تطور المسيحية من عالم الحقائق إلى عالم الخيال

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبَها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريبًا. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية لـه حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح، الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيِّم: «المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال» لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة «التقوى» نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتًا وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين وأراضيهم من قِبل «الدجال».. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين.

وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. «التقوى»

الفصل السابع

تطوّر المسيحية

إن عقيدة الثالوث التي هي إحدى العناصر الأساسية في الديانة المسيحية، لم تكن موجودة زمن حياة المسيح عيسى. وإن أقصى ما يمكن أن يفترضه الإنسان هو أن هذه العقيدة بدأت تتشكّل بعد حادثة الصلب. وقد مضت قرون عدة إلى أن أخذت صورتها النهائية والمحددة ولكن غير القابلة للشرح والتفسير. ولقد مرَّت في عملية طويلة من المجادلات الخلافية المريرة بين رجال الدين والفلاسفة المسيحيين الذين يمثّلون خلفيات دينية وثقافية وتقليدية مختلفة.

ولقد تأثرّت هذه العقيدة عمومًا، بشكل كبير، بأساطير وتقاليد البلاد المختلفة التي استضافت المسيحية في عهودها الأولى. إن الفرع الرئيسي للمسيحية الذي اعتنى وغذّى تطور العقائد والفلسفات المسيحية زمن تكوينها الأول، كان من أصل يهودي.

ظَلّ الأثر اليهودي سائدًا خلال الفترة المبكّرة من التاريخ المسيحي. إن تلاميذ المسيح الذين تعلموا وفهموا المسيحية من عيسى مباشرة وشاهدوها في أسوة حياته، كانوا ينتمون إلى هذا الأصل. لقد كانوا القيِّمين الأوائل للمسيحية بجذورهم المتأصلة في تُربة تعاليم المسيح المقدسة وطريقة حياته. كانوا هم الذين شاهدوا عملية الصلب، وشاهدوا عيسى ينجو من محاولة اغتياله المدبّرة.

الأتباع الأوائل لعيسى

يبدو أن المسيحيين الأوائل قد اختلفوا وانقسموا فيما بينهم بشكل جوهري وأساسي حول أمرين هما:

– طبيعة عيسى

– وفيما إذا كان يجب الالتزام بالشريعة الموسوية أم لا.

في المرحلة الثانية من تطور المسيحية، أصبح القديس بولس أهم شخصية مركزية أعطت المسيحية إيديولوجيةً جديدة.

كانت هناك اختلافات جوهرية في وجهات النظر بين بولس وجيمس التّقي. ففي حين اهتمّ جيمس بكنيسة بيت المقدس كان بولس يَعِظُ في الغرب الوثنيين من غير اليهود خاصّة.

تطورت الكنيسة المسيحية الغربية وفقا لخطة رسمته نظرية بولس، في حين أن الكنيسة في القدس تطورت على نهج التعاليم التوحيدية.

وكان (الإيبونيون) Ebionites أحد فروع النشاط الديني الخاص بـ”جيمس” وهم طائفة اشتُقّ اسمها من الكلمة العبرية (إيبونيم) Ebionim  وتعني “المسكين” أو “الفقير”. لقد كان هؤلاء هم المسيحيون اليهود، الذين اعتقدوا بالمسيح أنه “المسيح المنتظر” فقط وليس (ابن الله). ولقد تبِعوا الشريعة الموسوية بحماسٍ عظيمٍ، وكان لهم إنجيلهم الخاص بهم والمعروف بأسماء مختلفة مثل: إنجيل العبرانيين، إنجيل الإيبونيين أو إنجيل الناصريين. وفيما يلي وصف للإيبونيين مأخوذ من مصادر مختلفة:

في كتابه “تاريخ الكنيسة” المكتوب في القرن الرابع الميلادي في القيصرية، نجد أن “يوسيبوس” يذكر الإيبونيين في الكتاب الثالث: “فيسباسيان إلى تراجان” (Vespasian to Trajan)، ويسخر من وجهات نظرهم قائلاً: إن اسمهم يأتي من فكرتهم السيئة والحقيرة عن عيسى.

اعتَبر الإيبونيون عيسى بشرًا فانيًا، واحترموه باعتباره رجلاً تقيًّا بالنظر إلى أخلاقه وشخصيته. وكيهود فقد كانوا يطبّقون حرمة السبت، وكذلك كل تفصيل جاء في الشريعة، ولم يقبلوا عقيدة بولُس التي تزعم أن الخلاص بالإيمان فقط. ويتحدث الكاتب أيضًا عن مجموعة أخرى من الإيبونيين الذين قبلوا فكرة الولادة من العذراء والروح القدس، ولكنهم رفضوا فكرة الوجود المسبق لعيسى على اعتبار أنه: “الله، الكلمة والحكمة” وهم قد تبعوا إنجيل العبرانيين الذي من المحتمل أن يكون إنجيل متى.

كان الإيبونيون يحترمون السبت والنظام اليهودي، ولكنهم كانوا يحتفلون بالقيامة.(1)

يذكر ر. آيزنمان (R. Eisenman) و م. وايز (M. Wise) في كتابهما “اكتشاف ملفات البحر الميت” خلفيّةَ الإيبونيين ويقولان: إن جيمس (الصادق أو الصدوق) كان رئيس كنيسة القدس في منتصف القرن الأول (تقريبًا 40-60م)، وهي الفرع الذي سمي فيما مضى بالكنيسة المسيحية اليهودية في فلسطين، والإيبونيون تطوروا عن هذا الفرع.(2)

إن الجماعة التي تبعت جيمس كانت تُعرف بالمساكين (غلاطية 10:2، جيمس 2: 3-5)، وهو لقب مذكور في كلا الموضعين: خطبة الجبل وفي ملفات البحر الميت.

يشعر آيزنمان لأسباب عديدة أن الإيبونيين كانوا شبيهين بمؤلّفي “ملفات البحر الميت”. فهم قد عظَّموا جيمس الصدوق واعتقدوا أن عيسى مسيحهم البشري، وأن بولس قد صار مرتدًّا بالنسبة إلى الشريعة. ولقد طبقوا حرمة السبت والشريعة بحماس كبير، وأعطوا جيمس أكبر اعتبار في حين عدّوا بولس عدوًّا لهم. (متى 13: 25-40) (3)

ويرى (بايجنت و ليه ولنكولن)  Baigent, Leigh and Lincoln في كتاب “الميراث المسيحي”، أن مصدر التعاليم الأساسية للإيبونيين Ebionites والأغنوطيين Gnostics والمانيكانز Manicheans والصابئين Sabians والمانديين Mandeans والنسطوريين Nestorians والإلكاسيين Elkasites قد وُصفت بأنها فلسفة ناصرية Nazarene. إنهم يشيرون إلى الفكر الناصري كما يلي:

“إنه توجُّهٌ باتجاه عيسى وتعاليمه التي تُشتق في النهاية من صميم المَعين الناصري كما تم تفصيله من قِبل عيسى ذاته، ثم تمت إشاعته من قِبل جيمس ويهود أو يهوذا توماس وحاشيتهما المقربين. وكانت معتقداتهم كما يلي:

1- الالتزام الشديد بالشريعة الموسوية.

2- الاعتراف بعيسى كمسيح.

3- الاعتراف بالولادة البشرية الطبيعية لعيسى.

4- العداء للمفاهيم الخاصة ببولس.

وثمة مجموعة من المخطوطات محفوظة في مكتبة في إسطنبول وتحتوي على فقرات منقولة من نصوص يعود تاريخها إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، والمنسوبة إلى الناصرة والمكتوبة باللغة السيريانية، ووجدت في دير في خوزستان جنوب غرب إيران بالقرب من حدود العراق. وهي تعكس وجهات نظر الكهنة الناصريين الذين فرّوا من القدس بعد الدمار الذي حل بها عام 66م، وهي تشير إلى عيسى على أنه بشر ويؤكد على تطبيق الشريعة اليهودية.

هجر أتباع القديس بولس دين عيسى وتحوّلوا إلى العقائد الرومانية.” (4)

من بين جميع المراحل المختلفة التي تطورت أثناء تشكيل المسيحية، فإن أولئك الذين يؤمنون بالفلسفة الناصرية، يمكن أن يُعطَوا وحدهم الأفضلية بحق وجدارة. فهؤلاء المسيحيون الأوائل كانوا قد عُلّموا معنى المسيحية من قِبل المسيح ذاته.

دور القديس بولس

من الواضح أن القديس بولس وأنصار مدرسته لا ينتمون إلى تلك العقائد. وفي الحقيقة فإنه منذ زمن القديس بولس فصاعدا حين أخذت المسيحية في الانتشار في بلاد أجنبية وبين أصحاب العقائد المشركة ضمن الإمبراطورية الرومانية، بدأت تتأثّر بقوة فائقة بتلك العقائد الوثنية وخضعت للثقافات والميثيولوجيات (العقائد) المنتشرة في تلك البلاد، ثم ابتعدت أكثر فأكثر عن نقاء نشأتها الأصيلة. ولقد قام القديس بولس بدور فاعل بالغ التأثير في انحطاط وانحراف العقائد والمفاهيم المسيحية، وذلك بتسريب طابعه الشخصي الخاص بمذهبه الباطني المبهم. إن بولس لم يكن من الأصل اليهودي(5)، ولم يكن له أي اتصال مباشر بعيسى، ما عدا “حلمه” المزعوم. وكان – على ما يبدو – تحت التأثير القوي للثقافات الأجنبية مسبقًا.

وعلى ما يبدو أيضًا، أنه لم يكن هناك إلا اختياران اثنان أمام القديس بولس هما: إمّا أن يدخل في معارك شديدة ضد عالم من الأساطير والخرافات المنتشرة في بلاد الإمبراطورية الرومانية منذ الأزمنة السحيقة، أو أن يستسلم ويخضع لهذه العقائد ويترك المسيحية تتغير وتتبدل لتتلاءم مع متطلباتهم على أنها ليست مختلفة مبدئيا عن أساطيرهم وخرافاتهم.

لقد وجد القديس بولس هذا الاختيار الثاني أكثر سهولة وفائدةً. وترك المسيحية تتغير لتتلاءم مع طموحاتهم وفلسفاتهم الشائعة في بلاد غير يهودية. وهذه الإستراتيجية عملت جيدًا وأثبتت جدواها باستقطاب أعداد كبيرة من المنضمين الجدد؛ ولولا ذلك التبديل الهادف لما تحقق ذلك المكسب.. ولكن بأيّ ثمن؟!

ولكن ذلك الدين، لسوء الحظ، قد انتهى بمنافسة غير شريفة بين القيَم المسيحية النبيلة والأساطير المُشركة. إن القديس بولس لم يغيّر في ذلك الدين سوى أسماء آلهة المشركين فقط وبدّلها باسم: يسوع، الله (الأب)، والروح القدس. لم يكن هو في الحقيقة الذي اخترع أسطورة الثالوث وقدّمها إلى العالَم المُشرك باسم المسيحية، بل قد استعار أسطورة الثالوث من ميثولوجيا المشركين وجعلها جزءًا من المسيحية. ومنذ ذلك الوقت صارت المسيحية هي الشِّرك القديم ذاته ولكن بأسماء جديدة ووجوه جديدة.

ولذلك فإن مسيحية بولس لم تنجح في تغيير عقائد وخرافات وأساطير العالم المُشرِك، ولكنها انتهت بتغيير وتحويل المسيحية بشكل يتوافق مع تلك الأساطير والخرافات المشركة. وإذ لم يستجب الجبل لدعوته، فقد قرّر هو أن يذهب إلى الجبل!

حقيقة عيسى

لا شكّ في أن لكل شخص كاملَ الحقِّ والحرية في أن يختار بين مسيحية بولس، أو تلك المتعلقة بـ “جيمس” الصادق والزعماء الأوائل للمسيحية، الذين كانوا تلاميذ عيسى المسيح ذاته. ولكننا نريد هنا أن نبرهن على أن الفرع الرئيسي للمسيحية قد استمر في النماء من خلال الموحدين (المسيحيين الذين لا يؤمنون بالثالوث) وأبقى نفسه في معزل عن البدع المتأخرة التي ولّدت التعقيدات في العقائد المسيحية مثل ألوهية عيسى على أساس أنه ابن الله، والثالوث، والخطيئة الموروثة، والفداء، وعودة المسيح المادية إلى الحياة.. إلخ.

إن وجهات نظر رؤساء الكنيسة الأوائل، الذين يُعدّ جيمس الصادق شخصية بارزة فيهم، كانت بسيطة وأمينة وصادقة، ولم يكن لديهم تناقضات داخلية أو مفارقات مخفية وراء شاشة الغموض الضبابية.

إن دراسة تاريخ الموحّدين في المسيحية تؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن وحدانية الله – غير المعقدة بشعار الثالوث – ظلّت هي العقيدة الرسمية لكنيسة المسيح الحقيقية في نقائها الأصلي القديم.

أرجو أن تتذكروا أن هذا البحث القصير، ليس محاولة لتحويل المسيحيين إلى أية عقيدة أخرى غير عقيدة المسيح. بل هو ببساطة محاولة صادقة لدعوة المسيحيين إلى العودة إلى دين عيسى ذاته وممارساته النقية من أيّ تحريف أو تغيير. إنها محاولة مخلصة لإعادة الخيال إلى حقائق المسيحية الأصيلة التي هي بالتأكيد جميلة كما أنها واقعية تُرضي العقل والقلب معًا.

لم تكن الأساطير المُحاكة حول حقيقة المسيح عيسى، لمدة ألفي سنة تقريبًا، هي التي أبقت المسيحية وساعدتها على أن تظل وتبقى وتنجو من تحدّيات العقل والتنوير العقلاني المتنامي الناتج عن التقدم العلمي؛ وليس بقاؤها راجعًا إلى الاعتقاد الخرافي بالثالوث. بل إن الذي حفظ حقيقة وروح المسيحية معًا هو جمال شخص عيسى المسيح وتعاليمه. إنه السلوك المقدس الرائع – وليس شخص يسوع اللاهوتي – هو الذي كان اتّباعه والالتزام به جميلاً جدًّا.

لقد كانت معاناته وصبره وثباته من أجل المُثل النبيلة، ورفضه القوي الجريء لجميع المحاولات الاستبدادية الطاغية لإكراهه على تغيير مبادئه هي الأرضية الصحيحة الحقيقية للمسيحية. وهي لا تزال جميلة ومحبوبة اليوم أيضا كما كانت من قبل. لقد أثّرت بقوة كبيرة على عقول المسيحيين وقلوبهم بحيث أنهم ظلوا مرتبطين بعيسى مفضِّلين إغلاق عيونهم عن التناقضات المنطقية بدلاً من الانفصال عنه.

إن عظمته الحقيقية تكمن في حقيقة أنه قد تجاوز وتغلّب على قوى الظلام التي تآمرت للقضاء عليه رغم كونه بشرا ضعيفًا ليس إلا. إن انتصار عيسى لهو أمر يفخر أن يشاركه فيه جميع أبناءُ آدم. وكما نراه، نحن المسلمين، فهو واحد من أنبل أبناء آدم وذرّيته. وهو قد عَلّم الإنسانية بأسوته قيم المثابرة والثبات في وجه المعاناة والألم الكبيرَين. وإن عدم استسلامه وبقاءه ثابتًا راسخًا تحت طحن أسنان المحنة العظمى، كان أعظم وأنبل إنجازاته. لقد كانت سيرة معاناته وآلامه هي التي حررت الإنسانية وجعلته هو يقهر الموت. فلو كان قد استسلم للموت، فإن هذا يعني أنه هرب من حياة المعاناة وآثر عليها الموت. فكيف يمكن اعتبار ذلك عملاً شجاعًا؟ إن الذين ينتحرون تحت الضغط والمعاناة الشديدة، فإن عملهم هذا يُعتبر جبنًا محضًا ينافي كل مفهوم للشجاعة. فنيل نصيبه في معاناة الحياة هو أفضل بكثير من النجاة من المعاناة بالموت.

ومن هنا فإن مفهوم التضحية الفائقة لعيسى بقبوله الموت من أجل البشرية هو مجرد نزعة عاطفية فارغة لا لُبَّ لها!

ونؤكد ثانية، أن عظمة عيسى، تكمن في تضحيته الفائقة أثناء حياته، وليس بموته. فلقد تحدّته إغراءات الاستسلام طوال حياته لتبديل حياة المعاناة والآلام بحياة الراحة والرفاهية. كان يواجِه الموت في كل يوم وليلة، ولكنه رفض الاستسلام وعاش من أجل الخاطئين ليُحييهم من جديد ويعيدهم إلى الحياة. لقد قهر الموت ليس بتسليم نفسه إلى الموت، بل برفض الانحناء له. لقد هزم الموت كليّا وقام من بين قبضة مخالبه. ولو أن رجلاً آخر وُضع في مكانه لانتهى وتبدّد وتلاشى. وبهذا فقد برهن المسيح على صدقه وصدق كلمته دون أدنى شكّ.

هكذا نرى عيسى المسيح، ولذلك نحبه كثيرًا جدًّا. لقد كان صوته صوت الله وليس صوت طموحاته. لقد قال ما أمره الله أن يقول؛ لا أكثر ولا أقل. لقد عبَدَ الله طوال حياته وعبَدَه وحده، ولم يَطلب من أيّ بشر أن ينحني أمامه أو أمام أمّه أو الروح القدس.

تلك هي حقيقة عيسى التي ندعو المسيحيين من كافة الفرق والطوائف والمعتقدات أن يعودوا إليها.

 استمرار الدين

نحن نؤمن باستمرارية وعالمية الأديان. والإسلام، لهذا السبب، يؤكد ويشدد على نظام النّبوّة باعتبارها ظاهرة عالمية. الأمر الذي يعني وجوب الإيمان بالأنبياء جميعًا. وإن رفض واحد من مجموع الأنبياء سيؤدي إلى رفض الجميع، لأن المرء – في الحقيقة – يقبل الأنبياء على أساس أنهم ينحدرون من المصدر ذاته فقط. ولذلك فإن التعبير أو المصطلح: “الاستمرارية” يجب أن يُفهم في هذا السياق على أنه شيء مشابه – ولكن ليس تمامًا – لتطوّر الحياة. إننا نؤمن بتطور الرسالة، وبأنها تتقدم بما يتلاءم مع التقدم البشري العام في جميع مجال النشاطات البشرية. ويبدو أن الأشكال الأولى من الأديان الموحى بها، رغم أنها تحوي التعاليم الأساسية نفسها، فقد غطّت مساحات من التعاليم المفصَّلة بشكل أقلّ نسبيًا؛ أي شملت أعدادًا أقلّ من الأوامر من قبيل: “افعلْ ولا تفعلْ”، وبعد ذلك نمت هذه التعاليم تدريجًا إلى عدد أكبر من الأوامر والمحرمات، مغطّيةً مجالاً أوسع من النشاط الإنساني. وكذلك يبدو أن الأديان التي جاءت في الحضارات القديمة قد قدمت نفسها إلى جمهور أقلّ نسبيًا يخصّ قبائل معينة أو عشائر أو مناطق. كانت رسالاتهم محصورة ومحدودة بمتطلّبات الوقت. ويمكن أن توصف بشكل مناسب أكثر بأنها كانت أديانًا قَبَلية أو عشائرية أو قومية محدودة. إن قضية بني إسرائيل والتعاليم اليهودية تُعتبر نموذجًا مناسبًا للبرهنة على هذا الأمر.

ويمكن أن تُلخّص طبيعة التطور التاريخي للأديان في شقّين اثنين:

1- توضيح تدريجي وكمال نسبي للتعاليم.

2- انتقال وتحوّل تدريجي من انتشار أصغر إلى امتداد أكبر.

إن الاستمرارية لا تعني أن الدين الذي أوحى الله به إلى آدم قد استمرّ هو ذاته في مخاطبة الجنس البشري، وأنه قد مرّ بتغيّر تدريجي متقدم، موسعًا حقله في التعاليم والتوجّه إلى الناس؛ ولكن المعنى هو أنه في أجزاء مختلفة من العالم حيث تأصَّلت حضارات مختلفة وانتعشت، فإن الوحي السماوي قد ولّد الأديان التي تتواكب مع التطورات الاجتماعية للإنسان في تلك البقاع من العالم. ولقد كانت جميع هذه الأديان تتطور، على كل حال، في الاتجاه العام نفسه.

قمة التطور الديني

إننا نعتقد بأن الدين الذي ظهر في الشرق الأوسط – من بين جميع هذه الطوائف الدينية – كان قد رُبِيَّ وثُقّف ليولّد مثل هذه الأديان الكبيرة كي تخدم الفرع الرئيس للتطور الديني في العالم. إن هذا واضح تمامًا من خلال دراسة التاريخ الديني. إن اليهودية تبعتها المسيحية والمسيحية تبعها الإسلام، وهذا يبين بوضوح اتجاه تطور التعاليم الدينية. ويمكن تَقصّي أثر تطور التعاليم في هذه الأديان بدءا من الأزمنة السابقة إلى الأزمنة المقبلة، وعند ذلك يتبيّن عمق علاقة بعضها ببعض. ولذلك فإنه من الهامّ جدًّا أن نفهم أنه كان من المحتم أن يُسفر هذا التدبير المحكم للأمور، كما أسفرت فعلا، عن ظهور هذه التعاليم بصورة كاملة ومحكمة في شكلِ دينٍ عالميٍّ هو الإسلام.

في هذا السياق، فمن مصلحة اليهود أن يحاولوا، بشكل جادّ ودون إجحاف، فهمَ أهمية عيسى المسيح. وبسبب فشلهم في معرفته، فإن حالة اليهود تشبه حالة الكثير من الأجناس الحيوانية التي دُفنت عميقًا في تاريخ التطور، ولم تعد تلعب أي دور حيوي في شجرة الحياة المتطورة، التي تقترب في نموها من قمة تطورها. وبهذا فقد بقيتْ هذه الأجناس مجرد ذكرى من التاريخ، ولكنها لا تزال تعيش في مجال وجودها الضيق المحدود الخاص بها.

وإن حالة المسيحيين أيضًا مشابهة لحالة اليهود، ولكن المسيحيين يتقدمون عليهم خطوة واحدة فقط في قربهم من الإسلام، من حيث الترتيب التاريخي. وعلى أية حال فإن تلك الانحرافات عن مسلك عيسى المسيح إلى طريقٍ منحلّة فاسدة، التي كان قد ابتدأها بالأصل القديس بولس، هي الأكثر أهمية. فذلك الطريق أخذهم – في الواقع – حتى إلى ما هو أكثر بعدًا عن الإسلام من اليهود. فاليهود، بعد أكثر من أربعة آلاف سنة من وجودهم، قد تعلّموا – على الأقل – درس التوحيد، الذي هو أمرٌ حيوي للحياة الروحية لأيّ دين. وبالرغم من هذا القرب من الإسلام في العقائد الأساسية، فإن ثمة عوامل تجعل اليهود أكثر تصلبًا وعنادًا في رفضهم الدخول في الإسلام بأعداد كبيرة.

إن هذه الدراسة تجعلني أعتقد أنه ما لم يطوِّر اليهودُ تفكيرهم وموقفهم الذي هو ضروري لفهم المسيح، رغم التشابه العقائدي بين الديانتين، فإنهم سيظلون أكثر بعدًا وانفصالاً عن الإسلام من المسيحيين. لقد فقدوا أهمَّ صلة حيوية.. وهي المسيح عيسى.. بينهم وبين بعثة الرسول محمد . إن هذا الإنكار للحقيقة قد جعل قلوبهم قاسية إلى درجةٍ جعلتهم غير مستعدين نفسيًا لقبول أية رسالة جديدة. إنهم مستمرون في انتظار المسيح، في حين أن المسيح قد جاء ورحل. وبسبب فشلهم في التعرف عليه مرة، فإن احتمال معرفتهم إياه لدى مجيئه الثاني يتضاءل أكثر. فهم، على ما يبدو، مكتوب عليهم أن يظلوا إلى الأبد في انتظار المسيح في أحلامهم!

لقد كان المسيح هو المزمَع أن يمهّد الطريق للدين الأكثر تطورًا وهو الإسلام.

يجب ألا يؤخذ هذا القول بتصلب وعدم تفكر. نحن لا نقترح على اليهود قبول المسيحية أوّلاً ثم اتخاذ الخطوة التالية إلى الإسلام. فإن هذه، إن حدثت، تكون وجهة نظر دينية غاية في السذاجة.

إن ما نريد أن نشير إليه هو أن الشعب الذي قد رفض نبيًا أو رسولاً ولم يكن مجرّد نبيّ أو رسول عاديّ، بل كان مقدّرًا له أن يلعب دورًا هامًا جدًّا في مهمة تربية وتدريب ذلك الشعب عقليًا وروحيًا، فإن مثل هؤلاء الناس يرفضون نبيّهم بسبب كونهم مرضى روحيًا ونفسيًا. وما لم يُشفوا من ذلك المرض، وما لم يتم تصحيح ذلك الموقف المشوِّه للحقيقة، فإنهم يكونون أقل استعدادا لاتباع نبي كان قد اختفى وراء حلقة الوصل التي فقدوها مسبقًا.

وفيما يتعلق بموقف المسيحيين، فإن بإمكانهم فقط الاهتداء إلى حقيقة النبي محمد إذا ما عادوا إلى الحقيقة والواقع الخاص بعيسى. فهو لم يكن فقط الطريق إلى الله، ولكن كان أيضًا – مِثلَ جميع الأنبياء الآخرين – الطريقَ إلى النبي الذي كان مقدَّرًا أن يأتي من بعده. لقد كان عيسى فقط الحلقة الوسطى في مثال كرم العنب. وأما الدين الذي يمثل قمة دين الله، كان سيأتي فيما بعد. لذلك فإنه ما لم يرجع المسيحيون عن الصورة الأسطورية الخيالية لعيسى، إلى الحقيقة الأكثر رفعة ونُبلاً لسيدهم الكريم، فإنه لن يمكن إرشادهم إلى الطريق الذي يوصله بالنبي محمد .

كان النبي محمد حقيقة واقعية أرشدت البشرية إلى حقائق أخرى. لذلك فإن حقيقة المسيح بدلاً من الخيال الذي أُحيل إليه، هي التي ستبارك المسيحيين ليعرفوا حقيقة النبي محمد .

……………………………

ولذلك فإن مسيحية بولس لم تنجح في تغيير عقائد وخرافات وأساطير العالم المُشرِك، ولكنها انتهت بتغيير وتحويل المسيحية بشكل يتوافق مع تلك الأساطير والخرافات المشركة.

عظمة عيسى تكمن في تضحيته الفائقة أثناء حياته، وليس بموته. فلقد تحدّته إغراءات الاستسلام طوال حياته لتبديل حياة المعاناة والآلام بحياة الراحة والرفاهية… لقد قهر الموت ليس بتسليم نفسه بل برفض الانحناء له…. ولو أن رجلاً آخر وُضع في مكانه لانتهى وتبدّد وتلاشى. وبهذا فقد برهن المسيح على صدقه وصدق كلمته دون أدنى شكّ.

كان النبي محمد حقيقة واقعية أرشدت البشرية إلى حقائق أخرى. لذلك فإن حقيقة المسيح بدلاً من الخيال الذي أُحيل إليه، هي التي ستبارك المسيحيين ليعرفوا حقيقة النبي محمد .

Share via
تابعونا على الفايس بوك