تفسير آية بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير آية [RB]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[LB]

من تفسير سورة الفاتحة للمسيح الموعود  

 

اعلم، وهب لك الله عِلم أسمائه، وهداك إلى طرق مرضاته وسبل رضائه، أن الاسم مشتق من الوسم الذي هو أثرُ الكَيِّ في اللسان العربية، يقال: “اتّسمَ الرجلُ” إذا جعَل لنفسه سِمةً يُعَرف بها ويُميَّز بها عند العامة، ومِنه: سَمْتُ البعيرِ ووِسامُه عند أهل اللسان، وهو ما وُسِمَ به البعير من ضُروب الصور ليُعِين للعرفان. ومنه ما يقال: إني توسّمتُ فيه الخيرَ وما رأيت الضَير، أي تفرّستُ فما رأيت سِمةَ شرٍّ في محيّاه، ولا أثرَ خبثٍ في مَحياه. ومنه الوَسْمِيّ الذي هو أوّلُ مطر من أمطار الربيع، لأنه يَسِمَ الأرضَ إذا نزل كالينابيع، ويقال: “أرض موسومة” إذا أصابها الوسميّ في إبّانه، وسكّن قلوب الكُفّار بجريانه. ومنه موسم الحج والسوق وجميع مواسم الاجتماع، لأنها معالم يُجتمع إليها لنوعِ غرض من الأنواع. ومنه المـِيسَم الذي يُطلق على الحسن والجمال، ويُستعمل في نساءٍ ذات ملاحة في أكثر الأحوال. وقد ثبت مِن تتبّع كلام العرب ودواوينهم، أنهم كانوا لا يستعملون هذا اللفظ كثيرًا إلا في موارد الخير من دنياهم ودينهم.

وأنت تعلم أن اسم الشيء عند العامة ما يُعرَف به ذلك الشيءُ، وأما عند الخواص وأهل المعرفة فالاسم لأصل الحقيقة الفَيْءُ، بل لا شكّ أن الأسماء المنسوبة إلى المسمَّيات من الحضرة الأحدية، قد نزلت منها منـزلةَ الصُوَر النوعيّة، وصارت كوُكْناتٍ لطيورِ المعاني والعلوم الحِكمية. وكذلك اسمُ الله والرحمن والرحيم في هذه الآية المباركة، فإن كل واحد منها يدل على خصائصه وهويّته المكتومة.

والله اسمٌ للذات الإلهية الجامعة لجميع أنواع الكمال، والرحمنُ والرحيم يدلاّن على تحقُّق هاتين الصفتين لهذا الاسم المستجمِع لكل نوع الجمال والجلال.

ثم للرحمن معنى خاص يختص به ولا يوجد في الرحيم، وهو أنه مُفيضٌ لوجود الإنسان وغيره من الحيوانات بإذن الله الكريم، بحسب ما اقتضى الحِكَمُ الإلهية من القديم، وبحسب تحمُّلِ القوابل لا بحسب تسوية التقسيم. وليس في هذه الصفة الرحمانية دخلُ كسبٍ وعملٍ وسعيٍ من القوى الإنسانية أو الحيوانية، بل هي مِنّةٌ من الله خاصّةٌ ما سبقها عملُ عامل، ورحمةٌ من لدنه عامّةٌ ما مسَّها أثرُ سعيٍ من ناقصٍ أو كامل. فالحاصل أن فيضان الصفة الرحمانية ليس هو نتيجة عملٍ ولا ثمرة استحقاق، بل هو فضل من الله مِن غير إطاعة أو شِقاق. وينْزل هذا الفيض دائما بمشيّة من الله وإرادة، مِن غير شرطِ إطاعة وعبادة وتُقاة وزهادة. وكان بناءُ هذا الفيض قبْلَ وجود الخليقة وقبل أعمالهم، وقبل جهدهم وقبل سؤالهم، فلأجل ذلك توجد آثار هذا الفيض قبل آثار وجود الإنسان والحيوان، وإنْ كان ساريًا في جميع مراتب الوجود والزمان والمكان والطاعة والعصيان. ألا ترى أن رحمانية الله تعالى وسِعت الصالحين والظالمين، وترى قمره وشمسه يطلُعان على الطائعين والعاصين، وأنه أعطى كلَّ شيء خَلْقَه وكفَل أمرَ كلِّهم أجمعين. وما من دابّة إلا على الله رزقها ولو كان في السماوات أو في الأرضين، وأنه خلَق لهم الأشجار وأخرج منها الثمار والزهر والرياحين. وإنها رحمة هيّأها الله للنفوس قبل أن يبرَأها وإن فيها تذكرة للمتّقين. وقد أعطى هذه النعم مِن غير العمل ومن غير الاستحقاق، من الله الراحم الخلاّق. ومنها نعماء أخرى من حضرة الكبرياء، وهي خارجة من الإحصاء، كمِثل خلقِ أسباب الصحة وأنواع الحيل والدواء لكل نوع من الداء، وإرسالِ الرسل وإنزال الكتب على الأنبياء. وهذه كلها رحمانية من ربنا أرحم الرحماء، وفضلٌ بحتٌ ليس مِن عمل عامل ولا من التضرّع والدعاء.

وأما الرحيمية فهي فيضٌ أخصُّ من فيوض الصفة الرحمانية، ومخصوصة بتكميل النوع البشري وإكمال الخلقة الإنسانية، ولكن بشرط السعي والعمل الصالح وتركِ الجذبات النفسانية، بل لا تنْزل هذه الرحمة حقَّ نزولها إلا بعد الجهد البليغ في الأعمال، وبعد تزكية النفس وتكميل الإخلاص بإخراج بقايا الرياء وتطهير البال، وبعد إيثار الموت لابتغاء مرضات الله ذي الجلال. فطوبى لمن أصابه حظٌّ من هذه النِعم، بل هو الإنسان وغيرُه كالنَعم.

وههنا سؤالٌ عُضال نكتبه في الكتاب مع الجواب، ليفكّر فيه من كان من أولي الألباب، وهو أن الله اختار مِن جميع صفاته صفتَي الرحمن والرحيم في البسملة، وما ذكَر صفة أخرى في هذه الآية، مع أن اسمه الأعظم يستحق جميعَ ما هو من الصفات الكاملة، كما هي مذكورة في الصحف المطهّرة، ثم إن كثرة الصفات تستلزم كثرة البركات عند التلاوة؛ فالبسملة أحقُّ وأَولى بهذا المقام والمرتبة، وقد نُدِبَ لها عند كل أمرٍ ذي بال كما جاء في الأحاديث النبوية، وإنها أكثرُ وِرْدًا على ألسن أهل الملّة، وأكثرُ تكرارًا في كتاب الله ذي العزّة. فبأيّ حكمة ومصلحة لم يُكتَب صفاتٌ أخرى مع هذه الآية المتبرّكة؟

فالجواب أن الله أراد في هذا المقام، أن يذكر مع اسمه الأعظم صفتين هما خلاصة جميع صفاته العظيمة على الوجه التام، وهما الرحمن والرحيم، كما يهدي إليه العقل السليم. فإن الله تجلّى على هذا العالَم تارة بالمحبوبية ومرة بالمـُحِبّية، وجعل هاتين الصفتين ضياءً ينْزل من شمس الربوبيّة على أرض العبوديّة. فقد يكون الرب محبوبًا والعبدُ مُحِبًّا لذلك المحبوب، وقد يكون العبد محبوبًا والربُّ مُحِبًّا له وجاعِلَه كالمطلوب. ولا شك أن الفطرة الإنسانية التي فُطرت على المحبّة والخُلّة ولوعة البال، تقتضي أن يكون لها محبوبًا يجذبها إلى وجهه بتجلّيات الجمال والنعم والنوال، وأن يكون له مُحِبًّا مواسيًا يتداركُ عند الأهوال وتشتُّت الأحوال، ويحفظها مِن ضيعة الأعمال، ويوصلها إلى الآمال. فأراد الله أن يعطيها ما اقتضتْها ويُتمّ عليها نعمه بجوده العميم، فتجلّى عليها بصفتيه الرحمن والرحيم[1]*. ولا ريب أن هاتين الصفتين هما الوُصلة بين الربوبية والعبودية، وبهما يتمّ دائرةُ السلوك والمعارف الإنسانية، فكلّ صفةٍ بعدهما داخلة في أنوارهما، وقطرة من بحارهما.

ثم إن ذات الله تعالى كما اقتضت لنفسها أن تكون لنوع الإنسان محبوبةً ومُحِبّة، كذلك اقتضتْ لعباده الكُمّل أن يكونوا لبني نوعهم كمثلِ ذاته خُلُقًا وسيرةً، ويجعلوا هاتين الصفتين لأنفسهم لباسًا وكسوةً، ليتخلّق العبوديةُ بأخلاق الربوبية، ولا يبقى نقص في النشأة الإنسانية. فخلَق النبيين والمرسلين، فجعل بعضَهم مظهرَ صفتِه الرحمن وبعضَهم مظهرَ صفته الرحيم، ليكونوا محبوبين ومُحِبّين ويعاشروا بالتحابب بفضله العظيم، فأعطى بعضهم حظًّا وافرًا من صفة المحبوبية، وبعضًا آخر حظًّا كثيرًا من صفة المـُحِبيّة، وكذلك أراد بفضله العميم، وجُودِه القديم. ولما جاء زمن خاتم النبيين، وسيدنا محمد سيد المرسلين، أراد هو سبحانه أن يجمع هاتين الصفتين في نفسٍ واحدةٍ، فجمعهما في نفسه عليه ألفُ ألفِ صلاةٍ وتحيّة، فلذلك ذكر تخصيصًا صفةَ المحبوبية والمحبيّة على رأس هذه السورة، ليكون إشارةً إلى هذه الإرادة، وسمّى نبينا محمّدًا وأحمد كما سمّى نفسه الرحمن والرحيم في هذه الآية، فهذه إشارة إلى أنه لا جامِعَ لهما على الطريقة الظِلّية إلا وجودُ سيّدِنا خيرِ البريّة.

وقد عرفتَ أن هاتين الصفتين أكبر الصفات من صفات الحضرة الأحدية، بل هما لُبُّ اللُباب وحقيقة الحقائق لجميع أسمائه الصفاتية، وهما معيارُ كمالِ كلِّ مَن استكملَ وتخلَّقَ بالأخلاق الإلهية، وما أُعطيَ نصيبًا كاملاً منهما إلا نبيُّنا خاتم سلسلة النبوّة، فإنّه أُعطيَ اسمين كمثل هاتين الصفتين: أوّلهما محمد والثاني أحمد، من فضل رب الكونين. أما محمد فقد ارتدى رداء صفة الرحمن، وتجلّى في حُلل الجلال والمحبوبية، وحُمِّدَ لبِرٍّ منه والإحسان. وأما أحمد فتجلّى في حُلّة الرحيمية والمـُحِبّية والجمالية، فضلاً من الله الذي يتولى المؤمنين بالعون والنصرة. فصار اسما نبيِّنا بحذاءِ صفتَي ربّنا المنّان، كصُورٍ منعكسةٍ تُظهِرها مِرآتان متقابلتان.

وتفصيل ذلك أن حقيقة صفة الرحمانية عند أهل العرفان هي إفاضة الخير لكل ذي روح من الإنسان وغير الإنسان، مِن غيرِ عملٍ سابق بل خالصًا على سبيل الامتنان. ولا شك ولا خلاف أن مثل هذه المنّة الخالصة، التي ليست جزاءَ عملِ عامل من البريّة، هي تجذب قلوب المؤمنين إلى الثناء والمدح والمحمدة، فيحمدون المحسنَ ويثنون عليه بخلوص القلوب وصحة النيّة، فيكون الرحمن محمَّدًا يقينًا مِن غير وهمٍ يجرّ إلى الريبة. فإن المنعِم الذي يحسن إلى الناس مِن غير حقّ بأنواع النعمة، يحمده كلُّ من أُنعمَ عليه، وهذا من خواص النشأة الإنسانية. ثم إذا كمُل الحمد بكمال الإنعام، جذَب ذلك إلى الحب التام، فيكون المحسِن محمَّدًا ومحبوبًا في أعين المحبِّين. فهذا مآلُ صفة الرحمن، ففكّرْ كالعاقلين. وقد ظهر من هذا المقام لكل من له عرفان، أن الرحمن محمَّد وأن محمَّدًا رحمن، ولا شك أن مآلهما واحدٌ، وقد جهِل الحقَّ مَن هو جاحدٌ.

وأما حقيقة صفة الرحيمية، وما أُخفيَ فيها من الكيفية الروحانية، فهي إفاضةُ إنعامٍ وخيرٍ، على عملٍ مِن أهل مسجدٍ لا مِن أهل دَيْرٍ، وتكميلُ عمل العاملين المخلصين، وجبرُ نقصانهم كالمتلافين والمعِينين والناصرين. ولا شك أن هذه الإفاضة في حُكم الحمد من الله الرحيم، فإنه لا يُنْزِل هذه الرحمة على عاملٍ إلا بعد ما حمده على نهجه القويم، ورضيَ به عملاً ورآه مستحِقًّا للفضل العميم. ألا ترى أنه لا يقبَل عَمَلَ الكافرين والمشركين والمرائين والمتكبّرين، بل يُحبِط أعمالهم ولا يهديهم إليه ولا ينصرهم، بل يتركهم كالمخذولين. فلا شك أنه لا يتوب إلى أحدٍ بالرحيمية ولا يكمِّل عمله بنصرة منه والإعانة، إلا بعد ما رضيَ به فعلاً وحمِده حمدًا يستلزم نزولَ الرحمة. ثم إذا كمُل الحمد من الله بكمال أعمال المخلصين، فيكون الله أحمَدَ والعبدُ محمَّدًا، فسبحان الله أوّلِ المحمَّدين والأحمدين. وعند ذلك يكون العبد المخلص في العمل محبوبًا في الحضرة، فإن الله يحمَده مِن عرشه، وهو لا يحمَد أحدًا إلا بعد المحبّة.

فحاصل الكلام، أن كمال الرحمانية يجعل الله محمَّدًا ومحبوبًا، ويجعل العبدَ أحمدَ ومُحِبًّا يستقري مطلوبًا، وكمال الرحيمية يجعل اللهَ أحمدَ ومُحِبًّا، ويجعل العبدَ محمَّدًا وحِبًّا. وستعرف من هذا المقام شأنَ نبيِّنا الإمام الهُمام، فإن الله سمّاه محمَّدًا وأحمدَ، وما سمّى بهما عيسى ولا كليمًا، وأشركَه في صفتيه الرحمن والرحيم بما كان فضله عليه عظيمًا. وما ذكر هاتين الصفتين في البسملة إلا ليعرف الناس أنهما لله كالاسم الأعظم وللنبي من حضرته كالخِلْعة، فسمّاه الله محمَّدًا إشارةً إلى ما فيه من صفة المحبوبية، وسمّاه أحمدَ إيماءً إلى ما فيه من صفة المـُحِبّية. أمّا محمَّد فلأجل أن رجلاً لا يحمَده الحامدون حمدًا كثيرًا إلا بعد أن يكون ذلك الرجل محبوبا، وأمّا أحمدُ فلأجل أن حامدًا لا يحمَد أحدًا بحمدٍ كاثِرٍ إلا الذي يُحبّه ويجعله مطلوبًا. فلا شك أن اسم محمَّد يوجد فيه معنى المحبوبيّة بدلالة الالتزام، وكذلك يوجد في اسم أحمدَ معنى المـُحِبّية من الله ذي الأفضال والإنعام. ولا ريب أن نبيّنا سُمّيَ محمَّدًا لِما أراد الله أن يجعله محبوبًا في أعينه وأعين الصالحين. وكذلك سمّاه أحمدَ لِما أراد سبحانه أن يجعله مُحِبَّ ذاتِه ومُحِبَّ المؤمنين المسلمين. فهو محمَّد بشأن وأحمدُ بشأن. واختصّ أحدُ هذين الاسمين بزمان والآخر بزمان، وقد أشار إليه سبحانه في قوله: دَنَى فَتَدَلَّى ، وفي: قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى .

* الحاشية: قد عرفتَ أن الله بصفة الرحمن يُنزِل على كل عبد من الإنسان والحيوان والكافر وأهل الإيمان أنواعَ الإحسان والامتنان، بغير عمل يجعلهم مستحقين في حضرة الديّان، إذ لا شك أن الإحسان على هذا المنوال، يجعل المحسِن محبوبًا في الحال، فثبت أن الإفاضة على الطريقة الرحمانية، يُظهِر في أعين المستفيضين شأنَ المحبوبيّة، وأمّا صفة الرحيمية، فقد ألزمتْ نفسها شأنَ المُحِبّية، فإن الله لا تتجلى• على أحدٍ بهذا الفيضان إلا بعد أن يُحبّه ويرضى به قولاً وفعلاً من أهل الإيمان. منه.

  • سهو، والصحيح: يتجلّى. (اللجنة).
Share via
تابعونا على الفايس بوك