهة والسخافة بحيث كان لا بد لكم أن تتركوها غدًا أو بعد غد، سواء نزل النهي عنها في القرآن أم لا. وإذن فيجب أن تفرحوا بنـزول هدي السماء بدلاً من أن تسخطوا عليه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك