في عالم التفسير
يُخَادِعُون َاللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ   (البقرة:10)

 شرح الكلمات:

يخادعون: خدَع الشيءُ خَدْعًا: فسَد (التاج).

خدَعه: ختَله وأراد به المكروه مِن حيث لا يعلمه. وفي الكليات لأبي البقاء يقال: خادَعَ إذا لم يبلغ مرادَه، وخدَع: إذا بلغ مراده. وخادعَه: تركَه. وخادع العينَ: شكّكها فيما ترى. وخادعَه: كاسَدَهُ (الأقرب).

الخداع: إنزالُ الغير عما هو بصدده بأمرٍ يبديه على خلاف ما يخفيه. (المفردات).

الخدْع: إظهار خلاف ما تخفيه. وجاز “يُفاعِل” لغير اثنين، لأن هذا المثال يقع كثيرا في اللغة للواحد، نحو: عاقبتُ اللصَّ (مع أن اللص لا يعاقِب الحاكمَ)… والعرب تقول: خادعتُ فلانًا، إذا كنتَ تروم خَدْعَه (اللسان).

وخدَعه: كمنَعه. ومن المجاز: كان فلان الكريم ثم خدع، أي أمسَكَ… ومنَع. وسوق خادعة: أي مختلفة متلونة… تقوم تارةً وتكسُدُ أخرى (التاج).

وخادع الحمدَ: تركه (الأقرب).

إذن فمعنى يخادعون الله أنهم:

1): يريدون خداع الله تعالى، ولكن الله لا ينخدع منهم.

2): يشككون غيرهم بإظهار خلاف ما في صدورهم.

3): يفسدون في دين الله تعالى.

4): يحاولون منع الله، أي يعرقلون انتشار دينه.

5): يعاملون الله معاملة المتلونين، فأحيانا يصلحون وأحيانا يفسدون.

يشعرون: شعَر به: علم به؛ وشعر لكذا: فطِن له؛ عقِله؛ أحسّ به (الأقرب).

والشِّعر هو العلم بدقائق الأمور، وقيل هو الإدراك بالحواس… ولو قالَ في كثيرٍ مما جاءَ فيه لا يشعرون ، لا يعقلون لم يكنْ يجوز، إذْ كان كثيرٌ مما لا يكونُ محسوساً قد يكونُ مَعْقُولاً (التاج).

أي لا يجوز استخدام “يعقلون” مكان “يشعرون”، لأنه في كثير من الأحيان يكون الأمر معقولاً ولكن لا يكون محسوسًا.

فالفرق بين الشعور والعلم أن الشعور يكون بالحس الباطني الذي يعمل بدون الأسباب الظاهرة، أما العلم فيحصل بالوسائل الظاهرة. وقد لا يؤثر العلم في القلب، أما الشعور فلا بد أن يؤثر فيه.

وعليه فالمراد بقول الله تعالى وما يشعرون أنهم لا يفهمون ولا يدركون.

التفسير:

أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الإيمان النافع إنما هو ذلك الذي يتأسس على النية الحسنة والإخلاص والصدق، والإيمان الذي ينقصه الإخلاص لا يجدي شيئا لأنه خداع، والله تعالى عالم الغيب والشهادة فلا يمكن أن ينخدع.

وقد كان لهذه الآية نصيبها من الاعتراضات، فقالوا:

أولاً- كيف يمكن لأحد أن يخدع الله تعالى؟ وثانيا- إذا كان المراد من يخادعون أنهم يحاولون أن يخدعوه تعالى، فالسؤال: كيف يحاول أحد أن يخدع الله تعالى بعد الإيمان به؟ وثالثًا- يخادعون مِن باب المفاعلة التي تدل على اشتراك الطرفيْن في العمل، وهذا يعني أن المنافقين يخدعون الله والله يخدعهم أيضًا، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ أليس فيه انتقاص من قدر الله عز وجل؟

وردًّا على الاعتراض الأول نقول:

أ- خادَعَ هو غيرُ خدَعَ، فخادَعَ يعني حاولَ خدْع الآخر، سواء خُدِعَ أم لم يُخدَع، وقد سبق تفصيل ذلك عند شرح الكلمات، فلا يصحّ هذا الاعتراض لأن أحدا لا يقدر على خدع الله تعالى.

ب- حتى لو فُسّر قوله تعالى يُخادِعُونَ اللهَ بمعنى يخدعون الله سبحانه وتعالى فلا يصح الاعتراض أيضا، لأن مفهوم هذه الجملة أنهم يعاملون الله تعالى معاملةً تشبه الخداع، بمعنى أنهم لا يكونون صادقين مخلصين فيها. والتجربة تؤكد ذلك حيث نجد البعض غير مخلصين في إيمانهم. فما دامت التجربة تؤيد ذلك، فكيف يصحّ هذا الاعتراض؟ فسواء أكان المنافق مؤمنًا في الظاهر ويعيش مختلطا مع الكفار، أو يكون المرء كافرا في الظاهر ويعيش مختلطا مع المسلمين، علينا أن نرى لماذا يتصرف هكذا. من الواضح أن غرضَه أن يجني بعض المنافع بخداع القوم، أما الإيمان فيخصّ الله تعالى في الحقيقة، فلا يعني خداعه إلا أنه ليس صادقًا ومخلصًا كما ينبغي في علاقته مع الله تعالى. وحتى لو كان ينوي خداع الناس، إلا أن تحليل تصرّفه هذا يكشف أنه لا يريد إلا أن يخدع الله تعالى. وإذا فسد قلب المرء فصدور مثل هذه التصرفات المتناقضة عنه ليس بمستبعد. ولكن هذا لا يقدح في الله تعالى لأنه كما هو ثابت من معاني المخادعة فهذا لا يعني أن الله تعالى ينخدع بهذه المعاملة؛ بل كما قال الله تعالى وما يَخْدَعون إلا أنفسَهم ، أي أنهم يظنّون بتصرفاتهم الخاطئة أنهم سينجون من الآلام، والحق أنهم يجلبون عليهم غضب الله وعذابه.

وقد ورد استخدام فعل خادع بهذا المعنى في كلام شعراء العرب كقول الشاعر: “وخادعتُ المنيةَ عنك سرًّا”، والمراد أنه أزال أسباب الموت. وفي هذه الآية أيضًا قد ورد الخداع بمعنى التنصل من العمل بأحكام الله تعالى وواجباته، وقد سمي تصرف المنافقين هذا خداعاً على سبيل المجاز.

ثانيًا: والاعتراض الثاني يقول: لو كان الخداع هنا بمعنى محاولة الخدعة، فهذا أيضًا لا يصح، لأن الإنسان لا يحاول خدع الله تعالى لعلمه أن الله عالم الغيب.

والجواب: إن هذا الاعتراض لا يصح أيضًا لأن في هذه الدنيا طائفة من الناس، وكل الفلاسفة من هذه الطائفة، الذين لا يعتقدون بكون الله عليمًا، بل يظنون بأن علم الله تعالى يقتصر على الكليات ولا يحيط بالجزئيات. وأمثال هؤلاء كانوا موجودين وقت نزول القرآن أيضًا كما ذكرهم الله في قوله تعالى: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (فصلت: 23-24). أي كنتم تظنون أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون، أي يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وظنكم هذا الذي قد رسخ في قلوبكم قد تسبب في هلاككم، أي أن ظنكم هذا منعكم من إصلاح أعمالكم فأصبحتم من الخاسرين.

كما قال الله تعالى في وصفهم: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (هود: 6).

الظاهر أن أصحاب مثل هذه العقيدة لا يُستبعد منهم صدور مثل هذه الأعمال المفتقرة إلى الاخلاص لله تعالى، لأنهم لا يؤمنون بأنه تعالى يعلم الجزئيات أيضًا. والحق أن هذا الأمر ليس مشروطًا باعتقادهم أن الله لا يعلم الجزئيات، لأن ضعف إيمان الناس راجعٌ عادة إلى افتقارهم إلى العلم الكامل بصفات الله تعالى، وإذا لم يتيسر للمرء العلم الكامل بصفات الله تعالى فصدور مثل هذه العقائد والأعمال منه ليس محالا. يقول الله تعالى في القران الكريم إن المشركين حين يُعرَضون عليه يوم القيامة يقول بعضهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (الأنعام: 24). ومن الأمثال العربية: الغريق يتشبث بقشّة، فضعفاء الإيمان الذين لا يستطيعون الصمود أمام المحن والمصاعب يحاولون أن يَطْمئنوا بشتى الأعذار، فيقولون مثلا إن الله تعالى رحيم غفار، علينا أن ننقذ أنفسنا من عذاب البشر الآن، وعندما يحاسبنا الله تعالى فسوف نسأله المغفرة. مثل هذه الأفكار الباطلة هي التي جعلت أحد الشعراء يقول (بالفارسية): “مستحقِ شفاعت گناه گار اند ”    أي لن تظهر مغفرة الله إلا عن طريقنا نحن الآثمين، فلا ضير إذا كنا آثمين لأننا نحن مظاهر مغفرة الله، أي لولاهم ما ظهرت مغفرة الله تعالى. ومثل هذه الأفكار تدل بوضوح على أن أصحابها يحاولون أن يخدعوا الله تعالى.

الواقع أن الإخلاص مع الله تعالى إنما يكون نتيجة العلم الكامل بصفاته تعالى، والمحرومون من هذا العلم يلجؤون إلى مثل هذه الأعذار الواهية الكثيرة لكي يُطمئِنوا أنفسهم، مع أن مثل هذا الاطمئنان يماثل حال النعامة التي تخفي رأسها في الرمل عند الخطر المحدق.

ثالثًا: والاعتراض الثالث هو: يخادعون هو مِن باب المفاعلة التي تدل على اشتراك الفريقين في نفس الفعل، مما يعني أن الله تعالى أيضًا يخدعهم، وهذا المعنى مستبعد عن الله تعالى.

والجواب:

  • المفاعلة لا تستلزم المشاركة من الجانبين دائما، بل قد تدل على صدور الفعل من جهة واحدة فقط، كقول العرب المذكور في شرح الكلمات: عاقبتُ اللصَّ. فهذا لا يعني أن القاضي عاقب اللص وهو عاقبَه أيضًا، إنما المراد فقط أن القاضي أنزل العقاب على اللص. وعليه فقول الله تعالى يخادعون الله لا يعني أن الله تعالى مشترك معهم في فعل الخداع، وإنما المراد فقط أنهم يحاولون أن يخدعوا الله تعالى.
  • لقد بيّنّا من قبل أن جزاء الجريمة يعبَّر عنه أحيانا بلفظ الجريمة نفسه، وعليه فمفهوم الآية هو: المنافقون يخدعون الله واللهُ يخدعهم، ولا يكون المراد من القول (والله يخدعهم) أنه يخدعهم فعلاً، بل المعنى أنه يعاقبهم على خداعهم. وكما سبق أن فصّلنا لدى تفسير قوله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون)، فإن هذا التعبير ورد في موضع آخر في القرآن الكريم أيضًا حيث قال تعالى: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (الشورى:41). وجزاء السيئة ليس سيئة في الحقيقة، وعليه فالمعنى أن عقاب السيئة بقدرها. وقال الله تعالى أيضا: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة:195). ومعلوم أن جزاء الاعتداء والظلم بقدره لا يسمى ظلمًا، وعليه فقوله تعالى فاعتدوا يعني أن عقاب الاعتداء يجب أن يكون بقدره.

وهذا التعبير شائع في اللغة العربية، فقد ورد في القاموس العربي “أقرب الموارد”: “حَسَدَني اللهُ إن كنتُ أحسُدُك”، أي عاقبَني على الحسد، وهو من باب المشاكلة. والمراد من المشاكلة هنا أن لفظ الجريمة نفسه استُخدم بمعنى عقابها.

وقد استعمل الشعراء العرب هذا التعبير، فقال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحـدٌ علينافنجهَل فوق جهلِ الجاهلينـا

أي أننا ذوو بأس وقوة، فمَن هاجمنا ارتكب جهالة كبرى سوف نعاقبه عليها، ذلك لأن هجوم الضعيف على القوي يُسمى جهلًا، ولكن هجوم القوي على الضعيف لا يسمى جهلا.

وقال أبو الغول الطهوي:

فنكَّب عنهُمُ درءَ الأعاديوداوَوا بالجنـون من الجنونِ

فسمى هجوم العدو جنونًا، أي أن العدو ضعيف ومع ذلك يهاجمنا نحن الأقوياء، أما ردُّ القوي على الضعيف لا يمكن أن يسمى جنونا، بل هو بمعنى الجزاء والعقاب.

باختصار لا اعتراض على هذه الآية حتى ولو أخذنا المفاعلة بمعناها الأصلي، لأن الفعل (خدع) نُسِبَ هنا إلى الله تعالى في سياق الرد على جريمة، وعليه فليس مفهوم الآية إلا أن الله تعالى سوف يعاقبهم على خداعهم. وهذا المعنى يدعمه قول الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ (النساء:143)، أي أنهم يريدون أن يخدعوا الله تعالى، وهو معاقِبهم على عملهم السيء هذا.

ومن معاني قول الله تعالى يخادعون الله أنهم يتركون الله تعالى، حيث ورد في أقرب الموارد: خادع الحمدَ: أي تَرَكَه.

خلاصة القول: لا تعني هذه الآية أبدا أن الله تعالى يمكن أن يخدعه أحد، فهذا الفهم الخاطئ يخالف نصوص القرآن الصريحة، وليس إلا نتاج عناد المعترضين فحسب. لقد أعلن القرآن الكريم صراحة أن الله مُطّلع على أخفى الخفايا، أفليس من الظلم العظيم، رغم هذا الإعلان القرآني الصريح، أن يُقال أن الله تعالى يمكن أن يُخدَع بحسب القرآن الكريم!؟ قال الله تعالى في القرآن الكريم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق: 17).

وقال أيضًا: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الأنفال: 44).

وقال أيضًا: عالمُ الغيبِ لا يعزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (سبأ: 4).

وقال أيضًا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المجادلة: 8).

وقال أيضًا: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر: 20).

فمن الظلم العظيم، بعد هذا التعليم القرآني الصريح، أن يقول البعض أن إله المسلمين يمكن أن يخدَعه أحد أو ينطلي عليه احتيال أحد.

نخلص من هذا البحث إلى أن قول الله تعالى يخادعون الله يعني ما يلي:

  1. أن المنافقين بسلوكهم يتعاملون مع الله تعالى معاملة الخادع.
  2. أنهم يريدون خداع الله تعالى مع أنه يجلّ عن الانخداع.
  3. أنهم يعاملون الله تعالى بالخداع ولذلك فإنه تعالى سيعاقبهم على أفعالهم غير المخلصة.
  4. أنهم ينأون عن الله تعالى ويتركونه.
  5. أن معاملتهم مع الله تعالى ليست مخلصة. فهم أحيانا يتصرفون تصرف المؤمنين ويسايرونهم خوفا منهم، وأحيانا يخضعون لتأثير الكفار ويعادون دين الله تعالى، حيث تقول العرب: “سوق خادعة” أي غير مستقرة، بمعنى يرتفع فيها السعر حينًا وينخفض حينًا آخر.
  6. أنهم يسلكون مع الله تعالى مسلك الفاسدين، فأعمالهم تفتقر إلى الإخلاص حيث أن الخداع يعني الفساد أيضًا.
  7. يخادعون الله يمكن أن يعني أنهم يخادعون رسول الله والمؤمنين، وقد ورد تعبير مماثل لهذا في عدة أماكن في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح: 11)

فهنا قد عدّ الله تعالى بيعةَ رسول الله بيعةً لله تعالى.

وكذلك قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (الأنعام:34). فهنا قد قيل أن ما يُفعل برسول الله مِن ظلم كأنما يُفعَل بالله تعالى.

وعلى هذا المنوال قد نسَب الله في الآية قيد التفسير إلى نفسه ما فُعل برسوله .

ولقد ورد نفس الأسلوب في الحديث القدسي: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابنَ آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني، قال: يا ربّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مرض، فلم تَعُده؟ أما علمَت أنك لو عدتَه لوجدتني عنده؟ يا ابنَ آدم، استطعمتُك ولم تُطعمني. قال: يا ربّ كيف أُطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تُطعِمه. أما علمتَ أنك لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسْقيتُك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تُسقه. أما إنك لو سقيته وجدتَ ذلك عندي» (مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض).

لقد تبين من هذا الحديث الشريف أن الله تعالى يعُدّ معاملةَ عباده بمنزلةِ معاملته تعالى، فكما أن عدمَ إطعامنا عبادَ الله هو عدمُ إطعامنا لله تعالى، وعدمَ عيادتنا للعباد هو عدم عيادتنا لله تعالى، وعدمَ سقينا العباد هو عدم سقينا لله تعالى، كذلك تمامًا يمكن أن يسمَّى خداع العباد خداعًا لله تعالى.

وقد ورد هذا الأسلوب البياني في الإنجيل أيضًا حيث جاء فيه أن كل الشعوب سوف تُعرَضُ على المسيح عند مجيئه الثاني فيقول للمؤمنين: تعالوا خذوا ملكوت الله تعالى، {لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ} (إِنْجِيلُ مَتَّى 25 : 35-40)

ومع أن كتبَة الإنجيل قد كتبوا هنا اسم المسيح مكان اسم الله تعالى وشوهوا هذه الاستعارة اللطيفة إلا أنها تؤكد أن معاملة الحبيب المقرب لدى أحد هي بمنزلة معاملته هو. وقد استخدم الله تعالى هذه الاستعارة اللطيفة نفسها في قوله يخادعون الله .

أما قوله تعالى: وما يخدعون إلا أنفسهم فيدل على حقيقة ناصعة بأن أعمال المنافقين التي يعوزها الإخلاص ستعود عليهم وبالًا، لأن الخديعة لا تحلّ إلا بصاحبها، فيصبح من الأذلاء السافلين في الدنيا والآخرة. إنه يظن أنه يخدع الآخرين، ولكنه في الواقع يخدع نفسه ويدفعها نحو الهلاك.

وقوله تعالى: وما يشعرون يعني أنهم لا يفطنون لحقيقة الأمر. والشعور يعني معرفة دقائق الأمور كما أسلفنا في شرح الكلمات. وقد وردت في القرآن الكريم كلمات مشابهة للشعور مثل العلم والعرفان والعقل والفكر، وكل واحدة منها تختلف عن الأخرى في المفهوم رغم تشابهها، بل وكما قال علماء اللغة العربية ليس في اللسان العربي كلمة تشبه كلمة أخرى في المعنى تمامًا، بل لكل واحدة منها مفهوم مختلف وإضافي. فالعلم مثلاً يحصل من الخارج بالحواس الظاهرة من سمعٍ ورؤية ولمس وذوق، فعندما يتذوق المرء شيئًا حلوًا فحلاوته تسمى علما ظاهرًا، لكنه لا يسمى شعورًا أو عرفانًا. أما العرفان فهو العلم المتكرر بالشيء، لأن العرفان هو معرفة الشيء، والمرء يعرف الشيء الذي يكون قد علمه سلفًا، فمثلا عندما تقول: قد عرفتُ فلانا، فهذا يعني أنك قد رأيتَه من قبل، وعندما رأيتَه الآن تجدّدَ علمك السابق ولم تُخطئ في ذلك العلم، ومن أجل ذلك تسمى العلوم الروحانية عرفانًا، لأنها تُدرَك أولاً بكلام الله تعالى أو بالفطرة الصحيحة، وعندما تقترن المشاهدة بهذا العلم الابتدائي يصير عرفانًا، ولذلك يسمى صاحبه عارفًا، لأنه شاهدَ صفات الله التي علِمها من كتاب الله تعالى وأدرك أنها نفس الصفات التي علِمها في كلام الله تعالى.

أما العقل فهو القوة التي توجه الإنسان نحو العمل طبْق علمه وفكره وشعوره، والعاقل هو الذي يعمل بالعلم الصحيح والفكر الصحيح والشعور الصحيح، وينهى نفسه عن مخالفة كل هذا.

أما الفكر فهو قوة تساعد على الاستنتاج من المعلومات الخارجية، والمفكّر مَن يرتّب علمه البسيط ترتيبًا يؤدي به إلى نتائج جديدة لا تتيسر بالعلم البسيط وحده.

أما الشعور فهو الحس الذي ينبع من داخل المرء، وهو اسم لمعرفة الفطرة الصحيحة، فالشعور يعني أن يحسّ الإنسان بقواه الباطنة التي جبله الله عليها، وبالتالي يهتدي بها إلى طريق الخير. ومنه سُمّي الشَعر، لأنه ينبت من الداخل إلى الخارج. والشِعار هو اللباس الداخلي الذي يلي الجسد. والشَّعار الشجرة، لأنها تنبت من الأرض. ومن معاني الشِعار أيضًا كلمةُ السرّ التي يُتفق عليها بين الجنود للتفاهم فيما بينهم سرًّا، وسمي كذلك لأنه من الأسرار الخفية ويسمى بالإنجليزية Pass Word أو Watch Word. والشِّعر سُمي كذلك لأنه يعبّر عن المشاعر والعواطف التي تختلج في باطن الإنسان. والشعائر هي مظاهر إرادة الله عز وجل، لأن بها تتجلى مشيئته وصفاته. والمشاعر هي الحواس الباطنية.

فالشعور إذن حسّ خفي يُطلِع الإنسان على قواه الباطنة، ولا علاقة له بالعلم الخارجي.

وعليه فقوله تعالى: وما يشعرون يعني أن الفطرة السليمة تشهد ضد المنافقين، ولكنهم لا يعرفون حتى قوى نفوسهم فضلاً عن حقائق الدين، ولا يدرون أن النفاق من الأفعال القبيحة التي ترفضها فطرة المرء السليمة دون أن يوجهه أحد.

كما بيّنّا آنفًا فإن هذه الآية تتحدث عن الذين كانوا يسمَّون مسلمين ولكنهم لم يكونوا مسلمين بقلوبهم، وإنما انضموا إلى جماعة المسلمين في الظاهر فقط. كان هؤلاء من سكان المدينة، ولما دخل معظم أهلها في الإسلام أسلموا أيضا تقليدًا للآخرين دون التدبر الكافي في دين الإسلام، ثم لما أمعنوا النظر في شروط دخول الإسلام ونظروا إلى التضحيات التي يجب على المسلم أن يقدمها لم يتقدموا في الإسلام بل ابتعدوا عنه تدريجيا، غير أنهم لم يستطيعوا تركه علانيةً بسبب قومهم. وقد ذكر الله هذه الطائفة في القرآن الكريم بقوله: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ*الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (التوبة: 66-67).

Share via
تابعونا على الفايس بوك