في عالم التفسير

إن علاقة هذه الآية بما قبلها أنها استهلت بقوله تعالى: ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيْهِ ، وبعدئذ لما دُعيَ الناس قاطبة إلى عبادة الله الواحد، ثارت ثائرة الأعداء، وقالوا: كيف توجهون إلينا هذه الدعوة وقد ادّعيتم بأنه لا ريب في هذا الكتاب، بينما الريب كل الريب فيما قدمتم في أول هذا الكتاب من التوحيد الذي يفتح أبواب الشكوك على مصارعها وهو باطل عندنا كل البطلان، لذلك إن أوْكدَ وأوْثقَ ما تقولونه لا يسمو عن الارتياب، فإلى أي خير في دينكم تدعوننا، وبأي طمأنينة تدّعون؟ فردّ الله تعالى عليهم بقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ .

ويتبين مما سبق من الشرح، أن التحدي هنا يتضمن المطالبة بالإتيان بسورة تبلغ مدى ما تشتمل عليه الآيات السابقة في أول سورة البقرة من المعاني، وليس المراد بذلك أن سائر سور القرآن عدا هذه الآيات يمكن الإتيان بنظيره، وإنما هذه الحجة على سبيل الإلزام، ومعناها أن عجزكم عن الإتيان بنظير ما في القرآن كله من معانٍ وتعاليم لبيّن ومُستبعَد كل الاستبعاد، فلكم أن تأتوا بمثل ما في بضع آيات سابقة من مضامين، لأنها هي التي أثارت اعتراضكم.

والآن نرى ما في الآيات السابقة على هذا الاعتراض من معان. ففي الآية الأولى ورد قوله تعالى لا رَيْبَ فِيْهِ ، وبسببه قال الكفار إن القرآن يثير الشك لديهم. هذه الآية تشتمل على المعاني التالية:

1- ذَلِكَ الكِتَابُ أي:

أ- هذا هو الكتاب الموعود الذي أخبر الأنبياء السابقون عنه أنكم تعطون كتابا كاملا، وهذا الكتاب يحقق أنباءهم هذه.

ب- هذا هو الكتاب الكامل الذي يحتوي على كل أمر هام لتكميل الروحانية.

ج- هذا هو الكتاب الذي جاء استجابة لدعاء عُلِّمتموه في سورة الفاتحة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .. أي صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

2- لا رَيْبَ فِيْهِ أي:

أ- لم يرد فيه أمر يثير القلق والاضطراب حقا، بل يقدم على صحة كل دعوى دلائل وبراهين، ويسدّ باب كل سوء ويفتح باب كل خير ببيان أسباب هذا وذاك.

ب- لم يرد فيه شيءٌ يُعَدُّ تهمة في حق الله جل وعلا، أو في حق أحد من الأبرار المقربين، أو في حق كتاب سماوي حق.

ج- لا يعوزه أمر مما لا بد منه للكمال في الروحانيات.

د- لا يتضمن تعليما يوقع الإنسان في المشقة أو الهلاك.

3- هُدًى لِلْمُتَّقِيْنَ أي أنه لا يقتصر على مطالبة الإنسان بالأعمال الحسنة فحسب، بل يَعِد كلّ من يتبع تعاليمه بإيصاله إلى مقام الوصال والقرب منه سبحانه، ويطلعه على مشيئته تعالى.

4- وكل من يرفضه من عنادٍ يعاقبه الله تعالى بعذاب أليم.

5- والذين لا يقوم إيمانهم به على الإخلاص الصادق، سواء من ناحية العقيدة أو العمل، فأولئك لهم أيضًا عذاب أليم.

6- إنه يقدم تعليما صادقا مدعما بالبراهين عن الله تعالى.

هذه هي مضامين الآيات السابقة للآية التي نحن بصدد تفسيرها، ولا يتحقق الإتيان بمثلها إلا إذا أتَوْا بسورة تتضمن كل هذه المضامين. والظاهر أن الإتيان بمثلها خارج عن نطاق قدرة البشر، ولا يكون مثلها إلا في كتاب نزل من عند الله تعالى. وبناء على هذه الدعوى تحداهم وقال: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ أي استعينوا بآلهتكم ليلهموكم كتابا مثله.. كما فتح هذا القرآن باب الإلهام لمتبعيه.

هذا هو ما تطالب به هذه الآية، على أن يكون كل ذلك في أسلوب جميل بليغ، لأن اللغة الركيكة لا تفصح عن المعاني بل تحدث الشك. فعندما قال القرآن إنه لَا رَيْبَ فِيْهِ فكأنه ادعى الفصاحة والبلاغة. ولكن من الخطأ الظن بأن المطلوب هو الإتيان بكلام مماثل للقرآن في الفصاحة فحسب، لأن هذا بمثابة تقديم قطرة من البحر لا غير.

وجملة القول إن القرآن الحكيم ردَّ ردًّا مفحما على المعترضين بأن القرآن مثير للريب فيما قدّمه من دين، وفيمن هو صاحب هذا الدين، وتحداهم بحيث ألقمهم حجرا لم ولن يسيغه أحد. أما الاعتراضات فما زالت مستمرة، ولن تزال كذلك ما دام هناك قلوب فارغة من التقوى. ولكن إذا تقدم أحد لقبول ذلك التحدي وهو خال من التعصب.. فلن يجد بُدًّا من الإقرار بعجزه، وصدق الله العظيم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ .

إن مسألة سمو القرآن وتحدي العالم بالإتيان بنظيره.. عالجها القرآن في خمسة مواضع، وأرى أن مفهوم التحدي في كل موضع منها يختلف عن غيره:

  1. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ.. ، وهي آيتنا الحالية.
  2. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (يونس: 39).
  3. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (هود: 14).
  4. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء: 89).
  5. أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (الطور: 34-35).

ويلاحَظ أن التحدي في الموضعين الأول والثاني من نوع واحد، أما تحديات المواضع الأخرى الثلاثة فكل منها له معنى خاص به. ففي سورة الإسراء كان التحدي بالإتيان بمثل القرآن كله، والتحدي في سورة هود بالإتيان بعشر سور، بينما كان التحدي في سورة الطور على إطلاق.. ولو كان بالإتيان ببعض سورة. فما السبب في هذا الاختلاف؟

قيل إن الاختلاف سببه التنـزل بهم في التحدي حتى ينكشف لهم عجزهم التام، فطالبهم أولا بمثل القرآن كله، وعندما عجزوا طالبهم بعشر سور مثله، فلما عجزوا طالبهم بسورة، وحينما عجزوا أيضًا طالبهم بحديث من القرآن. وعندي أن هذا التعليل لا يخلو من اضطراب وضعف، لأن ترتيب النزول القرآني يخالف ذلك؛ حيث كان الترتيب كالآتي: سورة الطور، ثم سورة الإسراء ثم سورة هود، ثم سورة يونس وكانت أخيرًا سورة البقرة.

فليس من السائغ نظرا لترتيب نزول السور أن يكون التحدي أولا ببعض آي القرآن فإذا عجزوا يرفع التحدي إلى القرآن كله، فلما عجزوا يخفض إلى عشر سور ثم سورة واحدة.

وقبل أن أتناول بالبحث كل تحدٍّ منها على حدة.. أود أن ألفت الأنظار إلى أن كل تحدٍّ منها جاء مقرونا بذكر المال والثروة والقوة.. ما عدا الوارد في سورة البقرة؛ لأنه صورة مماثلة للتحدي الوارد في سورة يونس أعاده الله تعالى في سورة البقرة. حيث يقول الله تعالى قبل التحدي: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (يونس: 32- 36).

وكذلك جاء في سورة الطور بعد إيراد التحدي: أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (الطور: 36- 38)

وجاء في سورة هود: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ (هود: 13).

وفي سورة الإسراء: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ (الإسراء:91 – 93).

ومن ذلك يتبين أن هناك علاقة عميقة بين التحدي المـُطالَب بمثل القرآن وبين الكنوز والخزائن. فالقرآن المجيد أيضًا كنز من كنوز الله وخزائنه. والقرآن يرد على من يطالبون بالكنوز أنهم يطالبون الرسول بما هو فعلا بين يديه.. فمعه أعظم الكنوز وأسماها. ويرد على من يطالبون بالملائكة فيقول إن الملائكة لا تتنزل لمسابقات مادية، وإنما تتنزل بالوحي القرآني، وقد نزلت بالفعل على الرسول الكريم ومعها كلام الله تعالى. فالمنكرون يطالبون الرسول بما قد حصل من قبل. وإذا أعماهم التعصب فأنكروا كون القرآن كنـزا، أو تنـزل الملائكة معه من عند الله تعالى.. فليأتوا بمثله. وهكذا يقوم القرآن الكريم نفسه ككتاب منقطع النظير.. يصدق نفسه بنفسه، ويقدم أدلة نزوله من عند الله تعالى بما فيه من الآيات والسور التي يعجز الجميع عن الإتيان بمثيل لها.

ولنلق نظرة بعد ذلك على كل آية يتحدى فيها القرآن المنكرين ليأتوا بمثله، لنفهم الحكمة من كل تحدٍّ، ومناسبته للمقام.

جاء التحدي الأكبر في سورة الإسراء يطالب بالإتيان بمثل القرآن كله.. وليس شرطا أن يكون الكلام المثيل معزوًا إلى الله، بل يجوز لهم أن يأتوا بأي كلام يريدون، ومن أي مصدر يشاءون. ولكن الشرط الوارد في الآية أن يكون مثل القرآن أو أفضل منه. والمماثلة أمر هام، بيَّنها القرآن الكريم في السورة ذاتها حيث قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الإسراء: 90). هذا هو الأمر الجامع الذي طلب الإتيان بمثله، فإذا كان المنكرون يرون القرآن من كلام البشر فعليهم أن يقدموا كلاما مساويا له في الفضائل التالية:

  1. أن يكون الكلام هداية كاملة في أمور الدين، مستوعبا جميع ضرورياته من العقائد وفلسفاتها، وصفات الله تعالى وحكمة ظهورها، وعلم الكلام، والعبادات وفلسفتها، وعلم الأخلاق ومبادئها الفلسفية، والمعاملات وأسسها الحكيمة، وما يتصل بالدين من أمور الحضارة والمدنية والسياسة والاقتصاد، وحقيقة الحياة الآخرة وما يتعلق بها.. وغيرها من الأمور الحيوية الضرورية.
  2. أن يتناول الأمور السالفة الذكر من كل نواحيها سعةً وعمقًا، ومرشدًا إلى الخير في كل مسألة دينية بكل جوانبها الدقيقة.
  3. أن تكون كل عناصرها مع سعتها ودقتها لا تقدم إلا النافع الخالي من الضرر.
  4. أن يكون الكلام عاما.. لا يخص شعبا بعينه، ولا يراعي مصلحة فئة خاصة، وإنما ينظر إلى جميع بني الإنسان، ملائما للفطرة البشرية جمعاء، ويصلح لكل الطبائع الإنسانية، ويوافق كل الأوضاع والظروف، ويناسب كل مستوى من الأفهام.

ولعل في هذا التحدي ردا على من يزعمون معرفة الأمور الغيبية ممن يُسَمَّون الروحانيين (Spiritualists)، فينبههم القرآن إلى أن الإتيان بمثل علوم القرآن مستحيل على الإنسان.. سواء أحاول هو نفسه أو بمعونة الأرواح التي يدعون الاتصال بها.

والآية التالية التي ترد على الكفار اعتراضهم بأن الرسول لا يملك كنزا وليس معه ملك، تقول: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ . فلما كان الاعتراض موجها إلى بعض الأمور التي جاء بها القرآن من أنه كنز من عند الله نزلت به الملائكة.. لذلك جاء الرد يتحدى بالإتيان بمثل جزء من القرآن وليس القرآن كله، فعلى المنكرين المعترضين أن يأتوا بعشر سور فقط تماثل عشر سور من القرآن الكريم.. وليزعموا أنها من عند الله تعالى وجاءت بها الملائكة.. ثم لينتظروا ما يكون مصيرهم بعد هذا الافتراء. وقد استعمل عدد العشرة لأنه عدد تام.

ولقد تضمنت سورة الإسراء القول بكمال القرآن الحكيم من كافة الوجوه.. ولذلك كان التحدي فيها بمثل القرآن كله. أما هنا فكان الاعتراض على بعض القرآن لا على كله، ولذلك كان التحدي بعشر سور طويلة أو قصيرة دونما تحديد.. والفرصة أمامهم متكررة عشر مرات.

وفي الموضع الثالث أعلن القرآن أنه لا نظير له أبدا، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورة واحدة من القرآن. والتحدي هنا دليل من أدلة القرآن.. وليس ردا على الكفار، وقد جاء قبل هذه الآية أن القدرة على التصرف المطلق لله وحده، والدليل على ذلك هو القرآن الحكيم نفسه. وأورد الله تعالى خمسة تحديات قائلا: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (يونس: 38).

فهو أوّلا يحتوي على تعليم لا يمكن أن يؤتى بنظيره، وهو ثانيا يصدق الكتب السماوية السابقة، وهو ثالثا يكمل الأحكام الناقصة فيما سبق من كتب، وهو رابعا مصون عن كل عبث أو تصرف إنساني، وهو خامسا تعليم عام من رب العالمين لجميع بني النوع الإنساني ولجميع الأزمان.

وعقَّب على ذلك بقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (يونس: 39).

فإذا لم يكن كل ما ذكرناه عن القرآن حقا وصدقا فأتوا بسورة مثله تتصف بتلك الصفات الخمس. أما وأنكم لن تستطيعوا الإتيان بسورة واحدة فأنّى لكم أن تأتوا بكتاب مثل القرآن في فضائله التي لا تحصى. فالمثلية هنا يراد بها فضائله.

والتحدي الرابع فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ.. ويراد به ما جاء في أول السورة: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (الطور: 2 – 9).

وهذا إعلان مؤكد بأن القرآن هو الكتاب الموعود به على جبل الطور، وهو الذي لن يزال مكتوبا ومنشورا في الدنيا، مقروءًا على الدوام ودون انقطاع، وأن الإسلام سيزداد أهله جدًّا، وسيدخل فيه ذوو الفضائل الروحانية والجسمانية العالية، فضلا عن عامة الناس. نقدّم هين الأمرين: الإسلامَ وهذه العين الدفّاقة التي ستروي مختلف البلاد في العالم كدليل على يوم القيامة. ثم يُعقِب الله تعالى بقوله: أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ ؟! فإن كان كذلك، فعليهم أن يأتوا بحديث يتضمن مثل هذه الأنباء المتنوعة. ولا يشترط عليهم أن يكون الحديث مفترى على الله أيضًا، بل لهم أن يستخرجوا ذلك المثل من الكتب السابقة. ولكن ليعلموا يقينا أنهم لن يمكنهم أن يأتوا بنظيره.

أما التحدي الخامس فهو الوارد في آيتنا من سورة البقرة وقد سبق بيانه.

وقد تبين وتحقق مما أوضحناه أن هذه التحديات الخمسة.. هي خمس مطالبات منفصلة، كل منها على حدة، وكل واحدة منها ثابتة متحققة، لا تنسخ إحداها الأخرى. ومما أوقع المفسرين في الخطأ زعمهم بأن كل تحدٍّ من هذه التحديات هو الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة فقط، مع أن الأمر على عكس ذلك. إن التحدي في هذه السور الخمس ليس واحدا، بل إنها تحديات مختلفة منفصلة. وجاء في كل تحدٍّ منها طَلَبُ الإتيان بمثل القرآن كله أو بعضه طبق الظروف والأحوال.

ولا يحسبن أحد أن التحدي مقصور على الإتيان بمثل السور التي جاء بها التحدي، لأن الموضوع في مفتتح سورة البقرة يعُمّ جميع سور الكتاب دون استثناء. ولذلك فكل سور القرآن خالية الريْب، وكلها هدى للمتقين.. فإن أتى أحد بمثل سورة ما من سور القرآن.. طبق الشروط المذكورة في أول سورة البقرة والموجودة في جميع السور.. فإنه بذلك يكون محقا في تكذيب القرآن المجيد. وهيهات هيهات لما يحلمون!

وقوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا في رأي بعض المفسرين يشير إلى أن الكفار ارتابوا في هذا الكتاب بسبب تنـزيله شيئا فشيئا ومرة بعد أخرى. لأن لفظ نَزَّلْنَا يقتضي ذلك، وجرت العادة أن يكون المؤلف أقدر على تأليف كتابه إذا كان على أقساط متقطعة. فردّ عليهم بقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي بقطعة منه.

والاستدلال، وإن بدا معقولا، إلا أنه لا يستقيم مع قواعد اللغة العربية. ذلك لأن صيغة التفعيل وإن دلت على التكرار والكثرة إلا أن ذلك ليس مطّردا في كل موضع، بل يفيد ذلك في الأفعال التي مجردها متعدٍّ مثل قَطَعَ، فإن قطَّع تعني جَعَلَه قِطَعًا كثيرة، وكذلك ضَرَبَ وضَرَّب، وذَبَح وذبَّح. ولكن التفعيل يفيد أيضًا التعدية إذا كان المجرد لازما مثل: وضُح الأمر ووضَّحه أي جعله واضحا. فالفعل نزَّل هو صيغة المتعدي من الفعل نَزَل، ولا تعني التكرار والتدرج. والقاعدة المبدئية في اللغة العربية أن زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، والزيادة هنا حولت الفعل من لازم إلى متعدٍّ، وحققت غايتها.

ومما يدل على أن (نزل) لا تعني التكرار أن الكفار لما اعترضوا على تكرار النزول عبَّر القرآن عن ذلك بقوله:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان:33). فكلمة (نُزِّل) بمعنى إنزال القرآن كله مرة واحدة ولا تعني التدرج. وإذن فالاعتراض والريب ليس بسبب نزول القرآن جزءا جزءا، وإنما اعتراضهم على عقيدة التوحيد التي ذُكرت في الآية السابقة، وهي التي أثارت شكوكهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك