غاية خلق الإنسان
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (الآية: 23)

شرح الكلمات:

يسيّر: سار: ذهب في الأرض. سيّره: جعله سائراً (الأقرب).

الفُلك: السفينة. يذكّر ويؤنّث (الأقرب).

عاصف: عَصَفَ الزرعَ: جزَّه قبل أن يدرك. عصفت الريحُ عصفاً وعصوفاً. اشتدت. العاصفُ: المائلُ من كل شيء (الأقرب).

ظنّوا: الظّن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويُستعمل في اليقين والشك (الأقرب).

أُحيط: أحاط بالأمر: أحدق به من جوانبه. وأُحيط به: دنا هلاكه (الأقرب).

الدين: هو الجزاءُ والمكافأة؛ الطاعةُ؛ الذلُّ؛ الحسابُ؛ القهرُ والغلبة والاستعلاء؛ السلطانُ والملك والحكم؛ التدبيرُ؛ اسمٌ لجميع ما يُعبد به الله؛ الملةُ؛ الورعُ؛ القضاءُ (الأقرب) وهناك معانٍ أخرى للكلمة تركناها لعدم انطباقها هنا.

التفسير:

لقد صرّح في الآية أنه تعالى يواصل بدوره إنزالَ فضله أو عقابه، ومن ناحية أخرى يستمر الكفار بدورهم في شرورهم وقت الرخاء والراحة او في توبتهم الناقصة عند الضيق والعقاب. ولكنهم لا يفكرون – للأسف – أنه كما تتحول الريح الهادئة الطيبة على إعصار مدمّر، كذلك فمن الممكن تماماً أن ينقلب الفضل الإلهي عليهم إلى عذاب مهلك. فنبّههم إلى ما يمرون به من ظروف وطوارئ في البر والبحر، ولبيان ذلك ضرب لهم مَثَلَ سفرهم على مياه البحر، لكون الماء ذا علاقة بالوحي الإلهي، وقال: فكما أن الريح الطيبة في البحار تأخذ شكل الطوفان المدمّر أحياناً، كذلك يمكن أن يحدث مع الكفار، فلذا يجب ألا يغتر أعداء الأنبياء هؤلاء عندما يمهلهم الله تعالى برفع العذاب عنهم، فلا يظنوا خطأً أنه قد رُفِع وزال عنهم إلى الأبد، بل عليهم أن يخشوا أن يكون وراء هذا الهدوء المؤقت عاصفةٌ هوجاء.

كما بيّن الله عز وجل أنه عندما يصيبكم العذاب تلين قلوبكم وتستكين مستيقنةً أن لا قِبل لكم بمكر الله وكيده، وتَعِدون الله وعوداً عريضة بالتوبة والإصلاح، ولكن هل تبقون بعدئذ على هذه الاستكانة والخشوع؟ هذا ما يرد عليه الله في الآية التالية.

لقد استخدم في بداية الآية ضمائر الخطاب واستبدل بها ضمائر الغائب فيما بعد. لماذا؟ الواقع أن في ذلك إشارةً إلى أمر لطيف للغاية وهو أن ضمائر الخطاب في البداية كانت تشمل المؤمنين والكفار معاً، لأن الله تعالى قد خلق أسباب الرحلات البرية والبحرية للناس كافة، سواء المؤمن فيها أو الكافر، ولكنّ فريقاً منهم يتجه بعد ذلك إلى الكفران بهذه النعمة، فلذا بدّل الضمائر فيما بعد مشيراً فقط إلى الفريق الكافر بالنعمة، وقال: عندما تجري بهم السفن على مياه البحار يأتون بهذه الأعمال المتضاربة، حيث يتوبون إلى الله وقت الشدة متضرعين، ثم بعد الفوز بالنجاة يولّون عنه مدبرين.

أموال الدنيا وأسبابها إنما هي بمثابة الزاد، وكما أن المسافر إذا أضاع زاده تضرر وهلك كذلك فمن بذّر أمواله فيما لا يحقق غاية خلقها ووجودها تضرر وبقي محروماً من تحقيق غاية خلقه، ألا وهي اللقاء بالله والوصال به جل شأنه.

(فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الآية:24)

شرح الكلمات:

يبغون: بغى يبغي بغياً وبُغاء وبُغية وبِغية: طلبَه. بَغَت الأَمَةُ: زنت. وبغى فلان: عدا عن الحق واستطال عليه وظلمه (الأقرب).

متاع: المتاع: كلُّ ما يُنتفع به من الحوائج كالطعام والبزّ وأثاث البيت والأدوات والسلع؛ وقيل: المتاع في اللغة كلُّ ما يُنتفع به من عروض الدنيا كثيرِها وقليلها سوى الفضة والذهب، وعُرفاً كلُّ ما يلبسه الناس ويبسطونه. وقال في الكليات: المتاع والمتعة: ما يُنتفع به انتفاعاً قليلاً غير باقٍ، بل ينقضي عن قريب. وأصل المتاع ما يُتبلغ به من الزاد (الأقرب).

التفسير:

لقد بين هنا أنكم ترجعون إلينا عند حلول الشدائد، وتسلكون سبيل البغي والفساد مرة أخرى عندما نرفعها عنكم، دون التفكير أن وبال غيّكم وتمردكم سيكون عليكم. ذلك ليبيّن أن أحكام الشرع ليست بضريبة حتى يظن الإنسان أن تهربّه منها يخلصه من المصيبة، وإنما يأمره الله بها لينجو بالعمل بها من الهلاك، فتهرُّبه منها لن يضر إلا نفسه. والحق أنه عندما يكون فرحاً فخوراً على تمكنه من الهروب منها فإن مستقبله يبكى عليه لما ينتظره من مصير تعيس. فكلمة (إنما بغيُكم على أنفسكم) تشير إلى أن الإسلام لا يعتبر الشرع لعنة، بل رحمة ربانية، وأن الله تعالى إنما يأمر الناس بما ينفعهم، ففرارهم من اتباع الأوامر الإلهية لن يؤدي إلا إلى هلاكهم هم، شأنهم في ذلك شأن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب، فهل تؤدي مخالفته له إلا إلى زيادة مرضه وتفاقم آلامه؟

وبقوله تعالى (متاع الحياة الدنيا) ردّ على سؤال هام: لماذا نرى أحياناً أناساً يخالفون الشرع ويعارضون الأنبياء ومع ذلك يحققون رقياً مادياً ويجنون مُتع الدنيا؟ فقال: هناك أعمال وممارسات يجد الإنسان متعة عند القيام بها، ولكن عندما تظهر عواقبها بعد حين يجدها وخيمة مهلكة، فمثلاً يتناول المريض في بعض الأحيان طعاماً ضاراً بصحته ومع ذلك يجد في أكله متعةً ولذةً، ولو أنه تضرر فور أكله لامتنع عنه، ولكنه يدرك بفداحة خطئه فيما بعد عند اشتداد مرضه وآلامه.

كما أشار الله عز وجل – بتسمية الأموال الدنيوية متاعاً – إلى أن أموال الدنيا وأسبابها إنما هي بمثابة الزاد، وكما أن المسافر إذا أضاع زاده تضرر وهلك كذلك فمن بذّر أمواله فيما لا يحقق غاية خلقها ووجودها تضرر وبقي محروماً من تحقيق غاية خلقه، ألا وهي اللقاء بالله والوصال به جل شأنه.

عند نزول الكلام الإلهي تقع في العالم انقلابات عظيمة، وتُخترع العلوم والمعارف صنوفاً وأنواعاً، كما حدث لدى نزول القرآن الكريم، حيث نبغ من بين المسلمين علماء أفذاذ في جميع المجالات من أولياء ومحدثين وفلاسفة وغيرهم

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الآية: 25)

شرح الكلمات:

مَثل: المَثَل: الشِّبهُ والنظير؛ الصفةُ؛ الحُجةُ؛ الحديثُ؛ القولُ السائر (الأقرب).

اختلط: امتزج واختلط الجَمَل: سمن؛ واختلط الظلام اعتكر (أي اشتد) (الأقرب).

الأنعام: واحدها: نَعَم؛ وهي الإبل والشاة؛ وقيل: خاص بالإبل. قال أبو عبيدة: النَعَم الجِمال فقط، ويؤنّث ويذّكر. وقيل: الأنعام: ذوات الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم. وقيل: يُطلَق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمٌ، وإن انفردت الغنم والبقر لم تُسَمَّ نعماً (الأقرب).

زُخرف: الزُّخرف: الذهبُ؛ كمالُ حُسنِ الشيء. والزخرف من الأرض: ألوان نباتها (الأقرب).

حصيداً: حَصَدَ الزرع: قطعه بالمنجل. الحصيد: المقطوعُ بالمنجل؛ المستأصَلُ.

لم تغنِ: غني بالمكان: أقام به. وغني فلان: عاش (الأقرب).

التفسير:

في هذه الآية تمثيل. يقول الله تعالى إن مَثل الحياة الدنيا ومتعها كمثل الماء، فكما أن الماء ينزل من السماء، وبه تنبت الأرض الخضرة أصنافاً وألواناً، منها ما يأكله الناس ومنها ما تأكله الحيوانات الأخرى. وبرؤية هذه النباتات الخضرة النضرة يظن الإنسان أن كل هذا حدث بجهوده ومهارته، وبدلاً من أن يقول: هذا من فضل ربي، يظن أنه هو القادر على إحياء هذه الأرض.. عندها يأتيهم أمر الله أي نحيطها بالعذاب الذي يدمرها تدميراً كاملاً، فلا يستطيع هذا الذي يزعم أنه قادرٌ على إحيائها بجهوده ومهارته أن يحميها من العذاب. كذلك حال الأمم، فإذا أصابهما داء الكِبْر والتباهي تراها قد آذنت بالهلاك والدمار.

لقد شبّه الله هنا كلامه بالماء. ذلك لأنه عند نزول الكلام الإلهي تقع في العالم انقلابات عظيمة، وتُخترع العلوم والمعارف صنوفاً وأنواعاً، كما حدث لدى نزول القرآن الكريم، حيث نبغ من بين المسلمين علماء أفذاذ في جميع المجالات من أولياء ومحدثين وفلاسفة وغيرهم، حتى أتى على المسلمين زمان ظنوا أنهم قادرون على العلوم كلها وأنهم قد حصَّلوها بمهاراتهم فقط، عندها أمسى هؤلاء العباقرة الأفذاذ أذلة مهانين في العالم. الحق أن هذه التغيرات الهائلة إنما تقع بسبب العامل نفسه الذي يُبعث من عند الله عز وجل، ولكن عند اختفائه عن الأنظار يشرع الناس في الظن أن هذا كله إنما حدث بفضل جهودهم ومهارتهم.

وأما قوله تعالى كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون فاعلموا أن الفِكر معناه حفظ ما يوجد بين أحداث الماضي من ترابط وتعلق. فالمعنى: إنما ينتفع من الهدي الإلهي مَن هُم واعون دوماً لأحداث الماضي ويعتبرون بها. وأما الذين ينسونها فلا ينتفعون من الهداية السماوية.

كما وتتضمن الآية إشارة إلى أن كل أمة – مهما كانت قريبة العهد بنبيّها- لا يزال فيها الأشرار يحيون مع الأبرار، ولكنها لا تهلك ما دام أبناؤها يخشون الله تعالى ويتوكلون عليه، وأما إذا أخذ داء الكِبْر والغرور يتفشى فيها هلكت وبادت. فلا تقاوموا نبيكم، لأن معارضته دليل على الغرور، والمغرور هالك لا محالة. وتذكر الآية أيضاً أنه ما من كلام ينزله الله تعالى إلا ويختلف فيه الناس. فمنهم من يراه خيراً ومنهم من لا يرى فيه أي خير. ولكن الواقع أن الله تعالى لا يريد بإنزاله إلا أن يظفر عباده باتِّباعه بالدار التي ينعمون فيها بالراحة الحقيقية والسلام الحقيقي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك