حج بیت الله الحرام، حِكم، دلالات و فلسفة في الإسلام

حج بيت الله… حِكم و دلالات

سامح العراقي

  • تقديم
  • معنى البيت وفلسفته في الإسلام
  • البيت مكان لتوحيد الباري ووحدة البشرية
  • الحج يعود بالناس إلى بيت العائلة الأول
  • الحكمة من بعض مناسك الحج

__

إن الحديث عن فريضة الحج وفلسفتها وحكمتها فى الإسلام أصبح هو نفسه فريضة واجبة فى هذه الأيام التى تحولت فيها هذه الفريضة العظيمة والشعائر الرائعة فى نظر الكثير من المسلمين إلى عبادة شكلية، مما أعطى الفرصة لغير المسلمين أن يلمزوا من قريب ومن بعيد هذه الشعيرة المباركة. ولنبدأ القصة من البداية.
لقد تحدث الله تعالى في آيات عديدة عن حج بيته، وهو عبادة هامة في الإسلام. فيجتمع كل سنة في مكة المكرمة مئات الآلاف من الناس من مختلف الشعوب والأقطار. لا يعرف بعضهم تقاليد الآخرين ولا عاداتهم ولا لغاتهم، ولكنهم يعترفون عَمليًّا أن التوحيد الإسلامي قد وحّد قلوب المسلمين لدرجة أنهم مستعدون للاجتماع في مكان واحد تلبية لنداء الله تعالى، رغم اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم وألوانهم وأعراقهم وأفكارهم ومناخهم. كما أنهم، علاوة على قيامهم بالحج في الظاهر، يثبتون عَمليًّا أنهم جاهزون للتضحية بأرواحهم في سبيل حماية (البيت) الكعبة المشرفة. وما دام المسلمون متحلّين بهذه الروح لن يقدر العدو أن ينظر إلى (البيت) الكعبة المشرفة بنية شريرة أو على تشتيت كلمتهم. فما هو مفهوم البيت فى الإسلام؟

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة: 126)

معنى البيت وفلسفته فى الإسلام

لكلمة (البيت) ومعناها فى الإسلام ميزات وفلسفات عديدة، أول هذه الميزات أن الناس سوف يتمتعون فيه بالحماية الحقيقية. إنه بيت الله الذي لا يمكن أن يفلح أي عدو في الهجوم عليه. والميزة الثانية للبيت أنه مكان إقامة دائمة، وبهذا المعنى فإن بيت الله هو الذي يستحق أن يسمى بيتا، لأن الحياة الأبدية إنما تُنال في بيت الله. والذين لا يذهبون إلى بيت الله تعالى لا حياة لهم، ولا قيمة لحياتهم. أما البيت الدنيوي فيقول الله عنه: متاع قليل وأما عن بيته فيقول:

فادخلي في عبادي وادخلي جنتي (الفجر: 30)

أي عندما يصبح الإنسان عبدا صادقا لله تعالى، ويصبح المسجد بيتا له فإنه يدخل الجنة. فهذا هو البيت الذي يمكن أن يُمتّع الإنسان بحياة أبدية.
والميزة الثالثة للبيت أنه مكان لادِّخار الأموال والأمتعة. وهذا البيت فيه ذخائر البركات الروحانية، فيه آيات بينات وهو الذي يحفظها. أما الذخائر الأخرى مهما كانت غالية وقيِّمة فإنها تضيع، ولكن الوقت الذي يبذله الإنسان في عبادة الله تعالى فلا يضيع، بل كل لحظة يقضيها في ذكر الله وعبادته يحولها الله إلى آلاف النعم الروحانية، ويحفظها ذخيرة ويمتّع عبده بها.

إلا أنني أرى أن قوله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، يعني أن تسعوا لتحوزوا في العبادة والطاعة مقاما تبوَّءه إبراهيم فيهما. إن الناس يظنون خطأ أن المراد من مقام إبراهيم موضع مادي، مع أن المقام الحقيقي لإبراهيم هو مقام الإخلاص والتقوى والاستسلام الذي كان

والميزة الرابعة للبيت أنه مكان لاجتماع الأقارب كلهم. وهذه الخصوصية موجودة أيضًا في الكعبة المشرفة بصورة كاملة. لأن مسلمي العالم أجمع يجتمعون هناك كل عام للحج، ويزيدون إيمانهم بالاجتماع مع إخوانهم. ثم إن الكعبة المشرفة مكان لاجتماع الناس بشكل آخر. فالمكان الذي سيجتمع فيه الإنسان مع أقاربه وأحبائه هو الجنة، والمسجد ظل للجنة يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يوميا، ويسجدون أمام ربهم، ويطلعون على أخبار بعضهم. والميزة الخامسة للبيت أن الإنسان يتمتع فيه بالأمن عموما. وهذا أيضًا يتيسر في الكعبة المشرفة، لأن الأمن إنما يتيسر للإنسان فقط إذا انمحت كل النـزاعات. والكعبة المشرفة هي المكان الوحيد الذي لكونه مركزا للتوحيد يمكن أن يكون ذريعة لاتحاد العالم كله وجمعهم حول مركز واحد. فالكعبة المشرفة هي البيت الحقيقي والكامل في الواقع، إذ تتمتع بكل الخصوصيات التي ينبغي أن تكون في البيت. والله عز اسمه يريد منا أن نستنسخ نماذج كثيرة (مساجد) بيوت الله فى الأرض، ونجعلها تتمتع بهذه الميزات السابقة، لتكون بيوتا للعائلة الإنسانية، ويكون المسجد هو ملاذا وأمنا للخائف ومثابة للحيران.

البيت مكان لتوحيد البارى ووحدة البشرية: وقوله تعالى عن البيت:

وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ؛

المثابة هي مكان اجتماع الناس بعد تفرقهم. لقد ذكرالله هنا بأن بيت الله الذى هو “بيت العائلة الإنسانية” قد أقيم لكي يجمع العالم كله على مركز واحد، وعن طريق هذا البيت يجتمع مرة أخرى كل أولئك الذين تفرقوا. بمعنى أن هذا البيت متعلق بدين عالمي، وإنه سوف يكون سببا لتوحيد العالم كله. لا شك أن الأنبياء وحَّدوا الناس في زمنهم، ولكن إذا كانوا من جانب يوحدون أفراد قوم ما، فإنهم من جانب آخر كانوا يسببون الاختلاف مع أمم أخرى من العالم. فمثلا كان من الضروري لبني إسرائيل أن يتبعوا موسى فقط، وكان على أتباع كرشنا أن يتبعوه وحده، وكان على الفرس أن يتبعوا زرادشت وحده، لذلك إذا كانوا قد وحدوا أقوامهم من جهة فإنهم تسببوا في الخلاف بين الأقوام الأخرى. ولكن الكعبة المشرفة وحدها التي تحمل خصوصية أنها جامعة لأمم العالم كلها على مركز واحد، فقد أعلن النبي بأنه قد بعث للعالمين، ثم أعلن أنه سوف يُجمع على يده كل الأمم والجماعات المتفرقة في دين واحد. وانظروا كيف تحقق هذا النبأ بطريقة عجيبة ومدهشة. من ذا الذي يمكن أن ينبئه بجمع الناس هكذا إلا الله تعالى؟ أما الذي قُدّر للنبي في مستقبل الأيام فإنه أكثر من ذلك كثيرا. فقد أعلن سيدنا المهدي والمسيح الموعود أن الله تعالى سوف يجمع عن طريقه الأمم كلها، وسوف يأتي وقت يصبح فيه الأشرار كالمنبوذين. فقد قال “لقد خطط الشيطان لإهلاك آدم واستئصاله، وطلب من الله المهلة فأمهله إلى يوم الوقت المعلوم. وبسبب هذه المهلة لم يقضِ عليه أي نبي. أما الوقت الذي قُّدر لقتله وهلاكه فهو أن يقتل على يد المسيح الموعود. كان ينطلق في الأرض كاللصوص وقطاع الطرق ولكن حان هلاكه الآن. إلى اليوم كان هناك قلة من الأخيار وكثرة من الأشرار، ولكن سوف يهلك الشيطان ويكثر الأخيار، أما الأشرار فسوف يصبحون أذلة كالمنبوذين.. وعِبرة للآخرين”. (جريدة الحكم.مجلد 5 عدد 34، 17/9/1901). ويتابع المصلح الموعود رضى الله عنه فى التفسير الكبير: “أرى أن زمن تحقق هذا النبأ القرآني بصورة كاملة هو زمن المهدي والمسيح الموعود، لأنه في شخصه اجتمع بنو إسحاق وبنو إسماعيل. فنرى أن هذا النبأ يتحقق بالفعل بعد ثلاثة عشر قرنا، ويقبل الإسلام ويدخل في الأحمدية أهل أوروبا وأمريكا وأفريقيا وأستراليا والهند والصين وجاوا وسومطرة والإيرانيون والمغول والأفغان والراجبوت والباتان وغيرهم وغيرهم.. فلا يوجد ملة ولا مذهب إلا ويدخل أهلها في الإسلام عن طريق الأحمدية، ويتحقق صدق هذا النبأ القرآني بأننا جعلنا هذا البيت جامعا للناس المتفرقين.(1)

الحج يعود بالناس إلى بيت العائلة الأول

قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين (آل عمران 97).

والجدير بالذكر هنا أن الله تعالى قد وصف بيته البَيتِ الْعَتِيقِ ، وذلك إشارة إلى أن إبراهيم ليس هو الذي بنى بيت الله هذا، بل قد بُني هذا البيت قبله، إنما قام إبراهيم مع إسماعيل بتعميره ثانيةً متتبعًا آثاره السابقة. فإن إبراهيم عندما ترك هاجر وإسماعيل دعا بالكلمات التالية:

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (إبراهيم:38)..

وفي هذا دليل على أن بيت الله كان قد بُني قبل زمن إبراهيم . وقد أشار الله إلى هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين (آل عمران:97)

أي أن أول بيت بُني لنفع الناس روحانيًّا ولحماية إيمانهم إنما هو ذلك الذي بمكة. لقد جُمعت فيه للناس جميع البركات وكل سبب للفضل والرحمة. وفي هذه الآية الكريمة يلفت الله تعالى أنظار البشرية إلى قِدَم تاريخ الكعبة من أجل أن يبين لهم أن المركز الأصلي والحقيقي لدين الله تعالى هو الكعبة، وأن المراكز التي اتخذها اليهود والنصارى وغيرهم إنما تنتمي إلى أزمنة متأخرة. وكما ذكر الله فى الآية السابقة لهذه الآية،أن بعض الأطعمة المعينة التي امتنع اليهود عن تناولها من عند أنفسهم لم تكن في الأصل محرمة، ولكن جاء تحريمها فيما بعد، كذلك فإن قبلتهم لم تكن هي القبلة الأصلية، ولكنها اتُّخذت قبلة فيما بعد. فالقرآن يلفت الأنظار إلى البدايات الأولى للأسرة البشرية الأولى، وبيت العائلة البشرية الأولى.وبعد أن أشار القرآن المجيد إلى الدليل التاريخي في جانب الكعبة وأنها بيت العائلة البشرية، يذكر الكتاب العزيز أن العقل أيضا يفرض أن تكون الكعبة المشرفة بوصفها بيت العائلة هي القبلة. وتقدم الآية الكريمة أسبابا ثلاثة تبين أن الكعبة هي أحق بأن تكون القبلة أو المركز لدين الله تعالى.
السبب الأول كما تومئ الكلمات (مقام إبراهيم) هو أن إبراهيم قد أتى إلى هذا المكان ودعا الله فيه. ومقام إبراهيم موضع خاص عند الكعبة، أمر الله المسلمين بأداء ركعتين نفلا فيه بعد الطواف بالبيت. ويبدو أن إبراهيم بعد أن فرغ من بناء الكعبة صلى في هذا المكان صلاة شكر لله، وإحياء لهذه السنة الإبراهيمية أمر الله المسلمين بأداء ركعتين هناك. إلا أنني أرى أن قوله:

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ،

يعني أن تسعوا لتحوزوا في العبادة والطاعة مقاما تبوَّءه إبراهيم فيهما. إن الناس يظنون خطأ أن المراد من مقام إبراهيم موضع مادي، مع أن المقام الحقيقي لإبراهيم هو مقام الإخلاص والتقوى والاستسلام الذي كان يتمتع به، والذي عن طريقه رأى ربه. وكأنه يقول: عليكم أن تحبوا الله كما أحب إبراهيم ربه، وتضحوا في سبيل الله كما فعل، وتشتركوا في فعل الخيرات بنفس الإخلاص والحب والتقوى والإنابة الذي كان يتمتع به إبراهيم. لو فعلتم ذلك لنلتم مقامه. فليس المراد من مقام إبراهيم هنا موضعا ماديا، ولكنه مقام روحي. وفي لغتنا أيضًا يقولون: “لم تعرف مقامي”. ولا يفهم منه السامع أنه المكان الذي يجلس فيه، وإنما يدرك على الفور أنه يعني مقامه في رفعة القدرة والمكانة ولو تمسكنا بالمعنى الظاهري. أي يقف كل مُصَلٍّ في مقام إبراهيم. فهذا مستحيل. أما المسلمون الآخرون في أنحاء العالم فلا يمكن أن يصلوا في هذا المكان لبعدهم عنه فلو حملنا هذا الأمر على الظاهر ما أمكن أن يعمل به المسلمون. ثم إن قوله تعالى:

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

حض على أن نؤسس في المدن والأماكن الهامة مراكز للدعوة تكون ظلا للكعبة المشرفة وسببا لنشر الإسلام؛ حيث يجلس الناس يعبدون الله، وينشرون توحيده. يقول الله: يا من تَدَّعون بعشق الكعبة المشرفة، ويا من تدينون بحب بيت الله الحرام، ما بالكم تصوّرون كل منظر يعجبكم مثل “تاج محل” وتحتفظون بصورته في بيوتكم، وتعرضونه على أهلكم وأولادكم؟ وإذا أعجبتكم فاكهة أتيتم بها إلى بيتكم وتطعمونها أهليكم؟.. ولكن ما بالكم لا تحاولون أن تأتوا بصورة الكعبة إلى بلادكم وإلى أحيائكم؟ ما هي الكعبة المشرفة؟ إنها بناء وقفٌ لعبادة الله. ولكن البديهي أنه لا يمكن للعالم كله أن يزور الكعبة، لذلك فإن الله كما يريد أن يوجد في العالم نُسخ أو صُوَر لإبراهيم.. كذلك يريد تعالى أن تصنعوا للكعبة نسخا تجلسون فيها أنتم وأولادكم، واقفين مكرِّسين حياتكم لخدمة الدين. وكما أن الذين سوف يتبعون أسوة إبراهيم يكونون أولادا وأظلالا لإبراهيم، كذلك ستكون هذه النسخ أظلالا أو نماذج للكعبة. والحق أنه ما لم تُقَم أظلال للكعبة في كل أرجاء الأرض لا يمكن نشر الدين. يقول الله ناصحا بني الإنسان:

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .

قوموا مقام إبراهيم، ومنه اعبدوا الله – أي أَنشِئوا مراكز لنشر الدين، لأن انتشار الدين بصورة كاملة لن يتم بدون ذلك.(2)
والسبب الثاني لأن تكون الكعبة هى قبلة الحاج وقبلة الصلاة تشير إليه كلمات الآية:

وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ،

وهو أن الكعبة لا تقدم مجرد وعد بأن من يدخلها يكون آمنا، ولكنها تقدم له الأمن والأمان فعلا. فلم يحدث قَط للكعبة المشرفة أن سقطت في أيدي أناس لا يحملون لها ما ينبغي لها من الاحترام والتقديس. وحتى في أيام الجاهلية، حين كانت القبائل العربية الوثنية في نزاع وحروب مستمرة، كانت منطقة الحرم التي تقع فيها الكعبة تعتبر منطقة مقدسة، ولم يكن يُسمح فيها بأي قتال. ومن الناحية الروحية، هي مكان للأمن والأمان أيضا لمن دخلها بالتعبير الروحي، أي من دخل في دين الإسلام، فإن هؤلاء يدخلون في كنف الله تعالى ويتلقون أفضاله ويكونون في مأمن من غضبه وعقابه.
والسبب الثالث الذي يجعل الكعبة أحق بأن تكون هي القبلة، يشير إليه قوله تعالى:

وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .

وتتضمّن هذه الكلمات نبوءة بأن الكعبة سوف تظل دائما هي المركز الذي يؤم إليه الناس من مختلف البلاد ومن مختلف الأمم لأداء فريضة الحج. وتحقق هذه النبوءة هو برهان يدل على حقيقة أن الله تعالى قد اختار الكعبة لتكون هي القبلة لجميع الناس والأمم. وعلى كل مسلم يجد في نفسه القدرة على أداء الحج إلى مكة، ينبغي عليه القيام بأداء هذه الفريضة مرة واحدة في حياته. فإذا أدّاها أكثر من مرّة، يكون ذلك عبادة تطوعية من جانبه. ويتضمن قوله تعالى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ثلاثة شروط: (1) أن تتوفر للحاج وسائل الانتقال اللازمة للقيام بالرحلة؛ (2) أن يتوفر له المال اللازم ليتحمل النفقات المطلوبة؛ (3) أن يتوفر الأمن والسلام في الطريق طوال الرحلة (أبو داود). فإذا كان المرء مريضا فلا ينطبق عليه في تلك الحالة قول الله تعالى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وعلى ذلك يسقط عنه واجب أداء الفريضة. وقوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ يبين أن من يرفض قبول الكعبة باعتبارها قبلة للناس، رغم جميع الدلائل التي جاءت في هذا الشأن، فعليه أن يتذكر جيدا أن هذه الأوامر الإلهية قد جاءت لخير الإنسان نفسه؛ وعلى هذا إن لم يلتزم بها المرء فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى بشيء، فإن الله غَنيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .ولكننى هنا أود أن ألفت الأنظار إلى أن الحكومات التى جعل الله حماية وخدمة بيت العائلة الأول (الكعبة)، أعطت لنفسها الحق فى منع المسلمين الأحمديين المسالمين الحافظين لأمن البيت، أقول أعطت لنفسها الحق فى أن تصدهم عن البيت، وجعلت ركن الحج عير مستطاع على بعضهم، فخلفاء الجماعة الذين هم أصلا رجال السلام فى العالم يمنعون عن بيت العائلة الإنسانية، ألا يستحق هذا الأمر إعادة تفكير من العقلاء.

والحق أنه ما لم تُقَم أظلال للكعبة في كل أرجاء الأرض لا يمكن نشر الدين. يقول الله ناصحا بني الإنسان: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . قوموا مقام إبراهيم، ومنه اعبدوا الله – أي أَنشِئوا مراكز لنشر الدين، لأن انتشار الدين بصورة كاملة لن يتم بدون ذلك.

الحكمة من بعض مناسك الحج:
ومع الفلسفة العميقة للحج، وللجلوس معا كبشر كل عام فى بيت العائلة الأول، والشعور العميق بصلات الرحم الإنسانية القديمة فى ظل البيت العتيق، حيث يمكن أن تذوب هناك كل الخلافات والنزاعات، يقوم البعض بلمز فريضة الحج من قريب أو من بعيد، وخاصة شعيرة الهدى والذبح، وقد بين المسيح الموعود فى كتابه “فلسفة تعاليم الإسلام” الحكمة من الأوضاع الظاهرة فى العبادات حيث قال حضرته: “وإذا أمعنَّا النظر تبين لنا أن الفلسفة الصحيحة الصائبة للغاية هي أن للأوضاع الجسمانية تأثيراً قوياً في الروح.. فإننا نرى أن أفعالنا الطبعية، وإِن كانت جسمانية، يكون لها في حالاتنا النفسية والروحانية أثر محسوس يقينا. فالعين مثلاً إِذا أخذتْ في البكاء ولو تصنُّعاً.. فلا بد أن تنبعث من الدموع لوعة تسري إِلى القلب، يَخضع لها ويكتئب. وكذلك لو ضحِكنا وإِن يكن تكلُّفاً اكتسب الفؤاد فرحاً وانبساطاً. وكذلك نرى أن السجود الجسماني يولّد في نفس الساجد حالة من التضرع والخشوع. كما نشاهد بالعكس أنه لو مشى الإِنسان رافعا رأسه مبرزا صدره، فمشيته هذه تولد فيه كبراً وغطرسة. ومن هذه الأمثلة يتبين تماما أن للأوضاع الجسمانية أثراً في الحالات الروحانية من دون ريب.) (3). كذلك فإن قيام الإنسان بذبح الهَدْي وهو حيوان عزيز عليه، إنما هو عملية تمثيلية لذبح نفسه الأمارة، فليس الذبح الا أن تتل هذه النفس للجبين، ثم تهوى عليها بسكين، وتتقرب إلى الله بها وبأهوائها ورغباتها، وتستسلم لله رب العالمين وترضى بقضائه، وأن تكون مستعدا لقبول كل ذلة وأذى فى سبيله، وأن لا تعرض عنه عند حلول المصائب والشدائد، بل تمشى إليه قدما بل مستعدا للتخلى كلية عن النفس.. فالذين يفرحون بذبح الخرفان والإبل والبقر ظانين أنهم قد وصلوا بذلك إلى الله تعالى، فهم مخطئون، إذ قد صرح الله تعالى هنا أن هذه القرابين الظاهرية ليست بشيء. تذبحون الأنعام بأيديكم، وتأكلون اللحوم بأنفسكم، فما لها ولله؟ إن هذه الذبائح إنما هي تعبير عن حقيقة بلغة تصويرية تكمن وراءه حكمة عميقة. فالرسام مثلاً يرسم الصور، ولكن هدفه ليس رسم الصور فقط، بل يحاول بها إيصال بعض المعاني العظيمة إلى القوم. فتارة يرسم السلسلة، ويرمز بها إلى الوحدة القومية، وحينًا يرسم منظر طلوع الشمس، ويقصد بها رقي القوم. وبالمثل فإن القرابين الظاهرة هي الأخرى من قبيل لغة الرسم والتصوير، ومضمونها أن الذي يذبح هذا الحيوان هو جاهز ومستعد لأن يضحي بنفسه أيضًا. إذًا، فالذي يقدم القربان يقر بأنه سيضحي في سبيل الله تعالى بنفسه ونفيسه. وكأن كل إنسان يقرّ من خلال أضحيته أنه إذا اقتضى الأمر للتضيحة بنفسه فى سبيل الله، ولشفقة على الخلق لَفعَل، وهذا معنى توزيع لحوم القرابين على الآخرين، وكأن الإنسان يعطى نفسه كاملة لخدمة الآخر. فكل شعيرة فى الإسلام قشر ولب أو جوهر، والتأثير الروحاني الذي يتولد من هذه الشعائر هو اللب والجوهر. وفي القرابين أيضًا يكون لب وقشر، فذبح الحيوان هو بمثابة القشر، والإخلاصُ الذي يكون وراء الذبح هو اللب، ولذلك قال الله تعالى:

لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ .

ورب قائل يقول: إذا كانت التقوى هي الغاية في تقديم القربان فما الداعي لذبح هذه الحيوانات؟ والجواب على ذلك كالآتي: أولاً: ما سبق بيانه بأن لكل لب قشرًا. وثانيًا: إن قشر القربان، أي ذبح الحيوان، ليس بدون فائدة، بل إنه ينفع الفقراء. فالفقراء يظلون محرومين عادة من الطعام المغذّي لأجسامهم، ففرض الله على الناس نوعًا من الصدقة تُقدَّم فيها قرابين الحيوانات لكيلا تعاني قلوب الفقراء من الحسرة الدائمة ولا يظلوا محرومين من هذا الغذاء الضروري نتيجة ضيقهم المادي ومن أجل ذلك يقول الله هنا إننا قد وهبناكم هذه الأنعام لتذكروا اسم الله عليها كما أمركم، وتقوموا برعاية المساكين، واعلموا أن الذين يعملون بأحكام الله تعالى ينالون جوائز كبيرة. وهذا المعنى العظيم لذبح النفس هو مابينه بطريقة رائعة المسيح الموعود فى الخطبة الإلهامية.حيث يقول حضرته:

“وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ فيِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ، فَهَذَا الاِشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ فيِ الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ، وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ، لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ. وَذَبَّ الْهَوَى، حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى. وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هَذِهِ الْهَوْجَاءِ. وَمَنْ فَكَّرَ فيِ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلاَ يَبْقَى لَهُ خَفَاءٌ وَلاَ مِرَاءٌ، فيِ أَنَّ هَذَا إِيمَاءٌ، إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاَءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمِرَارَةِ، لِتَنْجُو النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الإِسْلاَمِ، وَحَقِيقَةُ الاِنْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ فيِ حِينٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلاَمِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا فيِ الإِسْلاَمِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهَذَا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُوْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَّفْهَمَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلُهَا فيِ نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِي فيِ كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلاَ يَهْدَأْ وَلاَ يَسْكُنْ قَبْلَ أَدَاءِ هَذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ. وَلاَ يَقْنَعْ بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاَءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ، وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هَذَا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغَايَةُ مَقْصَدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يَخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.
وَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى هَذَا فَقَدْ بَلَّغْتَ جُهْدَكَ إِلَى الانْتِهَاءِ، وَفُزْتَ بِمَرْتَبَةِ الْفَنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَبْلُغُ شَجَرَةُ سُلُوكِكَ إِلَى أَتَمِّ النَّمَاءِ، وَتَصِلُ عُنُقُ رُوحِكَ إِلَى لُعَاعِ رَوْضَةِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَالنَّاقَةِ الْعَنْقَاءِ، إِذَا أَوْصَلَتْ عُنُقَهَا إِلَى الشَجَرَةِ الْخَضْرَاءِ”. (4)

المراجع
1- التفسير الكبير المجلد الثانى صفحة 150 وما بعدها بتصرف
2- التفسير الكبير المجلد الثانى صفحة 157 بتصرف
3- كتاب فلسفة تعاليم الإسلام صفحة 9
4- كتاب الخطبة الإلهامية صفحة 16-17

Share via
تابعونا على الفايس بوك