من تفسير سورة الفاتحة للمسيح الموعود عليه السلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

اعلم أن الحمد ثناء على الفعل الجميل لمن يستحق الثناء، ومدح لمنعم أنعم من الإرادة وأحسن كيف شاء. ولا يتحقق حقيقة الحمد كما هو حقها إلا للذي هو مبدء لجميع الفيوض والأنوار ومحسن على وجه البصيرة، لا من غير الشعور ولا من الاضطرار. فلا يوجد هذا المعنى إلا فب الله الخبير البصير. إنه هو المحسن ومنه المنن كلها في الأول والأخير، وله الحمد في هذه الدار وتلك الدار، وإليه يرجع حمد ينسب إلى الأغيار.

ثم إن لفظ الحمد مصدر مبني على العلوم والمجهول وللفاعل والمفعول من الله ذي الجلال. ومعناه أن الله هو محمد وهو أحمد على وجه الكمال. والقرينة الدالة على هذا البيان أنه تعالى ذكر بعد الحمد صفات تستلزم هذا المعنى عند أهل العرفان. والله سبحانه أومأ في لفظ الحمد إلى صفات توجد في نوره القديم، ثم فسر الحمد وجعله مخدرة سفرت عن وجهها عند ذكر الرحمن والرحيم. فإن الرحمن يدل على أن الحمد مبني على المعلوم، والرحيم يدل على المجهول كما لا يخفى على أهل العلوم. وأشار الله سبحانه في قوله (رب العالمين) إلى أنه هو خالق كل شيء ومنه كل ما في السماوات والأرضين. ومن العالمين ما يوجد في الأرض من زمر المهتدين وطوائف الغاوين والضالين. فقد يزيد عالم الضلال والكفر والفسق وترك الاعتدال حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً، ويترك الناس طرق الله ذي الجلال. لا يفهمون حقيقة العبودية ولا يؤدون حق الربوبية. فيصير الزمان كالليلة الليلاء، ويداس الدين تحت هذه اللأواء. ثم يأتي الله بعالم آخر فتبدل الأرض غير الأرض، وينزل القضاء مبدلاً من السماء، ويعطى للناس قلب عارف ولسان ناطق لشكر النعماء. فيجعلون نفوسهم كمور معبد لحضرة الكبرياء ويأتونه خوفاً ورجاء بطرف مغضوض من الحياء ووجه مقبل نحو قبلة الاستجداء وهمةٍ في العبودية قارعة ذروة العلاء. ويشتد الحاجة إليهم إذا انتهى الأمر إلى كمال الضلالة، وصار الناس كسباع أو نعم من تغير الحالة.

فعند ذلك تقتضي الرحمة الإلهية والعناية الأزلية أن يخلق في السماء ما يدفع الظلام ويهدم ما عمر ابليس وأقام من الأبنية والخيام، فينزل إمام من الرحمن ليذب جنود الشيطان. ولم يزل هذه الجنود وتلك الجنود يتحاربان، ولا يراهم إلا من أعطي له عينان، حتى غل أعناق الأباطيل وانعدم ما يرى لها نوع سراب من الدليل. فما زال الإمام ظاهراً على العدا ناصرا لمن اهتدى معلياً معالم الهدى محييا مواسم التقى حتى يعلم الناس أنه أسر طواغيت الكفر وشد وثاقها، وأخذ سباع الأكاذيب وغل أعناقها، وهدم عمارة البدعات وقوض قبابها، وجمع كلمة الإيمان ونظم أسبابها، وقوي السلطنة السماوية وسد الثغور، وأصلح شأنها وسدد الأمور، وسكن القلوب الراجفة وبكت الألسنة المرجفة، وأنار الخواطر المظلمة وجدد الدولة المخلقة، وكذلك يفعل الله الفعال حتى يذهب الظلام والضلال. فهناك ينكض العدا على أعقابهم، وينكسون ما ضربوا من خيامهم، ويحلون ما اربوا من آرابهم.

ومن أشرف العالمين وأعجب المخلوقين وجود الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين الصديقين، فإنهم فاقوا غيرهم في بث المكارم وكشف المظالم، وتهذيب الأخلاق وإرادة الخير للأنفس والأفاق، ونشر الصلاح والخير واجاحة الطلاح والضير، والأمر بالمعروف والنهي عن الذمائم وسوق الشهوات كالبهائم، والتوجه إلى رب العبيد وقطع التعلق من الطريف والتليد، والقيام على طاعة الله بالقوة الجامعة والعدة الكاملة، والصول على ذراري الشيطان بالحشود المجموعة والجموع المحشودة، وترك الدنيا للحبيب والتباعد عن مغناها الخصيب وترك مائها ومرعاها كالهجرة وإلقاء الجران في الحضرة. إنها قوم لا يتمضمض مقلتهم بالنوم إلا في حب الله والدعاء للقوم. وإن الدنيا في أعين أهلها لطيف البنية مليح الحلية، وأما في أعينهم فهي أخبث من العذرة وأنتن من الميتة. أقبلوا على الله كل الإقبال ومالوا إليه كل الميل بصدق البال. وكما أن قواعد البيت مقدمة على طلق يعقد ورُواق يمهد، كذلك هؤلاء الكرام مقدمون في هذه الدار على كل طبقة من طبقات الأخيار. وأُريت أن أكملهم وأفضلهم وأعرفهم وأعلمهم نبينا المصطفى عليه التحية والصلاة والسلام في الأرض والسماوات العلى، وأن أشقى الناس قوم أطالوا الألسنة وصالوا عليه بالهمز وتجسس العيب، غير مطلعين على سر الغيب. وكم من ملعون في الأرض يحمده الله في السماء، وكم من معظم في هذه الدار يهان في يوم الجزاء. ثم هو سبحانه أشار في قوله (رب العالمين) إلى أنه خالق كل شيء وأنه يحمد في السماء والأرضين. وأن الحامدين كانوا على حمده دائمين وعلى ذكرهم عاكفين. وأن من شيء إلا يسبحه ويحمده في كل حين. وأن العبد إذا انسلخ عن ارادته وتجرد من جذباته، وفني في الله وفي طرقه وعباداته، وعرف ربه الذي رباه بعناياته، حمده في سائر أوقاته وأحبه بجميع قلبه بل بجميع ذراته، فعند ذلك هو عالم من العالمين، ولذلك سمي إبراهيم أمة في كتاب أعلم العالمين. ومن العالمين عالم أرسل فيهم خاتم النبيين، وعالم آخر فيه يأتي الله بآخرين من المؤمنين في آخر الزمان رحمة على الطالبين. وإليه أشار في قوله تعالى (وله الحمد في الأولى والآخرة) فأومأ فيه إلى أحمدين وجعلهما من نعماء الكاثرة، فالأول منهما أحمد المصطفى ورسولنا المجتبى والثاني أحمد آخر الزمان الذي سمي مسيحاً ومهدياً من الله المنان. وقد استنبطت هذه النكتة من قوله (الحمد لله رب العالمين) فليتدبر من كان من المتدبرين.

وعرفت أن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله خالق الأنان، سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام، وسواء كان من مخلوق الأرض أو كالشمس والقمر وغيرهما من الأجرام، فكل من العالمين داخل تحت ربوبية الحضرة.

ثم إن فيض الربوبية أعم وأكمل وأتم من كل فيض يتصور في الأفئدة أو يجري ذكره على الألسنة. ثم بعده فيض عام وقد خص بالنفوس الحيوانية والإنسانية وهو فيض صفة الرحمانية، وذكره الله بقوله (الرحمن)، وخصه بذوي الروح من دون الأجسام الجمادية والنباتية. ثم بعد ذلك فيض خاص وهو فيض صفة الرحيمية. ولا ينزل هذا الفيض إلا على النفس التي سعى سعيها لكسب الفيوض المترقبة، ولذلك يختص بالذين آمنوا وأطاعوا ربا كريماً كما صرح في قوله تعالى (وكان بالمؤمنين رحيما)، فثبت بنص القرآن أن الرحيمية مخصوصة بأهل الإيمان. وأما الرحمانية فقد وسعت كل حيوان حتى أن الشيطان نال نصيباً منها بأمر حضرة الكائنات. حاصل الكلام أن الرحيمية تتعلق بفيوض تترتب على الأعمال، وتختص بالمؤمنين من دون الكافرين وأهل الضلال. ثم بعد الرحيمية فيض آخر وهو فيض الجزاء الأتم والمكافأة وإيصال الصالحين إلى نتيجة الصالحات والحسنات. وإليه أشار عز اسمه بقوله (مالك يوم الدين) وأنه آخر الفيوض من رب العالمين. وما ذكر فيض بعده في كتاب الله أعلم العالمين. والفرق في هذا الفيض وفيض الرحيمية. إن الرحيمية تبلغ السالك إلى مقام هو وسيلة النعمة وأما فيض المالكية بالمجازة فهو يبلغ إلى نفس النعمة وإلى منتهى الثمرات وغاية المرادات وأقصى المقصودات. فلا خفاء أن هذا الفيض هو آخر الفيوض من الحضرة الأحدية وللنشأة الإنسانية كالعلة الغائية، وعليه يتم النعم كلها وتستكمل به دائرة المعرفة ودائرة السلسلة. ألا ترى أن سلسلة خلفاء موسى انتهت إلى نكتة مالك يوم الدين فظهر عيسى في آخرها، وبدل الجور والظلم بالعدل والإحسان من غير حرب ومحاربين كما يفهم من لفظ (الدين)، فإنه جاء بمعنى الحلم والرفق في لغة العرب وعند أدبائهم أجمعين. فاقتضت مماثلة نبينا بموسى الكليم ومشابهة خلفاء موسى بخلفاء نبينا الكريم أن يظهر في آخر هذه السلسلة رجل يشابه المسيح ويدعو إلى الله بالحلم ويضع الحرب ويقرب السيف المجيج، فيحشر الناس بالآيات من الرحمن لا بالسيف والسنان، فيشابه زمانه زمان القيامة ويوم الدين والنشور، ويملأ الأرض نوراً كما ملئت بالجور والزور. وقد كتب الله أنه يرى نموذج يوم الدين، قبل يوم الدين ويحشر الناس بعد موت التقوى. وذلك وقت المسيح الموعود وهو زمان هذا المسكين. وإليه أشار في آية (يوم الدين)، فليتدبر من كان من المتدبرين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك