هذه الأزمات من يخلقها ضد المسلمين

هذه الأزمات من يخلقها ضد المسلمين

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبتا جمعة ألقاهما حضرة مرزا طاهر أحمد (أيدَّه الله) إمام  الجماعة الإسلامية الأحمدية،

في 24/ 8/ 1990 و9/ 11/ 9190م، بمسجد الفضل، لندن.

خطبة يوم 24/8/1990

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد: فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ .

منذ قرونٍ عديدة ومنطقة الشرق الأوسط لا تبرح تعاني من تدهورٍ مستمر، وتُحدق بها الحروب والاضطرابات وأحداث العنف، وتنزل بها صنوف البلايا والشدائد الأليمة. وقد زادت هذه الأمور، ولا تزال تزداد في العقود الأربعة الأخيرة من هذا القرن. ولعله لا يتعذّر معرفة العلّة وراء ذلك، ولكن لا الشرق ولا الغرب يُبدون اهتمامًا لتحرّي الأسباب. والواقع أنَّ السلام في هذه المنطقة قد اختلَّ في الأربعين سنة الماضية مراتٍ عديدة، وفي كل مرة كان سلام العالم كله يتعرَّض للاضطراب. وكان ردّ فعل الغرب نتيجةً لذلك أنّهم يخلقون أخطارًا تُحيق بالمستقبل بأكبر قدرٍ يستطيعون.. ويُصعِّدون هذه الأخطار بدلاً من إزالتها. وبعد كل تجربة منها تكون ردود فعل المسلمين الذين يعيشون في هذه المنطقة هي نفس ردود الفعل التي تُسبّب لهم الضرر، وتزيد من معاناتهم مرةً بعد أخرى. وبعد مرورهم في تجارب متكرّرة يصلون إلى نفس النتائج التي ثبت خطأها. وهذا ليس من سمات العقل والذكاء بأي حال. ولكن لأنَّ من الواضح وجود رجالٍ أذكياء في الجانبين، فلا بدّ إذن من سببٍ آخر.. لأنه بدلاً من حلّ الموقف فإنّه يزداد سوءًا. وحصيلة ذلك أنَّ أساس كل هذه الاضطرابات هو إسرائيل. ومع أنَّ الغرب كان بعد كل حرب يقدِّم تحليلاً للموقف، ويخبر بالأخطاء التي وقع فيها الشرق الأوسط وقادته، والتي أحدثت كل تلك الأضرار.. لكنهم لم يستبينوا جذور المرض أبدًا، ولم يُلقوا بالاً نحو تصحيح موقفهم.

ومثالاً لذلك، فإنّهم كانوا يلومون الرئيس المصري عبد الناصر، ويتهمونه بالجنون، وفقدان الاتزان، وأنّه لم يُدرك وقوف القوى العُظمى ضده، وأنّه وحلفاءه لا يُقارنون بتلك القوى العُظمى.. وفي كل مرة يذهب إلى الحرب ليلقى الهزيمة، ويزداد الموقف سوءًا. فتبعًا لتحليل الغرب: يقوم قائدٌ مجنون، ويستولي على قلوب الشعب بفضل حماسه، ولكنه محرومٌ من الذكاء، ولا يفعل شيئًا يفهمونه حقًا. ونتيجةً لذلك تنقلب تصرُّفاته حِيال أعدائه عليه وعلى أصدقائه. وفي كل مرة يُحارب فيها الآخرين لا يُحقّق أهدافه، ويؤوب بالخسائر، ويبقى في معاناة الهزيمة والخُسران.

وكان الحال كذلك أيضاً مع من تبعه من القادة. فالتحليل الغربي للفترة الأولى هو قيام قائد مجنون متحمِّس بين العرب. وهم يُقدِّمون نفس التفسير بشأن الرئيس صدَّام حسين، ويوجِّهون الأنظار إليه: هاكم قائدًا مجنونًا آخر قد قام، ترتكز جذوره على الناصرية والهتلرية. والأصل هو النازية التي كان هتلر رمزًا لها. ويمكن القول بأنه موقفٌ مُشابه لموقف هتلر. وهم يعرضون في التلفزيون هذه الأيام أفلام هتلر، ويعرضون أحداث الحرب العالمية، يسترجعون بها ذكرى هتلر، ليُثيروا الغرب دونما حاجة للتعليق، وبطريقةٍ لا شعورية يربطون بين صدَّام ودوافعه وبين النازية ودوافعها.

هذا هو التحليل الغربي. ولكننا لم نسمع من خبير غربي ما يُبيّن لنا: إذا كان هؤلاء القادة مرضى حقًا، فما هو المرض الذي أوجد هذه العقول المريضة؟ ولم يُفكِّروا أنّه حتى لو قُطعت تلك الرؤوس المريضة فسيبقى المرض. ليتولّد عنه مزيد من الرؤوس التي لن تكون أبدًا خالية من المرض وتأثيراته. ما هو هذا المرض؟

إنّه إنشاء دولة إسرائيل في هذه المنطقة. ثم هو استمرار التمييز في تعامل الغرب مع إسرائيل. فما كان هناك موقف يُثير مسألة رعاية مصلحة إسرائيل في مقابل مصلحة العرب المسلمين.. إلا وكان الغرب دائمًا وأبدًا، ودونما حالةٍ استثنائيةٍ واحدة، يهرع إلى تفضيل مصلحة إسرائيل، والتضحية بمصالح العالم العربي المسلم. ولقد عبَّر شاعر عربي عن جوهر هذا الموقف في قوله:

من كان يُلبس كلبه ثوبًا

وحسبي أنَّ جلدي على بدني

.

لا ريب يُؤثِر كلبه عنّي

والكلب خيرٌ عنده مني

هذا هو التشخيص الدقيق النهائي للمرض، وهذا هو ما غُرس في قلوب العرب. فالعالم الغربي لا شكَّ يكسو كلابه، ويتركهم عرايا. هذا هو الحال الذي يُطابق تمامًا ما يجري مع إسرائيل مقارنةً بالعرب. هكذا كانت دائمًا استجابة الغرب في تلك المناسبات ليتخلَّصوا من العالم العربي الجاهل، ويحموا العالم من أذاه. وسبيلهم الوحيد لذلك هو تفكيك العرب وتفتيتهم إلى قطعٍ صغيرة، وتدمير كل إمكانيات نهضتهم في المستقبل.

هذا تحليلٌ آخر، وإن كان ليس بالفظاعة والإجرام مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تكرَّر بعد الحرب العالمية الثانية، وتحليلهم في الحالتين كان خاطئًا. وما داموا لا يُلقونَ نظرهم على الأسباب الأساسية التي ولَّدت النازيّة أو الناصريّة أو الصدَّامية، ولا يُشخِّصون المرض تشخيصًا صحيحًا، ولا ينتبهون إلى معاملاتهم.. فإنَّ تلك الرؤوس ستقوم مرةً ومراتٍ وستبقى سببًا مستمرًا لقطع رؤوسٍ أخرى، ويكبر هذا الورم السرطاني ويكتمل نموه، إلى أن يأتي وقتٌ يُفلت فيه من سيطرة حكومات الغرب.

إنَّ السلطة التي أُعطيت لصدَّام حسين هي في الحقيقة انعكاس لمظالم الغرب، وانعكاس لموقفهم اللامبدأي. بل وقبل صدام حسين كان الغرب وحده واضع أساس الخومينية. إنَّ فرنسا هي الدولة التي لجأ إليها الخوميني، وعاش فيها ردحًا طويلاً من الزمن. وبنفوذ فرنسا ومساعداتها تحرَّك جهاز الإعلام المتخصِّص حتى أشعل الثورة التي ما تزال قائمة. في ذلك الوقت.. عندما أحسَّ الغرب انّه إذا لم يصل الخوميني إلى السلطة، ولم تتملك الثورة الدينية زمام الأمور في إيران.. فإنَّ الكراهية الشديدة نحو الشاه سوف تزداد عُمقًا في الشعب، وينتهي الأمر إلى ثورة شيوعيّة. فلم يكن حبّ الغرب للخومينيّة، أو لذلك المفهوم الإسلامي الذي ظهر في إيران.. وإنّما كان الخوف من عدو أقوى هو الذي ألجأهم إلى تغذية الخومينية، حتى تنال القوة والسلطان. ونظرًا لأنّهم رجال دين، ويعرفون أنَّ قيامهم كان نتيجةً للشعور الديني، فمن صالح الغرب أن يبقى الشعور الديني مشتعلاً، ليحلَّ محلَّ الكراهية، ويحوِّلها نحو مسارٍ آخر. فالثورة الأولى قامت على الكراهية، وكانت موجّهة نحو شاه إيران؛ وفي خلفيّتها موجّهة إلى حليفته القوية وشريكته أمريكا. فاستخدموا هذه الكراهية نفسها، وصوَّروا أمريكا على أنّها الشيطان الأعظم. وبكل وسيلة احتفظوا بالحماس الديني حيًّا في الشعب، لأنّه كان متصلاً بمشاعر الكراهية وقائمًا عليها. ونتيجةً لذلك تدعَّمت الخومينيّة.

فكل تعكيرٍ لصفو السلام في المنطقة من قبل، أو الحروب المروِّعة، أو الاضطرابات وسفك الدماء والمظالم.. تقع مسئوليتها الأساسية على العالم الغربي. إنّه الأساس، لأنَّ عدوان الشاه كان مدعومًا من الغرب، فهم المسئولون. كيف يمكن لأمريكا ذات القدرة الهائلة في التجسُّس والمخابرات وكشف المعلومات من أماكن بعيدة، بما لا يعرفه أهل تلك الأماكن التي لم تتيقّظ مداركهم بعد.. وتبلغهم تقارير المخابرات الأمريكية وتعرفهم بكل تلك الأمور؟ فمن العجيب مثلاً أنَّ ثورةً حدثت في بلدنا باكستان، واشتكى الحكّام أنَّ أمريكا لم تبلغهم بالأمر! رئيس الحكومة أُزيح من موقعه، وتغيَّر الحزب الحاكم، فيشتكون لأنَّ أمريكا لم تُخبرهم عن ذلك. بلدك الذي تعيش فيه ولا تعلم ما يجري بداخله، وتشتكي لأنَّ الأمريكان لم يُبلغوك بما يجري من ورائك! هناك نقصٌ في الوعي باتَ واضحًا في بلاد الشرق. هناك زيادة في عدم إحساسهم بأنفسهم، يقابله وعيٌ متزايد وإحساسٌ حادّ عند الآخرين. أقول: كيف يمكن إذن ألّا يكون الأمريكان عالمين بالطغيان الذي أطلق الشاه عنانه في إيران؟ مُدركين مدى خطورته على ردود الفعل المتنامية في البلاد! فإبّان هذا الطغيان تقع تبعة المشاركة، أول ما تقع، على عاتق أمريكا. ولا يمكن لعاقل أن يُعفي أمريكا من هذه المسئولية. ليس هذا إحساس بالكراهية أو مسألة مشاعر.. إنّما هي حقيقة لا يجد إنسان عادي الذكاء مندوحة عن الاعتراف بأنَّ المملكة التي كانت في إيران، كانت تحت رعاية أمريكا، ولذلك فإنَّ كل التفاعلات التي حدثت تقع تبعتها الحقيقة على أمريكا. وكل فعل قامت به أمريكا للسيطرة على تلك الأحداث كان لازمًا لحماية مصالحهم، أو بحسب زعمهم، لحماية المصالح العالمية.

لقد أحسُّوا أنَّ المستفيد من هذا التفاعل قوّتان لا غير: إمّا الخومينية الدينية، وإمّا الشيوعية. ولما كانت الشيوعية عدوًّا أشدُّ خطرًا، لو وصلت إلى السلطة ما أمكن عقد تلك المعاهدات والاتفاقات بين روسيا وأمريكا، ولا قامت الصدَّامية، ولكان هناك خطرٌ شديد في الشرق الأوسط من قِبل روسيا وإيران الشيوعية، ولكان هناك خطرًا لا يستطيعون محاربته، وما كانت بهم طاقة على قتاله، فبالنظر إلى مصالح العالم كله كما يقولون، خلقوا الخومينية، وغذوّها حتى شبَّت وقويت. ثم استخدم الخومينيون ذكاءهم واتبعوا طريقًا وسطًا لاستمرار نظامهم، وحمايته من شرور التأثير الأمريكي. كان طريقًا وسطًا بمعنى أنّهم ساروا في الوسط بين أمريكا وروسيا، ولكنه بميزان عدالة الإسلام لا يعدُّ وسطًا، لانّهم اتخذوا من القتل والاغتيال رياضتهم اليومية.. ذات اليسار وذات اليمين، وفعلوا ذلك باسم الإسلام.

وهكذا قاسى عالم الإسلام كثيرًا من الشدائد. لما أراد الغرب الانتقام من إيران.. خلقوا الصدَّامية، وشجّعوا العراق بكل السُبل، وطلبوا من النُّظم العربية الخاضعة لنفوذهم لمساعدة العراق، كما ساعدوها مباشرة في اليوم الذي واجهت العراق فيه خطرًا شديدًا، وبدا أنَّ الجيش الإيراني على وشك ابتلاع بغداد. عندئذٍ أعلنت أمريكا صراحةً أنَّ هذا لن يحدث؛ أو بالأحرى أنّهم لن يَدَعوا هذا يحدث أبدًا. وسرعان ما زادوا قوتهم الدفاعية حتى صارت إلى مستوى هجومي.

واليوم يروِّجون الدعاية في العالم.. من أنَّ صدَّام طاغية مخبول، لا يتردّد في استخدام الغازات السامة ضد البشرية.. الغازات التي تفتك بالأعصاب وتُحدث القروح وتخنق المصابين، وأنّه لا بدّ من تحرير العالم من هذا الطاغية. مع أنّهم هم أنفسهم الذين علَّموه بالأمس صنع هذه الغازات المهلكة. كانوا يعلمون كل شيء عن تلك المعامل الكيماوية، وأُقيمت تحت سمعهم وبصرهم، وهم الذين أعطوه سرَّ الصناعة وتكنولوجيتها.. لأنّهم يومئذٍ كانوا يواجهون العدو الأكبر: إيران. ولو ادَّعت هذه البلاد اليوم أنّه لم يكن لديهم علمٌ بذلك، وأنَّ العراق فعلت كل ذلك وحدها سرًّا.. لكان قولهم كذبًا محضًا. عندما بدأت المعامل الكيماوية في ليبيا صناعة غاز الأعصاب.. ضربوا المعامل بالقنابل. وأعلنوا للعالم أنَّهم لن يسمحوا بأن تُقام هذه المعامل مهما كان الثمن، لأنّها تُمثّل خطرًا داهمًا على سلام العالم. أعطوا التفاصيل كاملةً صحيحة لدرجةٍ مذهلة. قالوا إنَّ ليبيا تزعم أنّها معامل أسمدة وبعض الكيماويات، ولكن ها هي صور المعامل من الداخل، وهذا ما يُصنع بداخله. كانوا يعرفون تفاصيل المعامل وكل شبرٍ فيها، وعرضوه أمام أنظار العالَم. فكيف كانت عيونهم مغلقة مع العراق، في حين أنّهم هم الذين ساعدوها، وأرادوا بكل ثمنٍ غالٍ أن يمنعوا إيران من السيطرة على العراق أو العالم العربي، وألا تُحرز نصرًا حاسمًا عليهم، وخافوا أن يخرج الأمر من سلطانهم وسيطرتهم؟

في ذلك الوقت، كانت إيران هي التي تصرخ بأنَّ هناك انتهاكًا صارخًا، وظلمًا فاضحًا، وقسوةً بالغة. ونشروا الصور التي تُبيّن ضحايا الغازات السامة. وبعد عرضها مرةً أو مرتين توقفت وسائل إعلام الغرب عن نشر هذه المشاهد.

والآن، هذا هو الرجل الذي يصفونه بالجنون والمرض العقلي.. هم الذين خلقوا هذا العقل المريض بأيديهم! ولما أرادوا أن يفضحوه ويُعيّروه.. نشروا نفس المشاهد الفوتوغرافية التي سبق ونشرتها إيران، وقالوا للعام: هذا هو الطاغية الذي ارتكب جرائم القسوة ضد إخواننا الإيرانيين المسلمين؛ كيف يسلم العالم مع وجود هذا الطاغية؟ كيف سيُبدي رحمةً نحو الآخرين ويُعاملهم بالإنسانية؟

فهذا هو نفس التصرُّف القديم.. وتفس الطريقة القديمة. إنّهم لا ينظرون إلى المرض الذي أثمر العقول المريضة. إنّهم يتجاهلون تلك القوى، قواهم أنفسهم، التي تساعد دائمًا على خلق المرض. إنّهم يخلقون المرض من بدايته حتى يصل إلى مراحله الأخيرة. وفي النهاية يحوّلون الانتباه إلى تلك العقول المريضة، لأنّهم يريدون فصلها عن أجسادها، وليبدو للعالم أنّهم مضطرون إلى ذلك.. فهناك عقلٌ مجنون قد ارتفع رأسه، ومن المقدّر أن تقطعها من هذا الجسد وإلا صار خطرًا على رؤوس العالم.

والنهاية هي نفسها: لماذا يظهر هذا العقل المريض؟ إنّه بسبب المعاملة الظالمة المستمرة.. من جانب الغرب.. مع العالم العربي المسلم بصفةٍ خاصة، ومع المسلمين في إيران، إنّها معاملة ظالمة، قاسيةٌ، جائرة.. وذلك على الرغم من أنَّ الغرب فاز بصداقاتٍ كثيرة من هذه البلاد، وساندهم وعاونهم في الظاهر، ولكن فعاله كشفت السبب بوضوح: إنّهم يريدون استغلالهم، وأفضل طريق لذلك أن يقيموا معهم علاقات صداقة. إنّهم يُصادقونهم كي يحصلوا على كل ثرواتهم البترولية ودائع في بنوكهم. إنّهم يستغلونهم مرتين: أولاً تكون هذه الأموال ثروة تضاعف من قوة رؤوس الأموال العالمية في الغرب، وثانيا: تكون هذه الأموال رهينةً في أيديهم يمسكون بها عند التهديد بأي خطر.

والآن عندما يتحدَّثون عن الائتمان في أماكن أخرى يتغيّر مفهومهم، أعني يذهب مواطن في بلدٍ آخر فيكون أمانة، ويجب ألا يخونوا هذه الأمانة، ولكن ذلك في زمن السلم والصداقة والثقة والانتفاع بحماية نظام اقتصادي عالمي أو الاعتماد عليهم، ولكن في وقت الخصومة يضعون أيديهم على تلك الثروة ويقولون نحن نجمّدها لصالح الناس. كم من دولةٍ شرقية جمّدوا أموالها في حالة الحرب وزمن الخطر! والآن جمَّدوا أموال الكويت.. بقصد تحريرها فيما بعد لأنّهم أصدقاء، وجمَّدوا كل ثروات العراق في جميع البلاد. هذه هي أشكالٌ من الخداع دقيقة.. وهم قادرون على تقديم كل هذه المهارة وكل تلك المظالم في لغةٍ مصقولة، وهم أساتذة هذا الفن. وفي مقابل هذا، وفي كل مرة، يحاول العالم العربي التعس محاربة الذكاء بالعاطفة ويدعون عواطفهم ترتطم بالذكاء.. فيُحطّمون العاطفة وينثرونها فُتاتًا، ويوقعون المسلمين في العار والمذلة أكثر وأكثر.

إنّ أكبر غلطة وقع فيها العالم العربي، ولا يزال يُكرّرها، أنَّ الأهداف السياسية والأمور الدنيوية التي لا يتغيّر ردّ فعل الأمم الأنانية بإزائها دونما تفرقة دينية، فإنَّ العرب بدلاً من الاحتفاظ في إطارها الذي تنتمي إليه.. يحوّلونها إلى قضية دينية، وتتزايد الكراهية التي خلقوها باسم الإسلام.

المجتمع الإنساني يُعطيهم حقّ مقاتلة الذين هاجموا مصالحهم، ولكنهم يحوِّلونها بلا مبرر إلى جهادٍ ديني، فيُعطون المهاجمين فرصةً إضافية. فبعد أن كانوا يهاجمون العالم الإسلامي فقط.. إذا بهم يُهاجمون الإسلام أيضًا، ويقولون للدنيا كلها إنّ المرض الحقيقي هو الإسلام ذاته، وليست الإسرائيلية هي سبب مظالمنا، وإنما الإسلام هو الدين الذي ينزع إلى الالتواء ومجانبة الشرف. إنّه دينٌ غير مُنصف، وينشر الفكر الظالم.

فمثلاً في عملية إيران، لو أنّهم عرضوا الأمر على العالم دون خلطه بالإسلام.. لوافق العالم على أنَّ الإيرانيين قد تعرَّضوا فعلاً للعدوان المستمر، وإذا قالوا إننا كنا من قبل لا حول لنا ولا قوة، ولكن جاء دورنا الآن للانتقام.. لكان من الممكن أن يتفهَّم العالَم موقفهم. إنَّ قمة الجهل بالإسلام والظلم أنهم لا يقولون للعالم قولاً سديدًا.. بصراحة ووضوح: إننا لا حول لنا ولا قوة، وهم قد ولَّدوا فينا الكراهية الشديدة قرونًا، والآن كلما تتاح لنا الفرصة نتصرَّف كرجلٍ ضعيف يجد حجرًا فيلتقطه ويقذفه، ولا يُبالي بما سينزل به من عقاب، ولا ما سيفعله به الأقوياء.. إنّهم بدلاً من أن يعرضوا الموضوع على أساس من التقوى، وطبقًا لتعاليم الإسلام، وبالقول السديد في وضوح واستقامة.. وبما ينطوي على منافع خفية رائعة، فإنّهم مرةً أخرى يُعطونهم الفرصة لمهاجمة الإسلام. في الأولى دعوهم لمهاجمة ذاتهم، ثم اليوم يدعونهم لمهاجمة روحهم.. فيقدِّمون الإسلام في صورةٍ مشوشة مشوهة، يلوّنونها ويظلمونها، والمثقفون في العالم يعرفون أنَّ أفعالهم لا علاقة لها بالدين، ولكن ما داموا ينسبونها للدين فلا بأس.. نهاجم دينهم وننسب إليه الالتواء. ولا ننسبه لعقولهم.

فالقادة الذين وصفوهم أمام العالم بأنّهم مرضى بسبب ما خلقوه من شرور، هم الذين أعطوهم الفرصة لنسبة المرض إلى الإسلام. ويُعرض هذا التشخيص الخاطئ أمام العالم ثانيةً، ويُرغَم العالم على قبوله.. لأنَّ كلمات المريض مسموعة أكثر. المريض يقول: أنا مُصابٌ بصداع، وتناولتُ كيت وكيت من الطعام فأصابني الصداع. إذا قال الطبيب غير ذلك فلا يقتنع الناس، ويقولون إنَّ المريض خير من يُشخِّص سبب مرضه. تعرض هذه الرأس المريض على الدنيا، ويقول الرجل المريض: ديني هو المجنون.. ديني يأمرني بالظلم مع النساء والأطفال.. الإسلام يعطيني الحقّ في الانتقام بهذا الشكل، وأن نقوم بعمليات التخريب، وإفساد أمن المدن بالمتفجرات، والانتقام بأي صورة كانت لمعاناتنا، والله يُعيننا والإسلام يؤيّدنا ويُعلّمنا أن نفعل ذلك باسم الدين!

إنَّ هذا خطأ تمامًا. وليس ثمة تبرير له مطلقًا. كل ما قلته لكم أمور حيثما عرضتها في العالم سيضطر إلى قبولها كتبرير لوجود هذه الرؤوس المريضة والسبب في مرضها. وهكذا لم يسمح أولئك الظالمون للعالم أن يهاجمهم وحدهم، بل وعرضوا الدين أمامهم ليكون أيضًا هدفًا للهجوم.

هذا ملخّص طغيانهم وظُلمهم الذي يعتبرونه اليوم شرعيًا. ومن أهم الأمور الآن أن تتفهَّم القيادة الإسلامية الأسباب، وتوجّه كل انتباههم إلى المرض الحقيقي، وتطلب من الآخرين أن ينتبهوا له، ويُقدِّموا تحليلاً واضحًا أمام العالم، ويقولوا: إننا اضطررنا للانضمام إليكم ضد صدَّام حسين.. ولكن ذلك لا يعني أنكم أبرياء، ولا يعني ذلك أنَّ الخلاص من صدَّام حسين، أو القضاء على العراق هو الإسلام؛ بل سيكون ذلك سببا إضافيًا لهدم الإسلام، وتستمر الأسباب تفعل فعلها، وتبقى الأمراض، ونتيجة لها يضطرب السلام من حينٍ لآخر في منطقة الشرق الأوسط، ويشعر العالم بالأخطار تتهدَّده نتيجةً لذلك.

وإذا تحدَّثنا عن العدالة، فسترون أنَّه بعد كل حرب تحتل إسرائيل جزء من بلاد المسلمين؛ ونظرًا لتفضيل الغرب لإسرائيل فإنّه يساندها. إنّهم لم يُعيدوا شبرًا من الأرض التي احتلوها إلا لمصر. وفي كل مرة يسلم الإسرائليين سينا لمصر فإنّهم يضطرونها إلى قبول شروطهم، حتى اضطرت في النهاية إلى عقد معاهدة مع إسرائيل. التي اعتقدت أنها تقطع مصر بها عن العالم الإسلامي نهائيًا. وتصبح غرضًا لكراهيتهم، ويصبح استمرار وجودها متوقفًا على إسرائيل، ويقولون: ما دمنا نعاضدها فإنها تعيش، ولولانا لتحطّمت وانهارت. هكذا كانت توقُّعاتهم التي على أساسها أعادوا تلك المنطقة الصحراوية لمصر بعد أن احتلتها إسرائيل. وسوى ذلك لم يُعيدوا أي أرضٍ احتلوها للمسلمين؛ أعني أنَّ إسرائيل لم تدفع لتسليم أي أرض محتلة إلى أهلها الذين لم يقبلوا بمعاهدةٍ للإذلال.

كم طال بالأردن مصادقتهم؟ إنّهم حتى اليوم يذكرونهم في نشرات الأخبار.. أن انظروا أصدقائنا.. كنا نعتمد عليهم أكثر من أي شيء. كم نحن حمقى! لقد ظهر أنّهم أصدقاء غير مخلصين، ولا يرون كيف مِلنا إليهم في صداقتنا. كل ذلك الوقت.. وشطر أرض بلادهم في أيدي أعدائهم، والأصدقاء يساعدون العدو على الاستمرار في هذا الاحتلال غير الشرعي.. ومع ذلك استمروا على صداقتهم لهم! وحيث يقول القرآن المجيد بعدم موالاة أعدائكم.. خلق بعض الملّات (المشائخ المتعصِّبون) من العصور الوسطى انطباعًا خاطئًا حول ذلك الأمر، ونتيجةً لذلك أعانوا أعداء الإسلام على تشويه سمعته. وهذه هي الأوضاع التي يقول فيها الإسلام لا توالوا أعداءكم! لا توالوا قومًا بأن تبيعوا من أجلهم متطلبات الإسلام والعدل. هذا هو الأساس في ذلك التعليم القرآني؛ فقد صرَّح بأنَّ الله لا ينهى عن مصادقة أولئك الذين يُضمرون العداوة لكم ولا يظلمونكم، بل الأحرى بكم أن تُعاملوهم بالحسنى..

لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .

هذا هو الإسلام، ولكنهم تجاهلوا تعاليم الإسلام الحكيمة الذكية، واتبعوا فهمهم الذي ألبسوه رداء الذكاء. فحيث تحرم الموالاة كانوا يوالونهم، وحيث أُمروا بالصداقة والموالاة تجنَّبوها. هذا هو آخر شكل من أشكال مرضهم. إنّهم يبتعدون عن التقوى.. وعن تعاليم الإسلام.

قال المصطفى : لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرتين.. ولكن ما أكثر ما لُدِغوا، ثم يضعون أصابعهم في نفس الجُحر، وحتى اليوم لم يفهموا.

وإذا حلَّلتم موقف الغرب الحريص المتبصِّر، تبيّن لكم أنّه في الحقيقة جاهل أحمق. وما دام هذا المرض موجودًا فستستمر الأخطار تحوم حول العالم بنفس الطريقة تمامًا. ومن الناحية الأخرى، فإنَّ البلاد الإسلامية أيضًا بالرغم مما قاسته مرارًا وتكرارًا لم يتعلَّموا من أخطائهم المعادة. فما هو العلاج؟

إنّه علاجٌ واحد، علَّمه إلى الدنيا سيدنا محمد المصطفى .. ذكرته من قبل، وأود اليوم أن أُذكّركم به. هناك نبوءاتٌ طويلة، أريد أن أُشير إلى واحدةٍ منها. جاء في الحديث النبوي الشريف:

“…أَوْحَى اللَّه إِلَى عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْت عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّور”  (أي اجعله لهم حماية)…

“فَيَرْغَب عِيسَى نَبِيّ اللَّه وَأَصْحَابه إِلَى اللَّه فَيُرْسِل عَلَيْهِمْ النَّغَف”: (أي يدعون الله ويرغبون إليه في إهلاك يأجوج ومأجوج، وإنجائهم من مكابدة بلائهم وشرِّهم…) (صحيح مسلم، كتاب الفتن).

يقول النبي الأكرم في حديثه عن الأيام الآخرة أنَّ يأجوج ومأجوج سوف يتسلَّطون على الأرض، وأنّهم ينهضون موجةً بعد موجة، وأنَّ موجات سلطانهم سوف تُغطّي الدنيا كلها، وأنَّ المسيح وأتباعه سيحاولون قتالهم بقصد هزيمتهم، وعندئذٍ يخبر الله تعالى المسيح بأنّه لا يملك إنسانٌ على الأرض القوة لقتالهم. ولم يُعطَ المسيح هذه القوة أيضًا. هناك علاجٌ واحد، إنّه اللجوء إلى الطور (الجبل) والابتهال إلى الله تعالى. فالدعاء هو وحده القوة التي تؤدي إلى الفوز على هذه الأمم. ولكن ما المراد بالجبل؟ أعتقد أنَّ النبي الكريم هو الجبل المقصود هنا. يقول الله تعالى:

لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ،

أي لو أُوحيَ هذا القرآن إلى جبلٍ لاهتزَّ لعظمته ولتحطَّم إلى شظايا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . فالمصطفى كان له التفوّق على الجبال، لأنّه كان أعظمها جميعًا. إنَّ جبال الدنيا لا تملك القدرة على تحمُّل جلال هذا الوحي، ولكن المصطفى كان وحده أعظم الجبال وأعلاها وأشدَّها. والمراد أن عودوا إلى عظمة المصطفى ، وتعوَّذوا بتعاليم المصطفى . الجأوا إليه واستمدوا القوة منه. إذا فعلتم ذلك وابتهلتم إلى الله .. يكون دعاؤكم قد غُذِيَ من حفاظته، فلا يضيع أبدًا، وتنالون نصيبًا من عظمته، وتأخذ دعواتكم قسطًا منها.

والعبرة في هذا.. أنه لم يرِد في الأحاديث أنَّ الله تعالى أمر أحدًا من مسلمي ذلك الوقت أن يبتهل ويدعو؛ إنّما الإشارة إلى أتباع المسيح الموعود ولا أحد غيرهم. ومعنى هذا أنَّ الإيمان في دعاء الآخرين من مسلمي ذلك الوقت يكون قد رُفِعَ من الناحية العملية؛ ومن لا قيمة لدعائهم، فلا فائدة من إشراكهم في وصفة الدعاء.

وبوسعكم الآن رؤية قدر العظمة في تصريحات الحكّام المسلمين التي تصدر الآن. فمنهم من يقول: هلمُّوا إلى أمريكا، اطلبوا معونتها وحمايتها. ومنهم من يُقيم معاهدة مع إيران أو يتفق معها في أمور لينتفع من قوتهم، ولا أحد منهم يقترح الاتجاه إلى الملاذ الإلهي، ويفكّر في ملجأ المصطفى . لم يُذكِّرهم أحد ويقول لهم: أيها المسلمون، هذا وقت الدعاء والابتهال إلى الله تعالى.. لأنّه السبيل الوحيد للنصر على الأعداء. ولكن هناك جماعة فريدة.. جماعة الإمام المهدي والمسيح الموعود.. مسيح محمد المصطفى .. الذي قدَّر الله أن تكون نجاة العالم الإسلامي بفضل دعائهم، بشرط أن يلوذوا بمعاذ عظمة محمد المصطفى ، ويتحصَّنوا بشخصيته وسُنّته، ويواظبوا على التضرُّع والابتهال إلى الله تعالى.

ولو أنَّ هؤلاء اقترحوا حلاً مؤقتاً لهذه المشكلة.. فليكن من المعلوم أنّه الحل الذي يسير بأهل الشرق الأوسط وبالعالم كله نحو وضع أسوأ. سوف ينشأ وضعٌ مريعٌ للغاية. وما دامت الأمراض والبلايا موجودة.. فليس ثمة حل عندهم. إذا كان هناك حل فهو معكم أنتم.. يا جماعة المسيح المحمدي. ينبغي عليكم أن تتضرَّعوا إلى الله تعالى بلا انقطاع، لأنَّ هذا الألم سوف يستمر إلى زمنٍ طويل، وللموقف تقلُّباتٌ كثيرة، وسوف يدخل في مراحل متجدّدة.

وإذن فلا تُؤخِّروا الدعاء.. فنحن القوم الذين دعوا من قبل. ولكن في دنيا اليوم، وعلى ضوء الموقف كما حلّلته أمامكم.. أُوكِّد لكم أنّه لا علاج لأمراض هذه الدنيا، وأمراض الأمَّة الإسلامية سوى دعاؤكم. وعليكم أيضًا أن تبتهلوا من أجل العالم الغربي، كي يمنحهم الله العقل والفطنة. لقد فشلوا من قبل مراتٍ عديدة في أن يُحلِّلوا مشكلات الدنيا من خلال ذكائهم وسياستهم. لم ينجح ذكاؤهم مرةً واحدة، ولم يكن له نفعٌ للعالم، لأنَّ دوافعهم الأنانية وراء مهارتهم، وإفراطهم في الغرور خلف قراراتهم النهائية. الذكاء الحقيقي مرتبطٌ بالتقوى ولم تفهمه الدنيا بعد. وعندما يؤكد القرآن الكريم على التقوى فإنّه لا يقصد الملّات المجانين (المشائخ المتعصِّبون)، وإنّما يؤكِّد على التقوى التي تكفل حدّة البصيرة، فتجعل المؤمن يرى بنور الله. وكل مهارة محرومة من التقوى سوف تؤول في النهاية حتمًا إلى الفشل والخسران. سمُّوها إن شئتم مهارة، ولكن ليست ذكاء. فعالم اليوم.. من الشرق أو من الغرب.. خلوٌّ من الذكاء والفطنة الحقّة.. لأنّه محرومٌ من التقوى.

فيا جماعة محمد المصطفى .. يا جماعة المسيح المحمدي (عليه السلام).. لطالما كنتم مناط التقوى وأهل أمانتها.. فأوفوا بحق هذه الأمانة، وما دمتم باقين عليها مستحقين لهذه الأمانة، فلسوف يهبكم الله النصر وتمضون قادرين على قلب المستحيل ممكنًا، ولسوف تُظهرونه للعالم.

عسى أن يُعيننا الله تعالى على تحقيق ذلك! آمين!

خطبة يوم 9/11/1990م

إنَّ الموقف الذي تمرُّ به الأمة الإسلامية في هذه الأيام لموقفٌ يُصيب كل مسلم أحمدي بالهمِّ الشديد، وبدلاً من أن تنقص الهموم فإنّها في ازدياد. وسبق أن ذكّرتُ الجماعة الإسلامية الأحمدية بالدعاء والابتهال، وأودُّ اليوم أن أُذكِّرها تارةً أخرى في خطبتي هذه بالدعاء والضراعة إلى الله العلي الكبير.. بمزيدٍ من الجدّية، وبإخلاصٍ عميق وألمٍ بالغ. ينبغي على كل أحمدي أن يرفع أكُفَّ الضراعة إلى الله عساه جلَّ وعلا أن يُزيل، بفضله وكرمه، ما يواجه الأمة الإسلامية من أخطار. ومع أنَّ السحاب الأسود يُحيط من كل اتجاه، إلا أنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يُغيّر اتجاهه إن شاء الله. ليس هناك جزءٌ من العالم في الوقت الحاضر إلا والمسلمون يواجهون فيه الأخطار المباشرة وغير المباشرة، والمسلمون حيثما كانوا غير مستعدين لمواجهة كل هذه الأخطار. ولا تجد ردود فعل إسلامية تتسمُ بالعقل والحكمة في أي مكان. لذلك، فمن واجبنا أن نُقدِّم لهم النصح، ونسعى لإفهامهم.. سواء أنصتوا لنا أم أبوا فواجبنا أن نضع بين أيديهم كل نُصح ضروري؛ ولا يجوز أن نحصر أنفسنا في إطار النصح وحده.. لأنَّ النصيحة لدى من يسدُّون آذانهم، والإيضاح عند من يغلقون عيونهم، والهداية لمن طبع العناد على قلوبهم.. لا تُجدي ثمارها الطيّبة مهما أراد المرء أن يفعل. ومن ثم فالدعاء ضرورة مُلحّة، والدعاء مطلوب كي يكون للنصيحة أثرها.

أما بالنسبة للعالم الخارجي، فالدعاء لازمٌ لتغيير اتجاههم فينبغي أن يكون لدعائكم وجهان: أحدهما أن يخلق الله تعالى قيادةً عاقلة بين المسلمين، وأن يَهَبَ العقل لولاة الأمور فيهم، وأن يُنعم عليهم بنور التقوى، وأن يُمكِّنهم من إدراك الموقف الراهن على حقيقته، والثاني: أن يحوّل الله تعالى اتجاه كل أولئك المعتدين الذين يُوشكون على مهاجمة الإسلام من الداخل أو من العالم الخارجي، وأولئك الذين يُناهضون الإسلام تحت عباءة الإسلام.. وأن يُحبط الله كل جهودهم ويعودوا بالفشل التام.

سأضع أمامكم الآن ما يحدث في الساحة بإيجاز، لقد سبق وأن ألقيتُ عليه الضوء من زوايا متنوعة. فكما يعرف الإخوة أنَّ هذا الصراع مع العراق هو في الواقع بسبب احتلاله الكويت، ولقد قدّمتُ لكم سببًا أو سببين لما تقوم به قوى العالم من حشدٍ ضد العراق؛ ولكن هناك أسبابًا أخرى عميقة، سوف أسردها لكم في المستقبل إن أذِنَ الله تعالى بذلك؛ وسأتناولها بمزيدٍ من التفصيل، وأحكي لكم عن الأيدي التي تنسج هذه المؤامرات بالفعل.

وملخص هذا الصراع أنَّ بلدًا مسلمًا احتلَّ إقليمًا، يحسب أنّه كان جزء من بلده، كان قد اقتطعه البريطانيون وأقاموا له دولةً مستقلة. هذه هي قضية العراق. وفي مقابل ذلك يُقال: إننا لو تركنا بلدًا يحتل منطقة على أساس من الحقّ التاريخي فسوف يشكل ذلك خطرًا جسيمًا على سلام العالم، ولا يمكن بأي ثمن أن نسمح لبلد أن يتخذ مثل هذه الخطوة العدوانية.

لا ينفكُّ قادة الغرب يرفضون القول بأنَّ اهتمامهم ينصبُّ على منابع البترول، ويقولون بل هو السلام العالمي الذي يهّمنا؛ واحتلال بلد لإقليمٍ ما على أساس أنه كان ينتمي لها تاريخيًا لهوَ شيءٌ سخيف تمامًا، ولا يمكن أن نسمح به.

دعُونَا نُلقِ نظرة سريعة على تاريخ هذه الفترة لنرى ماذا كان يجري ونفحص المنطق الذي قدموه لنتعرف على حقيقته. فبالنسبة للأراضي الإسلامية.. تأتي فلسطين في المقدمة، حيث تحكم إسرائيل الجزء الأكبر منها، وزَحَفَ سلطانها على الضفة الغربية من نهر الأردن. وهذا في الواقع نزاع تاريخي، فمنذ آلاف السنين حكم اليهود هذه الأرض وبنوا فيها المعابد، وهي عندهم ذات أهمية قصوى. وبهذا التاريخ القديم في الذهن قامت القوى الغربية وغيرت جغرافية هذه المنطقة، وأبدوا عنادًا وجسارة، حتى إن الدنيا بأسرها ما برحت تصرخ مع بلاد الإسلام، وقامت قوى كثيرة من العالم تساندهم، قائلين بأن التاريخ القديم الذي يرجع إلى ثلاثين أو أربعين قرناً من الزمان، هي کشظية في جبل من الرماد.. تنفخون فيها للتوقد ثم تكون نارًا: أي حق لكم اليوم لقبول هذه الدعوى عن الماضي السحيق وتغيرون خرائط العالم اليوم؟

ولكن القوى الغربية العظمى هي ذاتها التي تتلهف اليوم على تدمير العراق، وقالوا إنه يريد تغيير الجغرافيا على أساس من التاريخ القديم. والجغرافيا شي دائم التغير. وبوسعكم النظر إلى تاریخ ولاية «كشمير»، أو ولاية «جوناكَر» أو «حیدر آباد دکن».. وبالايجاز، هناك بلاد كثيرة تنتصب شاهدًا على أنه في زمننا هذا، وفي الفترة التي نمر بها، قد غيروا الجغرافيا استنادًا إلى التاريخ، وأيضًا بدون أي سند تاريخي.. ومع ذلك لم تتعرض سياسات العالم إلى أية أخطار. وأيا كان المنتمي السياسي لهم.. لم نسمعهم ينوحون بسبب تلك التغيرات، ولم تحدث محاولات لتوحيد العالم يدًا واحدة لإعادة تلك التغييرات الجغرافية إلى حالتها الأولى!

ليس ذلك وحسب، وإنما لو ننظر إلى تاريخ أفريقيا نجد مشهدًا أعجب وأشد رهبة. سأقرأ لكم مقتطفات من مجلة تدعى الحقيقة الواضحة PLAIN TRUTH، الصادرة من هنا (بريطانيا) ، كي تعلموا من ذا الذي له حق تغيير جغرافية العالم ، ومن لا يملك هذا الحق. يتلخص الموضوع الذي أوردت المجلة المذكورة تفاصيله، وهو مسجل أيضًا في صفحات التاريخ، أنه في تلك التقسيمات التي أحدثها الاستعمار الغربي في أفريقيا لم يضعوا في حسبانهم أي مصلحة لأمة أفريقية أو دولة أفريقية ، لم يقسموا الناس على أساس من القومية أو اللغة، لم يأخذوا في الاعتبار مصالح الناس الاقتصادية، لم يقدِّروا إذا كانت بعض الأقسام ضئيلة الحجم بدرجة لا تسمح له بالاستقلال الاقتصادي، وبعضها كبير الحجم بدرجة تهدد حقوق الدول الأخرى ومصالحها.

هذا ما نجده في التاريخ، وهذا ما غطاه المقال في المجلة جيدًا. ونتيجة لتلك التقسيمات هذه المعاناة الشديدة التي كان على البلاد الأفريقية أن تقاسيها ولا تزال تقاسي منها. لقد فتتوا قارة أفريقيا إلى دويلات صغيرة جدًا، أو أقسام كبيرة جدًا.. بهدف أن تعود المنفعة منها جميعًا إلى دول الغرب، وأن يستمر انتفاعها منها على مر الأيام. ومعظم المصاعب والمشاكل التي تعاني منها أفريقيا بعد تحرر بلادها تعود إلى هذا التقسيم الجائر. مع تصاعد مفهوم الوحدة الوطنية يتصاعد أيضًا مفهوم وحدة اللغة، ويجد الإنسان أن هذه الحدود الجغرافية مختلفة تمامًا عن الحدود اللازمة للوحدة الوطنية، وتبدو تلك الحدود مختلفة تمامًا. وهناك أيضًا عداوات تاريخية داخل الأمم الأفريقية، فمثلاً في نيجيريا هناك عداوات بين بعض الأمم، بل وتمتد العداوة وخارج نطاق الدولة الواحدة لتغطی مناطق كبيرة. وقد فصلوا بعض الأمم بحيث يفرض الأقوى منها نفسه على الأضعف. وموجز القول إن هناك أشكالاً كثيرة تبرز لتجعل أفريقيا محاطة بالاضطراب وانعدام الثقة وشتى أنواع البغضاء. ولم يوجهوا انتباههم إلى إزالة هذه المظالم، ولا يرون ذلك ضروريًا..! ولقد تصاعد الأمر إلى حد القول بأن إزالة هذه المظالم يتطلب تقسيم أفريقيا من جديد، وبذلك يتعرض سلامها لمزيد من المخاطر أكثر مما تعاني منه اليوم. هذه هي خلاصة الرابطة بين التاريخ والجغرافيا!

وإذا عدنا إلى مسألة احتلال العراق للكويت، وحللنا الموقف كله كما أراه، فإنه إذا احتل بلد غير إسلامية هذه الأراضي الإسلامية وغيرت حدودها الجغرافية.. فلن يتعرض سلام العالم لخطر ما. وإذا قامت قوة غربية، أو اتحدت كلها لتغيير جغرافية قارة كبيرة، أو حتى لتدميرها، أو لو أنهم قسموها لتبقى أبد الدهر منطقة متفجرة كالبركان.. فإن هذا لا يمثل تهديدًا للسلام العالمي! ولكن إذا ما احتل بلد إسلامي بلدًا إسلاميًا آخر.. فهذا هو التهديد الذي ما بعده تهديد لسلام العالم بأجمعه؛ وهذا ما لا يطيقونه ولا يسمحون بهذا التهديد أبدا!!

هذا هو المنطق الأساسي الذي يبرز أمامنا بعد التحليل. وعلى الرغم من أن كل هذه الأمور معروفة تمامًا، وأنها ليست تاريخًا نقبت عنه ولم يكن مألوفًا لدى المتنورين المسلمين أو لدى القادة المسلمين.. فكل شئ أمامهم، ومع ذلك فإنهم لا يدركون ما يحدث في الشرق الأوسط؛ أو ما هو موشك على الحدوث، وأن الضرر كله سوف يقع على رأس الإسلام وأتباع الإسلام، وأن النفع كله سيصل إلى الحكومات غير الإسلامية وأهل الأديان غير الإسلامية.. وكما سبق أن ذكرت.. غرم الحرب كله سوف تحتمله البلاد الإسلامية وحدها. وكل هذا الذي يجري على الساحة من نقل قوات ونشرها من قارة إلى أخرى يتطلب نفقات باهظة .. هي نفس جبال المال الذي أودعته السعودية والمشيخات في بلاد الغرب، ولسوف تتحول تلك الأموال بطريقة قانونية إليهم؛ تلك الأموال التي يقولون إنها تخصكم، ولا مطمع لنا فيها! ونتيجة لذلك لسوف يدمرون دولة إسلامية صاعدة دمارًا أبديًا، ويؤكدون بذلك أن مجرد تفكير المسلمين في اتخاذ خطوة مستقلة لحماية أوضاعهم يعد من الجرائم.

ولقد حاولنا بأقصى جهدنا أن نرسل هذه الرسالة إلى العراق. قلنا: بحق الله تعالى، ومن أجل صالحكم وصالح الإسلام.. الذي تعتبرونه صالحكم أيضًا.. يجب أن تتراجعوا عن خطوتكم الظالمة، لأن تغير الحدود الجغرافية على أساس من التاريخ لم يعد ممكنًا. كما قلت، لم يعد ممكنًا بالنسبة لأفريقيا أيضًا، ولم يعد ممكنًا في معظم بلاد العالم، ومن ثم فإن مصلحتكم، ومصلحة الكويت، ومصلحة الإسلام تبقى في رجوعكم عن هذه الخطوة التي اتخذتموها، ثم في أن تعملوا على تقوية أنفسكم وتوحيد العالم الإسلامي. ولكنهم لم يهتموا لذلك لسوء الحظ.

وبلاد العرب أيضًا لم يبدوا أي اهتمام، وانضموا إلى القوى غير الإسلامية. وهم يتحملون الثمن کاملا لظلمهم. وهم مستعدون لتدمير دولة مسلمة.. يضطرب بعدها سلام المنطقة كلها إلى الأبد. وسواء تعرض سلام العالم للخطر أم لا.. فإن هذه البلاد التي استأجرت المقاتلين من الخارج، والتي سوف تتحمل غرم الحرب کاملاً.. أؤكد لهم أنهم لن يكونوا أبدًا قادرين على العودة إلى الماضي. لسوف ينزلقون من سيء إلى أسوأ، ولن يعود السلام إلى المنطقة مرة أخرى. وبعد ذلك، وكما قلت لكم، لم يبق إلا الدعاء. عسى الله تعالى أن يرحمهم ويمنحهم العقل والحكمة. ومهما كان نصحنا ضعيفًا في ظاهره.. فعسى الله جل وعلا أن يضفي عليه بفضله من القوة.. فتميل إليه القلوب وتتقبله. الله وحده هو القادر على تغيير الأحوال. ما أجمل ما قاله كاتب المقال مجلة «الحقيقة الواضحة»: إن القدر الإلهي هو الذي يحل هذه المشكلة بسلام.

ولنلق نظرة على الهند. ما حدث في الماضي قد حدث، وما كان يحدث في كشمير لا يزال يحدث اليوم. ولكن المأساة العظمى أنهم أيضًا يقومون الآن بتغيير جغرافي على أساس تاریخي. يقولون إن بابر (ظهير الدين محمد بابر، 1483، 1530م، مؤسس سلالة المغولة الإمبراطورية في الهند مكان سلطنة دلهي، وهو من سلالة تيمورلنك وجنكيزخان)، هدم معبدًا هندوسيًا في أيوديا، يسمى «معبد راما»، وشيد في مكانه مسجدًا يسمى «المسجد البابري». ما أبعد الحقبة الزمنية التي يرجع إليها هذا الحدث، ومع ذلك لا يزال الجدل مستمرًا حولها في إحدى محاكم الهند. والدعوى في أساسها تستند إلى رؤيا منامية لدرويش مسلم، رأى أن جثمان «راما»، مدفون تحت المسجد البابري حيث كان هناك معبد هندوسي! هذه رؤيا قديمة لذلك الدرويش، وهي المرجع الذي يؤسس عليه الهندوس قضيتهم، وقدموا مستندات ليس لها أساس تاریخي حقيقي، على أي حال.. المسألة في يد القضاء؛ وهناك يترافعون ويتخاصمون، متجاهلين ما إذا كانت الدعوى صادقة أم باطلة، ويحاولون تغيير الجغرافيا على أساس تاریخ مضى منذ 450 عامًا، ويعتبرون ذلك عملاً شرعيًا بحسب ذلك المبدأ.. مبدأ القوى الغربية: أعني إذا فعله غير المسلمين فهو عمل شرعي، أما إذا فعله المسلمون فهو غير شرعي! لم يكن البناء شرعيًا للمسلمين وقتئذ، وليس الاحتفاظ به شرعيًا لهم اليوم؛ وهو شرعي للهندوس وقتما يشاءون، ولهم أن يغيروا ممتلكات اليوم وجغرافية اليوم بناء على التاريخ القديم.

ففي الهند أيضًا يواجه المسلمون خطرًا عظيمًا، وإن كان أشد خطرًا من التغيرات الجغرافية التي تحدث في أماكن أخرى .. لأن التهديد هنا موجه إلى شرف الإسلام ووحدة الإسلام، خطر يواجه عقيدة عظمة الله وعظمة وحدانية الله. المكان الذي يعبد فيه إله واحد.. يريدون أن تعبد فيه أصنام زائفة ترتبط بآلهة باطلة لا وجود لها! فإذا تغير مكان لعبادة الإله الواحد، ويرفع عنه لواء وحدانية الله.. ليصير مكانا لعبادة الأصنام، فذلك ليس حدثًا عاديًا، ولكنه هجمة على قواعد الإسلام. ولسوف ينتشر هذا الحدث بعيدًا في كل اتجاه، ونتيجة لذلك سوف يضطرب سلام المسلمين، وتبدأ مسلسلة من الاضطرابات يتعذر وقفها.

على أي حال.. هذا أمر هام من ناحية العواطف ومن ناحية العقيدة، ويجب على عالم الإسلام أن يتفهمه. ولكن في نفس الوقت لا بد وأن يكون رد الفعل إزاءه إسلاميًا. ويؤسفني أن الموقف يشبه الموقف المتصل بمشكلة العراق. ففي بنغلاديش غضب الناس من هجمات الهندوس على «المسجد البابري»، ودخول بعضهم في ساحته وعبادة أصنام وضعوها في حرمه. وتمثل رد فعلهم الغاضب في بنغلاديش في إحراق كثير من المعابد، ونهب ممتلكات الهندوس وقتل عدد منهم.

فهل هذا رد فعل إسلامي؟ كلا، ولا شك. من المحال في ضوء تعاليم الإسلام أن يكون هذا رد فعل مشروع؛ لأن الإسلام يصون شرف وحرمة كل ديانات العالم. وليس معنى ذلك أن الإسلام يأمر بالانحناء للدين تشريفًا له، ولكن المراد أن الإسلام يحمي من الناحية القانونية أولئك الذين يؤمنون أن للدين كرامة وشرفًا، وكيفما كانت عقيدتهم فلهم حق العبادة وفقًا لها.. وإن كانت في نظر الإسلام باطلة. ففيما يتعلق بما في قلوبهم، واحترام ما في قلوبهم.. فالإسلام في الواقع يصون كرامة تلك الديانات. إنه يصون حرمتها.. بمعنى أنه لا يسمح للمسلم أن يهدم أماكن العبادة للآخرين، ولا يبيح أن يبني مسجد أو أي شيء آخر في هذه الأماكن.

وما يحدث في الهند هو في الواقع رد فعل لبعض الأحداث التي وقعت في باكستان. فمثلما كانت ردود الفعل في بنغلاديش للأعمال التي وقعت في الهند.. كذلك كانت للأعمال التي وقعت في باكستان ردود فعل مشابهة في الهند. فبعض المشائخ المتطرفين الباكستانيين ينادون باسم الدين بفرض حكمهم على الآخرين، لذلك يقول الحزب السياسي الهندوسي المسئول عن تلك الأحداث في الهند: إذا كان من حق المشائخ في باكستان أن يغتصبوا باسم الإسلام كل حق لمن يعدونهم غير مسلمين.. فلماذا لا يكون من حق الدين الهندوسي أن يسمح لنا باسم الهندوسية، وفي سبيل كرامة الهندوسية.. أن نغتصب الحقوق الأساسية لكل المسلمين؟ وفي إحدى المناسبات، على سبيل المثال، أعلن زعيم ذلك الحزب أنه ينصح المسلمين: إما أن يعيشوا في خصوع کامل لحكم الهندوس، أو يحملوا فراشهم ويغادروا البلد، لأنه، في نظر هذا الزعيم الهندوسي، لم يعد هناك مكان عندهم للمسلمين ولا للإسلام.

هذا الإعلان هو من نفس فصيلة الإعلانات التي يصدرها المشائخ المسلمون في باكستان بشأن المسلمين الأحمديين. ولكونهم في الهند هندوسًا غير مسلمين.. فإنهم لم يصدروا إعلانهم بصدد هندوس نسبوهم إلى الإسلام على غير رغبتهم، فيكونوا قد ارتكبوا ظلمًا ولا شك، وإنما أصدروا إعلانهم بشأن المسلمين.. نفس المسلمين الذين يعدوننا معشر الأحمديين غير مسلمين. أي أن مشائخ باكستان يظلمون حتى في أساس الظلم. إن الهندوس في الهند يعلنونها صراحة: هذه هي مشاعرنا تجاه من ليسوا هندوسًا. ولكن يبقى القرار في يد الإنسان ليحدد هل هو من الهندوس أم لا. إنهم لا يفرضون قراراتهم على الناس ويقولون للبعض إنهم هندوس وللبعض الآخر إنهم غير هندوس. فالظلم والتجاوز الذي يرتكبونه في باكستان سار خطوة أبعد من مظالم الهندوس ؛ فهم أولاً: بالنسبة لأولئك الذين وهبوا حياتهم للإسلام أعلنوا أنهم غير مسلمين! ثم ثانيًا: سمحوا بأن ترتكب أشد صنوف المعاملة التي لا تحتمل ولا يرضى بها الإسلام.. ضد الذين يتلون كلمة الشهادة الحقة: بوحدانية الله تعالى، وصدق نبوة محمد المصطفى . ولأنهم فعلوا ذلك معهم بعد إعلان أنهم غير مسلمين.. لذلك وجد غير المسلمين في ذلك حجة وعذرًا لهم، فقالوا: ما دام المشائخ المسلمين في باكستان يستخدمون شهادة الإسلام، ويعاملون من يعتبرونهم غير مسلمين بهذه الطريقة.. فلماذا لا يكون لنا نحن الهندوس، غير المسلمين، الحق في أن نعامل المسلمين بالمثل؟

فإذا ما هدموا المساجد في باكستان (والمقاطعات الأربع الباكستانية شاهدة على هذه الحقيقة، حيث هدموا دورًا لعبادة الله الواحد الأحد، وحيث يجتمع الناس خمس مرات في اليوم على محبة قوية حقة لله تعالی)، عندما حاولوا تخریب مساجد الأحمديين، وعندما حرموا تلاوة كلمة الشهادة وشرعوا لها عقوبة.. لماذا لم يتقوا الله وقتئذ؟ لماذا لم يفكروا بأن قدر الله تعالى يعاقب الطغاة، ويريهم انعكاسات سوء فعالهم؟

كل نشاط تعيس يجري في الهند، وكل الفظائع المتطرفة التي ترتكب هناك ضد المسلمين.. كل ذلك وضع أساسه المشائخ في باكستان. الشيخ هو المجرم، وهو المسئول أمام الله تعالى. ولسوف يأتي في هذه الحياة الدنيا يوم ينزل بهم عقاب الله بسبب مظالمهم وتعدياتهم. ويوم القيامة يلقون الخزي والعار إلا من تاب منهم وأصلح. إن كل ما يجري في باكستان له أثره في العالم الخارجي. وما يحدث في العالم الخارجي له آثاره على كل جزء من العالم. وما يجري في عالم غير المسلمين له أثره في عالم الإسلام أيضًا. إن العالم ليس جُزرًا معزولة عن بعضها البعض، ولكن التأثير يسري کالوج ينتقل من مكان إلى مكان آخر. وللعدوان دائماً ذراري من عدوان مزید.

فإذا أردنا توطيد سلام العالم.. وجب أن نعلن الجهاد ضد الظلم والعدوان ونجاهد في سبيل العدل والسلام. يقول سیدنا المصطفى : «انصر أخاك ظالمــًا أو مظلومًا». فلما سئل أن كیف یا رسول الله، ننصر أخانا الظالم؟ قال: بأن تكف يده عن الظلم. فكل بلد مسلم أبدى رد فعل خاطئ، وقام بتلك الأفعال البغيضة باسم الإسلام.. فنهبوا المعابد الهندوسية أو هدموها، من واجبنا أن نكف أيديهم عن هذه المظالم. وبذلك ننصرهم ظالمين. وكلما يطحن المسلمون في طاحون الفظائع بأيدي الآخرين.. فمن الإسلام أيضًا أن نساعدهم قدر المستطاع. لقد أصدر إلينا هذا الأمر سيدنا محمد المصطفى . فعلى كل أحمدي أن يعدَّ نفسه للجهاد في الجبهتين كلتيهما. والاستجابة الصحيحة أولاً، وقبل كل شیء، وفي مثل هذه المناسبة، أن تكون البلاد الإسلامية على استعداد لحماية كل دور العبادة لدى جميع الديانات، وأن يكونوا قد تعلموا الدرس من موقف رئيس الوزراء الهندي السابق، السيد فشواناث برتاب سنغ، إنه قائد عظيم، أصبح اليوم خارج السلطة، ولكن الحق يتطلب الإعجاب بموقفه في مساندة الحق. ومن سوء طالع الهند أن تحرم من قيادة هذا الرجل العظيم، الذي كان من الممكن للهند أن تسترد به کرامتها الضائعة، لأن القائد الذي يساند الحق وهو مستعد للتضحية بمصلحته الشخصية لا يجد الشعب أفضل منه لقيادته.

قام السيد سنغ بأمرين، مكَّن له في القلوب احترامًا عظيمًا، ودعوت الله أن يقدر للعالم قادة يساندون الحق كما فعل سنغ. إنه أولاً وقف وحده لحماية حقوق الملايين من طائفة المنبوذين. وتحدى وخالف زعماء حزبه بما هدد استمرار حكمه، وطبق القانون في أنحاء البلاد لرفع الظلم عن المنبوذين المضطهدين منذ آلاف السنين، وأمر بأن تحفظ لهم حقوقهم بأن يكون لهم حق العمل والتوظف في الحكومة، وأن تكون لهم نسبة مقررة في هذه الوظائف بحسب عددهم. كانت هذه خطوة كبيرة أساسية في بلد حكمتْ الطائفية فيه لزمن طويل، ويقول لهم دينهم بأن للطوائف العليا حقوقًا، وليس للطوائف الدنيا حقوق. إنها خطوة تكشف عن عظمة رائعة، لا تتوفر إلا في عدد قليل جدًا من قادة هذا العالم.

ليس هذا فحسب، وإنما عندما هبت العاصفة في وجهه ناضَلَ بشجاعة وبسالة، ولم يبال بفقد منصبه أو بقائه فيه. ولم يكد يتوقف الضجيج والاضطراب حتى قام المتآمرون ضده بإثارة مشكلة المسجد البابري. كان الألوف والملايين مستعدين للمسيرة نحو المسجد البابري لهدمه وبناء معبد راما القديم، بصرف النظر عما إذا كان لهذا المعبد وجود أم لا. إن القتال بمثل هذه الشجاعة، والاستعداد لإقناع غالبية الجيش الهندي بإطلاق النار على إخوانهم في الدين لو هاجموا المسجد موجةً في إثر موجةٍ، وحماية المسجد وحرمته والقانون وقدسيته.. كل ذلك ليس أمرًا عاديًا مألوفًا. لا شك أن كثيرًا من الهندوس قد قتلوا في هذه المحاولات بيد الجيش الهندي، وضربوا بيد الشرطة، وجُرح الكثير وسجن الكثير. لقد وضع في السجن قادتهم الذين كانوا يملكون سلطانًا قويًا يساند حكومة سنغ. وخلاصة القول: إن الرجل رغم علمه بأنه يقطع الفرع الذي يجلس عليه، ولم يكن ذلك عن حماقة بل عن شجاعة ودعمًا للمبادئ، قَبِلَ هذا القائد العظيم أن يسقط من على كرسي السلطة، ويعرض مستقبله السياسي لخطر دائم.. دون مبالاة بذلك. أمثال هذا القائد.. الذين هم مستعدون للتضحية في سبيل العدالة.. أينما كانوا في العالم، تأمرنا تعاليم الإسلام أن نقر بعظمتهم ونعينهم، فالله تعالى يقول:

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .

فالتعاون يدًا واحدة ليس مقصورًا على دين بعينه، وإنما هو أمر بالتعاون والاتحاد في سبيل العدل وخشية الله تعالى.

سوف يخبرنا تاريخ الهند في مستقبل الأيام عن مدى انتفاع الهند من درس الأحداث، ومدی مقدرتهم على التمييز بين عدوهم وصديقهم.. ولكن على عالم الإسلام أن يكون ممتنًا لهذا الرجل. وبدلاً من أن يجعلوا الهند هدفًا لانتقاداتهم بلا ضرورة، كان ينبغي على عالم المسلمين أن يؤازروا حكومة الهند، ويعلنوا أن كل ما فعله المتطرفون الهندوس ظلم كبير لا نقبله، ولكن قادة الهند يقاتلون هذا الظلم، وهم رغم ضعفهم يقفون ببسالة ضده، ونحن على استعداد لمعاونتهم في كل مجال. هذا كان صوت العدل، الذي هو صوت الإسلام. أما فيما يتعلق بالصخب والتهديد الأجوف فما خاف أحد منه، وإنما كان على كل بلاد الإسلام أن يجتمعوا ويرسلوا إلى حكومة الهند رسالة قوية، يشيرون فيها إلى مصالحهم التي تتصل ببلاد الإسلام، ويخبرونهم أنه سوف يترتب على تحقق التهديدات المضادة لمسلمي الهند إضرار بمصالحهم.. لأنه لا يتنافى مع مبدأ العدالة أن تُقاطع دولةٌ مقاطعةً اقتصادية بسبب مسلكها العدواني. هناك وسائل متنوعة للعقاب، وهذا العقاب وسيلة لوقف العدوان. من دولة مسلمة صغيرة مثل الكويت اضطر مئات الألوف من الهنود إلى التضحية بمصالحهم الاقتصادية ، وأكرهوا على العودة إلى الهند.. فإذا كان في الكويت مثل هذا العدد الكبير من الهنود فما بالك بحجم مصالح الهند في كل بلاد الإسلام؟ والموقف الاقتصادي في الهند لا يتحمل مثل هذه المخاطر الاقتصادية.

يمكن أن تتشكل الحكومة بأي اسم، وتحت قيادة أي شخص، ولكن يبقى التزامها بالقيم الشرعية الإسلامية. وتجاهُل هذه القيم والوسائل الشرعية، والقيام بإحراق بعض المعابد يجلب المعرة وسوء السمعة للإسلام أكثر وأكثر، ويدل على أن الأمر سِيَّان لو هدمت دار للعبادة هنا أو هناك، أو انتهكت حرمته ودنست أم لا. وإذا كان الحال كذلك.. فماذا يهم هدم أو انتهاك حرمة مسجد؟ وبدون الفكر الإسلامي، ونور التقوى.. لا يمكن اتخاذ قرار صحيح إزاء هذه الأخطار. وبدلاً من ردود الفعل المتسمة بالجهل والانفعال.. ينبغي على عالم الإسلام أن يبدي ردود فعل صالحة، يملك بها القوة، وتكون ذات نفع وجدوى.. وبدلاً من تشويه سمعة الإسلام تكون وسيلة لتأكيد عظمته في العالم، ويجنون من ورائها بعض المصالح.

وفيما يتعلق بالحكومة الباكستانية الجديدة.. أبدى كثير من المسلمين الأحمديين القلق، ووصلتني رسائل تتحدث عن وصول بعض العناصر إلى قمة السلطة، وهي عناصر كانت معادية للأحمدية ولا تزال على عدائها. ولقد بلغتنا دعاوي من يقودون الحكومة ويديرون أمورها، ولكني أود قبل تناول الموضوع أن أحكى لكم الموقف الحالي بشأن اجتماعات منظماتنا الفرعية في ربوة.

جاءني منذ أيام قلائل في رسالة فاكس.. أن نائب المفوض في محافظتنا (جهانج) قد تصرف معنا بنبل، إذ سمح لنا، ولأول مرة، دونما تردد.. باستخدام مكبر الصوت في اجتماع «لجنة إماء الله» ليس ذلك فحسب، وإنما سمح أيضًا باستخدام مكبر الصوت في اجتماع «خدام الأحمدية». كان ذلك غريبًا جدًا، بل ومستحيلاً لأنه سمح بذلك لاجتماع «أنصار الله». ولذلك قمنا بعمل الترتيبات اللازمة لاستعمال مكبرات الصوت.

فخطر بذهني أن يرحم الله تعالى نائب المفوض هذا، لكونه رجلاً بسيطًا ونبيلاً شجاعًا. عسى الله أن يقدر الصواب لقولي هذا عنه.

ولقد أبدی نائب المفوض عدم مسئوليته لو تغير هذا القرار فيما بعد. وهذا لا يدل على بساطته فحسب، وإنما يعني أيضًا أن هذا الإذن قابل للتراجع. وسرعان ما ذهب المشائخ المتعصبون لمقابلة سكرتير الشئون الدينية بالقسم، وعبروا عن دهشتهم، كيف أُوتِيَ نائب المفوض شجاعة ليمنح الأحمديين إذنًا باستخدام مكبرات الصوت؟ هذا لا يكون أبدًا، ويجب أن ينسى ذلك لأنه محال. وبعد يومين تلقت الجماعة أمرًا كتابيًا من نائب المفوض يأسف فيه على إلغاء الإذن السابق، ويقرر فيه عدم السماح بعقد اجتماع لـــ «لجنة إماء الله». ثم قرر الموافقة على عقد اجتماع «خدام الأحمدية»، بلا مكبرات الصوت. واليوم بلغنا أنهم تلقوا أمرًا ثانيًا يلغي مكبرات الصوت والاجتماع من أساسه.

بسبب ذلك كان هناك اضطراب شديد وشعور بالألم في ربوة، ويبدو من لهجة رسالة الفاكس أن الشباب الأحمدي المحلي والذين قدموا من مناطق نائية من باكستان يشعرون بألم شديد. وأود أن يفهموا بأن أمامنا سفرًا طويلاً، وأن مثل هذه الواقعات التي وقعت في مسيرة تاريخ الأحمدية تشير إلى بعض علامات الطريق، ولكننا لا نتوقف عند هذه المراحل. والقوافل التي تخرج في رحلات طويلة توطن نفسها على مواجهة مستمرة المخاطر الطريق. هناك مخاطر من كل صنف: اللصوص وقطاع الطريق، الوحوش والدواب.. ومهما يعانون من أذاهم تمضي القافلة في سبيلها ولا تتوقف لهذه الأشياء ولا تعوقها عن هدفها. إن الغبار الذي تثيره خطوات القافلة المتقدمة في مسيرها، يتساقط على وجوه من يتبعون أثرها، فيثيرون ضدها الضجيج والعجيج، ويحاول البعض قطع المسيرة، ولكنهم بعد أن يغمرهم غبار التاريخ.. يتوارون عن الأنظار إلى الأبد، ولا يبقى منهم سوى آثار قبورهم.

فأنتم القوم الذين هم على سفر طويل.. منزلكم الأخير عند يوم الحساب. عندما يربط النبي الكريم بين المسيح ويوم الحساب.. يظن المسلمون البسطاء وبعض المشائخ المتعصبون أن مجيء المهدي المسيح الموعود يصاحب مجيء يوم الحساب. هذا فهم بالغ الجهل. إن المراد هو أن زمن المهدي المسيح الموعود سوف يمتد إلى يوم الحساب، ولن تكون هناك فترة أخرى تتداخل بينهما. ولقد ربط النبي بعثته بيوم الحساب بنفس الأسلوب الذي ربط به بين المسيح المهدي الموعود ويوم الحساب؛ وذلك بأن ضم سبابته مع الوسطى. لم يرد بذلك أنه لا يفصل بينهما فاصل زمني، وإنما أراد أن زمنه يمتد إلى يوم القيامة، ولا يقوم حائل فاصل يقطع هذا الزمن، ويقسمه إلى مرحلة أولى ومرحلة ثانية.

فهؤلاء القوم الذين يتعين عليهم القيام برحلات طويلة تنتظرهم.. إذا هم بدأوا يشعرون بالألم لمثل هذه الأمور الصغيرة، ويفقدون شجاعتهم.. فذلك لن يجديهم نفعًا في شيء. الحقيقة أنه عندما تولت الحكومة الجديدة أمور السلطة، ووُضع سيف القوة في أيديهم، أعربوا عن خوفهم من الأخطار القادمة من مختلف الاتجاهات. ولكن قادة الحكومة أعلنوا أنهم أناس يعتزون بالشرف وبالنبالة وليس هناك ما يدعو للخوف من الشريف والنبيل؛ ولعل نائب المفوض النبيل اتخذ الخطوة الأولى على ضوء هذا الإعلان. ومن الجانب الآخر وصل إلى أسماع الأحمديين صوت مختلف.. صوت المشائخ الذين يقولون: لا تنخدع بإعلان زعماء الحكومة.. فمهما كان الذين على قمة السلطة، فإن سيف الطغيان والظلم في أيدينا. إننا نملك سل هذا السيف وقتما نشاء.. على عنق من نشاء، وأنت ترى السيف في أيدينا. ويبدو أن الأحمديين سمعوا هذا الصوت فداخل قلوبهم مخاوف شتی وعانوا من شكوك كثيرة، وهذا هو حالهم كما نراه  اليوم..

أود أن أذكرهم بأمر آخر يتعلق بنفس الموضوع، وفيه التعبير عن جوهر كل نصيحة أستطيع تقديمها لهم. في إحدى غزوات النبي الأكرم أوى حضرته إلى ظلّ شجرة لينال قسطًا من الراحة على بُعدٍ من الجيش. وتمكّن أحد الأعداء من التسلّل إلى موقعه، ووقف عند رأسه رافعًا سيفه. وانتبه النبي من غفوته على صوت الرجل: يا محمد، من يعصمك مني الآن؟ في هذه اللحظة المباغتة، والعدو ممسكٌ بسيفه أمام النبي في وضع الرُقاد.. لم يُغيّر النبي من وضعه وإنّما ردَّ على الرجل سؤاله في هدوء وسكينة واطمئنان قائلاً: الله. نعم ربّه الله هو الذي يمنعه ويصونه ويحميه.

ما أعظم ذلك الرد! هناك إجابةٌ واحدة قائمة إلى يوم الحساب، تُقال في مواجهة كل المحن والابتلاءات، يقولها المؤمن كما قالها المصطفى لذلك الطاغية. وسوف يقولها كل مؤمن، ليردَّ بها على كل طاغية. وإذا لم يقلها.. فلا ضمان لسلامته.

انظروا إلى الأيدي التي تمسك بالسيف، وتذكَّروا تحت أي سلطانٍ وقدرةٍ تعيش هذه الأيدي التي ترفع السيوف على رقابكم. إنّهم يحسبون السيف ينزل أولاً.. ولكن الله ربنا.. يعلم ويشهد أنَّه سوف تنزل صاعقة غضبه وتضرب وتسبق سيفهم. وتلك الأيدي التي ترتفع اليوم لهدم الأحمدية سوف ترتدُّ شلّاء عاجزة. ولن تستطيع قوةٌ في الأرض أن تردَّ قدر الله تعالى. لسوف يؤذونكم، ولسوف تُقاسون الألم، هذا ما يُقرِّره القرآن المجيد، ولكنكم لن تُضارّوا في أرواحكم وعاطفتكم، ولن تبرحوا صامدين ثابتين. إذا ما بقيتم على تعلُّقكم بالله أبدًا بالجواب الذي أجاب به المصطفى .. بإخلاصٍ تام، وثقةٍ كاملة، وقلتم: يا عدوّنا الذي ترفع سيفك، بالأمس نجّا الله عباده الصالحين من سيفك، وحفظهم الله في حمايته. واليوم، نُقسم بقوته وعزّته.. هو نفس الإله الحيّ.. سوف يحمينا من كل هجماتكم وفظائِعكم وشروركم.

فإذا كنتم تشعرون بالألم من ادِّعاءاتهم.. فإنّي تألمتُ أيضًا من ردود فعل أولئك الأحمديين الذين ظنُّوا بأنَّ السيف الذي في يد الأعداء سوف يقطع رقبة الأحمدية لا سمح الله! أُقسم أنَّ ذلك لن يحدث أبدًا. إنَّ عدوان الأعداء كان دائمًا وأبدًا يخلق وسائل تقدُّم الاحمدية، ويفتح لها سُبلاً جديدة للازدهار. وفي زمن الابتلاءات الماضية.. في حكم ضياء الحق العسكري لمدة أحد عشر عامًا، كانت كل لحظة منها كحيّةٍ تزحف في صدره، ولكنه لم يستطع أن يوقف موكب تقدُّم الأحمدية في العالم. وفي نهاية المطاف.. خرج من الدنيا بالذلّة والعار، وباءَ بالخسران المبين.

فما الذي تخشونه لو انتقل السيف إلى يدٍ أخرى؟

حافظوا على إيمانكم وإخلاصكم وثباتكم. ثقوا في الله ربِّكم. كونوا على يقينٍ متين من قوله جلّ وعلا:

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي .

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك