تفنيد تهمة إلقاء الشيطان على لسان المصطفى صلى الله وعليه وسلم
  • سلطان الشيطان على من؟!
  • إبدال الآيات وإبطال زعم النسخ في القرآن
  • الفرق بين الوعد والوعيد
  • نسبية الأحكام الإلهية
  • تفنيد زعم تدخل الشيطان حول هذه الآية.

__

إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون (101)

التفســير:
اعلم أن ضمير الغائب للواحد (به) في قوله تعالى هم به مشركون يمكن أن يكون عائدًا على كلمة “الرب” المذكورة من قبل في قوله تعالى على ربهم يتوكلون ، فيكون المعنى: أن الشيطان لا يملك السلطة إلا على الذين يشركون بالله.
وقد يكون هذا الضمير راجعًا إلى الشيطان، فالمعنى: أنهم يقعون في الشرك بسبب إغواء الشيطان.
لقد نبّه الله تعالى بذلك أن الشيطان يمارس سلطته على أصحابه وأعوانه. فمن استعاذ بالله فكأنما أعلن عداوته للشيطان، وهكذا خرج عن تصرف الشيطان وسلطانه.
لقد تبين من ذلك أيضًا أن قوله تعالى فإذا قرأتَ القرآن فاستعِذْ بالله لا يخص النبيَّ بل غيرَه، وأن قصة إلقاء الشيطان على لسانه كلمات الشرك قصة ملفَّقة باطلة؛ ذلك لأنه تعالى يصرّح هنا أن الشيطان يتسلط على الذين يتخذونه وليًّا، وليس على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وقد أعلن النبي مرارًا وتكرارًا أن لا سند له ولا عماد إلا الله وحده .

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (102)

التفسـير:
الآية هي في الأصل العلامة والدليل، وإن أُطلقت أيضًا على جُمل القرآن الكريم، لأن كل جملة منه تمثّل في حد ذاتها علامة للهداية؛ ولكن هذا المعنى الثاني ليس حقيقيًّا، إذ لا نجد القرآن قد استخدم الآية بهذا المعنى بشكل قطعي. لا شك أنه يبدو في بعض مواضع القرآن وَكأن كلمة “الآية” قد استُعملت هناك بمعنى الجملة، ولكن هذا ليس بأمر قطعي، إذ يمكن أن يراد بالآية هناك العلامة والدليل أيضًا. غير أن المسلمين قد استعملوها منذ البداية بمعنى الجملة حيث كان الصحابة يسمّون الجُمل القرآنية آياتٍ، كما نجد هذا الاستخدام في كلام النبي أيضًا (البخاري: كتاب الجهاد وكتاب فضائل القرآن). فاشتبه الأمر على بعض المفسرين بسبب هذا الاستخدام، ففسّروا هذا اللفظ بمعنى الجملة القرآنية حتى في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فقالوا أن المراد أن الله تعالى كلما نسخ آية من آيات القرآن وأنزل مكانها غيرها قال الكفار للنبي : إنما أنت مفتر على الله تعالى. لو كان القرآن من عند الله لما اضطُررت لنسخ آياته؟ (تفسير القرطبي)
ولكن هذا المعنى ليس بصحيح في رأيي، إذ ليس من الثابت تاريخيًّا أن آية من القرآن استُبدلت بآية أخرى، وإلا لشهد على ذلك مئاتُ الحفّاظ الذين كانوا قد حفظوا القرآن عن ظهر قلب في حياة النبي ، ولقالوا: لقد حَفَّظَنا رسولُ الله في أول الأمر آية فلانية، ثم ألغاها وحفّظنا مكانها آية كيت؛ مما يمثّل برهانًا قطعيًّا على أن كل الأفكار الرائجة حول نسخ آيات من القرآن الكريم إنما أساسها الظن، وليس العلم والواقع. إنني لا أنكر أن بعضًا من الأحكام قد استُبدلت في زمن النبي ، ولكني لم أجد أية شهادة تدل على أن حكمًا من الأحكام نزل في القرآن في البداية بشكل ثم استُبدل بحكم آخر. وأرى أن الأحكام التي كانت ذات صبغة مؤقتة قد نزلت على النبي بوحي منفصل عن وحي القرآن، فلم يتطلب الأمر تبديل أي حكم نـزل في الوحي القرآني.
ويمكن أن يتساءل هنا أحد: إذا لم يحدث أي تبديل ولا تغيير في آيات القرآن الكريم فماذا تعني هذه الآية إذن؟
والجواب: أن المعنى الحقيقي الذي أراده القرآن الكريم على العموم لكلمة “الآية” هو العلامة السماوية، وهذا هو المعنى المراد هنا. فالله تعالى يعلن هنا أن من سنتنا أن نبدل علامة سماوية بعلامة أخرى، لأننا الأعلم أيُّ العلامات والمعجزات أكثر تلاؤمًا مع الظرف والموقف، ولكن الكفار لا يلبثون لجهلهم أن يعترضوا ويقولوا للرسول: إنك مفترٍ، مع أنه ليس في هذا ما يدعو للطعن.
وهذا هو الناموس الإلهي الذي تجلى دائمًا في زمن كل نبي ورسول. ذلك لأن الله تعالى يخبر كل رسول بأنباء إنذارية تكون في الواقع مشروطة بشروط، فلو أن القوم غيروا حالة قلوبهم فقد يلغي الله بعض هذه الأنباء التحذيرية كليةً، ومثاله ما حدث بقوم يونس ، حيث أخبرهم بهلاكهم الموشك، ولكنه تعالى ألغى قرار هلاكهم نتيجة توبتهم (يونس: 99). فهذا هو القانون الإلهي العام فيما يتعلق بالأنباء التي فيها إنذار وتخويف‎، فلو أن أعداء الرسل تابوا فإنه تعالى يلغي الإنذار ويلغي العذاب.
أما الأنباء المتعلقة بغلبة نبي وأتباعه فلا تُلغَى أبدًا، بل لا بد من تحققها؛ غير أن الأمة التي قطع الله معها وعدًا من الوعود إذا قصّرت في تقديم التضحيات أو في الطاعة فمن سنة الله تعالى أنه يؤجّل الوفاء بما وعد؛ ومثال ذلك ما حدث بقوم موسى ، حيث خرج بهم من مصر – بحسب وعد من الله – ليدخل بهم الأرض المقدسة فاتحًا، ولكنه أجّل تحقيق هذا النبأ لهم أربعين سنة جراء عصيانهم المتكرر لتعليمات نبيهم. ولقد سجل القرآن هذا الوعد الإلهي بلسان موسى كالآتي: يا قومِ ادْخُلوا الأرضَ المقدَّسةَ التي كتَبَ الله لكم (المائدة: 22)، ثم ذكر عصيانَ اليهود لموسى والقرارَ الإلهي بحرمان الأرض عليهم أربعين سنة، في قوله تعالى لموسى: فإنها محرَّمةٌ عليهم أربعينَ سنةً يَتِيهُون في الأرض فلا تَأْسَ على القومِ الفاسقينَ (المائدة:27). مما يعني أن هذا النبأ والوعد قد أُجِّل لبعض الوقت، ولكنه تعالى لم يُلْغِه كليةً، لأن الله لا يُخلف الميعاد.
ووفق هذه السنة المتعلقة بعذاب الكفار كلما ألغى الله نبأ من الأنباء أثار الكفار ضجة بأن صاحبهم مفترٍ كذاب. لماذا لم يتحقق ما أنذرَنا به لو كان من الصادقين. وكان أعداء النبي أيضًا يثيرون مثل هذه المطاعن، فرد الله عليهم بأننا ننـزل آيات العذاب لهدف معين وهو الإصلاح، وحين نرى أن أحدًا قد غيّر سيرته وأصلح حاله نبدّل قرارنا السابق، ونلغي عقابه أصلاً، ونُري آية الرحمة في حقه، لأن هدفنا الإصلاح لا الإيذاء. لقد حصل هذا مرارًا في حياة النبي ، فمثلاً أخبره الله في القرآن عن كفار مكة أنهم لا يؤمنون (البقرة: 7)، وكان هذا الخبر بمنـزلة نبأٍ بعذابهم، ولكن الله تعالى ألغاه في حق كثير منهم ممن تولدت في قلوبهم خشية الله بعد الإنذار، فمنحهم نعمة الإيمان مكان العذاب.
هذه القضية واضحة تمامًا، ومع ذلك يتعثر الناس دائمًا في فهمها، لأنهم يظنون أن إلغاء الوعد كذب، مع أن إلغاء وعد العقاب لا يُعَدّ كذبًا، وإنما إلغاء وعد العطاء يُعَدُّ كذبًا؛ فقد ورد في قواميس العربية: “الخُلْفُ في الوعد عند العرب كذبٌ وفي الوعيد كرمٌ (الأقرب).
إذن فالمراد الحقيقي من هذه الآية أننا نلغي أحيانًا الأنباء الإنذارية، فيعترض على ذلك الكفار، ولكن طعنهم باطل، لأن قرارنا هذا مبني على الحكمة، إذ ليس فيه هضمٌ لحق أحد حتى يكون مثارًا للاعتراض. ونظرًا إلى هذا المعنى ستفسَّر “الآية” هنا بمعنى الأنباء التحذيرية التي مر ذكرها من قبل.
هذا، ونظرًا إلى السياق وترتيب القرآن الكريم يمكن تفسير هذه الآية بمعنى آخر هو أكثر انطباقًا هنا وهو كالآتي: لقد بيّنتُ من قبل أن هذه السورة تعالج موضوع ضرورة الوحي، ومن الأدلة التي سبق أن ذكرها الله بهذا الصدد مجيءُ الرسل في الماضي، كقول الله تعالى تالله لقد أرسَلْنا إلى أمم من قبلك (الآية: 64)، وقوله تعالى ويومَ نبعَثُ في كلِّ أُمّةٍ شهيدًا عليهم مِن أنفسِهم (الآية:90). ولما عجز الكفار أمام هذا البرهان قالوا: حسنًا، إذا كان الرسل قد بُعثوا في الماضي فيجب أن يكون تعليمهم وتعليم الإسلام واحدًا، ولكننا نجد فيما يعلّمنا محمد أمورًا تخالف تعاليم الرسل السابقين؟ فثبت أنه كاذب، إذ كيف يمكن أن يقول الله لهؤلاء الرسل غير ما يقول لمحمد؟!
لقد رد الله على هذا الزعم فقال والله أعلمُ بما ينـزِّل .. أي أن اختلاف القرآن مع بعض تعاليم الرسل الأولين لا يعني أنه يعارض تلك التعاليم الحقة، وإنما سببه أن حاجات هؤلاء تختلف عن حاجات أولئك، ولا بأس في ذلك إذ من الممكن أن يعطي الشخص الواحد تعليمات مختلفة لأناس مختلفين بالنظر إلى حاجاتهم المختلفة، ولا يجوز لأحد أبدًا أن يستنتج من ذلك أنه ما دامت الأحكام مختلفة فلا بد أن تكون قد صدرت من جهات مختلفة لا من جهة واحدة. ذلك لأن الأحكام لا تختلف بسبب اختلاف مصدرها فقط، بل تختلف أيضًا بسبب اختلاف المخاطَبين مع كون مصدرها واحدًا، لأنها تصدر بالنظر إلى استعداداتهم المختلفة. إذن فكان من واجب الكفار أن يروا ما إذا كان تعليم القرآن وفق مقتضيات العصر أم لا؟ فإذا توافر فيه هذا الشرط أصبح الاختلاف في تعليمه وتعليمات الأولين دليلاً على أن اللهَ عالِـمَ الغيب هو الذي أنزل القرآن على محمد ، وليس أن الذي أنزل الوحي على محمد هو غيرُ من أنزل الوحي على الأنبياء السابقين.
هذا المعنى الأخير يتماشى مع الآية التالية أيضًا، لذلك أراه أصح المعاني المذكورة. فتؤخذ كلمة “الآية” هنا بمعنى الكتاب؛ لأن الكتاب السماوي أيضًا آيةٌ أي معجزة، بل إن كتب الأنبياء هي أكبر معجزاتهم.
الغريب أن هذا الاعتراض لم يزل يتردد على مر العصور حيث لا ينفك الكتّاب المسيحيون يقولون حتى اليوم: إذا كان القرآن يدّعي بأنه مصدِّق لما بين يديه من الكتب السماوية فلماذا يختلف معها إذن؟ فاختلافه مع الكتب السابقة يعني أن محمدًا قد اختلق القرآن من عنده. ولما كان محمد غير ملمٍّ بالأسفار السابقة فلذلك ذكر في القرآن عند اختلاقه أمورًا تتعارض مع ما ورد في تلك الأسفار (تفسير القرآن لـِ “ويري”: سورة البقرة الآية 90).
هذا، وقد هرأ بعض المفسرين فقالوا أن في هذه الآية إشارة تلك القصة التي تقول أن النبي تلا سورة النجم أمام الكفار، فألقى الشيطان بصوت عالٍ كلماتٍ في تلاوته !
الحق أن هذه القصة زائفة تمامًا، وسوف نثبت ذلك في محلها إن شاء الله تعالى. ولكن لو سلّمنا جدلاً بصحتها فأيضًا لا تثبُت لـتلك القصة أية صلة بهذه الآية، إذ يؤكد الله هنا أن الآية التي استُبدلت كانت من وحي الله تعالى، وأنه نفسه قام بتبديلها، بينما يعترف أصحاب تلك القصة المنحولة بأن الشيطان هو الذي ألقى آيات من عنده؛ فثبت من اعترافهم أيضًا أن لا علاقة لتلك القصة الملفقة بهذه الآية.
كما أن الآية التالية أيضًا تفنّد زعمهم الباطل، إذ تقدم ردًّا ثانيًا على اعتراض الكفار حيث تقول قُلْ نزّله روحُ القدس مِن ربك بالحق . والظاهر أنه ليس في قول الله هذا أي ردّ على اعتراض الكفار القائل: لماذا قدّم محمد من قبل تعليمًا ينم عن الشرك، ولماذا غيّره الآن. إن نزول روح القدس بالقرآن يمكن أن يكون دليلاً على كون القرآن محفوظًا محميًا، ولكن ليس فيه أية دلالةٍ على أن الشيطان أدخل شيئًا من عنده في القرآن ثم قام الله تعالى بإلغاء ما ألقاه الشيطان في القرآن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك