في رحاب القرآن
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (البقرة:54)

 

شرح الكلمات:

الفرقان: مصدرُ فَرَقَ، يقال فَرَق بينهما فُرقانًا: فصَل أَبْعاضَهما… فَرَق لفلان أمرٌ ورأيٌ: تبيّن واتضح. فَرق له عن الشيء: بيَّنه. والفرقان: القرآنُ؛ وكلُّ ما فُرق به بين الحق والباطل؛ النصرُ؛ البرهانُ؛ الصبحُ أو السحر؛ انفراقُ البحر؛ التوراةُ؛ ويوم الفرقان: يومُ بدر (الأقرب).

الواقع أن المعنى الأصلي للفرقان هو كل ما فُرِقَ به بين الحق والباطل، وقد  ذكر أهل اللغة معاني أخرى للفرقان مثل: القرآن الكريم والتوراة وانفراق البحر، على وجه الاستنباط، لكنها ليست معاني لغوية للفرقان، وقد أوردوها لأن كلاً منها ميّزَ بين الحق والباطل عند أهل هذه الأديان.

تهتدون: اهتدى الفرسُ الخيلَ: إذا صار في أوائلها وتقدّمَها (تاج العروس).

فعلاوة على المعنى المعروف فإن (لعلكم تهتدون) تعني أيضا: لكي تسبقوا الناس وتكونوا أئمة لهم.

(راجع أيضًا شرح كلمات قول الله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) وقوله تعالى (هدى للمتقين).

التفسير:

ذكرت هذه الآية ضمنًا ما أُعطيَ موسى في الأربعين ليلة. وكأنه تعالى يقول هنا: لقد عملنا كلّ هذا لهداية بني إسرائيل ولازدهارهم، ولكنهم عكفوا على عبادة العجل، معرضين عن إلههم الحي المحسن. هذا التباين بين فعل الله تعالى وفعل بني إسرائيل يبرز جريمتهم أيما إبراز بحيث من المحال ألاَّ يتأثر منه عاقل.

أما قول الله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فبيّن فيه أننا كنا نعمل لهدايتكم، وأنكم تعملون لضلالكم. فالكتاب والفرقان اللذان أُوتيهما موسى على الجبل كان الغرض منهما أن يتحول إيمان بني إسرائيل الإجمالي إلى إيمان تفصيلي، ولكنهم أضاعوا في تلك الأيام ما كان فيهم من إيمان ووقعوا في الشرك والوثنية.

سيدنا موسى

ورد اسم موسى في القرآن الكريم في هذه الآية أول مرة، فحريّ بنا أن نذكر هنا أمورًا عنه .

يتضح من القرآن الكريم أن موسى كان من بني إسرائيل، وكان الحلقة الأولى من سلسلة النبوة في بني إسرائيل التي كان عيسى الحلقة الأخيرة فيها. ورد في القرآن الكريم أن الملأ من قوم فرعون قالوا له: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (الأَعراف 128). كذلك قد ورد في أكثر من عشرة مواضع في القرآن الكريم أن بني إسرائيل هم قوم موسى . ومع أنه يمكن أن يراد من قومه هنا المؤمنون به، ولكن القرآن الكريم يبين أن موسى لم يبعث إلاَّ إلى بني إسرائيل، فلا بد أن المؤمنين به هم بنو إسرائيل أنفسهم إلاَّ ما شذَّ وندر، وعليه فالمراد من قومه بنو إسرائيل. وثمة آية أخرى توضح المراد من قوم موسى كل التوضيح، قال الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (يونس 84). فالقوم هنا هم بنو إسرائيل في كل حال ولا يمكن أن يراد من القوم هنا المؤمنون.

إن الباحثين الجدد المعاصرين يحاولون إثبات أن موسى لم يكن من بني إسرائيل، بل كان من أصل مصري، ويستدلّون على ذلك بما يلي:

الأول: موسى اسم مصري، فيقال باللغة المصرية (مَوْسى) للطفل. يقول برستيد (Breasted): “توجد لدى المصريين القدامى أسماء مثل (آمُن موسى) و(بتا موسى)، ومعناهما: طفل آمون وطفل بتا. وآمون وبتا إلهانِ من آلهة المصريين” (كتاب فجر الضمير The Dawn of Conscience)

ويقول البروفيسور سيجموند فرويد S.Freud:

“وعلاوة على هذه الأسماء، هناك أسماء مشابهة لها للملوك المصريين مثل: آه موسى، ثُت موسى، رع موسى” (موسى والتوحيد Moses And Monotheism).

 و(رع موسى) هو الذي يذكره الكتاب المقدس باسم (رعمسيس). و(رع) هو إله الشمس عند المصريين، فمعنى (رع موسى): الطفل الذي وهبه إله الشمس. ويقول هؤلاء الباحثون أن الأسماء الأخرى التي كانت مع كلمة موسى سقطت، وبقي اسم (موسى) فقط.

الثاني: ويدّعون أيضًا أن التوحيد لم يكن معروفًا في القبائل الكنعانية، وإنما أسس عقيدةَ التوحيد أحدُ ملوك مصر اسمه (أمنحوتب الرابع). كان يعبد إلهًا يسمّيه (آتون)، وأمر الناس بعبادته. وأُطلق اسم (آتون) في الكتب القديمة على إله الشمس، ويقال أنه كان هناك في هليوبوليس معبد كبير لإله الشمس يزاولون فيه عبادة الشمس، وكان الكثير من رهبان هذا المعبد يحملون أفكارًا فلسفية، فبدأوا بالتدريج يُسْبغون على إله الشمس طابعًا أخلاقًيا، بدلاً من طابعه المادي، ثم خلَع عليه أمنحوتب صبغة الإله الواحد، وروّج له في مصر. وينقلون عنه قوله: أيها الإله الوحيد الفريد، لا إله سواك. وقد نقل (برستيد) قول أمنحوتب هذا في كتابه (تاريخ مصر History of Egypt)، ويستدلون من قوله هذا على أنه كان مؤسس فكرة التوحيد، وأشاعها في البلاد قسرًا، وأمر بهدم معابد الآلهة الأخرى. وكان اسمه (أمنحوتب) اسمًا وثنيًا فاستبدله باسم (أخناتون)، وكأنه نسب نفسه إلى الإله الواحد (آتون).

الثالث: روّج موسى في بني إسرائيل عادة الختان، وهي عادة مصرية، فثبت بذلك أن موسى كان مصريًا.

الرابع: لا يوجد في تعاليم الملِك المصري أخناتون ذكرُ البعث بعد الموت، وكذلك لا يوجد ذكرُ البعث في تعاليم موسى أيضا.

الخامس: كان المصريون يكرهون الخنزير، وفي تعاليم موسى أيضًا كراهية الخنزير.

السادس: ورد عن موسى أنه كان لا يجيد التعبير عن أفكاره، وهذا يدل على أنه كان مصري الأصل ولم يكن يجيد الحديث بالعبرية.

بهذه الأفكار يستدلون على أن موسى كان مصري الأصل، وأنه كان من أتباع الملِك المصري أمنحوتب المعروف بأخناتون. ويقولون: بعد موت (أخناتون) عادت الديانة المصرية الوثنية ثانيةً وحلَّ الشرك محلَّ التوحيد مرة أخرى. وعندما لم ير موسى إمكانية نشر دين أخناتون الداعي إلى التوحيد بين المصريين توجه إلى قوم بني إسرائيل غير المصريين الذين كانوا عرضة لاضطهادهم دائمًا، وكان من السهل صرفهم عن العقائد المصرية بسبب كراهيتهم للمصريين. فأقبل بنو إسرائيل على دينه مسرعين بسبب عدائهم للمصريين، وعندما لم يعد لهم مكان في مصر نتيجة اعتناقهم الدين الموسوي هاجروا مع موسى منها إلى كنعان.

وأردّ الآن على هذه الأدلة الستة بإيجاز:

دليلهم الأول:

الحق أن قولهم: إن موسى اسم مصري، فلا بد وأن يكون موسى مصري الأصل؛ لقولٌ سخيف للغاية. لقد عاش بنو إسرائيل في مصر عبيدًا محكومين، فكان  لا بد أن يتأثروا من حضارة المصريين وعاداتهم. وهذه الظاهرة تلاحظ في الشعوب المستعمرة، فمثلا إن الإنجليز في الهند قليلون، وربما لا يبلغ عددهم حتى الواحد بالألف من سكانها، ومع ذلك نجد الآلاف من الهنود يسمّون أنفسهم بأسماء إنجليزية مثل جيمز وجونز وتامس وغيرها، ويعتزّون بها، مع سواد بشرتهم وقيام بعضهم بأعمال تنظيف المراحيض، ولا يستطيعون أن ينطقوا كلمة واحدة من الإنجليزية، دعْ عنك أن يتحدثوا بها. فهل يحق لمؤرخ أن يستدلّ بهذه الأسماء أن هؤلاء من أصل إنجليزي؟ يجب أن يكون الاستدلال ذا قيمة، وعلى المؤرخ أن يقدم رأيه بعد دراسة الأحوال والظروف كلها بنظرة عميقة واعية. وإني لأتعجب كيف استساغ هؤلاء المؤرخون الغربيون استنباط هذه النتائج بهذه السطحية والعجلة! الغريب أنهم يستغربون من إطلاق أسماء مصرية مثل اسم موسى وأسماء بعض أصحابه، مع أننا نستطيع تقديم آلاف الأمثلة لهنود سمرٍ يسمّون أنفسهم تامس وجيمز وجونز، مع أنهم ينظفون المراحيض ويجهلون اللغة الإنجليزية جهلاً تاما. ونفس الحال بالنسبة للنساء أيضا، فهناك المئات منهن اللواتي لسنَ مسيحيات، ولكنهم بسبب دراستهن في مدارس الكنائس المسيحية سمَّين أنفسهن أو أولادَهن بأسماء إنجليزية. وأحيانًا تجد للمرأة اسمين أحدهما إنجليزي والآخر إسلامي أو هندوسي، وهي معروفة بين صديقاتها وأقاربها باسمها الإنجليزي. فمثلا يكون اسمها ثريا، لكنها معروفة بين أترابها باسم دولي (dolly)، أو يكون اسمها “رام كور”، لكنها شهيرة بين صديقاتها باسم جين (jane). فهل يجوز لأحد أن يستنتج من أسمائهن أنهن من أصل إنجليزي. فلماذا لا نستنتج بناءً على هذه الأمثلة التي تبلغ الآلاف أن (موسى) إن كان اسمًا مصريا فقد سمّاه به أبواه أو غيرهما تأثرًا بالمحيط المصري. وأيّ غرابة في هذا خاصة وإن القرآن والكتاب المقدس يذكران أن أم موسى عندما وضعتْه جعلتْه في صندوق بأمر الله تعالى وألقته في النهر خوفًا من اضطهاد فرعون، فعثرت عليه امرأة من الأسرة الملكية الفرعونية وأخذته وقامت بتربيته. لقد عثروا عليه على شاطئ النهر، وما كان لهم أن يعرفوا له اسمًا، فلو سمّوه بلغتهم فما الغرابة في ذلك.

باختصار، حتى لو افترضنا في ضوء هذا الحادث بأن موسى اسم مصري، فإنه لا يحقّ لنا الاستدلال على كون موسى مصري الأصل حتى وإن وجدنا في سلسلة أحداث طفولته حلقة تؤكد إمكانية أن يكون اسمه مصريا. فاستنتاجهم هذا استنتاج واهٍ وضعيف للغاية ولا يؤبه له مطلقًا.

يقول الكتاب المقدس عن هذا الحادث أن رجلاً مِن بيت لاوي تزوج امرأة من قبيلته،

{فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ، أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ. وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ». فَقَالَتْ أُخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي». فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»}. (اَلْخُرُوجُ 2: 2-10)

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحادث في قول الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (القصص 8-10).

يتبين من هذه الفقرات من القرآن الكريم والكتاب المقدس أن امرأة من بيت فرعون أخذت موسى طفلاً رضيعًا وقامت بتربيته. ويقول الكتاب المقدس أن هذه المرأة كانت بنتَ فرعون، وهي التي سمّته. وما دامت هي التي سمّته فكان طبيعيا أن تسمّيه باسم مصري.

فمن غير المعقول اعتبار موسى مصري الأصل لكون اسمه مصريا. يوجد عندنا في منطقة البنجاب مثالان على الأقل من هذا القبيل، فاثنان من الإنجليز المشهورين قاما بتربية طفلين هنديين وتسميتِهما باسمين إنجليزيين، وكلاهما معروف باسمه الإنجليزي حتى اليوم، وأحدهما يُنسَب إلى عائلة واربرتون (Warburton)، والآخر إلى عائلة الدكتور مارتن كلارك (Dr. Martin clarck)، وكان أحد أفرادها وزيرًا في الحبشة. وكلا الشابين هنديٌّ قحٌّ، ولكنه معروف باسمه الإنجليزي، لأن الإنجليز ربَّوه وسمَّوه باسم إنجليزي.

كما أرى أن هؤلاء الكتاب الغربيين لم يقدّموا دليلاً كافيًا على كون موسى اسمًا مصري الأصل، ولا على أنه ليس اسمًا عبرانيًا. إنهم يستدلون بأسماء مصرية يتكون أحد جزءيها من لفظ (موسى)، ولكننا نجد علماء الألسنة مختلفين في ذلك، إذ ليس منهم واحدٌ ذكَر بأن نُطْق كلمة (موسى) المصرية هو مثل نطق كلمة (موسى) بالعبرية، وإنما قرأها بعضهم (مَوسِى)، وبعضهم (مَيْس)، وبعضهم (مَيْسُو)، ومعناها الطفل، وتُستخدم منفردةً حينًا ومتصلةً باسم آخر حينا آخر. فقد وردت في الأسماء الملكية المصرية التالية: (تحتمُس، أحِمُس، رعْميسو). وكما هو ظاهر، فهناك بون شاسع بين نطق هذه الأسماء ونطق كلمة موسى.

بالإضافة إلى ذلك قد ورد في الكتاب المقدس أن ابنة فرعون نادت الطفل باسم (موسى) قائلة: “لأني انتشلتُه من الماء”. ولكن ليس في اللغة المصرية كلمة موسى أو مشابهة لها تعني معنى الانتشال من الماء. بينما توجد في العبرية كلمة تعطي معنى مشابهًا للانتشال من الماء، وهي كلمة (موشي) التي تتركب من مقطعين: (مو) ومعناه ماء، و(شي) ومعناه شيء. والمعروف أن العبرية والعربية لغتانِ متشابهتان، ولو حوّلنا هذه الكلمة إلى العربية صارت كالآتي: ماء شيء. والماء يسمى “مَو” في العربية المشوهة، ولا بد أن من ذهب للحج هنالك قد سمع هذه الكلمة هنالك، إذ يقول الواحد للآخر هنالك: “مو شَي فيه”، أي: هل شيء من الماء فيه. والحق أن العبرية صورة مشوهة من العربية، وعليه فتعني كلمة (موشي) بالعبرية: شيء مائي، أي الولد المنتشَل من الماء، وانقلبت موشي في العربية إلى موسى، كما هو الحال في كلمتي (عيسى وإسماعيل)، فأصلهما العبري (يشوع ويشمائيل). وهذه قرينة قوية على أنَّ اسم موسى عبراني الأصل، وأن رواية الكتاب المقدس في هذا الصدد ضعيفة.

ثم إنه من غير المعقول أن يمكث الطفل عند أمّه كل هذه السنين ومع ذلك لا تسمّيه باسم من عندها. أرى أن أم موسى عندما أحضرتْه من بيت عائلة فرعون لكي ترضعه سمَّته (موشي)، وذلك نظرًا لنجاته من الغرق في الماء، ليُذكِّرها هذا الاسمُ دائمًا بالمعجزة الإلهية التي وقعت لها. ويبدو أنها حين عادت به إلى بيت فرعون أخبرتهم باسمه هذا مبيِّنةً لهم سبب هذه التسمية، فأعجبهم الاسم وقالوا سنناديه بهذا الاسم.

أرى أن هذا هو البيان الأقرب إلى الواقع والصواب، لأنه أولاً: ليس في اللغة المصرية كلمة مثل موشي بمعنى (ما انتُشل من الماء)، وثانيًا: من غير المنطقي أن يبقى الطفل بدون أيِّ اسمٍ إلى كل تلك السنوات.

ثم إذا ألقينا نظرة على اللغة العربية وجدنا أن لفظ موسى يعني بالعربية: المقطوع، وفيه إشارة إلى أنه فُصِلَ مِن أسرته وتربى عند آل فرعون. أما لفظ “موشى” العبري فيعني في العربية الشيء المنتشل، حيث يقال: أوشى الشيءَ: استخرجه. واسم الفاعل منه هو “مُوشي”، واسم المفعول هو “مُوشَى”، وعليه فالمراد من موشى: المنتشَل. وهذا المعنى يطابق قول بنت فرعون الوارد في الكتاب المقدس (لأني انتشلته من الماء).

فعندي أن لفظ موسى كان في الأصل مُوشَى، ونُطق في العبرية مَوْشَى، ومعناه الأصلي: من انتُشل أو استُخرج.

وأقول في الأخير: العجيب أن هؤلاء الباحثين المعاصرين يريدون من ناحية إثباتَ أن بني إسرائيل لم يذهبوا إلى مصر ولم يخرجوا منها أصلاً، ومن ناحية أخرى يقولون إن بني إسرائيل ذهبوا إلى مصر، وأن كبيرهم موسى ( ) كان مصري الأصل، وأن دينه كان دينًا مصريًا. يمكن أن يدرك الإنسان بهذا التعارض مدى ضعف أساس أقوالهم. لا شكّ أنهم قاموا ببعض البحوث الجيدة فعلاً، ولكن شوقهم إلى تعميم النتيجة التي يتوصلون إليها في مسألة ما على سائر المسائل هو ما أفسدهم وأوقعهم في العثار. ومثلهم كمثل الذي يصنع إناء من الطين، ثم يتباهى بأنه قد صنع العالم كله! إن صنع الإناء عمل جيد، ولكن هذا لا يعني أنه صار بذلك صانعًا للعالم كله. ولو أن هؤلاء لم يقعوا في سوء الفهم هذا لكان لبحوثهم وزن أكبر كثيرًا.

دليلهم الثاني:

قالوا: إن فكرة التوحيد مصرية الأصل، ولأن موسى ( ) نشرها في قومه، فثبت أنه كان مصري الأصل.

والجواب، أولا: إن الظن بأن فكرة ما لا يمكن أن تنشأ إلاَّ في ذهن شعب واحد فقط ظنٌّ باطل ومناف للعقل، وإلا فلا بد من التسليم بأن كل هذا الرقي العلمي في العالم لم ينشأ إلا في رؤوس خمسة أو ستة من الناس، وأن الآخرين أخذوا عنهم. وهذا باطل بالبداهة. فما زال عديد من الناس في شتى مناطق العالم يُعملون فكرهم لوحدهم فيما حولهم من الأشياء والأحداث، وتوصلوا إلى نتائج، وكانت أفكارُ مئاتٍ منهم متوافقة ومترادفة مع كونهم من مختلف أقطار العالم. كانت فكرتهم الأساسية واحدة بشيء من التنوع الذي يحصل بسبب اختلاف البيئات في مختلف الأمصار. أما قضية التوحيد فلا يمكن القول بشأنها تحديدا أنها نشأت في قلوب أهل قطر واحد. فقد شاهدنا أن هناك قضايا عملية كثيرة قد قام العلماء بالبحوث فيها في وقت واحد وفي بلاد مختلفة منفردين دون أن يرى أحدهم ما يقوم به غيره، ومع ذلك توصلوا إلى نتائج مماثلة؛ ولم يقل أحد أن هذا سرق نتائج الآخر، بل قالوا إنها ظاهرة توارد الأفكار. خذوا اللاسلكي مثلا، فكان عديد من العلماء يقومون بالبحوث بشأنه في وقت واحد بالإضافة إلى “ماركوني”، فتمكنوا بصورة منفردة من الوصول إلى حقائق شتى. لذا فلا يصح القول أبدًا أنَّ فكرة التوحيد نشأت عند المصريين فقط، ولا يمكن أن تنشأ عند غيرهم، ولأن موسى نشر التوحيد، فكان مصريا.

حتى ولو سلمنا جدلاً بصحة قولهم هذا، فلا يعني ذلك أن موسى كان مصريا. فهل من السنن الكونية أن الفكرة المصرية لا ينشرها إلاّ المصري؟ وأن من المحال أن يقبلها إسرائيلي وينشرها؟ إذا كانت فكرة التوحيد مصرية الأصل، فهل من المستحيل أن يعجب بها شخص إسرائيلي، كموسى مثلًا، وينشرها في قومه؟

إن ردودي هذه لا تمثّل إلا نقدًا علميا محضا، وإلاَّ فالواقع أن موسى لم يدّع قط أنه المخترع لفكرة التوحيد، كما لا يقول الإسلام أن موسى مخترعها. بل إن كل الأديان متفقة على أن الأنبياء لا ينشرون أفكارهم، وإنما ينشرون وحي الله تعالى، وأن فكرة التوحيد قد جاءت إلى الدنيا بوحي الله منذ بداية العالم. فما دام الله تعالى واحدًا، ولم يزل منذ البداية ينزل وحيه، فمن البديهي أنه سيقول لكل نبي بأنه واحد، ومن المحال أن يوحي لأنبيائه السابقين بتعدد الآلهة، ثم يقول لأخناتون المصري إنني واحد أحد. لقد وقع هؤلاء الباحثون في هذه الخدعة نتيجة عدم فهمهم للوحي وحقيقته. الحق أن أساس الدين هو الوحي، وإذا لم يكن هنالك وحي إلهي فليس الدين إلا وهمٌ وهراء، وفي هذه الحالة يصبح موسى بلا قيمة، سواء أكان من المصريين أو من بني إسرائيل أو من غيرهم. إنما تكمن عظمة موسى وأهميته فيما نزل عليه من وحي الله تعالى، وإذا سلّمنا بالوحي الإلهي فلا بد من الاعتراف أن التوحيد كان العنصر الأعظم من تعاليم الأنبياء أجمعين، وما كان الله تعالى لينتظر ظهور أمنحوتب (أخناتون) لإظهار وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى.

نجد القرآن الكريم يقول باستمرار لأهل مكة إن جدكم إبراهيم كان موحدًا، ولا شك أن إبراهيم كان قبل موسى عليهما السلام، ورغم أن أهل مكة كانوا مشركين، لكنهم لم يجرؤوا على إنكار ما قال لهم القرآن الكريم، حيث لا نجد في التاريخ واقعة واحدة قالوا فيها -ولو كذبًا- أن إبراهيم كان مشركًا مثلهم. وهذه شهادة تاريخية على أن قريشًا -الذين كانوا يعيشون بعيدًا عن بني إسرائيل وكانوا يعدّون أنفسهم من نسل إبراهيم- هم الآخرون كانوا يقرّون بأن إبراهيم كان من الموحدين. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كان موسى قد تعلَّم التوحيد من أمنحوتب المصري، فمَن علَّم إبراهيم التوحيدَ؟ هل تعلّمه من المصريين؟ كان أهل مكة مشركين، وكان من صالحهم أن يدّعوا أن إبراهيم كان من المشركين، ولكنهم لم ينكروا كونه من الموحدين. فادّعاء هؤلاء الباحثين أن التوحيد بدأ من أمنحوتب المصري باطلٌ تماما. إن التاريخ لمختلف الشعوب يؤكد بأن فكرة التوحيد كانت موجودة منذ الزمن السحيق، لأن الوحي الإلهي قد حفظ فكرة التوحيد حيّةً وقائمة في كل أنحاء الدنيا. التوحيد لم يتولد من الشرك، بل قد تولدت أفكار الشرك بعد التوحيد في زمن الضلال والانحطاط.

دليلهم الثالث:

قالوا إن عادة الختان مصرية، ولما كان موسى يُعلِّم بني إسرائيل الختان فثبت أنه كان مصريًا.

الجواب: أولا: إن هذا الاستدلال باطل، لأننا لو افترضنا أن الختان لم يكن إلا في مصر وحدها، فلِم لا نقول إن بني إسرائيل قد أخذوه تأثرًا بالمحيط المصري أيام إقامتهم الطويلة في مصر؟

وثانيا: من الخطأ القول أن الختان كان شائعًا عند المصريين وحدهم. يقول الكتاب المقدس إن الله تعالى شرع الختان لإبراهيم -الذي مضى قبل موسى بعدّة قرون- فقام بختان نفسه وأوصى به ذريته، بل ختن ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام. والدليل على صحّة ما جاء في الكتاب المقدس هو أن الختان كان شائعًا لدى العرب الذين لم يكونوا على علاقات اجتماعية جيدة مع بني إسرائيل، والذين لم يذهبوا إلى مصر قط، والذين تقول رواياتهم إن عادة الختان جاءتهم بواسطة جدهم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام. يمكن لهؤلاء الكتّاب أن يقولوا بشأن ما يقوله الكتاب المقدس بهذا الصدد أن موسى المصري علَّم بني إسرائيل الختان، فنسبوا عادة الختان إلى جدهم إبراهيم، ولكن ماذا سيقول هؤلاء الكتّاب عما يقوله العرب الذين لم يكن لهم في تاريخ بني إسرائيل رغبة، ولم يكن في قلوبهم تجاه موسى تعاطُفٌ، بل كانت بينهم وبين بني إسرائيل عداوة لكونهم من نسل إسحاق الذي كان أخًا لإسماعيل من أُمٍّ أخرى. ففي وجود الختان في العرب وعَزْوِهم إياه إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دلالةٌ بينّة على أن هذه العادة جاءتهم بواسطة إبراهيم ، وعلى أن الباحثين القائلين بأن موسى كان مصري الأصل قد أخطأوا خطأً فادحًا في واقع الأمر.

لم يزل الختان موجودًا عند العرب منذ زمن طويل، وقد شهد على ذلك المؤرخ “فلاس تارجى ايس” 342 ق.م (الموسوعة اليهودية ج 4 ص 97)، إلاّ أن الشهادة الكبرى هي الشهادة القومية للعرب، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

كما ورد في الموسوعة اليهودية أن الختان كان ولا يزال موجودًا في شعوب أخرى، بالإضافة إلى المسلمين واليهود، مثل نصارى الحبشة والقبائل الإفريقية الوحشية التي عددُ المختتنين فيها أكثر من الذين لا يختتنون. وكذلك كانت قبائل أستراليا القديمة تقوم بالختان، مع أنها لم تربطها بمصر صلة.

(Tribes of  Central Australia by Spencer & Gellen)

كذلك كان الختان موجودًا في سكان القارة الأمريكية كلها (الموسوعة اليهودية، ج 4 ص 97).

لقد ثبت من هنا أن القول بأن الختان كان عند المصريين فقط قولٌ باطل. فما دام الختان شائعًا في معظم القبائل الأفريقية وقبائل أستراليا وقبائل شمال وجنوب ووسط القارة الأمريكية، وفي العرب أيضا، فما المانع من القول أن عادة الختان كانت موجودة في بني إسرائيل أيضا؟

إن أقدم ثبوت للختان في مصر هو في الجثة المحنطة للملك المصري (أمننحب Amen-en-heb) 1614 – 1555 ق.م (الموسوعة اليهودية، ج 4 ص 97، نقلاً عن archivfur anther ص 123)، وهو زمن ما بعد هجرة يوسف وأسرتِه إلى مصر. وهذا يدل على أن أقدم ثبوت للختان في مصر كان قبل موسى بقرنين فقط. وليس صعبًا أن نستنتج من ذلك أن يوسف لما كان مقربًا لدى الملوك المصريين، فبدأ الملوك وحاشيتهم من علية القوم يختتنون بتوجيه من يوسف . ويرى علماء الآثار المصرية أيضا أن الختان كان شائعًا بين الملوك وكهنة المعابد عمومًا.

دليلهم الرابع:

قالوا: إن دين أمنحوتب لا يذكر البعث بعد الموت، وكذلك لا ذكر للبعث بعد الموت في دين موسى، فثبت أن موسى مصري.

هناك عيبان كبيران في هذا الدليل: أولهما: أن دين أمنحوتب ليس معروفًا كله، فلم يترك كتابًا، وإن ترك فهو غير موجود، ولم يترك وراءه جماعة من أتباعه حتى نعرف الحقيقة من أقوالهم، فكيف يُجزَم بأن دينه لم يعلّم عقيدة البعث بعد الموت؟ فزعمهم هذا غير معقول.

والثاني: لم يُثبِت هؤلاء الباحثون أن تعاليم موسى خالية من ذكر البعث بعد الموت. والحق أن تعاليم موسى والأنبياء التابعين له تذكر الحياة بعد الموت. ونورد فيما يلي قولين لموسى وداود عليهما السلام:

ورد في الكتاب المقدس أن الله تعالى قال لموسى : {وَمُتْ فِي الْجَبَلِ الَّذِي تَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِكَ، كَمَا مَاتَ هَارُونُ أَخُوكَ فِي جَبَلِ هُورٍ وَضُمَّ إِلَى قَوْمِهِ}(التثنية 32: 50).

ويقول داود لربّه:

{نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ، مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.} (المزامير 17: 13-15).

لقد ثبت من هنا بجلاء أن موسى كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وأن هذا الأمر موجود في الكتاب المقدس، كما أن داود كان يؤمن به، وجاء ذكره في المزامير.

لا جرم أن العهد القديم لم يذكر مسألة البعث بعد الموت بالقوة التي ذكرها دين زرادشت أو دين الإسلام أو دين الهندوس، ولكن سببه تكالُب اليهود على الدنيا بشدة، فعندما اندرست التوراة بحوادث الدهر وجمَعَها اليهود ثانية وجّهوا جلَّ عنايتهم إلى جمع الأنباء المتعلقة بالازدهار المادي، ولم يبالوا مطلقا بجمع ما هو خارج من اهتمامهم هذا، فاختفت من كتبهم أمور كثيرة منها مسألة البعث بعد الموت، ومع ذلك يوجد ذكر البعث بعد الموت في التوراة وأسفار الأنبياء الأخرى حتى اليوم، كما أسلفتُ.

دليلهم الخامس:

قالوا: الخنزير حرام عند بني إسرائيل، وكذلك الحال عند المصريين.

إن هذا الاستدلال راجع إلى عدم العلم. فليس صحيحًا أن المصريين كانوا يحرّمون أكل لحم الخنزير. غاية ما نعرفه من التاريخ المصري القديم هو أنهم كانوا لا يأكلون لحمه كثيرًا، ولكن هذا ليس دليلا على تحريمه عندهم (موسوعة الكتاب المقدس، ج 4 ص 4825، نقْلاً عن كتاب “مصر” لإرمن erman”” ص 441). بل الحق أن المصريين كانوا يربّون الخنازير في بعض المناطق، فقد ورد أنه كان في حظائر رِينِي (renni) الكاهن في معبد إلكاب (El-kab) ثلاثمائة خنزير. وقال هيرودتس: كان المصريون يقدّمون قرابين الخنازير باسم الإلهين ساليني (Salene)، وديونيسس (Dionysus) أو أوزيريس (Osiris). وأنه توجد رسومات خنازير على قبر باهيري (Paheri)، الملك المصري من الأسرة الثامنة عشرة. (موسوعة الكتاب المقدس، ص 4825-4826).

وكذلك قال البروفيسور أدولف لودز (Adolphe Lodz) الأستاذ بجامعة السوربون في باريس: كان المصريون لا يأكلون لحم الخنزير عادة، ولكنهم في الليلة الرابعة عشرة من شهور معينة كانوا يقدمون قرابين الخنزير في معابد (ساليني وديونيسس)، وكان الكهنة يأكلون لحمه. (إسرائيل للبروفيسور لودز ص 248).

فالقول أن موسى كان مصريا لأنه نهى عن أكل لحم الخنزير قولٌ باطل، لأن  لحم الخنزير لم يكن محرمًا عند المصريين حرمة تامة، والذين كانوا يحرّمون أكل لحمه إنما كانوا يحرمونه لقداسته عندهم لا لنجاسته، ومن أجل ذلك كانوا يقدّمون قرابينه في طقوسهم وفي معابدهم، وكان كهنتهم يأكلون لحمه.

والقول بتقديس المصريين للخنزير ليس قياسًا مني، بل هذه هي الحقيقة التاريخية، حيث ورد في موسوعة الكتاب المقدس أن سكان آسيا الصغرى واليونان وإيطاليا كانوا يعظّمون الخنزير تعظيمًا خاصًا. وكذلك قال البروفيسور لودز: كان الخنزير حيوانًا مقدسًا لدى الكثير من جيران بني إسرائيل، وكانوا يظنون أنه قد نزل عليه تقديس الرب. وكان الخنزير مقدسًا عند أهل بابل بسبب الإله “نينيب” (ninib) وأيضًا عند السوريين بسبب الإله “تموز”، حتى سمّوا شهر تموز (خَنزيرو) (إسرائيل للبروفيسور لودز ص 248، نقلاً عن Die keilinschriften und das Alte Testament, by Heinrich Zimmern und Hugo Winkler

فهذه المراجع أيضًا تؤكد أن المصريين كانوا يتجنّبون أكل لحم الخنزير تقديسًا له، لا كراهة له. لكن اليهود كانوا يكرهونه باعتباره سيئًا ونجسًا كما يذكر الكتاب المقدس، فالاستدلال من حرمة الخنزير عند المصريين على كون موسى مصريًا لا يصحّ على الإطلاق.

دليلهم السادس:

قالوا: يتبين من الكتاب المقدس أن موسى لم يكن يجيد النطق بلسان بني إسرائيل، وهذا دليل على كونه مصري الأصل.

إن عدم طلاقة لسان موسى أمرٌ صحيح إلى حد ما، ويقرّه الكتاب المقدس والقرآن الكريم، حيث ورد:

{فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ. فَقَالَ مُوسَى ِللهِ: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟»} (الخروج 3 : 10-11)

 ثم بعد عدة توجيهات إلهية لموسى ورد:

{فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ». فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ؟ فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ».}(الخروج 4: 10-12).

وورد في القرآن الكريم: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (الشعراء:11-14).

يتبين مما ذكره الكتاب المقدس والقرآن الكريم أنه كان في لسان موسى شيء من الثقل حتمًا، لذلك تضرّع إلى ربّه سبحانه وتعالى وقال: لا ينطلق لساني فأرسِل إلى غيري. ولكن يتضح أيضًا من الكتاب المقدس والقرآن الكريم كليهما أنه قدم هذا الاعتذار إلى الله تعالى حين أمره بالذهاب إلى فرعون وتبليغه الحق. والآن أمامنا خياران اثنان: فإما أن نفسر هذا الاعتذار بأنه كان في لسان موسى لَكْنةٌ أو ضعفٌ في الأعصاب بحيث إذا تحمس في النقاش لم يستطع التعبير جيدًا عما في نفسه، فكان يتلعثم عند نطق بعض الحروف والكلمات؛ وإما أن نفسر اعتذاره بأنه كان لا يحسن الكلام بلغة قوم أُمر بتبليغ الحق لهم. فإذا أخذنا بالخيار الأول لبطُل تمامًا استدلالهم بأنه كان مصريًا؛ لأن لَكْنة اللسان أو غيرها ليست خصوصية للمصريين، بل يمكن وجود هذا العيب في أي قوم. وإذا أخذنا بالخيار الثاني لكان أيضًا دليلاً قاطعًا على أن موسى لم يكن مصري الأصل، إذ تُخبر التوراة والقرآن الكريم كلاهما أن موسى اعتذر بعدم انطلاق لسانه عند الكلام حين أُمر بتبليغ الحق للمصريين. فهل من عاقل يصدّق أن موسى المصري الأصل عندما أُمر بتبليغ الدعوة لفرعون المصري أخذ يعتذر بأنه لا يعلم اللغة المصرية؟ فما دام موسى مصريَّ الأصل فكان يعلم لغة فرعون يقينًا. باختصار، لو فسرنا المراد من معذرته أنه لا يعرف لغة مَن أُمر بتبليغ الدعوة له فهذا يعني يقينًا أنه كان من بني إسرائيل. كان قد أُمر بتبليغ الدعوة لفرعون، وكان لا يجيد لغة فرعون، فاعتذر وقال يا رب أنا لا أجيد لغةَ مَن تأمرني بتبليغ الدعوة له، أي أني أجيد العبرية ولا أجيد المصريةَ لغةَ فرعون. فثبت أن استدلال هؤلاء الباحثين باطل وواهٍ وضعيف للغاية، ودليلٌ على قلة تدبرهم.

خلاصة القول إن موسى لم يكن مصري الأصل، بل كان إسرائيليا كما تقول التوراة والقرآن الكريم، وأن زعم الباحثين المعاصرين بأنه كان مصري الأصل زعمٌ باطلٌ ومناف للعقل تماما. الواقع ليس هناك ما يدل على أن موسى لم يكن من بني إسرائيل، وهناك عشرات الأدلة على أنه كان إسرائيليا، وقد ذكرنا بعضها آنفًا.

الكتاب

أما قول الله تعالى وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، فيعني أننا أعطينا موسى على الجبل بعض الفرائض والوصايا، لأن من معاني الكتاب الفرض كما ذكرنا لدى شرح هذه الكلمة في قول الله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه).

لقد أثار القسيس (ويري) في تفسيره لهذه الآية اعتراضًا وقال: إن هذا مثال من الأمثلة العديدة الواردة في سورة البقرة التي تكشف عن جهل محمد بتاريخ اليهود. يقول القرآن إن موسى أوتيَ التوراة على الجبل، مع أن التوراة تقول أنه أوتي هنالك الألواح فقط.

أرى أن القسيس (ويري) أولاً يُحسن الظن بالتوراة أكثر مما تستحقّه. وثانيًا إنه يُكِنّ للقرآن عداوة شديدة لا يرى بعدها الحاجة للتدبر فيه، ويرى أنَّ الاعتراض على القرآن الكريم كافٍ لنجاته في الآخرة.

الحق أن اعتبار (ويري) بيان الكتاب المقدس صحيحا بدون أية شهادة خارجية أمرٌ يخالف المنطق السليم تماما. فقد قدّم كتّاب النصارى أنفسهم الأدلة على وجود تحريف أبوابٍ وأبوابٍ في الكتاب المقدس بحيث لا يمكن تصديقه اليوم في أي شيء بدون شهادة خارجية.

يقول القسيس (ويري) بأن الثابت من الكتاب المقدس أن موسى ( ) أوتيَ الألواح على جبل الطور، بينما يقول القرآن الكريم خلاف ذلك، فثبت أن القرآن باطل وأنه تأليف إنسان جاهل بالحقائق التاريخية- والعياذ بالله. لقد نسي القسيس (ويري) أن الباحثين الذين هم إخوانه في الدين، والذين أشرنا إليهم آنفًا، ينكرون وجود موسى أصلاً، وإذا كانوا يعترفون بوجوده فيقولون إنه كان مصري الأصل. وبعضهم ينكرون دخول بني إسرائيل إلى مصر، ناهيك عن خروجهم منها. بل إنهم ينكرون وجود جبل الطور الذي يقول عنه الكتاب المقدس أن موسى تلقى هنالك الألواح، أما الذين اعترفوا منهم بوجود الطور فقد اختلفوا في تحديد موقعه بين مصر والشام وبلاد العرب. فرغم كون بيانات الكتاب المقدس مجروحة تاريخيًا لهذه الدرجة، يقول هذا القسيس أن محمدًا بسبب جهله بالتاريخ اليهودي قال في القرآن الكريم ما يخالف الواقع. والحق أن قول القسيس هذا لا يدل إلا على جهله الفاضح بحقيقة الكتاب المقدس وبما نُشر عن هذا الكتاب من بحوث علمية جديدة بأقلام النصارى أنفسهم.

والدليل على ما يُكِنّه هذا القسيس من تعصب شديد ضد القرآن الكريم هو أن القرآن لم يذكر قط أن كل التوراة نزلت عند الطور، بل ذكر -كما تقول التوراة وكما يقرّ القسيس- أن ما نزل هنالك إنما كان بعض الأحكام والألواح. قال الله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (الأَعراف 146).

تبيِّن هذه الآية أن الله تعالى أعطى موسى الألواح عند الطور، ولكن لا يقول القرآن الكريم هنا، كما لا تدعي التوراة، أن موسى لم يُعْطَ هنالك شيئًا آخر مع الألواح. فقول هذا القسيس أن “الكتاب المقدس يخبر أن موسى قد أعطيَ هنالك لوحين فقط فيهما عشر وصايا” قولٌ يثير العجب العجاب.

إن ما أعطى الله تعالى موسى على الجبل -في أثناء انشغال بني إسرائيل بعبادة العجل- مذكورٌ في سفر الخروج في الإصحاحات من 20 إلى 31، ولا داعي لتسجيل كل هذه الإصحاحات هنا، وإنما نورد مضامينها بإيجاز شديد!

*في الإصحاح 20 ذكرٌ للوصايا العشر التي أوتيَها موسى على الجبل.

*في الإصحاح 21 أحكام عن العبيد، وعمَن ثُقبِت آذانهم، وعن الإماء، وعن جرائم القتل والغدر، وعن سبّ الوالدين، وعن القصاص في الجروح والإصابات من الإنسان والحيوان.

*في الإصحاح 22 أحكام عن السرقة، إلحاق الخسائر بالغير، الودائع والأمانات، القرض، الزنا، السحر، جماع الحيوانات، عبادة الأصنام، الغرباء، الأرامل، الأيتام، الربا، الرهن، تعظيم الحاكم، أول الثمار والمحاصيل.

*في الإصحاح 23 أحكام ووعود عن التهمة، شهادة الزور، العدل، النصح، التخلي عن الحقل صدقةً، السبت، عبادة الأصنام، الأعياد الثلاثة، دم وشحم الأضحية وإرسال الملائكة.

*في الإصحاح 24 ذكر ذهاب موسى إلى الجبل ثانية.

*في الإصحاح 25 توجيهات لبني إسرائيل عن أنواع النذور، هيئة تابوت العهد، صنعِ الغطاء والكروبَيْن، المائدة وأوانيها، الشمعدان وأدواته.

*في الإصحاح 26 ذكر لأستار الخيمة العشرة، الأستار الأحد عشرة المصنوعة من شعر مِعْزى، غطاء لِلْخَيْمَةِ مِنْ جُلُودِ كِبَاشٍ، ألواح المسكن وما إلى ذلك، وغطاء الصندوق والأبواب.

*في الإصحاح 27 تفاصيل عن مذبح المحرقات وأسبابها، فناء المسكن وأعمدته وأستاره وزيت السراج وغيرها.

*في الإصحاح 28 تخصيص هارون وأبنائه للكهانة، أحكام ملابسهم المقدسة وهيئتهم وعمائمهم وقمصانهم المذهبة والأُورِيم وَالتُّمِّيم.

*في الإصحاح 29 تقديم المحرقات لتقديس الكهنة، وطقوس المحرقات، ووعد الله تعالى ببقائه بين بني إسرائيل.

*في الإصحاح 30 ذكر لصنع مذبح للبخور، والفدية، الحوض، وصفات لصنع الزيت المقدس والبخور.

*في الإصحاح 31 توجيهات عامة وذكر تسلُّم اللوحين.

فكيف نسي القسيس (ويري) كل هذه التعاليم التي أُعطيَها موسى على الطور والتي وردت في هذه الإصحاحات الاثني عشر. إن النصف من هذه الإصحاحات فقط تتضمن الوصايا العشر وذكْرَ اللوحين، ومع ذلك يقول القس أن موسى لم يُعطَ على الطور إلا الألواح، وأن قول القرآن الكريم إن موسى قد أُوتيَ على الطور شيئًا غير الألواح أيضا يدل على جهل القرآن؟!!

أما قول القسيس أن القرآن الكريم يقول بنزول التوراة كلها على موسى عند الطور فهو قولٌ بلا دليل، لأن كلمة (الكتاب) في قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لا تعني الكتابَ كله، بل تعني أيضا بعضَ الكتاب. وقد أطلق القرآن الكريم اسم الكتاب على رسالة قصيرة أيضًا، حيث ورد أن سليمان كتب رسالة إلى ملكة سبأ وقال لرسوله: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (النمل 29-32). فهنا أطلق القرآن الكريم اسم الكتاب على رسالة تتضمن بضع كلمات فقط. فاستنتاج القسيس من كلمة (الكتاب) أن المراد منها التوراة كلها ليس إلا دليلاً على اندفاعه للتهجُّم على القرآن الكريم، ولو بقتل الحقيقة.

الفرقان

كتب القسّ (ويري) في تفسيره للقرآن الكريم نقلاً عن كتاب “القرآن، بالأردية المكتوبة بالحروف اللاتينية” -وهو تفسير مختصر للقرآن الكريم قام به أحد الكتّاب المسيحيين- أن كلمة الفرقان سوريةُ الأصل، ويبدو أن محمدًا ( ) كان مطّلعًا على تفسير الكتاب المقدس الذي أعدّه “أفرام السُّرياني”، والذي سمى فيه الكتابَ المقدس الفرقانَ مرارًا!

ويرى القسّ (ويري) أن كلمة “الفرقان” سُريانية الأصل بلا شك، ولكنه لا يتفق مع قول هذا المفسر بأن محمدًا ( ) كان مطّلعًا على كتاب أحد النصارى السُّريان أو العبريين، وحجة (ويري) هي أن القرآن يسرد الأحداث سردًا يختلف عن أحداث تاريخ الكنيسة اختلافًا كبيرًا، لذا فمصدر السرد القرآني سماعي فقط.

ومسألة اطّلاع النبي أو عدم اطّلاعه على كتاب شخص نصراني سُريانيّ مسألةٌ لا علاقة لها بموضوعنا هذا، ولا يقبلها عاقل. لقد ذهب الرسول إلى الشام مع قافلة تجارية لبضعة أسابيع فقط، فالزعم أنه تمكن من تعلم اللغة السُّريانية ودراسة كتبها زعمٌ لا يخطر إلا ببال مخبول، ولا يقبله عاقل. يمكث إخوانُ هذا القسيس الإنجليزُ في الهند زهاء أربعين سنة، ومع ذلك لا يستطيع قراءة كلمات اللغة الأردية إلاَّ واحد بالألف منهم، ومعظمهم لا يستطيعون حتى التحدث بها. ورغم هذه التجارب والمشاهدات، فالقول بأن النبي قد تمكن خلال بضعة أسابيع مِن تعلّم لغة السُّريان بل الاطلاع على كتبها، فضلاً عن أعماله التجارية، دليلٌ على التعصب المتمكّن من قلوب الأقوام المسيحية ضد النبي محمد .

أما قولهم أن الفرقان كلمة سريانية، فهو أيضًا يدل على جهلهم التام باللغة العربية. الغريب أن هؤلاء لا يعرفون بدائيات العربية ومع ذلك يجلسون لكتابة تفسير القرآن الكريم، وهو القمّة التي لا تُدانى في كمال اللغة وفصاحتها وجمالها!

الحق أن الفرقان كلمة عربية الأصل، ولها مشتقات عديدة في كلام العرب،كما في قول الله تعالى المذكور قبل قليل: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (البقرة 51)، وكذلك يوجد في العربية كلمات مثل: فَرَق، فرَّق، فارَقَ، أفرقَ، تفرّقَ، تفارَق، انفرقَ، افترق، فاروقٌ، فراقٌ، فَرْق، فَرُّوق، فرقان، فُرْق، فِرْق، فَرَقٌ، فريقٌ، فَرْقاءُ، فِرْقة، فَروقٌ، فريقةٌ، أفرَقُ، تفاريقُ، مَفْرَقٌ، مَفْرِقٌ، مُفرِقٌ، مُنفَرِق، ومفرَّقٌ، وغيرها من اشتقاقاتها الكثيرة. فإذا كانت (الفرقان) سريانية الأصل، فمن أين أتت مشتقاتها هذه في العربية؟ وإذا كانت عربية الأصل، فكيف يصبح مصدرها سريانيا؟

لو لم يكن وزن (الفُرْقان) موجودًا في العربية لأمكن اعتبارها غيرَ عربية؛ ولكننا نجد وزن (فُعْلان) شائعًا بكثرة في العربية، فمثلاً: سُبْحان، وهو اسم يُستخدم لتنزيه الله تعالى؛ وقُرآن، وهو اسم الوحي الذي نزل على محمد ؛ ونُعمان، وهو اسم إمام الفقه الشهير أبي حنيفة؛ وكُفران، أي الكفر؛ وفُقدان، أي ضياع الشيء، وغيرها من الكلمات الكثيرة. فما دامت لكلمة الفرقان مشتقات كثيرة في العربية، وما دام وزنها عربيًا، وما دامت توجد في العربية مئات الكلمات المماثلة لها، فمَن زعم بعد ذلك أنها كلمة سريانية الأصل، فهو يدل على جهله المطبق.

غير أني سوف أُقدّم الآن دليلا أكبر من ذلك على كون كلمة (الفرقان) عربية الأصل، وأن اللغة العربية هي الوحيدة التي استخدمت مادة الفرقان حق الاستخدام، وأنه إذا كانت اللغتان السريانية والعبرانية -وهما في الحقيقة مشتقتان من العربية- قد استخدمتاها، فليس في استخدامهما لها نفس هذه الحكمة والشأن كما هي في العربية.

وليكن معلومًا أن من خصائص العربية أنه ليست الكلمة فقط تدل على معنى خاص، بل إن الحروف الأصلية التي تُشتقّ منها الكلمة أيضا تدل على معناها الأصلي الأساسي. فهناك ارتباط قوي بين معاني الكلمات المشتقة من حروف معينة، وإن تغيّرَ مكانها، بل ويوجد هذا الارتباط في الحروف المشابهة لها. ويتضح هذا من الأمثلة التالية:

فكلمة الفرقان مثلاً المتألفة من الحروف (ف ر ق) لها معناها الخاص بها، ولكن هناك حكمة وفلسفة توجد في هذه الكلمة وأيضا في كل كلمة مشتقة من مادة (ف ر ق)، حيث تنطوي تلك الكلمات كلها على نفس المعنى أو ضده، لأن المخالفة في المعنى هي بمنـزلة المشاركة السلبية، لأنه عند ذكر معنى من المعاني يتبادر إلى الذهن معناه المخالف تلقائيًا. وهناك كثير من الكلمات في العربية تعطي المعنى وضدّه أيضا، فمثلاً كلمة (الظن) تعني الشك واليقين أيضًا، وكلمة (الرجاء) تعني الأمل والخوف أيضًا، وتسمى مثل هذه الكلمات في الاصطلاح (الأضداد). وقد ألف بعض اللغويين كتبًا مستقّلة في موضوع الأضداد في العربية، وجمعَ بعضهم في مؤلفاتهم كل ما ورد في القرآن الكريم من أضداد.

خُذْ مثلاً كلمة الفرقان المتكونة من حروف (ف ر ق)، فلو اشتققنا بتغيير ترتيب هذه الحروف كلماتٍ مختلفة لتضمنت كلُّ واحدة منها المعنى الأساس الموجود في حروف (ف ر ق)، مثل فَرْق، فَقْر، رِفْق، رَقف، قَفْر، قَرْف. فكل واحدة من هذه الكلمات لها معناها الخاص بها، ولكنها تشترك مع غيرها في المعنى الأساسي الموجود في حروف (ف ر ق) أيضا، سواء كانت هذه المشاركة إيجابية أو سلبية.

فما دامت كلمة الفرقان موجودة في العربية، وتوجد فيها أيضا كلمات مشابهة لها في مبناها ومعناها، فهي كلمة عربية يقينا ولا يصحّ أبدًا القول أنها مستعارة من لغة أخرى، لأن الكلمة المستعارة تكون وحيدة، أما التي توجد جذورها في العربية فكيف يقال أنها مستعارة؟

وهذه المشاركة التي أشرت إليها آنفًا تسمى في الاصطلاح العربي “الاشتقاق الكبير”. ونجد أن الاشتقاق الكبير يدل على كون كلمة الفرقان عربيةً، وإليكم بيانه:

الفرق يعني الفصل والخوف، يقال فرَقهما أي أبعدَ أحدَهما عن الآخر، وفَرِقَ أي خاف. والخوف يتضمن معنى البعد، لأن الإنسان إذا خاف شيئًا فرَّ منه وابتعد عنه. والفرقانُ هي مصدرُ فَرَقَ، حيث ورد في قاموس “أقرب الموارد” الذي قد وضَعه عالم نصراني: فَرَقَ يفرُق فَرْقًا وفُرْقانًا. أي أن الفرق والفُرْقان هما مصدر (فَرَقَ).

والآن نتوجه، على ضوء الاشتقاق الكبير، إلى كلمات أخرى مشتقة من حروف (ف ر ق). فكلمة (فَقْر) تعني عدمُ الغنى، وهي تتضمن معنى البُعد أيضا، لأن الفقير بعيد عن الأغنياء. والبُعد يضادّه الوصلُ، وهذا المعنى أيضًا موجود في حروف (فقر)، يقال: فَقَرَ حبّاتِ العقد، أي ثقبها ونظمها ووصلها بالخيط. وكذلك تسمى فقرات الظهر العمودَ الفقري، لأنها موصولة كالعقد بخيط النخاع الشوكي، ويصل بعضها بالبعض.

ثم قَرَفَ يعني فصَلَ القشر عن الفاكهة وغيرها، ويقال قَرَفَ الجرْحَ: أزال قشره. ومعنى البعد واضحٌ بيّنٌ في هذين المثالين. ويقال قَرَف فلانًا: عابَه، وغني عن البيان أن فعل العيب يؤدي إلى التفرقة والبُعد. ويقال قرَف لعياله: كسَب لهم، وقرَف الشيء: خلَطه، وقارَفَ: قاربَ. وهذه الأفعال تفيد الوصل. وهكذا تجمع حروف (ق ر ف) بين معنيي الفصل والوصل.

ثم يقال قَفَرَ الأثرَ: تتبّعَه واقتفاه، وتقفَّرَ أي جَمَعَ؛ وهذا يدل على الوصل.

ويقال أقفرَ المكانُ أي خلا. والقفرُ: الخلاء من الأرض الفاصل بين العمران. والقَفار خبزٌ بدون إدام، يقال أكل خبزَه قَفارًا. ويوجد في هذه الأمثلة معنى البعد.

و(الرِّفق) تعني اللين، وهو داعٍ إلى الوصل والاجتماع. والرفق: الربط. والرفيق: الصاحب. والرفاقة: الصداقة. والمِـرْفق: الموصل بين الساعد والعضد. وكلها معانٍ تفيد القرب والوصل.

و(الرَّقْف) تعني الارتجاف، وسببُه الخوف، وقد سبق ذكر (فَرَقَ) أي خاف.

فكل الكلمات المؤلَّفة من حروف (ف ر ق) تفيد معنى الفصل أو الوصل. فمن ذا الذي يمكن أن يقول بعد معرفة هذه الحقيقة أن “الفرقان” كلمة أعجمية وليست عربية. بل الحق أنني أستطيع بناءً على الاشتقاق الكبير أيضا أن أثبت أن كلمة الفرقان ليست إلا عربية الأصل، أعني ليس هذا الاشتراك في المعنى مقصورًا على الكلمات المؤلفة من حروف (ف ر ق) فحسب، بل يوجد أيضًا في الكلمات القريبة منها في المـَخرج، فمثلاً لو غيّرنا (ف ر ق) إلى (و ل ك) لحملتْ كثيرٌ من الكلمات المشتقة معانيَ قريبة من المعنى الموجود في حروف (ف ر ق). ولكن كتابنا هذا ليس كتاب لغة بل هو تفسير، فلا أرى الخوض في مزيد من التفصيل مناسبًا.

لقد بيّنتُ من قبل أن الفرقان تعني لغةً الفرق أو التمييز بين شيئين، أما معناها الاصطلاحي الإسلامي فقد اختلف فيه المفسرون. فنقل ابن جرير عن أبي العالية أن الفرقان ما فُرِق به بين الحق والباطل. ورُوي عن مجاهد أنَّ معنى الفرقان الكتاب، ومعناه الفارق بين الحق والباطل. وعن ابن عباس أن الفرقان جماعُ اسمِ التوراةِ والإنجيل والزبور والفرقان. وعن ابن زيد أن الفرقان قد أوتيَه محمد رسول الله وأيضًا موسى ، حيث ميّز الله تعالى بين المشركين والمسلمين يوم بدر، وميّز بين موسى وأعدائه في حادث البحر (تفسير ابن جرير).

ويقول العلامة القرطبي أن البعض قالوا في قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ أن معناه أن الله تعالى أعطى موسى التوراة، وأعطى محمدًا الفرقان، وحذفَ هنا اسم النبي اختصارًا. ولكن هذا المعنى باطل بالبداهة.

ويضيف القرطبي بأن الذين فسروا الفرقان بالكتاب يقولون إن الفرقان توكيد للكتاب. وهذا قول الزجّاج والفرّاء.

وفسر بعضهم الفرقان أن الله تعالى نجّاهم من المصيبة، أي أخرجهم من مصر.

وقال ابن بحر أن معنى الفرقان الحجة والبرهان. وقال غيرهم أن الواو زائدة، والفرقان صفة للكتاب (تفسير القرطبي).

وملخص هذه الأقوال أن الفرقان تعني أصلاً التمييز بين الحق والباطل، ولكنهم اختلفوا في تعيين الشيء الذي أعطاه اللهُ موسى تمييزًا بين الحق والباطل. وأرى أن اعتبار الكتاب والفرقان شيئًا واحدًا لا يستقيم نظرًا لما ورد في القرآن الكريم في مواضع أخرى، حيث قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (الأنبياء 49). وتبّين هذه الآية أن الفرقانَ قد أُوتيَهُ كلٌّ من موسى وهارون عليهما السلام، فلا يمكن أن يكون معنى الفرقان التوراة.

قد وردت كلمة الفرقان في القرآن الكريم بالمعاني التالية:

1: القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (الفرقان 2). وقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة 186)، أي أنزل فيه القرآن، وفيه هداية للناس وأدلة على الهدى، وبراهينُ ذاتُ فرقانٍ أي مميّزة بين الحق والباطل. فالقرآن الكريم مشتمل على الفرقان.

2: النجاة من المصائب والمشاكل؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا (الأَنْفال 30).

ويكشف التدبر في هذه الآيات أن معنى الفرقان في الحقيقة هو ما يميّز بين الحق والباطل. فإذا كان الله تعالى قد وعد المؤمنين بالفرقان، فمعناه أنه سيمنحهم عند الشدائد ما يستطيعون به معرفة طريق الخلاص. وإذا كان موسى قد أوتي فرقانًا فمعناه أنه أوتيَ ما يستطيع به التمييز بين أصدقائه وأعدائه، وبين الحق والباطل. وإذا كان الرسول قد أوتي فرقانًا فمعناه أنه أوتي ما يميز به هو وأتباعه بين الحق والباطل، ويستطيع به معارضوه معرفةَ الحق إن أرادوا. لذا فلا داعي لتضييق نطاق معاني الفرقان بيوم بدر أو نجاة بني إسرائيل من البحر فقط. لا شك أن غزوة بدر سميت فرقانًا، وكذلك نجاة بني إسرائيل من البحر سميتْ فرقانًا، ولكن ليس هذا فقط كل ما أُوتيَه هذان النبيان الكريمان عليهما السلام، بل قد أوتي موسى عشرات المعجزات، وأوتيَ النبي آلاف المعجزات أيضا. فإذا سمّى القرآنُ الكريم معجزةً ما فرقانًا -كما سمّى وقعةَ بدر فرقانًا- سنفسّر الفرقان هنالك بذلك المعنى الخاص، ولكنه إذا قال (فرقانًا) على إطلاقه فلا يصحّ تضييق معانيه.

الحق أن كل نبي يُعطى شريعة، سواء شريعة جديدة أُنزلتْ عليه أو شريعة قديمة أُنزلتْ على نبي سابق ويُؤمَر باتباعها، وكذلك يعطى كلُّ نبي فرقانًا، أي آياتٍ تميز بين الحق والباطل. والحق أن هذا الفرقان هو الوسيلة الحقة لمعرفة صدقه. وبسبب جهل هذه الحقيقة قد كذَّب الناس في كل زمن أنبياءَ صادقين، أو وقعوا صيداً في شراك الكذّابين. إن صدق أنبياء الله تعالى لا يتأسس على أمر واحد، وإنما يُعطَون عشرات البراهين التي تشكل في مجموعها شهادةً قاطعة على صدقهم أو علوِّ درجاتهم. هناك من الناس من يحسبون أنفسهم مأمورين من الله تعالى نتيجة بضعة أحلام رأوها وإلهامات تلقّوها، مع أنها قد تكون نتيجة تخيلات، أو أمراض، أو وسوسة نفس، أو من الشيطان، وربما كانت من الله الرحمن. علمًا أن تحقُّقَ حلم أو إلهام لا يكون دليلاً على أنه من الله الرحمن حتمًا، لأن بعض الأمور الخيالية والطبيعية قد تتحقق أيضا، فإلهامات بعض أصحاب الطبائع الضعيفة لا تكون مزيّةً لهم، ولكن وحي الأنبياء له شأن عظيم، ويكون ذا سعة عظيمة، ويغطي حاجات العصر ويكون علاجًا لمفاسد الزمن، وبالإضافة إلى وحيهم العظيم يمتازون حتى قبل دعواهم بحياة طاهرة. قال الله تعالى على لسان النبي : فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُون (يونس 17)، أي قد يكون إلهام شخصٍ باطلاً نتيجة ضعفِ عقله، ولكن من الصعب أن يُعزى الضعف العقلي إلى إنسان له هذا الشأن. لا شك أن الوحي الحق دليلٌ في حد ذاته، وأن الحياة الطاهرة قبل الدعوى أيضًا دليل في حد ذاتها، ولكن اجتماع هذين الدليلين يشكّل دليلاً ثالثًا عظيمًا، وهذا هو الفرقان.

وقد ساق القرآن الكريم على صدق الرسول دليلاً آخر أيضا وقال: أفلا تنظرون إلى وجوه المؤمنين به ؟ أليسوا في حد ذاتهم دليلاً قويًا على صدقه؟ فالناس -عمومًا- درجات وطبقات؛ فبعضهم سيئو الخلق، وبعضهم طمّاعون، وبعضهم جاهلون، وبعضهم سذّج ينخدعون بسرعة، بينما يوجد بين المؤمنين بمحمد من تبوّءوا قبل الإيمان مكانة عالية بسبب عَملهم وعِلمهم وعقلهم، وإن إيمان هؤلاء يشكل في حد ذاته دليلا عظيمًا على صدقه . فما الذي دعا هؤلاء الذين لم يكونوا متسرعين جاهلين وسيئين، بل كانوا ذوي عقل ودهاء وحجة وعلم، وعطاء وبرّ بالفقراء، ومهارةٍ عالية في مِهنهم وأعمالهم، أقول: ما الذي دعاهم لأن يجعلوا أنفسهم عرضةً للإساءة والتحقير من قومهم نتيجةَ اتّباعِهم لإنسان إن لم تكن فيه الآيات الدالة على صدقه ؟

ومن آيات صدق الرسول التي ذكرها الله تعالى هلاكُ أعدائه. إن هذا بحد ذاته دليل عظيم، ولكنه إذا اجتمع مع الأدلة الثلاثة السابقة لشكّل دليلاً له شأنه العظيم.

كذلك من الأدلة على صدق الرسول أنه قضى على المفاسد المنتشرة في زمنه، وأصلح الأخطاء العِلمية والعَقدية والعَمَلية، وهذا بنفسه دليل قوي، ولكنه إذا أُضيفَ إلى الأدلة السابقة لصارت تلك الأدلة مجتمعةً صرحًا شامخًا على صدقه .

إننا نُقرُّ بأن بعض الإلهامات تكون طبْعية وخيالية، ونقرّ أن بعضها تتحقق أحيانًا، ولكن من الصعب جدًّا أن نصدّق أن هذه الإلهامات الخيالية والطبْعية التي هي نتيجة لضعف عقلي أو أن هذه الإلهامات الشيطانية التي هي نتيجة لضعف عقلي وخُلُقي أيضًا، لم تجِدْ سوى هذا الشخص الذي كان القوم كلهم يشهدون على طهارة حياته. وحتى لو سلَّمنا جدلاً بهذا الأمر المتعذّر، فإنه من الأشد صعوبةً أن نقبل أن شخصًا صالحًا اختلّ عقله وادّعى أمورًا غير معقولة، ومع ذلك صدّقه عقلاءُ قومه وفضلاؤهم الذين كان القوم يشهدون على رجاحة عقولهم، والذين عرفوه عن قرب. وحتى لو سلّمنا فرضًا بحصول هذا الخطأ أيضًا، فمن الأشد استحالةً أن نقبل بأن مثل هذا الشخص المخبول هو الذي قام بإصلاح الأفكار الخاطئة المنتشرة في زمنه؛ سواء من حيث العقيدة أو العلم أو العمل. إن الخصم المعترض يُقِرُّ بأن محمدًا ادّعى تلقي الوحي السماوي؛ ويقرّ بأن بعض وحيه قد تحقّقَ ولو مصادفةً؛ ويُقرّ بأن حياة محمد قبل دعواه كانت طاهرة تمام الطُهر؛ ويُقرّ بأن المؤمنين به كانوا ممن يعرفونه عن كثب، وكانوا من المشهود لهم برجاحة العقل وسعة العلم وصالح العمل؛ ويُقرّ بأن هؤلاء المؤمنين بمحمد قد انتصروا مصادفةً وأن أعداءهم انهزموا مصادفة أيضًا؛ ويُقرّ بأن الشرك قبيح وأن محمدًا تمكّنَ من القضاء عليه؛ ويُقرّ بأن محمدًا قام بعشرات الإصلاحات العقدية التي كان بعضها صحيحًا عند فريق من المعارضين وبعضها صحيحًا عند الفريق الآخر منهم، فمَن ذا الذي يستطيع القول بعد كل هذه الإقرارات مجتمعة بأن محمدًا كان مختلّ العقل أو واقعًا تحت تأثير الشيطان، والعياذ بالله. يمكن التشكيك في كل دليل على حدة، ويمكن أن ينظَر إليه منفردًا عن غيره بأنه مصادفةٌ من المصادفات، ولكن من المحال أن تجتمع كل هذه الأدلة ومئات غيرها في إنسان مصادفةً. وإذا كانت هذه الدلائل مجتمعة محلَّ شبهة؛ إذنْ فليس في الدنيا شيء يقيني وقطعي. وإن هذه المجموعة من الدلائل والبراهين هي الفرقان عندي. وقد أوتيَ هذه المجموعة من البراهين موسى، وداود، وعيسى، ونبيُّنا محمدٌ عليهم الصلاة والسلام، وقد أوتيَها اليوم مؤسسُ الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام.

يعترض المخالف دائمًا على كل دليل بمفرده، وينسى أن الاعتراض ممكن على كل شيء. على المرء أن يرى كيف اجتمعت في المدّعي عشرات الأدلة المتنوعة. إذا توافرت مثل هذه المجموعة في أحدٍ أمكنَ الجزمُ بأنه قد أُوتيَ فرقانًا، وأنه من الله تعالى، لأن هذا الفرقان يستحيل أن يُعطاه الكذّاب.

بيد أن رسولنا محمدًا يمتاز عن سائر الأنبياء، ذلك أن هؤلاء قد أوتوا كتابًا وفرقانًا، ولكنه قد أوتي الفرقانَ وأوتيَ الكتابَ الذي هو في حد ذاته فرقان. كانت توراة موسى بحاجة إلى معجزات أخرى لكي يتجلى صدقها، وكان وحي عيسى بن مريم بحاجة إلى معجزات أخرى كي يتبين صدقه؛ والأمر نفسه ينطبق على كتاب الفيدا الهندوسي وكتاب الزند أفيستا الزرادشتي، ولكن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد فلا يحتاج إلى أدلة أخرى لبيان صدقه، لأنه في حد ذاته فرقان، أي كتابٌ حيٌّ، ولو أن الناس نسوا معجزاته الأخرى فإن القرآن الكريم وحده يُثبت صدقه لما يحتوي عليه من أدلة وبراهين؛ ومن أجل ذلك سُمي فرقانًا. ليس بين الكتب السماوية السابقة كتاب أُوتيَ هذا الاسم، لأنها كلها بحاجة إلى أدلة أخرى لانجلاء صدقها، أما القرآن الكريم فهو في حد ذاته يحتوي على أدلة صدقه، ومن أجل ذلك وعد الله تعالى المؤمنين بالقرآن بقوله: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ، أي أن هذا الكتاب فرقان، فالذين يؤمنون به إيمانًا كاملاً سيُعْطَون فرقانًا من عند الله تعالى.

إن الفرقان دليل يبلغ من القوة والشمول بحيث إذا وعاه الإنسان وحاول على ضوئه معرفةَ صدق الأنبياء، لم يصعب عليه معرفةُ المأمور الرباني في زمنه.

ثم يقول الله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . اعلم أن (لعل) لا تفيد الشك هنا، وإنما هو من التعابير المـَلَكيّة. إنه يفيد الشك عمومًا، ولكنه في كلام الملوك يفيد القطعية والجزم، حيث يقول الملِك في أمره دائما: إننا نأمل كذا من الشعب، والمراد أنه أمرٌ ملَكيٌ للشعب، فمعنى قوله تعالى: لعلكم تهتدون أننا أعطينا موسى نعمةَ الكتاب والفرقان لكي يهتدي بها بنو إسرائيل، ولكنهم للأسف ما استفادوا من الكتاب ولا من الفرقان، ولم يقدِّروا نِعَمنا هذه حق قدرها كما مسخوا فطرتهم، فحرموا من النتيجة الطبيعية لهذه النعم، أيْ مِن الهداية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك