كي لا يضيع اولادكم
خطبة جمعة هامة لأمير المؤمنين مرزا طاهر احمد ایده الله بنصره العزيز الخليفة الرابع للمسيح الموعود عليه السلام، ألقاها حضرته في لوس انجليس بالولايات المتحدة الأمريكية في 23/10/1987 .
بعد أن تشهد حضرته تعوذ بالله وتلا سورة الفاتحة ثم قال :
خلال إلى رحلتي الحالية التي بدأت في كندا ثم جئت بعدها أمريكا، وقد بلغت الآن منتصفها، في كل مكان ذهبت إليه كان افراد الجماعة يوجهون إلي بصورة عامة سؤالاً واحداً وبشكل متكرر: وهو أن المجتمع في البلد او البلاد التي نقيم فيها قد صار غاية في الفساد، وان البيئة المحيطة قد أضحت سامة إلى حد أننا بدأنا نشعر بالقلق حول مستقبل اولادنا لذلك فإننا نرجو منك أن ترشدنا إلى طريقة نستطيع من خلال اتباعها أن نطمئن على أولادنا بحيث يستطيعون المحافظة على القيم الإسلامية، وان يكبروا كمسلمين صالحين، وان لا يُغلبوا متأثرين بغير المسلمين بأي شكل كان.
ولقد أجبت على هذا السؤال في كندا في جلسة الاسئلة والاجوبة، وفيما بعد واثناء مقابلتي مع الأطفال في واشنطن تناولت مواضيع معينة من هذا البحث. وبما أن هذا السؤال يوجه إلي بصورة عامة وقد اصبح يشكل مصدر قلق في فكر الغالبية فإنه يكون من المناسب تهيئة شريط مسجل فيه الاجابة على الاسئلة المتعلقة بالموضوع المذكور. وزيادة على ذلك وبما انني سأتناول جوانب اخرى من نفس الموضوع ، فإنه يجب اضافتها إلى ذلك التسجيل ايضاً، ثم بعد ذلك يجب أن ترسل هذه الأشرطة إلى كافة انحاء امریکا مع الانتباه إلى أنه يجب التأكيد على أن تصل هذه الأشرطة الى جميع المسلمين الأحمديين بحيث لا يهمل منهم احد .
بفضل الله تعالى قد تمكنا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من انجاح مشروع الكاسيتات المسجلة بشكل جيد، ومع ذلك فانني عندما اتفحص هذا المشروع بالتفصيل اجد انه لا يزال هنالك بعض النقص، ولذلك لا يكون صحيحاً القول انه في بلد ما تستلم كل جماعة فيه الأشرطة المسجلة بانتظام، وان كل فرد من تلك الجماعة يستطيع الحصول عليها. وهكذا فإن هذا النظام لا يزال غير تام فيما يتعلق بكيفية افادة جميع افراد الجماعة منه. واذا لم يكن هنالك ترتيب يضمن ان يستمع جميع افراد الجماعة في العالم إلى الخطب او الرسائل الخاصة فهذا يعني أن الكثير من العائلات التي لا تستطيع الحصول بنفسها على نسخ من هذه الأشرطة تترك دون التمكن من الاستفادة من هذا النظام. وبصرف النظر عن ذلك فانه حتى اذا تم اتخاذ الترتيبات للاستماع إلى الكاسيتات اثناء خطب الجمعة، فإنكم تعيشون في بلاد حيث لا يستطيع عدد كبير من الناس حضور صلاة الجمعة. وعلاوة على ذلك فان الرجال والنساء الذين يأتون لصلاة الجمعة ليس بالضرورة أن يكون أولادهم أيضاً معهم، ولذلك فان مخاطر وجود نقص تكون اكبر حيث تقل امكانية وصول الرسالة إلى كل فرد من افراد جماعتنا. ولذلك فانه بسعي وعناية كبيرين يجب ان تخطى خطوات حثيثة للعمل على التأكد أن الأشرطة التي تتناول المواضيع الهامة والتي تتعلق بترتيبات الجماعة او مستقبل الأطفال تصل إلى جميع افراد الجماعة، ومن الضروري في الأماكن التي يكون فيها ترتيبات للاستماع إلى الاشرطة بشكل جماعي أن تدرس وتراجع بعض الاحصاءات بحيث يعرف كم من الأصدقاء امكنهم المجيء مع اولئك الذين استطاعوا الحضور. ويجب مناقشة الترتيبات بحيث يمكن لأطفالهم ايضاً ان يستمعوا إلى تلك الأشرطة. واما بالنسبة لأولئك الذين لم يستطيعوا الحضور يجب العمل على اتخاذ الاجراءات التي يمكن بواسطتها ايصال الأشرطة إليهم. واذا استطاعت الجماعة القيام بهذه الإجراءات بصورة عامة فانه بالاضافة إلى تأمين هذه الخطب والاهتمام الشديد بتطوير نظم فعالة تسهل وصول هذه الأشرطة إلى الجميع، فإن هذا من شأنه أن يفيد الجماعة في جميع انحاء العالم باشكال كثيرة .
إن خطب الجمعة هي وسيلة ايجاد الوحدة والتشابه وحقيقة موقف الجماعة وغرضها في كافة انحاء العالم بغض النظر عن البلد التي ينتمي إليها أفراد الجماعة. إن واحداً من اعظم اهداف تأسيس الجماعة الاسلامية الأحمدية هو جعل الاسلام عالمياً وخلق حساسية اسلامية متجانسة في العالم اجمع. وكذلك اظهار الاسلام على الدين كله. كما وان خلق موقف موحد وارتباط قوي وثيق الصلة بالخلافة من قبل كل الجماعات في العالم هو العامل الأهم، وهذا ما لا يتوفر في أي مجتمع دیني آخر في العالم . في كل اسبوع تنقل خطبة إلى جميع انحاء العالم وهي تلقی من قبل شخص واحد له صلة روحية عميقة بالمستمعين إليه وهم قد آتوا عهداً بالاستماع والعمل على تنفيذ جميع ارشاداته. وهذه ايضاً من الميزات التي لا تتوفر في أية جماعة دينية اخرى. وبناء على ذلك فإنه اذا كانت وحدة العالم مرهونة بأية جماعة فإن هذه الجماعة هي فقط الجماعة الاسلامية الأحمدية. واذا لم تستفد الجماعة الاسلامية الأحمدية من النظام الذي انعم الله تعالى به عليها، والترتيبات التي اتمها لأفرادها، فهذا يعني، وبغض النظر عن فكرة توحيد العالم، أن الجماعة لن تستطيع الحفاظ حتى على وحدتها هي. لقد شعرت انه في مناسبات كثيرة وبسبب الافتقار إلى اتخاذ الترتيبات اللازمة من اجل نقل الخطبة أن حال مثل تلك الجماعات بدأ يتطور آخذاً منحی مختلفاً عن روح الجماعة. في مثل تلك الأماكن بدأت تظهر وتتأصل اشكال مختلفة من الأفكار والشكوك التي لا اساس لها دون أن يتم تصحيحها في نفس الوقت. ولذلك فإن الجماعات هناك تتطور باتجاه اتخاذ احوال مختلفة عن بقية الجماعة
وبصورة عامة فإنه من المهم جداً وبالأخص في اماکن مثل لوس انجليس حيث الجماعة تنتشر على مدى واسع ، وتكون المسافات بين بيوت الأحمديين كبيرة والمدينة واسعة جداً وهناك الكثير من التأثيرات السيئة، ففي مثل هذه الحالة حتى لو تم بناء مسجد، فإنه عملياً لن يكون من الممكن للجميع الحصول على وصول سهل إليه. ولذلك فإنه خصوصاً في مثل حال هذه الجماعات يجب عليهم أن يكون لهم صلة قوية ومنتظمة بالمركز، بحيث أن كل فرد صغير وكبير يستطيع ان يستمع إلى رسالة خليفة الوقت بصوته هو وذلك لكي يعملوا بحسب ارشاداته، الأمر الذي يعتبر غاية في الأهمية والحيوية بحسب متطلبات هذا الزمان .
بعد هذه المقدمة اعود الى الموضوع الذي ذكرته في مستهل خطبتي، وهو موضوع حماية اطفالنا. وليس هنالك داع لاعادة النقاط التي ذكرتها سابقاً. ولكنني على اية حال سأتابع شرح هذا الموضوع واضعاً نصب عيني وبصورة خاصة آية واحدة من القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» سورة هود : 115
غالبا ما يساء فهم هذا الموضوع بصورة عامة. وعموماً يظن الناس أن الشر يبتلع الخير. ونتيجة لذلك يظنون في انفسهم قائلين: بما اننا في بيئة فاسدة، اذن فنحن في خطر ان يتغلب الشر علينا. ويقدم القرآن الكريم من ناحية أخرى صورة معاكسة تماماً يقول : اذا كنتم حقاً اخياراً صالحين، فإنه لا حاجة بكم الى الخوف من الشر. بل الشر هو الذي سيخافكم. ذلك لأن الشر ضعیف بطبيعته ولا يستطيع مواجهة الخير. فالخير لا شك يتغلب عليه، وان هذه حقيقة ثابتة اصيلة يمكن ايضاً للديانات الاخرى ان تكون قد ذكرتها بطريق التلميح، ولكنها لم تعبر عنها بمثل هذه القوة والوضوح في أي من الكتب السماوية السابقة. ودعماً لهذه الحقيقة فإن القران الكريم قد بين في سورة بنی اسرائیل (الإسراء) قول الله تعالى:
وهذا يعني: انظروا ها قد جاء الحق، وليس امام الباطل الآن الا ان يولي هارباً. الباطل لا بد أن ينهزم ذلك أن هذه هي طبيعته .
عندما يقدم هذا الشرح في القرآن الكريم مع قوله تعالى : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» تجد انه عندئذ لا يبقى للأحمدي اي مبرر ان يخاف من تغلب شر بيئته على خيره هو، وان كان لا يزال هنالك على كل بعض الحاجة إلى الخوف في هذا المجال والذي علينا ان نحلله بغية ايجاد الطبيعية الصحيحة للمشكلة .
ان تقول فقط انك صالح ولذلك فإنك لا بد متغلب على الشر لا يكفي ابدا. اننا نرى الكثير من العائلات التي قد تأثرت بما حولها ويبدو انها تنزلق في هوة الشر بغض النظر عن الصفات الصالحة فيها ظاهرياً. والتي يبدو انها نشأت عليها. نرى ان ابناء هذه العائلات متجهون نحو الضياع وان مواقفهم واحوالهم تتبدل وان سلوكهم في القضايا الإيمانية يتغير، وانهم يفقدون تلك الصلة من الحب التي يجب أن تكون بادية في عيون الأولاد الذين نشأوا وتربوا وتم تدريبهم جيداً. لا يستطيع المرء أن يرى لهم صلة بالايمان بل ویری بديلاً عنها حالة من الغربة، ولذلك فاننا عندما نرى هذه الحقائق، كيف يمكننا أن نغض الطرف عنها؟ كيف يمكننا أن نقول بما أن الخير يغلب الشر فإنه لا حاجة بنا إلى الخوف وان علينا أن نطمئن مرتاحين إلى حقيقة ان ميزاتنا الصالحة سوف تتغلب تلقائياً على الشر؟ اذن كيف يمكننا أن نوفق بين التناقض الظاهر الناتج عن هذين الأمرين.
اولاً يجب علينا أن نعرف كيف يمكن أن يوجد مثل – هذا التناقض. أن القرآن الكريم حق، اذن كيف يمكن الحق ان يناقض امراً حقاً آخر ؟ أن ذلك لا يمكن أن يحدث ابداً. انه من المستحيل أن يصف القران الكريم امراً ثم تناقضه الحقائق. ولذلك فإن علينا أن نفكر بعمق اكثر من اجل أن نتبين حقيقة هذا التناقض الظاهر. لماذا تختلف مشاهدتنا عن القول في القرآن الكريم بحيث يبدو ان الحقيقتين بعیدتان عن بعضهما بعد المشرق عن المغرب ؟، الحقيقة هي ان القرآن وحده هو الصحيح ولكن ملاحظتنا ايضاً صحيحة، وان التناقض الذي نراه انما هو نتيجة افتقارنا إلى التبصر بالحقائق. عندما نقول أن الناس يضلون او يضيعون فاننا نفترض عندئذ انهم كانوا صالحين، وانهم بالرغم من كونهم صالحين فقد ضلوا الصراط. أن هذه الفكرة خاطئة تماماً. انما يضل فقط اولئك الذين ليسوا صالحين. ولكن الذين ينطوون على الخير لا يضلون ابداً. انه من المؤكد أن الميزات الحسنة لأولئك الذين يمتلكون الصفات الجيدة تكون هي المسيطرة دون شك. نعم صحيح أن أولئك الذين يظنون انهم صالحون، والذين ينخدعون بأنفسهم، وبأنهم قد نشأوا على القيم الحميدة، وانهم يقفون على أسس من الخير متينة ولكنهم يكونون في الحقيقة فارغين من الداخل ويقفون على مجرد قصور رملية. هؤلاء الناس لا بد من سقوطهم. فقط تلك الأجيال تضل وتضيع التي هي خالية من الخير والفضيلة، كما ويضل ايضاً اولاده هؤلاء، ذلك لأنهم يخدعون انفسهم بأنهم صالحون، ولكنهم يكونون في الحقيقة خالين من الخير والصلاح
الا انه لمبدأ اكيد لا يمكن دحضه ابداً: أن الشر لا يستطيع أن يبتلع الخير، ولكنه ينسل متخللاً الفراغات الفجوات الخالية من الخير.
ان مجرد ادعاء الصلاح لا يمكن ان يملأ صدوركم بالأعمال الصالحة ولكنها تمتلئ فقط حين تمارسون الاعمال الفاضلة الخيرة وتغرسون فيها العادات الحميدة. ولذلك فاذا كنتم تلتزمون بالصالحات بالقول فقط فانكم حتى لو كنتم مغفلين بغشاء رقيق من الصلاح حولكم ولكنكم تحملون داخلكم فجوات خالية من الصلاح والخير، وانكم فارغون من الأعمال الصالحة الخيرة اذن فان من قانون الطبيعة ان الفراغ لا يمكن أن يستمر ويدوم، اذ لابد من شئ يملؤه. فاذا لم يملأ الفراغ بالخير فاذن لابد من أن يملأه الشر.
عندما يقول القرآن الكريم أن الحسنات يذهبن السيئات فانه يعني: أن عليكم ان تمتحنوا انفسكم، فاذا كان الشر يغلبكم، اذن اعلموا عن يقين انكم لا تمتلكون الخير وانكم تعانون فقط من وهم انكم اخيار صالحون. ابحثوا عن الفراغات داخلكم، وحاولوا أن تملؤوها بالخير والصلاح ذلك لأن الذين يملؤهم الخير لا يمكن للشر أن يغلبهم .
القران الكريم يعرض هذا الموضوع على ضوء التاريخ ايضاً. فالانبياء كانوا دائماً يبعثون في بيئة مغلوبة بالشر وحيث يكون الشر غالباً مسيطراً. ويصف القرآن الكريم الحالة قبل مجيء محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول :
اي ان القارات والمحيطات قد امتلأت بالشر، ولم يكن هناك أي مكان خال من الفساد. وكان الرسول الكريم وحده قد عين لهزيمة الشر، ومنذ ذلك الحين وبشكل مستمر وحتى آخر نفس في حياته الشريفة، كان على الشر أن ينهزم ويولى هارباً. كان لا بد لخير محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتشر وهكذا فعل. ولقد بدأ خطوه الشريف في بيئة غاية في الفساد الى حد لا يوصف. فملأها جميعاً وكل ما حوله بالخير والنور. منح العرب صفات حميدة عجيبة، بحيث انهم تغيروا تماماً، ولقد تناول حضرة المسيح الموعود عليه السلام هذا الموضوع في كتاباته الشعرية والنثرية، والقی عليها الضوء بتفصيل كبير. فلقد بين كيف أن خير محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم قد غلب البيئة الفاسدة بأجمعها. وان كل انسان صالح ظهر او عرف انما ولد من بركات خیر محمد صلى الله عليه وسلم.
ان هذا الموكب مستمر حتى اليوم ايضاً. وكما سبق أن لفت نظر الجماعة، فإن ميزات محمد صلى الله عليه وسلم انما هي التي انتشرت وغلبت من قبل، وهي التي سوف تغلب وتنتشر اليوم ايضاً. وبمعزل عن هذا المفهوم فليس هنالك اي میزان للخير في هذا العالم، ومن غير التسلح بسلاح صفات محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخروج الى ميدان المعركة ثم الاعتقاد أن بامكاننا انقاذ انفسنا او أولادنا انما هو أمل زائف لا فائدة ترجى منه، وكما قال الشاعر في بيت من الشعر: « من من الناس لا يندهش مستغرباً هذه البساطة بأنه يدخل المعركة ولكنه لا يمسك حتى سيفا في يده ؟
أن مثل هذا السلوك في شخص تحبه يوصف بالسذاجة، ولكن عندما ينظر إليه بمعزل عن العاطفة عندئذ يمكن وصفه بأنه غباء وغاية في الحماقة. وكذلك الأمة التي تدعى انها تريد ان تغلب فساد العالم عندما تدخل المعركة من غير اي سلاح، فانه لا يمكن وصفها الا انها تعاني من الحماقة والغباء ولا يمكن أن تعطي حتى ادنی فرصة للتغلب والانتشار في العالم. وهكذا فقد جاء في القرآن الكريم وفي آيات قصيرة حكمة عظيمة لا حدود لها بينت الحق في هذا الأمر. وكما يقول المثل بالاوردية فيتكلم عن الانهار في الاباريق، فاننا نجد هنا فعلاً هذه الأنهار في الاباريق في هذه الابيات في القران الكريم والتي تحتوي على انهار من الحكمة. وهكذا فإنه في هذه الاية القصيرة قد تم لفت انتباهنا الى نقاط ضعفنا. لقد تم ابلاغنا عن احوالنا وعلمنا انه اذا كنا نريد ان نحمي اجيالنا المستقبلة فان علينا اولا ان نحمي أنفسنا، وطالما اننا لا نملأ انفسنا نحن اولا بالخير والصلاح، فان موضوع حماية الأجيال المستقبلة يغدو غير قابل للاثارة والبحث.
الا ان حقيقة الامر هي انه يضيع ويضل فقط اولاد اولئك الذين هم أنفسهم مثقلين بالنقائص، والذين هم انفسهم قد تأثروا بالمادية. والذين هم أنفسهم قد احنوا رؤوسهم في خشية وورع امام العالم المادي. والذين يسمحون لأولادهم بالذهاب نحو شرور المادية بالرغم من ادراكهم انها شر. انهم لا يشعرون بالمخاوف وقتها، ولكنهم عندما يكبر اولادهم وتتمكن منهم عاداتهم، عند ذلك فقط تتحرك فجأة داخلهم نفحة الفضيلة، تماماً كالذي يستعيد وعيه بعد أن فقده يقول:
القرآن يعظنا أن نبدأ عملية انقاذ اولادنا بدء من انفسنا نحن. فاذا كانت قلوبنا ممتلئة بالخير والصلاح، واذا كانت اعمالنا صالحة، فاذا ليس هنالك ما نخشاه نحن ولا اولادنا. وفي مثل هذه الحالة يمكننا أن نجهد لجعل اولادنا صالحين حقاً منذ طفولتهم ونعومة أظفارهم. واما اذا لم تكن هذه هي حالكم. وكنتم مغلوبين من العالم مقهورين اذا ليس هنالك علاج او وصفة استطيع ان اصفها لكم وافشيها بينكم. لذلك عليكم ان تتفحصوا وتحللوا انفسكم ومن حولكم، كما يجب عليكم أن تروا إلى اية جهة تقودكم رغباتكم وامانيكم، وما هي الاشياء التي تملؤكم بالفرح او تملؤ قلوبكم بالألم، فاذا كانت المكاسب الدنيوية فقط لأولادكم هي ما يفرحكم عندما يخبرونكم انهم قد حققوا هذه او تلك الدرجة او انهم قد حصلوا على تقييم بين اذکی واكثر الطلاب اجتهاداً في صفوفهم، فاذا ما شعرتم بالفرح وانتم تستمعون الى لغتهم الاجنبية ودرجاتهم الجيدة في الدراسة ولكن لم تتفكروا ابداً بأن حب الدين لم يأخذ له جذراً في قلوبهم منذ طفولتهم، وانهم لا يقرأون القرآن جيداً، وانهم لا يتكلمون بحب محمد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واذا كان بالرغم من حقيقة انه لم تتولد عاطفة الدين في اعماقهم وانكم لستم قلقين حيال ذلك ، واذا كانت قلوبكم لا تمتلئ بحزن واسی عمیقين وبشكل غير عادي ، واذا كنتم لا تشعرون بعدم الراحة بسبب ذلك ، او کنتم لا تدعون لهم منذ البداية لهذا الأمر فهذا يعني ان فيكم فجوات فارغة وهي الفراغات التي لا بد ان يملؤها الشر، لأن ذلك هو قانون الطبيعية : أنه لا يمكن لمكان أن يظل فارغاً، وهذه هي النقائص التي تنمو أكثر وضوحاً في الأطفال. ففي بعض الأحيان لا يستطيع المرء أن يرى حتى نقائصه هو، ولكنه يستطيع أن يرى هذه الفجوات في مرآة الطفل.
ان الطفل يرسم صورة والديه مهما كان الوالدان يعتقدان انهما يريان في ولدهما صورة الطفل فقط. أن القيم الداخلية للوالدين تنعكس في الاطفال وليس من الضروري أن يحدث هذا الانعكاس بشكل دائم، فانا اصف الحالة التي تحدث بشكل عام. أن تاريخ الامم يتطور إلى الأحسن او الاسوأ بهذه الطريقة. ولقد بين ربنا في مكان آخر من القران الكريم أن الذين يذكرون الله لا يضلون ولا يضل أطفالهم الا عندما يبدأون بنسيان الله دون أن يدركوا ذلك حيث يصير اولادهم في مثل هذه الحال في موقع الخطر ويصير الميل باتجاه الاضلال واضحاً بينهم. ولكن أولئك الذين يذكرون الله لا يمكن أن يغلبهم ضلال الآخرين، وحتى ايضاً اولئك الذين يدعون فقط بأنهم يذكرون الله فانه غالباً ما لا يرى الشر مسيطراً عليهم، ولكن اجيالهم التالية تبدأ بكشف اسرارهم وتظهر ضعفهم. وهكذا يبين الله تعالى لنا في سورة الحشر حيث يقول :
یعنی اعتنوا بابنائكم، واذا لم تعتنوا بهم جيداً، فانتم اذن ترسلون للمستقبل اناساً سيجعلونكم تعانون خسارة كبيرة واعلموا ان اعمالكم التي ستسبب ضلال أجيالكم المستقبلية هي معلومة ومكشوفة لله، وانه تعالى يحذركم انه بالرغم من ان الاعمال تنفذ من قبلكم انتم، الا أن آثارها ستظهر في اولادكم. انكم الآن لا تستطيعون أن تروا نتائج أعمالكم ولكنكم على كل حال سيكون لكم مثل هؤلاء الأبناء في المستقبل وستحاسبون 2-2 روعة على أعمالهم.
الا و أن الموضوع الرئيسي الذي سيساعدكم على فهم هذا الأمر بوضوح أكثر إذا تفكرتم به، هو أن الله تعالى يقول أنه خبير بما تعملون، وفي هذا الأسلوب من التأكد يمكن فهم الآية الكريمة كما لو أنها تقول : انكم لا تعلمون تماما ولكن الله يعلم. انكم لا تفهمون تماما ولكن الله بكل شيء خبير . و أنكم لا تقدرون ولكن الله يقدر. هذه هي الرسالة الرئيسية هنا ومعها أخبرنا الله تعالى أن نعتني بتربية أبنائنا، كما وتعني أن بعض أفعالكم في هذه الحال التي أنتم عليها تبين أنكم لا تدركون معها ما هي النتائج التي تترتب عليها ولكن الله تعالى يعلم بأن نتائج هذه الأعمال لن تؤثر عليكم وحدكم فقط بل سيمتد تأثيرها إلى المستقبل فيظهر هذا الأثر في أولادكم، ولهذا فإن عليكم الحصول على التقوى . كونوا واعين حذرين و انظروا ماذا تقدمون للغد و المستقبل. إن القرآن الكريم يشير من خلال هذا الشرح إلى حقيقة الأعمال التي تؤثر على المستقبل . الإنسان لا يفهم أو يقدر هذه الأعمال، ولكن الله تعالى يعلمها ويحذر الإنسان من أنها بلا ريب ستؤثر على مستقبله بشكل سيء، ويتابع القرآن الكريم تحذيره فيقول لا تكونوا كالذين نسوا الله فجعلهم الله ينسون أنفسهم وأحوالهم فيصيرون غير عالمين بما هم عليه.
والآن انظروا كم أن هذا البحث وثيق الصلة بموضوعنا الأول. وهو أن الناس الذين لا يهتمون بأفعالهم هم الذين ينسون أنفسهم. ثم يبين الله تعالى في نفس الآية موضحا أكثر حيث يقول ان الله خبير بما تعملون ولكنكم لا تدركون ذلك، انكم الذين نسوا الله ، ومن ينس الله يجعلهم الله ينسون أنفسهم. وعند ذلك لا يستطيعون معرفة أحوالهم وتقدير ما هم عليه من سوء وخطر، ونتيجة ذلك انهم يخلفون وراءهم أجيالا تضل عن الصراط . ولذلك فإن أول و أهم شيء تفعلونه هو أن تنظروا في أنفسكم ثم يأتي بعد ذلك دور قلقكم و اهتمامكم. فإذا ما كانت مواقفكم وأساليبكم صحيحة، وكانت لديكم صلة قوية بالله تعالى وإذا لم تنسوا الله ربكم اذن فإن قلوبكم ستظل مفعمة بنور الله حتى شغافها ولن يستطيع الشر أن يتغلب عليكم مطلقا . انه من المستحيل للقوى غير الإلهية أن تتغلب على الأمم التي تذكر الله. ولقد تم بحث هذا الموضوع في مكان آخر في القرآن الكريم حيث يطلب الشيطان من الله تعالى أن ينظره إلى يوم القيامة وذلك من أجل أن يغوي الإنسان ويجهد في إضلاله. نجد هناك أن الله تعالى قد وبّخه وقال له افعل أسوأ ما لديك وهاجم عبادي بكل ما تملك من قوى ، ولكني أخبرك بأن عبادي ليس لك عليهم قدرة أو سلطان، وسيخيب سعيك . ان هذا أيضا يرينا وبكل بساطة أن الشر ليس له سلطان على الخير ولا يقدر أن يتغلب عليه طالما أن هذا الخير صحيح وحق، بل هو الذي يهزم الشر وينهيه . ولذلك فإذا كانت لا تزال فينا نقائص وفجوات كانت الفضيلة فينا مجرد قشور ظاهرية ، أو كان الخير لدينا فارغا من مادته ، اذن فإن هذه الأنواع من الخير والفضيلة الفارغة المحتوى لا يكون لها في الواقع أي وجود . انها مجرد قشور فارغة و لذلك فلا بد من أن يحتلها الشر. انتبهوا جيدا واعلموا أنه أمر جوهري وغاية في الأهمية :أن تحللوا أنفسكم ونقائصكم بكل عمق وصدق و دقة، و أن تدرسوا أحوالكم وأحوال ما يحيط بكم جيدا . إن الآباء القلقين على تربية أولادهم ويقلقهم التفكر بالمصير الذي سيؤولون إليه ، عليهم أولا أن يقلقوا على أنفسهم هم، يجب عليهم أن يصححوا صلاتهم على ضوء تعاليم الإسلام، يجب عليهم أن يعطوا الأفضلية للإيمان وفي كل شيء. وعليكم من جانب آخر أن تتبينوا أنه إذا كان الحديث في البيت طوال اليوم يدور عن متع الدنيا فقط ويبحث في أن كذا و كذا قد صار فيه كذا وكذا و أن علينا أن نحصل على كذا وكذا ، و أننا سنبني بيتا لأنفسنا على هذه أو تلك الطريقة، واننا سنفعل هذا وذاك، وسنعلم أولادنا بهذه أو تلك الطريقة ، و سيصبحون رجال الدنيا العظام . فإذا ما كان الاهتمام اليومي يدور حول هذه الأمور ويظل المحور والمركز للاهتمام و إذا ما ظل الحصول على المكاسب المادية الدنيوية هو مركز المنافسة في حياتكم، اذن الاعتقاد بأن أبناءكم في تلك الحال سيظلون أخياراً صالحين وأصحاب فضيلة أنما هو مجرد وهم زائف لا طائل وراءه. انه أمل جيد ولكنه نادرا ما يتحقق ، ذلك أن النتائج الجيدة انما تكون مع الآمال التقية، كما وأن الأعمال الحقيقية الملموسة هي أيضا ضرورية. يجب على كل الجماعات في أمريكا وكندا بصورة خاصة، وكل الجماعات في العالم أجمع والتي تستمع إلى ندائي هذا أن يلقوا السمع باهتمام عميق إلى هذا التنبيه في القرآن الكريم. إن عليكم أن تسألوا أنفسكم فيما إذا كنتم قائمين حقا على الخير والصلاح، أو فيما إذا كنتم تعطون الأفضلية للإيمان على قضايا الدنيا. هذه هي المسائل الأهم. وإذا ما كانت إجاباتكم على هذه الأسئلة بصيغة الايجاب فإنني عند ذلك أؤكد لكم بكلمات من القرآن الكريم إن شاء الله تعالى لن يضل أبناؤكم، اللهم إلا إذا تدخلت حماقات ونقائص ضعف أخرى، ثم وبشكل مؤسف أثرت على أطفالكم.
يكون الناس أحياناً أخيارا ويمتلكون صفات جيدة. إلا أنهم لا يكونون يقيظين، وقد لفت القرآن الكريم نظرنا إلى ضروروة اليقظة و أن نكون واعين حذرين على الدوام. ففي بعض الأحيان وبالرغم من كون الأهل أخياراً صالحين مداومين على صلواتهم وعلى ذكر الله إلا أنهم مع ذلك يفقدون أولادهم بعيداً عن الصراط . القرآن يقول أن نكون أخياراً فاضلين لا يكفي بل إن علينا أن نكون واعين وأن نظل حذرين يقظين
عليكم أن تتبينوا عن قرب الوجهة التي يأخذها أبناؤكم ، فإذا جمعتم الفضيلة و الخير الحقيقي إلى الوعي والحذر واليقظة و الانتباه القريب للأطفال، إذن بفضل الله تعالى لن يضلوا أو يضيعوا. إنني على علم كامل بالمشاكل والنقائص التي تعاني منها هذه المجتمعات و التي تواجهكم ، ولكنني أيضا أعلم أن هناك من العائلات الأحمدية والتي تعيش في نفس هذه المجتمعات و لكنها ليست خاضعة لأي خوف، كما و أن أولادهم أيضا يكبرون وهم بفضل الله تعالى على المنهاج السليم والصراط السوي . إنهم لا يعتبرون أنفسهم آمنين وحسب، ولكنهم أيضا يؤثرون على محيطهم بشكل إيجابي جيد، و هكذا فإنهم يشكلون برهانا جيدا على صدق القرآن الكريم . انهم منارات هدى للآخرين، الآمال معقودة عليهم مباشرة بسبب أنه إذا كان بالإمكان حدوث مثل هذا الأثر لدى بعض العائلات فلماذا لا يكون ممكنا في غيرها؟
أولا وقبل كل شيء ، تخلصوا من الإحساس بعقدة الضعف كأن الشر يستطيع التغلب عليكم . القرآن الكريم يخبركم أن ذلك لن يحدث أبدا بشرط أن تظلوا ثابتين بقوة على الخير وسيهرب الشر من أمامكم خائفا مذعورا ولن يكون بكم حاجة أن تهربوا أنتم من الشر.
و لأولئك الناس الذين يسألونني فيما إذا كان عليهم أن يغادروا هذه البلاد من أجل انقاذ أبنائهم من مفاسدها ، فإن جوابي هو إذا كنتم ضعفاء إلى الحد الذي لا تستطيعون معه أن تحموا أنفسكم، عندئذ يكون من الأفضل لكم التخلي عن العالم في سبيل إيمانكم و أن تهربوا من هنا. ولكنه لا يليق على كل حال بمن آمن بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يهرب من وجه الفساد . لأن محمد عليه الصلاة والسلام لم يهرب أبدا من الشر. لقد كان على محمد صلى الله عليه وسلم أن يغير مصير العالم أجمع وكان عليه أن يحقق ذلك من خلال خدامه المتواضعين، كان عليه أن يغير قدر العالم من خلال الذين يتبعونه ويحبونه ويحيون سنته و أخلاقه. فإذا بدأ هؤلاء بالهروب من ميدان المعركة مع الشر، إذن من الذي سيغير مصير العالم و ينقذه من الفساد المحيق به ؟ من أين سيأتي أمثال هؤلاء؟
إن الملائكة لا تهبط من السماء لتحقيق هذه الأمور بل لا بد للإيمان بالله الواحد أن ينمو و يزدهر وينتج هذه الملائكة. ولقد أثر عن أمة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم في السابق أنه يمكن لمثل هذه الملائكة أن تتشكل وتظهر، وبكل تأكيد فإنها إن شاء الله تعالى ستستمر في الظهور في المستقبل أيضا. عليكم أن تخلقوا الثقة و الإحساس بالقوة في نفوسكم ، وافهموا تماما أنكم لم تُخلقوا لتهزموا، بل إنما خُلقتم لتنتشروا وتسودوا. عليكم أن تتعلموا من القرآن الكريم كيف تنشرون وتسودون. افهموا تماما هذا المبدأ الحق: إن العالم لا يغلب بالفراغات ولكنه يكسب بالصلابة و الفعالية ، ولذا فإن عليكم أن تحولوا مفاهيم الخير والفضيلة عندكم إلى أفعال صالحة . تابعوا في البحث وتفحص الفراغات داخلكم وحاولوا أن تملؤوها بالخير وكنتيجة لذلك فإنكم إن شاء الله تعالى ستنجون من الشر ليس أنتم فقط بل أولادكم أيضا، وبدل الخوف من شر أي مجتمع فإنكم ستبدؤون بالتغلب والسيطرة عليه وعلى ما حوله. وهذا على كل حال هو قول عام . والسؤال هنا هو كيف يمكن ملء هذه الفراغات؟
إن دراسة القرآن الكريم تبين أن على الإنسان أن يراقب نفسه طوال الوقت، وعليه أن يكون ساهرا يقظا حيال ذلك بشكل مستمر . وفي حقيقة الأمر فإن للتقوى صلة وثيقة بهذا الأمر . إن أحد معاني التقوى هو الخوف . أي أن عليكم أن تحصلوا على الخوف من الله. ولكن أي نوع من الخوف نعني. إن الإنسان لا يخاف من الله تعالى على أساس أنه كائن مخيف مرعب، بل على أساس أنه كائن لطيف محبب بلا حدود بحيث أن الإنسان يرغب في أن يملكه و يكسب رضاه و أن يتكلم عنه دائما. إن المرء لا يتكلم بشكل محبب عن شيء يخاف منه، و لذلك فإنكم عندما تفهمون حقيقة التقوى، فإنكم إن شاء الله تعالى ستتفهمون أيضا وبدون أي جهد كيف يمكنكم أن تخلقوا الخير في نفوسكم.
عندما يخاف الإنسان من شيء، مثلا كما الأطفال يخافون من الأشباح والسحرة ، فكلما ازددت في ذكر هذه الأشياء أمامهم كلما ازداد الأطفال خوفا قائلين: إن لم تذكر لنا هذه الأشياء المخيفة؟ و لذلك فإنه لا يمكنكم ان تخافوا من شيء وبنفس الوقت تستمرون في ذكره والتحدث عنه طوال وقتكم، ذلك أنه من طبيعة الإنسان أن يهرب من الأشياء التي يخاف منها . وهو حتى يهرب من مجرد ذكر اسمها. وهكذا فإنه مهما كان مفهوم التقوى فإنه بالتأكيد لا يمكن أن يعنى أن تهربوا من الله في ذعر وخوف، ولكن المعنى الحقيقي للتقوى هو أن عليكم أن أحبوا الله تعالى بحيث أنكم تصيرون في خوف مستمر من أن يترككم ، نخاف أن نرتكب عملا يؤدي إلى اضعاف صلتنا بالله. هذا هو الخوف الذي تعنيه التقوى، ليس هو الخوف من أن يقترب الله منا، بل هو الخوف من أن يبتعد الله عنا.
عندما تفهمون معنى التقوى فإنكم ستدركون أن الخوف من الله هو في الحقيقة نتيجة حبه تعالى . إنك عندما تحب شخصا بشكل عميق بحيث يملأ حبه قلبك فإنك تجد أن هذا الحب يترافق دائما فيه الشكوك حتى من غير سبب. هناك مثل فارسي يقول: (( إن حبا واحدا يؤدي إلى الآلاف من الشكوك )) يقفز الشك في الصدر فتقول: (( إنه لم ينظر إلى كما يجب في تلك المناسبة، فهل يا ترى هو غير راض عني؟ لقد قال ذلك الأمر في ذلك الموقف، فهل كان يعني أنني ارتكبت خطأ ما ؟ )) . لدي خبرة شخصية في هذا المجال : الناس يتمتعون بحب غير عادي للخلافة فلو مرة واحدة و عن غير قصد مني لا انظر إليهم فسرعان ما أبدأ بتلقي الرسائل منهم يقولون: ((إننا لا ندري ما الخطأ الذي ارتكبناه فجعلك غير راض عنا، لقد كنت سابقا تنظر إلينا مبتسما، ولكنك في تلك المناسبة نظرت إلينا مارا مرور الكرام. وهكذا فإن رسائل هؤلاء الأحبة ذكرت الكثير عن خوفهم من أن أكون غير راض عنهم.
في رد على رسائل مشابهة كتبت المثل الفارسي المذكور آنفا إلى صديق و أضفت: أنني لم أكن غير راض عنه، ولكنني الآن عرفت أنه يمتلك لي حبا صادقا وعميقا جدا، و ذلك لأنه كان طوال الوقت يعاني من الخوف أن أكون غاضبا منه.
و إذا ما طبقتم هذا المفهوم على الصلة بالله تعالى فإنكم ستدركون كيف تمضي حياة أولئك الذين يتميزون بالتقوى، انهم يكونون في جميع أحوالهم و أوقاتهم خائفين من أن يكون الله تعالى غير راض عنهم.
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون إليه بهواجسهم وشكوكهم يقولون: يا رسول الله اننا في بعض الأحيان ولعدة أيام نجد أن قلوبنا لا تقفز بحب الله وذكره كما كان يحدث معنا في أيام أخرى، وان الإحساس العظيم بالشوق والمحبة لله لا يظهر بعض الأحيان في قلوبنا، لذلك نخشى أن نكون قد أهلكنا، لا ندري ماذا حل بنا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك يعزيهم ويحاول أن يجعلهم يفهمون الحقيقة بطرق متعددة.
اذن هذه هي التقوى، ولذلك فإن المرء يحصل من خلالها على الخير والفضيلة الحقة. وإذا ما استمر الإنسان بالتفكر بالله ليتأكد من أنه تعالى لن يكون في أي حال غير راض عنه، متفكرا في أنه ربما يكون قد فعل شيئا أدى إلى تقليل حب الله له، يقول في نفسه: هل تراني فعلت بالأمس شيئا ربما يكون قد أدى إلى انقاض صلتي بالله تعالى وحبه لي، ومن ناحية أخرى يتفكر هذا التقي يقول: كيف ومتى تجلى الله علي بحبه؟ وإذا كان هنالك نقص في صلتي بالله تعالى فماذا عساه أن يكون السبب؟
تلك هي الفراغات في حياتكم والتي عليكم أن تملؤوها أولا، وأما إذا امضيتم حياتكم في حالة النسيان و اللامبالاة وعدم الاهتمام فهذا يعني أن حياتكم بأكملها هي فارغة.
ان معنى (( لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ))، هو ببساطة كالتالي: انكم نسيتم الله، ولم تعودوا في حياتكم تملكون ذلك الصاحب العظيم على الدوام ، وعلى ضوء هذا كيف يمكنكم حتى أن تحملوا بالحفاظ على أنفسكم وعلى أولادكم، أو أن تظلوا عالمين بحالكم شاعرين بأنفسكم؟
الا إن عليكم أن تذكروا الله بحيث يظل ذكره دائما العامل المسيطر في عقولكم. يجب أن تعوّدوا أنفسكم على أن تطير عقولكم دائما مرتفعة إليه تعالى. ويجب أن تعتادوا أن تجعلوا كل حركة من جسدكم تتحرك إليه هو. دائما عليكم أن تظلوا في حالة الإسلام إليه تعالى وقلوبكم متجهة إليه عز وجل. وكنتيجة لذلك فإنكم ستتبينون الفراغات فيكم وكذلك ستعرفون كيف تملؤونها، و إلا فإنه لا يمكنني في خطبة واحدة ولا حتى في مئات الخطب أن أذكر لكم جميع الفراغات والنقائص المحتملة الوجود فيكم . إن حالة كل إنسان تختلف عن الآخر وبالتالي فإن نقائصه أيضا تكون مختلفة، وكذلك تختلف أيضا كوامن قوته. وإن المجتمع أيضا يؤثر في كل إنسان بشكل مختلف، ولذلك فإنني لا أستطيع أن أعطيكم اية وصفة علاجية غير تلك التي وصفت لكم. عليكم أن تلتزموا بتقوى الله من خلال تلك المعاني التي أبين لكم والتي تعلمتها من القرآن الكريم ومن الرسول الكريم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، و هي تعني أن عليكم أن تظلوا دائما مهتمين و متفكرين فيما إذا كان الله تعالى يحبكم أم لا يحبكم . فيما إذا كنتم على صلة وثيقة معه أم لا. وعندما تهتمون بهذا الأمر فإن الصلة بالله ستبدأ بالنمو من ذاتها، وتدريجيا ستبدؤون بالشعور بالسعادة بهذه الصلة، وستظل هي مصدرا دائما للإصلاح بحيث لا تترككم في أي حال كان، بل ستكون معكم دائما ليل نهار، نائمين أو يقظين ومع مرور الوقت ستصير هذه الفكرة هي الأهم في حياتكم و إذا ما بدأتم رحلتكم للإصلاح بهذه الفكرة، فإنني إذن أؤكد لكم إن المجتمع الدنيوي لن يستطيع التغلب أو السيطرة عليكم. وببساطة فإنه من غير الممكن للذين يحبون الله حقا. الذين يذكرونه دائما، والذين هم في كل لحظة مستعدون للموت خوفا من أن يفقدوا حب الله لهم، إنه من غير الممكن أبدا أن يغلب هؤلاء من قبل أي مجتمع في العالم. عندما تكون لديكم مثل هذه الصلة بالله تعالى، فإنه من المستحيل عليكم عندئذ أن تجتنبوا الحديث مع أطفالكم منذ سن مبكرة عن الله تعالى. إن أولئك الذين يشكل ذكر الله عاملا قويا ومسيطرا في حياتهم يكلمون أطفالهم بشكل دائم ومستمر عن الله تعالى. إن هذا الأمر يعتبر لدى الأحمديين خبرة شائعة، أقابل الكثير من العائلات خلال اسفاري، ومن مقابلاتي للأطفال أدرك مباشرة حالة والديهم. ومن خلال سلوكهم وأعمالهم المبكرة يبدو واضحا أنهم يملكون الحب لله تعالى، يتكلمون عنه عز وجل ببراءتهم، إنهم أيضا يرتكبون بعض الأخطاء، ولكن النتيجة الواضحة التي يتوصل المرء إليها هي أن آباء هؤلاء الأطفال قد حاولوا أن يعلموهم حب الله منذ نعومة أظفارهم.
إنك إذا كنت تملك في قلبك الحب لله، فإن هذا الحب لا بد أن ينعكس في قلوب أطفالك. إنك ستخاف وتتجنب أي أمر قد يأخذ أطفالك بعيدا عن الله. وسيرى أطفالك كراهيتك للشر، ويبدي وجهك الحزن الذي يسبه الشر. ان الأطفال يستطيعون حمل الكثير من الأعباء وعلى قدر ما يُحمَّلون، لذلك يخطئ الذين يبدون الشفقة في هذا الأمر، يقولون سنعلم أطفالنا فيما بعد، ولن نحملهم الآن فوق طاقتهم. ان هؤلاء سرعان ما يدركون نتيجة لذلك ان بعد كل ما تعلمه الأطفال في سن مبكرة فانه لا يتبقى لهم إلا مقدرة محدودة لتعلم المزيد. ولقد اختبرت بنفسي ورأيت انه يمكن تعليم الأطفال ست او سبع لغات في نفس الوقت يتكلمونها بطلاقة كما لو كانت جميعا لغاتهم الأصلية، وذلك فقط بسبب ان والديهم قد وضعوا عليهم عبء هذا التعلم منذ البداية.
من ذلك يمكنكم ان تدركوا مدى القدرة الذهنية الهائلة التي يتمتع بها الأطفال، كما ويمكنكم ان تعقدوا عليها آمالا عظيمة. ان نقاط الضعف الموجودة في قلوب الوالدين (يقرأها) يقرؤها الأطفال فهم يعلمون جيدا مواصفات والديهم وكذلك اهتماماتهم الحقيقية ويبدؤون بالتطور طبقا لمعرفتهم تلك، فاذا بقيت فكرة صلتكم بالله هي الأعلى والأهم في عقولكم، وإذا بقيتم على الدوام خائفين من أن تكونوا قد اغضبتم الله تعالى، أو أن تكونوا قد حرمتم من تلك الأعمال التي ينظر الله تعالى إليها برضى وقبول وحب. إذا ما بدأتم تفحص حياتكم اليومية بهذه التفاصيل وطورتم شوقا دائما في عقولكم بهذا الشأن، فإنني عند ذلك أوكد لكم أن انعكاس هذا الأمر سيظهر أيضا في أطفالكم، ثم وبعفوية وبحسب قوانين الله في الطبيعة فإن الله سيسيطر عليهم وينتشر في كيانهم.
إن هذه ليست مجرد خبرة تتعلق بجيل واحد فقط، بل إنها خبرة مأخوذة عن مئات من الأجيال، ولقد أثبتت فعاليتها وجدواها في كل حين. لقد كانت فعالة في الماضي وجدواها في كل حين. لقد كانت فعالة في الماضي. وإنها فعالة اليوم أيضا. وكذلك ستظل فعالة في المستقبل. إذن هنالك حاجة ماسة للتفحص الذاتي، فعندما أقول في المستقبل. فعندما أقول لكم: أحبوا الله، عند ذلك قد يبدو للبعض ان هذا الأمر شيء يسهل فعله، وإنها مسألة سهلة، وربما يقولون في انفسهم انهم قد وجدوا طريقة سهلة، لحل هذه الأمور، سيذكرون الله ويكون كل شيء على ما يرام.
أن تذكروا الله تعالى ضوء التعريف الذي قدمناه للتقوى ليس بالأمر السهل كما قد تظنون. والسبب هو انه مع الذكر العادي لا بد من بعض المتطلبات فإن الذكر يغدو بلا معنى. وأقدم لكم على ذلك مثلا: إذا قلتم انكم جائعون ورغبتم بأكل شيء ما، ولكن عندما يقدم لكم الطعام لا تأكلون منه، عندئذ يعد ادعاؤكم الجوع بلا معنى. إذا كنتم ظامئين ثم حين يقدم لكم الماء أو ما ترغبون في شربة لا تأخذونه لتشربوا، فإن زعمكم بالظمأ يصير بلا معنى، فإما أن يكون ظمؤكم زائفا، او أنكم لا تملكون الذكاء بحيث تدركون انكم قد قدم لكم ما يروي ظمأكم ولكنكم لم تستفيدوا منه. وبمثل ذلك ستقابلون بمتطلبات، حيث يقول الله إذا كنتم تحبونني وتذكرونني، إذن عليكم أن تفعلوا هذا وذاك، وستشعرون في كل مناسبة أنكم لستم مؤهلين لفعل ما يطلب منكم، وعند ذلك ستدركون أن حبكم لله كان مجرد إحساس رومانسي ووهم، وأنه مجرد قصة خيالية ليس لها أية حقيقة، ثم عند ذلك ستجدون انكم محاطون بخوف آخر وهو أنكم تقدمون الكثير من المزاعم على حبكم لله، ويعد هذا في واقع الأمر خطيئة اعظم. إنكم إذا أصبحتم مستقرين على حالة جوفاء من الحياة، فإنكم ستحللون حالتكم وتسألون أنفسكم عن كيفية تغييرها.
عندما ترغبون بتحويل أمانيكم ومفاهيمكم إلى أعمال واقعية ثابتة فإنكم ستشعرون ذلك الخوف في قلوبكم بحيث تصبح حياتكم كلها تعاني هزة عنيفة، وكنتيجة لذلك فإن الكثير من المخاوف الضميرية النائمة تبدأ بالصحو والاستيقاظ وكما في الفصول الممطرة، تبدأ اشكال كثيرة من الحياة بالظهور، ويبدو كما لو أن العالم بأجمعه قد أُحيى بعد ممات، وبنفس الصورة فإن فإن هنالك مالا يُحصى من العوالم النائمة في الإنسان، والخوف من الله تعالى يوقظها ويبعثها من جديد. ستمرون في تلك المراحل التي شرحت لكم، وعند ذلك ستدركون مغزاها الكامل، ولن تستطيعوا بغير ذلك فهمها. وعندما تبدو لكم المتطلبات منكم مع اعترافكم بحب الله تعالى، وتجدون أنفسكم غير مؤهلين وغير قادرين على الاستجابة لها، عند ذلك فإن أشكالا كثيرة من الخوف ستبعث داخلكم، كما وسيثار فيكم اهتياج واضطراب واحساس بفقدان الراحة، وستدركون حينئذ فقط عددا من المفاهيم التي كان عليكم أن تنتبهوا لها ولكنكم لم تكونوا قادرين على ذلك. وستبدؤون بالمسير على طريق ثورة روحية. وستواجهون حقيقة أن جيوبكم فارغة.
عندما أقول إن الموضوع واسع جدا إلى حد أنكم لن تستطيعوا إدراك عمقه وابعاده. سترون عند ذلك وجهة نظري في حقيقة أن أولئك الذين امتلكوا البصيرة والفهم والمعرفة والإدراك أن يجدوا الله بهذه الطريقة فإنهم غالباً وبعد رحلة تستمر العمر بأكمله مجاهدين من أجل ملء الفراغات في حياتهم، حتى في النهاية فقد وجدوا أنفسهم فارغين بدون أية ميزة أو أهلية.
ذلك هو متطلب البصيرة الحقيقية، وأن الأمر لا بد أن يكون على هذا الشكل. ذلك لأنه من غير الممكن للإنسان أن يملأ نفسه بعظمة الله بشكل كامل، لأن هذه العملية في الحقيقة هي غير محدودة ومستمرة بلا نهاية، وكلما ازداد تطور الإنسان فإن متطلبات وحاجات أعظم تظهر فيه، ويبدأ برؤية نقائصه ونقاط ضعفه وهو يشعر بالمزيد من الأسى والألم، ويستمر باكتشاف المزيد والمزيد من الضعف. وهكذا فإن مثل هؤلاء الناس يكونون موهوبين بالبصيرة والفهم. أن هؤلاء النخبة عندما يتضرعون إلى الله يرفعون إليه دعاءهم يقولون:
وهكذا يتوسلون قائلين:
تنبعث من قلوبهم تأوهات الحب التي لا تحصى والتي يمكن أن تبدو غريبة للآخرين. وعندما يستمع الناس إلى مثل هؤلاء الموهوبين بالفهم والبصيرة يخاطبون الله بهذه الصورة فإنهم يندهشون لذلك. إن حضرة المسيح الموعود عليه السلام الذي اختاره الله تعالى إماما لهذا الزمان ووهبه هذه الدرجة العظيمة وأنه بعد أن جعله الله اكمل خدام محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ووضعه في مرتبة الإمامة يقول مخاطبا ربه عز وجل:
إنكم تندهشون عندما تسمعون هذا الكلام من الشفاه المباركة للمسيح الموعود عليه السلام وتتسألون: هل هذه هو الإمام الذي نؤمن به كإمام لنا والذي تم اختياره من الله تعالى إماما في هذا الزمن، يصف نفسه هكذا. تنظرون هنا إلى العواطف الجياشة باستغراب. وسخر الخصوم في اجتماعاتهم من هذا الكلام يقولون: انظروا إلى مرزا هذا الذي زعم أنه إمام العالم يقول: يا محبوبي إنني دود الأرض ولست جديرا بأن أكون بشرا، إنني سبب عار البشرية ومصدر اشمئزاز للإنسانية.
كيف يمكن لمثل هذا الإنسان أن يكون قائدا للعالم وكيف يمكن أن يكون جديرا بهداية البشر؟ أن هؤلاء البسطاء السذج لا يعلمون أنه عندما يخاطب مثل هؤلاء العباد المتميزين الله ربهم، ينظرون إلى أنفسهم بالمقارنة مع صفات الله العظمى. إن الشخص الذي يعلم عظمة الله، والذي وهب الفهم والحكمة، فإنه حين يقارن نفسه مع عظمة الله تعالى يرى نفسه أقل من هباء وأنه أصغر وأحقر كائن، ويبدو واضحا تماما بالنسبة إليه أن الأحد الذي يتوجه إليه إنما هو وجود كبير عظيم لا حدود له، وأنه أوج الخير وذروته، وأن كل الخير يصدر عنه وإليه يرجع، وعندما ينظرون إلى أنفسهم بالمقارنة معه تعالى فإن وجودهم يستمر بالصغر حتى يختفي ويتلاشى فلا يرى نهائيا. تستطيعون أن تتخيلوا كيف يمكن أن يكون حال من ينظر إلى الله تعالى. وحتى أهل الدنيا عندما يملكون الفهم والبصيرة يدركون نفس الحقيقة في أمور الدنيا. مثلا عندما يتأمل العلماء في الكون متفكرين ويلقون النظر إلى ما وراء المجرات الجديدة التي يكتشفونها، فإنهم يبدؤون بالشعور بالصغر في أنفسهم فيعلنون أنه بعد التفكر بالكون ومعرفة بعض جوانبه، وبغض النظر عنا نحن فإنه حتى عالمنا بأكمله يبدو بالمقارنة شيئا تافهاً وحقيراً.
في مجلة (الريدز) الريدر دايجست وأطلس العالم تم نشر صورة لمجرة وفيها سهم يشير إلى نقطة غير مرئية وملاحظة تقول: ” إن مجموعتنا الشمسية- متضمنة كل الكواكب معها- توجد في مكان ما حيث يشير السهم، ولكن بالمقارنة مع الكون فإنها غاية في الصغر بحيث أنه لا يمكن تمثيلها ولا حتى بنقطة، ذلك لأن المكان الذي ستشغله النقطة إنما هو أكبر بكثير من المكان الذي تشغله مجموعتنا الشمسية بالمقارنة مع الكون.
إن الذي يتوجه ذاهبا إلى الله، ويجلى الله تعالى عليه ذاته، فقط تخيلوا إلام يتقلص عالمه. وهل سيبقى هنالك شيء من وجوده؟ ولكي يحصل ذلك المؤمن على المزيد، يمضي مسافرا اقرب من الله تعالى، يبحث بعمق أكبر في تلك السبل والتي هي سبل رضي الله عز و جل والتي تكسبه تجلي الله عليه ويصير واحدا معه.
إنها لرحلة من غير نهاية، الفراغات ستستمر بالامتلاء، وفجوات جديدة ستستمر بالظهور، ولكن الفراغات التي تملؤ بجمال وحب الله تصير محصنة تماما ضد جميع شرور العالم. عليكم أن تملكوا يقينا ثابتا بذلك، وأن تعلموا أن الله وحده يستطيع أن يملأ تلك الفجوات. وعندما تميل أشواقكم ورغباتكم ووجهاتكم جميعا نحوه، وعندما يبدو لكم بقية العالم بلا معنى، عند ذلك وفي أثناء توسلكم لفضل الله تعالى في أي مكان تعيشون فيه حياتكم كائناً أمريكا أو روسيا أو أي بلد آخر في العالم، فإنكم ستوهبون إدراكاً عظيماً لعزتكم وشرفكم وعظمتكم. إن هذه العواطف ستصحو داخلكم كنتيجة طبيعية لتواضعكم الكامل وبسبب التواضع الكامل يكسب المرء مثل هذه الرفعة. وبفضل الله تعالى يبدأ المرء بإحساس بالقوة، ويعلم أن لا بد سينتصر ويتغلب، ويدرك أنه قوي إلى حد أن الموجودات غير الإلهية لا تستطيع أن تقهره وتتغلب عليه. وتختفي من حياته جميع المخاوف والأخطار والمخاطر وتفقد أهميتها.
أنكم إذا أدركتم هذه الحال فإن أطفالكم أيضا سيحصلون ومنذ ولادتهم على العظمة في الشخصية، وسيمشون في هذا المجتمع برؤوس مرفوعة. ولذلك فإنكم إذا تعلمتم أن تعيشوا بهذه الطريقة وإذا كنتم ترغبون بالحصول على عون الله تعالى من أجل أن تعيشوا هذا النوع من الحياة، وإذا ما دعوتموه، فإنني عندئذ أؤكد لكم أنه ليس هناك خطر على أنفسكم ولا على أولادكم. ستكونون أنتم وأولادكم معرضين للخطر فقط عندما تكونوا أنتم أنفسكم أولاً خاضعين له. لذلك فإن عليكم أنتم اولاً أن تقهروا الخطر الذي يواجهكم، وعند ذلك باليقظة والوعي راقبوا أطفالكم بذكاء وتعقل كما علمنا الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أن نفعل. عليكم أن تتقدموا بأفعالكم الحسنة الخيرة مراقبين أطفالكم واثقين بالله، مدركين أن عالم الله هو عالم حقيقي فعلاً. وأن وجوده وشخص محمد وأخلاقه لا بد أن تنتصر وتتغلب وتنتشر. ابدؤوا بملء فراغاتكم بشخصية وأخلاق محمد المصطفى ، وكونوا متأكدين أنكم أنتم فقط الذين ستغلبون وتنتشرون في العالم. بسببكم أنتم سيتغير مصير العالم، ولن يستطيع العالم أن يغير مصيركم. تبينوا كم أن هذه البلاد بحاجة إليكم.
عندما أسمعكم تتحدثون عن المخاطر والمخاوف فإن شعوراً آخراً بالقلق ينتابني، أقول في نفسي: أن هؤلاء الذين أسمع منهم هذا الكلام هم سفراء الإسلام، إنهم قد جاؤوا إلى هذه البلاد ليغيروها ويزيلوا فسادها. أي نوع من السفراء هم الذين يخافون من أن فساد هذه المجتمعات يمكن أن يتغلب عليهم؟ إن هذا الخوف من أن يتغلب عليهم الآخرون لا يلائم الإنسان الذي يخص محمداً المصطفى . إن مثل هذا القلق والمخاوف بأجمعها هي في غير مكانها. إنها مخاوف تافهة جديرة بالرثاء والازدراء. اعلموا أنكم قد خلقتم للإنجازات العظيمة. عليكم أن تعرفوا وتعوا جيداً من تكونون؛ عليكم أن تدركوا عظمتكم لدى جميع الجنس البشري. عليكم أن تدركوا معنى أنكم تنسبون إلى الرسول الكريم محمد المصطفى وأنكم قد خلقتم لتظهروا على العالم كله. ولقد أظهر ذلك في المرحلة الأولى محمد ذاته، وعليكم أنتم في المرحلة الآخرة أن تظهروا ذلك. ومن أجل أن يتم هذا الأمر عليكم أن تبدؤوا رحلتكم في الخير والفضيلة بالدعاء والشجاعة.
إن دعواتي ترافقكم، وإنني أؤكد لكم أن دعوات جميع الآخرين سوف تبني حولنا السور العظيم لحماية الله لنا. ولن يمتلك خصم، مهما أوتي من القوة والعداوة، أن يجتاز حماية هذا السور العظيم لنا، ربنا آمين”.