ظفر الله خان بطل قضية فلسطين في الأمم المتحدة

ظفر الله خان بطل قضية فلسطين في الأمم المتحدة

عبد الحميد الكاتب

نُشر هذا المقال في مجلة ((العربي)) الكويتية في عدد يونيو 1983. تُعيد (التقوى) نشره كما هو مع إضافة بعض الصور منها مع شكرها العميق لصاحب المقال و((للعربي)) الغالية، ليطلع الباحثون عن الحقيقة كيف أنَّ الأعداء قد تمكَّنوا من تسميم أذهان العرب بتهمة أنَّ المسلمين الأحمديين (الذين منهم السير ظفر الله خان، رحمه الله) عملاء لإسرائيل، ويجدر الإشارة إلى أنَّ هذه التهمة المنكرة الخطيرة إنّما أثارها الاستعمار المؤيّد لإسرائيل الغاشمة عن طريق بعض المشائخ المستأجرين لديه، ولذلك حينما كانت جماعتنا الإسلامية الأحمدية تحاول جاهدةً لتوحيد صفوف المسلمين ضد عدوهم اللدود إسرائيل. ولكي يعرف القارئ الكريم صدق قولنا نُقدِّم له ما كتبه أحد الكُتَّاب العرب الكبار الأستاذ علي الخياط أفندي، في جريدة ((الأنباء)) العراقيّة بتاريخ 21، 9، 1954، وهاكَ نصّه:

((أصابع الاستعمار التي تلعب وراء القاديانية في كل مكان ….. ليس هناك سوى سبب واحد وهو إصبع الاستعمار الذي يلعب دورًا هامًا في هذه القضية لبثِّ الشِقاق والتفرقة بين المسلمين الذين لا زالوا بانتظار اليوم الموعود الذي يقومون فيه بجولتهم الثانية لتطهير البلاد المقدَّسة من أرجاس الصهيونية وإعادة فلسطين إلى أصحابها الشرعيين.

إنَّ الاستعمار يخشى أن يتحقّق حلم العرب هذا، وتزول دولة إسرائيل التي تحمَّل الكثير من المشاقّ في سبيل تكوينها، فيعمد إلى إثارة الشِقاق بين طوائف المسلمين بإثارة النَّعرات، لتقوم بعض العناصر بتكفير فئة الأحمدية والتشهير بهم، حتى يؤدّي ذلك إلى الشِقاق بين باكستان وبين بعض الدول العربية التي تقوم صحفها بتكفير ((ظفر الله خان)) وزير خارجية باكستان الذي يتبع الطريقة الأحمدية.

ولعلَّ الكثير من القرَّاء يذكرون محاولة بعض العناصر في باكستان قبل مدة تأسيس (الإسلامستان) أي جامعة الدول الإسلامية، وذلك بجمع كافة الدول الإسلامية في منظمةٍ واحدة لتُسيّر سياستها الخارجية والمحافظة على كيانها واستقلالها. إلا أنَّ هذه المحاولة باءت بالفشل بعد أن وقف بعض العناصر منها موقفًا مُعارضًا. وكان من جملة الأسباب التي أدّت إلى فشل هذا المشروع هو سلاح التكفير الذي ناوله الاستعمار ليد بعض المتطرفين، ليُشهِروه في وجوه الذين تبنُّوا المشروع المذكور، لأنّهم ((قاديانيون ومارقون عن الإسلام)).

وقد يظنُّ بعض القُرَّاء أنَّ ما أذكره من تدخُّل الاستعمار في هذه القضية ليس إلا وليد الحدس والظنّ، إلا أنّي أُوكِّد للقُرَّاء بأنّي مطّلع كل الاطّلاع على تدخُّل الاستعمار في هذه القضية، إذ أنّه حاول أن يستغلني فيها بالذات عام 1948 أثناء حرب فلسطين.

كنت حينئذٍ أُحرِّر إحدى الصحف الفُكاهية وكانت من الصحف الانتقادية المعروفة في عهدها. وقد أرسل إليَّ موظفٌ مسئول في إحدى الهيئات الدبلوماسية الأجنبية في بغداد، يدعوني لمقابلته وبعد تقديم المجاملة وكَيل المديح على الأسلوب الذي اتّبعه في النقد رجاني أن انتقد الجماعة القاديانية على صفحات الجريدة المذكورة بألذعِ طريقةٍ ممكنة، لأنّها جماعة مارقة عن الدين. فأجبته في بادئ الأمر بأنّي لا أعلم شيئًا عن هذه الجماعة وعن معتقداتها ولذلك لا يمكنني أن أنتقدها. فزوَّدني ببعض الكتب التي تبحث في معتقدات القاديانية، كما أنّه زوَّدني ببعض المقالات عسى أن تنفعني بعض عباراتها في كتابة مقالاتي الموعودة. واستطعت أن اطّلع على بعض عقائد الجماعة من مطالعة الكتب التي زوَّدني بها المسؤول المذكور، والتي لم أجدفيها شيئًا يدلُّ على تكفيرهم حسب اعتقادي. وبعد عدّة مقابلات طلبتُ منه أن يعذرني عن تلك المهمة نظرًا لاعتقادي بأنَّ ذلك يُسبّب الشِقاق بين الطوائف الإسلامية في مثل ذلك الوقت بالذات. فأجاب قائلاً: ألا إنَّ هؤلاء ليسوا بمسلمين، وقد كفّرهم علماء جميع الطوائف الإسلامية في الهند. فقلت له: إنَّ أقوال علماء الهند ليست أقوى حجة من الآية القرآنية التي تُصرِّح بأن لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا. فما كان منه إلا أن قال غاضبًا: وهل أثَّرت فيك دعاية القوم، فخرجتَ عن الإسلام، وأصبحت قاديانيًا، وأخذتَ تُدافع عنهم. فقلتُ مُتهكِّمًا: كن على يقين يا هذا، بأنّي لا أستطيع أن أدَّعي بأنّي مسلم بكل ما في هذه الكلمة من معنى بالرغم من قضائي عشرات السنين بين المسلمين، فهل تكفي مطالعة بضعة كتب للقاديانية أن تجعلني قاديانيًا؟

وقد اطّلعتُ خلال تردُّدي على هذه الهيئة بأنّي لستُ الوحيدَ المكلف بهذه المهمة، بل هناك أُناسٌ آخرون يشاركونني التكليف. كما أنّي لم أكن الشخص الوحيد الذي رفض بل رفضه غيري أيضًا.

كان ذلك عام 1948 في الوقت الذي اقتُطِعَ فيه جزءٌ من الأراضي المقدَّسة وقُدِّم لُقمةً سائغة للصهيونيين. وإنّي أظنُّ أنَّ إقدام الهيئة المذكورة على مثل هذا العمل كان ردّ فعل للكُرَّاستين اللتين نشرتهما الجماعة الأحمدية في ذلك العام بمناسبة تقسيم فلسطين، وكانت إحداهما بعنوان ((هيئة الأمم المتحدة وقرار تقسيم فلسطين)) التي كانت تبحث في المؤامرات التي دُبِّرت في الخفاء بين المستعمرين والصهيونيين، وكانت الثانية بعنوان ((الكفر ملّة واحدة)) وكانت تحثُّ المسلمين على توحيد الصفوف وجمع المال لمحاربة الصهيونيين وتطهير البلاد المقدَّسة من أرجاسهم.

هذا ما اطَّلعتُ عليه بنفسي في ذلك الحين، وإنّي واثق كل الوثوق بأنَّ الأحمديين ما داموا يبذلون الجهود لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، ويبحثون عن أسباب تُتيح للمسلمين القضاء على دولة إسرائيل اللقيطة صنيعة المستعمرين، فإنَّ الاستعمار لن يتوانى عن تحريك بعض الجهات للتشهير بهم بقصد تشتيت الكلمة)).

 نص مقال الأستاذ عبد الحميد الكاتب

فلسطين هي الدولة الوحيدة التي أصدرت الأمم المتحدة قرارًا بتقسيمها وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أصدرت الأمم المتحدة قرارًا بإنشائها وهذا هو أهم وأخطر قرار أصدرته المنظمة العالمية طوال عمرها الذي يبلغ الآن الثامنة والثلاثين، ومن المؤكد أنّها لن تستطيع أن تُصدر مثل هذا القرار مهما طال عمرها وامتدت بها السنوات.

إنَّ من يريد أن يُدافع عن الأمم المتحدة يستطيع أن يقول أنَّ قراراها في نوفمبر 1947م لم يكن إلا إقرارًا للأمر الواقع في فلسطين، إذ كانت ((مقسَّمة)) فعلاً بين العرب واليهود أرضًا وسكّانًا.. فقد اجتاحت فلسطين طوال عهد الانتداب البريطاني موجاتٌ متتابعة من الهجرة اليهودية، ونزح إليها أفواج تلو أفواج من اليهود منذ قام الحكم النازي وبسط سيطرته في أوربا، وامتلك اليهود النازحون مساحاتٍ كبيرة من الأرض اشتروها وأقاموا فيها المستوطنات التي تحوَّلت إلى قرىً عامرة ومدنٍ كبيرة.. فصارت مدينة تل أبيب مثلاً مدينةً يهودية محضة، بينما بقيت نابلس أو الخليل أو غزّة مثلاً مدنًا عربيةً صرفة، فجاءت الأمم المتحدة وأقرَّت الوضع القائم فعلاً.

ولكن هذا الكلام، الذي ردّده دُعاة تقسيم فلسطين داخل الأمم المتحدة وفي أجهزة الإعلام الدولية، لا تسنده الأرقام والحقائق.

فعندما ألقت بريطانيا بما سمَّته ((مسألة فلسطين)) على الأمم المتحدة كان عدد سكان فلسطين أقل قليلاً من 2 مليون نسمة، بينهم 608 ألف يهودي، وأكثر من مليون وثلاثمائة ألف عربي، أي أنَّ اليهود كانوا أقل من ثلث سكان فلسطين.

أما قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة فقد أعطى ثلثي الأرض لأقل من ثلث السكان.. أما العرب الذين يُشكِّلون أكثر من ثلثي السكان فقد أعطاهم القرار ثلث الأرض.. وانتزع منهم أيضًا مدينة القدس التي قرَّرت الأمم المتحدة أن تكون منطقةً ذات طابع دولي ولها إدارة خاصة!

أما واقع الأرض فقد كان أكثر دلالةً على مدى الظلم الذي انطوى عليه قرار الأمم المتحدة.. فحتى اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم لم يكن ما يملكه اليهود من الأرض يتجاوز 4,6 بالمائة من مساحة فلسطين، أما 95,4 بالمائة من الأرض فكانت مُلكًا للعرب، لم يُفرِّطوا فيها رغم ما كان يعرضه اليهود، وتعرضه هيئاتهم الأمريكية والأوربية التي كانت تُموِّل حركة الهجرة والاستيطان، من أسعارٍ مُغرية.

ما الحقيقة؟

وقد سمعنا وقرأنا مرارًا وتكرارًا حتى كدنا نُصدّق أنَّ العرب في فلسطين باعوا أرضهم لليهود.. وهذا افتراء، أما الحقيقة فهي أنَّ أكثر ما اشتراه اليهود من الأرض لم يكن ملكًا للفلسطينيين، لا للأغنياء منهم ولا للفقراء، وإنّما كان لآخرين يملكون مزارع وبساتين هناك ويعيشون من إيرادها الكبير عيشةً باذخة في أوربا وفي لبنان، ويحمل بعضهم أسماء عربيةً طنَّانة. وبعضها أسماء مسلمة، وبعضها أسماء مسيحية!

كان قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين قرارًا خاطئًا وظالمــًا من حيث المبدأ وهو أنَّ الأمم المتحدة لا تملك بتاتًا الحق في تقسيم وطنٍ من الأوطان.. فارتفعت حينذاك أصواتٌ عربية، وأصواتٌ إسلامية، وأصواتٌ أخرى تُنكر على الأمم المتحدة أن يكون لها الحق في تقسيم فلسطين، وتسوق البراهين التاريخية، والقانونية، والواقعية، التي تُبيّن أن تقسيم فلسطين ظلم.. وخطأ.. له ما له من نتائج وعواقب وخيمة.. وكان من تلك الأصوات صوت محمود فوزي ممثل مصر، وصوت فارس الخوري ممثل سوريا، وصوت شارل مالك ممثل لبنان، وصوت الشيخ حافظ وهبة ممثل المملكة السعودية، ولكن أقوى الأصوات وأكثرها قدرةً على إقناع العقول لو أرادت أن تقتنع.. وعلى النفاذ إلى القلوب لو أرادت أن تستشعر المأساة التي تبدو نُذرها في الأفق.. كان صوت محمد ظفر الله خان، وزير خارجية باكستان حينذاك، والذي كان علمًا بارزًا في الأمم المتحدة على مدى عشرين سنة، بمواقفه العظيمة في كل قضية عربية وإسلامية.. قضية فلسطين وقضية كشمير، وقضية أرتيريا وقضية الجزائر.. وكل ما قام وثار من قضايا الشعوب المقهورة.

وقد توافرت في ظفر الله خان ثلاث صفات جعلته من أبرز الشخصيات في الأمم المتحدة.. فكان وراءه تاريخ حافل في سياسة بلاده، كما كان خطيبًا قديرًا ومحاميًا فذًّا، وكان حجّة في القانون من جانبيه الدولي والإسلامي.

فأما دوره في سياسة بلاده فلعله كان ثالث الثلاثة الذين تزعّموا حركة إنشاء دولة باكستان، مع زعيمها ورئيسها الأول محمد علي جناح ومع لياقت علي خان أول رئيس وزارة لها. وأما مقدرته القانونية فقد أهَّلته فيما بعد ليكون قاضيًا في محكمة العدل الدولية، ثم رئيسًا لها لسنواتٍ عديدة ختم بعدها حياته السياسية ثم أوى إلى بيته في باكستان بعيدًا عمّا جرى فيها من أحداثٍ حزبيّة في السنوات الأخيرة.. أو لعلّه أمضى وقته في كتابة تفسير للقرآن الكريم، فقد كان مسلمًا متديّنًا وكان يؤدي الصلاة في وقتها في قاعة صغيرة عند مدخل مبنى الأمم المتحدة.. وهو أحمدي المذهب، ولكنني أعتقد أنّه كان يدين بالإسلام على وجهٍ صحيحٍ سليم.. أما قدرته في الخطابة فكانت تشدُّ إليه الأسماع والعقول حتى وهو يرتجل على مدى ست ساعات، استغرقت جلستين كاملتين في مجلس الأمن، خطابًا عن قضية كشمير وحق أهلها في تقرير مصيرهم!

الدولة اليهودية!

وكان ظفر الله خان هو ((بطل)) قضية فلسطين في مرحلتها الأولى حين أُلقيت تلك القضية الكبرى في حجر الأمم المتحدة.. بعد أن تعقّدت هذه القضية وتشابكت أطرافها منذ أصدرت بريطانيا، قبل هذا بثلاثين سنة، وعد بلفور ((الذي وعدت فيه بالمساعدة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، على ألا يكون في هذا مساسٌ بحقوق الطوائف الأخرى في فلسطين)).

وأرادت بريطانيا أن تنفذ وعد بلفور بشقّيه: الشق الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود، وليس إنشاء دولة يهودية.. والشقّ الثاني وهو عدم تأثير قيام هذا الوطن القومي على حقوق العرب وأولها حقّهم في السيادة على أرض وطنهم.. أي أنَّ السياسة البريطانية أرادت أن تنفذ أمرين متعارضين، متناقضين، في وقتٍ واحد.. وكان لابد أن تسلك إلى هذا طرقًا ملتوية أدّت إلى تحويل فلسطين التي كانت نموذجًا في العالم لاتقاء أتباع ثلاثة أديان، وسلالات أجناس مختلفة، إلى ساحة للصراع والصدام والقتال.

وحاولت بريطانيا أن تحل المشكلة التي خلقتها بوسائل سياسة دبلوماسية كان منها إيفاد لجنة برئاسة اللورد بيل التي ذهبت إلى فلسطين في سنة 1936م واستمعت إلى وجهة نظر العرب كما قدَّمها الحاج أمين الحسيني مُفتي فلسطين ورئيس اللجنة العربية العليا، واستمعت إلى وجهة نظر اليهود كما قدَّمها حاييم وايزمان رئيس الوكالة اليهودية.

وكان من بين أعضاء اللجنة أستاذ جامعي اسمه ريجنالد كوبلاند، الذي طرح لأول مرة فكرة تقسيم فلسطين.. وطرح هذه الفكرة الخطيرة في سؤالٍ وجّهه إلى وايزمان قائلاً: ما رأيك يا دكتور وايزمان في موضوع أفكر فيه من باب الافتراض فقط. وأنا أعرف أنَّ الحكومة البريطانية لا تفكر فيه وقد لا تقبله.. ما رأيك في تقسيم فلسطين بين العرب واليهود على أساس اتحادي.. أعني ما رأيك أن تقوم الحكومة البريطانية بعد خمس أو عشر سنوات بتقسيم فلسطين إلى قسمين، تقوم في كل منهما حكومة مستقلة ومرتبطة مع بريطانيا بمعاهدة تحالف مثل المعاهدة التي تربط بين بريطانيا ومصر، أو بين بريطانيا والعراق، ما رأيك في هذا؟

وتردَّد وايزمان في إبداء رأيه.. وطلب إمهاله بعض الوقت ليفكّر في هذا الأمر ويصف سكرتيره زخاروف الروسي كيف كان وايزمان منفعلاً.. وكانت نفسه تجيش بالعواطف، وعيناه تفيضان بالدموع، وهو يقول محدِّثًا نفسه: يجب أن أقبل جزءًا من فلسطين، حتى لو كان جزءًا صغيرًا، أُقيم عليه الدولة اليهودية.. فهذا هو حلمي وأملي طول حياتي!

وتقابل كوبلاند ووايزمان مرةً أخرى في مدرسةٍ زراعية للبنات من تلك المدارس التي أقامها اليهود فيما أقاموا من مستوطنات ليُعلِّموا أولادهم وبناتهم الزراعة التي لم يمارسها اليهود دهرًا طويلاً.. وفي تلك المدرسة الصغيرة تبلورت فكرة التقسيم، وربما رسمت خريطة جديدة لفلسطين.

بريطانيا تُهادن العرب!

ورفض العرب مقترحات لجنة بيل جملةً وتفصيلاً، وانتقد اليهود التقرير من حيث مساحة الأرض المعطاة لليهود وطالبوا بمساحةٍ أوسع.. وفي وجه المعارضة العربية من جانب والمساومة اليهودية من جانب، طوت الحكومة البريطانية تقرير اللجنة الذي بذر البذرة الأولى في تقسيم فلسطين.

فلما بدأت نُذر الحرب العالمية تبدو في الأفق وأخذت سُحبها تتراكم، راحت السياسة البريطانية تؤمّن جانبها بتهدئة مناطق التوتر في أرجاء إمبراطورتيها مثل الهند ومصر وفلسطين.. فدعت إلى عقد مؤتمر لندن في سنة 1939.. وحضرته وفودٌ كبيرة من الدول العربية كان من بين رؤسائها الأمير محمد عبد المنعم، أحد أعمام الملك فاروق والذي خلفه وصيًّا على العرش إلى أن أُلغيت الملكية في مصر.. والأمير فيصل وزير خارجية المملكة السعودية وعاهلها العظيم فيما بعد.. ورفضت بريطانيا دعوة الحاج أمين الحسيني زعيم العرب في فلسطين، مثلما رفضت أخيرًا أن يأتي إليها ممثل لمنظمة التحرير ضمن وفد عربي، ودُعيَ بدلاً منه ابن عمه جمال الحسيني.. ودُعيَ أيضًا حاييم وايزمان ممثلاً للوكالة اليهودية.

وفي هذا المؤتمر أبدت الوفود العربية وأبدى الوفد الفلسطيني إدراكًا سياسيًا ناضجًا.. فإلى جانب المطالبة بإنهاء الانتداب البريطاني، وإعلان استقلال فلسطين بإلغاء وعد بلفور ووقف الهجرة اليهودية، أعلنوا قبولهم أن يكون لليهود الموجودين في فلسطين حق المواطنة وأن تُحترم حقوقهم الثقافية والدينية وأن توزع الإدارة الحكومية المستقلة بين العرب واليهود حسب نسبة السكان.

ولكن اليهود أصرّوا على استمرار الهجرة اليهودية دون قيود أو تحديد.. وطالبوا بتقسيم فلسطين على شرط ان تُعطى لهم مساحة كبيرة لإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين.

وانقضى المؤتمر دون أن يصل إلى أية نتيجة فقرّرت بريطانيا أن تفرض الحل الذي تراه، فأصدرت في مايو 1939 ((الكتاب الأبيض المشهور.. الذي سمَّاه اليهود، الكتاب الأسود)).. فقد أعلنت بريطانيا أنّها لن تُقسّم فلسطين، وأنّها لا تقبل قيام دولةٍ يهودية هناك.. وأعلنت أنَّ سياستها ترمي إلى قيام دولةٍ تتألف حكومتها وبرلمانها من العرب واليهود بنسبة عدد السكان، على أن يتحقق قيام الدولة بعد عشر سنوات.. أما الهجرة لليهود فستعمل على تحديدها، فلا تتجاوز خمسة وسبعين ألف يهودي، يهاجر منهم الآن خمسة وعشرون ألفًا ويهاجر بقيتهم على مدى خمس سنوات بمعدل عشرة آلاف كل سنة..

ثورة اليهود

وثارت ثائرة اليهود، لا في فلسطين وحدها، بل في بريطانيا وأمريكا وكل مكان فيه يهود.. وغمرت فلسطين موجة من الاضطرابات العنيفة، وأخذت جماعات الهاجاناه، وهي نواة الجيش الإسرائيلي، تحارب العرب وتحارب الإنجليز معًا.. وقامت إلى جانبها جماعات إرهابية عديدة، تقتل العرب وتقتل الإنجليز وتدمّر المرافق.. وكانت هذه الجماعات الإرهابية التي يرأس مناحيم بيجن إحداها، هي أول ما عرفته هذه المنطقة من أعمال الإرهاب في العصر الحديث.

ثم خمدت هذه الحركات أو أُخمدت خلال سنوات الحرب العالمية الثانية فلما وضعت الحرب أوزارها تجدّدت الاضطرابات في فلسطين، ووجدت بريطانيا التي أرهقتها الحرب وأنهكتها وأخذت تُصفّي إمبراطوريتها الواسعة أنه لا قِبَلَ لها بحل مشكلة ((فلسطين)) فألقت بها في حجر الأمم المتحدة؛ وبعثت إلى أمينها العام تطلب إليه عقد دورة خاصة للجمعية العامة لبحث ما أسمته ((مسألة فلسطين)).

وفي 28 أبريل 1947 انعقدت الجمعية العامة في دورة خاصة، واستمعت إلى بضع خطب تؤيد تقسيم فلسطين وبضع خطب تُعارض التقسيم.. وقرّرت تشكيل ((لجنة فلسطين)) لتقصّي حقائق الوضع في فلسطين، وكانت اللجنة مكوّنة من إحدى عشر دولة من الدول الصغيرة بعد أن استبعدت اقتراحًا سوفيتيًا لتكوين اللجنة من الدول الخمس الكبرى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين.

وسافر أعضاء اللجنة إلى فلسطين، واتصلت بكثير من العرب واليهود من قيادات ومن أساتذة وصحفيين وعامة الناس.. ثم وضعت تقريرًا.. اتفق فيه أعضاء اللجنة على بضع نقط أهمها ضرورة إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين لأنَّ العرب واليهود جميعًا ضد استمرار الإدارة البريطانية في فلسطين، ثم اختلف أعضاء اللجنة فيما ينبغي أن يحدث بعد انتهاء الانتداب: هل تقوم دولة فلسطين المستقلة، الموحدة، التي يعيش فيها العرب واليهود معًا تحت حكومة ائتلافية تمثل الفريقين، أم هل تقسم فلسطين، فيأخذ اليهود جزءًا وجزء يبقى للعرب.

وأيّد قرار التقسيم سبعة أعضاء هم ممثلو كندا وهولندة والسويد وتشيكوسلوفاكيا وجواتيمالا وأورجواي، بينما طالب مندوبو الهند وإيران ويوغسلافيا بإقامة دولة موحدة تجمع العرب واليهود في نظام فيدرالي، وامتنع ممثل استراليا عن تأييد الجانبين على أساس أنَّ مهمة اللجنة هي تقصّي الحقائق وليست وضع الحلول، فهو متروك للجمعية العامة. ونلاحظ هنا أنَّ الدول التي أيّدت قرار التقسيم كانت تمثل المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي معًا، وتمثل دولاً أوربية صناعية ودولاً لاتينية في دور التنمية. أما الدول التي تؤيّد قيام دولة موحّدة فإحداها آسيوية يعيش فيها عشرات الملايين من المسلمين والأخرى إسلامية، والثالثة دولة تحاول أن تنهج طريق الحياد.. أما استراليا فتمثل وجهة نظر بريطانيا التي كانت ما تزال حائرة بين التقسيم والتوحيد، وتودُّ ألا تجد الأمم المتحدة حلاً لمشكلة فلسطين، فتطلب إلى بريطانيا أن تستمر في حكم فلسطين وإدارتها.

ميلاد إسرائيل

وعرض تقرير تلك اللجنة على الجمعية العامة عندما انعقدت في دورتها العادية في سبتمبر 1947.. وتوالى مندوبو الدول يخطبون عدة أسابيع، منهم من يؤيد تقسيم فلسطين ومنهم من يُعارضه. وكان أعلى الأصوات وأكثرها حماسًا في المطالبة بتقسيم فلسطين إثنين يمثلان دولتين لم يسمع باسميهما من قبل أهل فلسطين!.. هما ممثلا جواتيمالا وأورجواي ولهذا فإنَّ في تل أبيب وفي مدن إسرائيلية أخرى نجد اليوم شوارع تحمل اسم جرانادوس ممثل جواتيمالا.. واسم فابريجات ممثل أوروجواي. وقد أمضى هذان الرجلان بعد هذه عدة سنين يُدعيان إلى إلقاء الخطب في الاجتماعات التي تنظّمها الهيئات الصهيونية في أمريكا لقاء مكافآت مالية سخية، ووضع جرانادوس كتابًا عنوانه ((ميلاد إسرائيل)) اشترت منه هذه الهيئات آلاف النسخ ووزعتها في كل مكان.

أما بطل الدفاع عن مشروع فلسطين الموحد فكان محمد ظفر الله خان الذي حشد في دفاعه عن الحق العربي في فلسطين كل مواهبه ومقدرته الخطابية، والقانونية، والسياسية.. كما كانت خطبه تنبض بروحٍ إسلامية صادقة، وبإيمانٍ قوي بأنَّ الشعب الفلسطيني جدير جدارة الشعب الباكستاني وغيره من شعوب العالم بأن يتحرر من الحكم البريطاني، ومن الزحف الصهيوني، على السواء.. وقد كافأته إحدى الحكومات العربية على هذا الدفاع المجيد عن الحق العربي في فلسطين وعن كل قضية عربية وإسلامية طُرحت على الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بأن ألصق به ((مُفتي الديار)) في مصر تُهمة الخروج عن الإسلام، بل تهمة الكفر، والعياذ بالله، لأنّه طالما كان يقول في أحاديثه ومحاضراته أنَّ تدهور أمور المسلمين يرجع إلى تدهور أُولي الأمر فيهم.. ولم يرضَ عن هذا الكلام ملك مصر حينذاك فصدرت عن المفتي فتواه المشينة.. ولكن الشعب المصري كان أكثر وفاءً وأحسن تقديرًا من مَلكه ومن مُفتيه، وعبَّر عن هذا الأستاذ أبو الفتح في مقالٍ نشرته صحيفة ((المصري)) عنوانه ((أَنْعِمْ به من كافر)) تحدَّث فيه عن مواقف ظفر الله خان الإسلامية المجيدة.

وكانت من الحجج القانونية التي ساقها ظفر الله خان أنَّ الأمم المتحدة لا تملك بتاتًا الحق في تقسيم أرض أية دولة من الدول.. حتى لو كانت هذه الدولة مستعمرة أو محمية وإنّما هذا متروكٌ لشعبها وسكانها وحدهم.. وليس في ميثاق الأمم المتحدة ولا في قواعد القانون الدولي، ما يُبيح للأمم المتحدة أن تفرض على شعبٍ من الشعوب أن يُقسّم نفسه ويوزّع أرضه قطعة هنا وقطعةً هناك.. وطلب أن تستفي محكمة العدل الدولية في هذا الأمر، وأن يوجّه إليها هذا السؤال:

((هل تملك الأمم المتحدة، أو هل يملك أي عضو من أعضائها، أن تفرض قرارًا أو أن تصدر توصية بتعلّق أي خطة لتقسيم فلسطين، أو تقسيم أي وطن في العالم، ضد رغبة سكانه وبدون موافقتهم عليه؟))

وعرض هذا الاقتراح البسيط العادل للتصويت في اللجنة السياسية للجمعية العامة.. فرفضته.. ورفضته بصوتٍ واحد!، فقد أيّدته عشرون دولة، وعارضته إحدى وعشرون دولة، وامتنعت عن التصويت ثلاث عشرة دولة!

وبنفس العجلة والاندفاع الذي رفضت فيه اللجنة السياسية للجمعية العامة كل مقترح للإبقاء على فلسطين موحدة.. أسرعت واندفعت إلى الموافقة على المقترح الباقي أمامها وهو تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء.. فأيّدته خمس وعشرون دولة، منها الدولتان الكبيرتان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. وعارضته ثلاث عشرة دولة أكثرها من الدول العربية والإسلامية، وامتنعت عن التصويت سبع عشرة دولة من بينها بريطانيا.. وتغيّبت دولتان عن حضور الاجتماع.. وصدر القرار لأنَّ المؤيّدين أكثر من المعارضين.

ولكن إجراءات الأمم المتحدة بأن يُعاد التصويت الذي جرى في اللجنة السياسية على الجمعية العامة لكي تُصدر القرار النهائي.. وهذه القرارات تقتضي موافقة ثلثي الدول التي تُشارك في التصويت. فلو صوّتت الدول هذه المرة كما فعلت في المرة الأولى لسقط قرار التقسيم، لأنَّ الأصوات الخمسة والعشرين التي أيّدت التقسيم أقل من ضعف الأصوات الثلاثة عشرة التي عارضت التقسيم، أي أنه مطلوب صوت واحد على الأقل ينضم إلى مؤيّدي التقسيم.

المواقف الإنسانية

وفي خلال يوم أو يومين نشطت الأجهزة الصهيونية في كل مكان داخل البيت الأبيض وداخل الكونجرس، وداخل وزارة الخارجية الأمريكية، وداخل وزارة الخارجية في بلاد عارضت التقسيم مثل الفليبين أو امتنعت عن التصويت مثل ليبيريا.. وحتى داخل مكتب الأمين العام للأمم المتحدة الذي كان أكثر الناس حماسًا لتقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية.. فلما صوّتت الجمعية العامة انقلبت أصوات عدد من الدول، وصدر القرار النهائي بأغلبية ثلاثة وثلاثين صوتًا مع التقسيم وثلاثة عشر صوتًا ضدّ التقسيم، وعشرة أصوات ممتنعة عن التصويت.. أي أنَّ قرار التقسيم ظفر بالأغلبية اللازمة وعليها سبعة أصوات أخرى!

وهنا يجب أن نذكر دائمًا أنَّ أعضاء الأمم المتحدة وقد بلغ عددهم الآن مائة وسبعة وخمسين دولة.. ليس من بينهم سوى ثلاث وثلاثين دولة أيّدت قرار تقسيم فلسطين.. أما المائة وعشرون دولة أو أكثر أي أربعة أمثال الدول التي أيّدت التقسيم.. فليست مسؤولة عن هذا القرار، فمنها من عارضه، ومنها من امتنع عن التصويت، ومنها وهي الأكثرية الكبرى من دول العالم الثالث، لم تكن هناك.. ولو كانت حينذاك عضوًا في الأمم المتحدة لما أمكن صدور هذا القرار الظالم والخطير..

ووقف ظفر الله خان على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة يُلقي خطابًا يفيض بالمرارة.. ولكنه أيضًا ينظر فيه إلى بعيد.. ويتنبأ بما سوف يترتّب على هذا القرار من نتائج وعواقب، لن تنجو منها تلك الدول التي تحمّست واندفعت لتُقيم الدولة اليهودية فوق أنقاض الوطن الفلسطيني.. قال ظفر الله خان في خطابه المدوّي في ذلك اليوم الحزين:

((تقولون أننا لم نفعل أكثر من أن نأخذ جزءًا من فلسطين ليُقيم فيه اليهود لأنَّ هذا أمرٌ تقتضيه ((الإنسانيّة)) تجاه هؤلاء ((المضطهدين)).. لو كان ما تقولونه صدقًا لقبلتم مقترحاتنا بأن تفتح كل دولة أبوابها لتأوي عددًا من اليهود الذين لا وطن لهم ولا مأوى.. ولكنكم جميعًا رفضتم.

((استراليا.. قارةٌ بأكملها.. تقول لا، فأنا بلدٌ ((صغير المساحة)) ومزدحمة بالسكان! وكندا تقول لا، فأنا أيضًا مساحتي صغيرة وأرضي مكتظة بالسكان.

((والولايات المتحدة، بمُثُلها الإنسانية العظيمة، وبمساحاتها الشاسعة ومواردها الهائلة تقول: لا، ليس هذا هو الحل..

((ولكنكم جميعًا تقولون: ((دعوا اليهود يذهبون إلى فلسطين.. فهناك الأراضي الفسيحة، وهناك الاقتصاد المزدهر فليذهبوا إليها بعيدًا عنا.. ولن تكون هناك متاعب ولا مشاكل..!!

وينقلب صوته الساحر وهو يتحدَّث عن المواقف ((الإنسانيّة)) التي تدعمها هذه الدول إلى صوتٍ من التحذير والنذير وهو يوجّه كلامه إلى أمريكا وأشياعها قائلاً:

((أنصحكم أن تتذكَّروا الآن أنّكم في حاجةٍ إلى أصدقاء في الشرق الأوسط.. فلماذا تجعلون من شعوب تلك البلاد أعداءً لكم. لا تُحطِّموا بأيديكم مصالحكم في تلك البلاد)).

Share via
تابعونا على الفايس بوك