من رضي الله عنهم؟ ومن هم عن ربهم راضون؟
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (157)

شرح الكلمات:

مصيبة-المصيبة كل مكروه يحل بالإنسان لا يفلت منه.

التفسير:

تعني هذه الآية أن المؤمن إذا أصابه الأذى فإنه لا يلجأ إلى الجزع والفزع، وإنما يقول بكل يقين وإيمان إنه لله وإنه راجع إليه. وهذا هو النموذج الذي يتوقعه الله من عباده المؤمنين. يريد ألا يجزعوا عند المصيبة، وإنما يتوكلون على الله، ويقولون بكل صدق واضعين في اعتبارهم أن الله يراهم ويسمعهم..(إنا لله وإنا إليه راجعون). وهذه تبدو في الظاهر كلمات وجيزة، ولكنها تتضمن معاني واسعة للغاية.

هذه الكلمات جملتان: الأولى: إنا لله، والثانية: وإنا إليه راجعون. فالجملة الأولى تبين أن المالك لشيء لا يدمره بيده، بل يسعى للحفاظ عليه. من يدمر ممتلكاته بيده بالغ الحماقة. فالعبد إذا صار حقا لله تعالى، واعتبر الله مالكا حقيقيا له..لا يمكن أن يتوهم أن ما استرده الله منه من مال أو متاع، أو ما حل به من مصيبة..كان لتدميره وإهلاكه. المؤمن الذي يستيقين أنه لله، وأنه في حضن الله كالطفل في حضن أمه.. أنّى له أن يتصور أنه يدمَّر ويُهلك وأن مصائبه لن تزول؟ الواجب على الحامي أن يحمي صاحبه من الأذى والخسارة، فكيف بالله تعالى وهو أعظم الحُماة والحافظين.. ألا يحمي عبده المؤمن من التبار والدمار؟ إن الله عندما يسترد شيئا من عبده فلا يعني ذلك أنه يريد تدمير ما استرده، بل إنه تعالى يختار لما استرده مكانا أفضل. ومثال ذلك ما يفعله النسوة في البيت عند عملهن في تنظيفه.. فإنهن يرفعن بعض الأشياء من أماكنها حفاظا عليها. أو مثال الفلاح الذي يلقي بالبذر في أرض الحقل، فيبدو للمشاهد أنه يضيع البذر، ولكن الفلاح لا يبكي على بذره لأنه يعرف أن ما فعله ليس إهلاكا للبذر وإنما هو ازدهار له، إنه سوف يرى البذر المفقود في الظاهر قد أعيد إليه زروعا مخضرة تميل وتهتز. كذلك العبد يستيقين أنه مهما يفعل الله معه فإنه يفعله لخيره..فلا يصيبه الجزع والفزع وقلة الصبر.

إذا أراد الإنسان تشييد بناء جديد جميل فإنه يهدم البناء القديم، ولا يبكي على ذلك بل يُسَرّ ويفرح. وإذا قصّ الخيّاط قماشا فلا مبرر للقماش –على فرض أن للقماش قلبا وعينا –أن يحزن ويبكي لأنه يعرف أنه سوف يجعله بذلك أحسن مظهرا وأعلى قيمة. كذلك الحال مع الإنسان.. لو استيقين أن الله تعالى هو مالكه، وأن كل تغيير يحدثه به سيكون لخيره.. فلن يجزع ولن يفزع. نعم، إن التعيير عن إظهار الهَمّ والغم لا يتنافى مع الصبر. عندما تخرج الفتاة من بيتها إلى بيت زوجها يبكي أبوها.. ولا يسمى هذا البكاء جزعا أو فزعا، لأن الهَمَّ والغم إحساس طبعي، يتولد في كل إنسان عند المصيبة، وعلامته الثقل على القلب والدموع من العين. أما الجزع والفزع فهو بمثابة الشكوى من الله تعالى.. وكأن صاحبه يقول: لقد أهلكتني ودمرتني، وهذا ما يتنافى مع إيمان المؤمن وتوكله على الله تعالى. فقوله (إنا لله) بيّن أنه عند نزول المصيبة يظن الكافر أنه قد هلك، ولكن المؤمن برى أن الله تعالى قد أخفى له في هذا الابتلاء خيرا وبركة.

ثانيا-يعني أيضا قوله (إنا لله) أن المؤمن عندما يصاب بأذى يقول على الفور: إن علاقتي بهذا الشيء الذي فقدته كانت علاقة مؤقتة، وإنما علاقتي الدائمة بالله تعالى.. ولأجله –سبحانه-كنتُ على صلة بهذا الشيء، فإذا أراد الله لحكمةٍ ما أن تنقطع صلتي بهذا الشيء فما وجه الاعتراض على هذا؟ ونجد مثالا لذلك في حياة سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام. تُوفي أصغر أخوتنا –مبارك أحمد-في حياته. ولما كان أصغر الأولاد أحبهم إلى الآباء..لذلك كان سيدنا المهدي يحبه كثيرا، وكان يخصه بالحب أيضا لأنه كان يعاني من المرض عادة. كنتُ في الثامنة عشرة عند وفاته. وأشرف على علاجه في مرضه الأخير عدد من الأطباء منهم سيدنا نور الدين الخليفة الأول لسيدنا المهدي، والطبيب خليفة رشيد الدين، والطبيب سيد عبد الستار شاه. وفي صباح اليوم الذي توفي فيه رجع سيدنا المهدي من صلاة الفجر إلى البيت يصحبه هؤلاء الأطباء.. وكان أخي في ضعف شديد وإن بدا وجهه في حالة طيبة. وفحصه الأطباء وقالوا إنه في تحسن واطمأنوا.. ولكن سيدنا نور الدين كان أكثر خبرة لذلك أدرك أن الولد في حالة خطيرة. ففزع وأخذ يفحص نبضه فوجده ضعيفا، فالنبض يضعف عندما يقترب الإنسان من الموت. فوضع يده تحت إبط الطفل فلم يجد نبضا. فقلق والتمس من سيدنا المهدي أن يسرع بإحضار المسك. ولما كان يحب سيدَنا المهدي أشد الحب، ويعلم أنه يحب ابنه حبًّا جمًّا، وأحس بخطورة حاله.. اشتد جزعه، ولم يستطع أن يتمالك نفسه فجلس، وقال: يا سيدي، أسرِع بإحضار المسك! ففهم سيدنا المهدي من صوته وطريقته أن حالة الولد ليست على ما يرام. فعاد دون إحضار المسك وقال: هل مات الطفل؟ فقال الخليفة الأول: نعم. فقال سيدنا المهدي على الفور: إنا لله وإنا إليه راجعون.. ولم يُصبه أي فزع أو جزع، بل جلس يكتب الرسائل إلى أبناء الجماعة أن الابتلاءات تأتي على المؤمنين… فيجب على المؤمن ألا يفزع منها، بل يكون قوي الإيمان. وأضاف: لقد أخبرني الله بوفاة مبارك أحمد قبل ذلك.. وأخبرني أنه سيموت صغير السن، فبوفاته تحقق نبأ الله (سيرة المهدي لمرزا بشير أحمد، رواية رقم 154). ثم كتب على شاهد قبره أبيات منها.

الفلاح الذي يلقي بالبذر في أرض الحقل، فيبدو للمشاهد أنه يضيع البذر، ولكن الفلاح لا يبكي على بذره لأنه يعرف أن ما فعله ليس إهلاكا للبذر وإنما هو ازدهار له، إنه سوف يرى البذر المفقود في الظاهر قد أعيد إليه زروعا مخضرة تميل وتهتز. كذلك العبد يستيقين أنه مهما يفعل الله معه فإنه يفعله لخيره..فلا يصيبه الجزع والفزع وقلة الصبر.

بالأولاد

أي إن الذي دعاه أحَبُّ إلينا.. فعليك يا قَلبِ أن تفدي به هو. وهذا البيت إنما هو في الحقيقة ترجمة لقوله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون).

فالمؤمن إذا أصيب بخسارة فإنه يقول: إن علاقتي الحقيقة هي بالله تعالى، فإذا رأى الله أن يدعوا إليه حبيبا من أحبائي فلماذا أشكو من ذلك؟ وكيف أشكو؟ ما دعاه الله إليه كان مِلكا له، وهو أحق باسترداد ماله، فنرضى بما يرضي به ربنا.

ثالثا-إن المؤمن لا يقول (إني لله) بل يقول (إنا لله)، وذلك لكيلا يتم الاعتراف بصورة فردية، بل يجب أن يكون كل إنسان على يقين وبصيرة أن كل شيء في الدنيا ملك لله تعالى، وأن علاقة المرء بالأشياء علاقة مؤقتة؛ فلا يحق لي وحدي، بل لأي إنسان في العالم، أن يعترض على فعل لله، أو أن يتأفف من لُقمة ذات مرارة ينالها منه تعالى.

جاء في (مثنوي) لمولانا الرومي أن سيدنا لقمان –وهو عند البعض من الأنبياء –كان صغيرا عندما استرقه بعض الناس بعد وفاة والديه، وباعه لتاجر. ولما رأى التاجر ذكاءه ونشاطه لم يعامله معاملة العبيد، بل أحبه. وذات مرة جاءته هدية من فاكهة الشمام من نوع جديد. فقطع قطعة منها وناولها لقمانَ. فتذوقها ووجدها مُرّة، ولكنه أتم أكلها متظاهرا بأنها حلوة. فناوله الرجل قطعة أخرى فأكلها متظاهرا أنها جيدة وحلوة. وظن التاجر أن الشمام جيد، فأخذ لنفسه قطعة منه وتذوقها فوجدها مُرّة، فقال للقمان ساخطا: لماذا لا تخبرني حتى لا أطعمك إياها؟ فقال: لقد أكلت من يديك كثيرا من الأطعمة الحلوة من قبل، فلست قليل المروءة بحيث أرد ما أعطيتني شاكيا مرارته (مثنوي معنوي للرومي، دفتر 2ص 38).

هذا هو مفهوم (إنا لله). لقد متعنا الله تعالى بكثير وكثير من نعمه. فأي حرج لو استرد واحدة لحكمة أرادها؟ وأسعدنا بآلاف الأفراح، فأي ضير أو بأس لو حلت بنا مصيبة بإذنه؟ فكل ما عندنا عطية منه، ولو أنه استعاد شيئا فمن الحمق الشديد أن نجزع لذلك.

ورابعا –والمعنى الأفضل الأجدر بمقام المؤمن لقوله (إنا لله) هو أن كل النعم لله تعالى وهو صاحبها، فلو استرد منها شيئا فلا بأس؛ بل لو أراد استرداد كل ما عندنا فنحن مستعدون للتخلي عنه في سبيله سبحانه وتعالى. وهناك أمثلة كثيرة لهذه الروح في حياة الصحابة الكرام. كان سيدنا عثمان بن مظعون أحد كبار الصحابة المخلصين الذين آمنوا بالرسول في مكة..وكان المصطفى يحبه حتى إنه عندما تُوفي ابنه إبراهيم قال له: اذهب إلى حيث أخوك عثمان بن مظعون. وكأن الرسول اعتبره أيضا ابنا له. كان عثمان بن مظعون ابنا لواحد من كبراء مكة، وعندما توفي أبوه أخذه أحد أصدقائه في ذمته وجواره وأعلن: هذا ابن أخي، فلا يتعرض له أحد.

وتمتع عثمان بهذا الأمان لبعض الأيام، ويغدو ويروح بحرية ولا يمد له أحد يدًا بسوء. ولكن ذات مرة يوم رأى فريقا من الكفار يعذِّبون بعض المسلمون من المستضعفين والعبيد تعذيبا شديدا، ويلقون بهم على الرمال الملتهبة.. فلم يستطع الصبر على هذا المشهد، وعاد إلى البيت، وقال لمن أجاره: يا عم، أني أرد عليك جوارك.. فإني لا أستطيع أن أنعم بالأمان ويتعرض المسلمون الآخرون لأشد الإيذاء. فأعلن الرجل سحب جواره. في تلك الأيام زار مكة لبيد –الشاعر المعروف، وأقيم له حفل تكريم، وحضره الرجل مع عثمان، وألقى الشعراء قصائدهم، وجاء دور لبيد فأنشد قصيدته ومطلعها “ألا كل شيء ما خلا الله باطل”. وما أن قال ذلك حتى صاح عثمان بن مظعون: حبّذا، ما شاء الله! ما أصدق ما قلت! فاغتاظ لبيد وقال: هل هُنْتُ حتى يصدقني هذا الغلام؟ واستثار أهلَ المجلس شاكيا جرأة الشاب عليه ووقاحته، فعنَّف القوم عثمان وحذروه من تكرار هذا الخطأ. فأتم لبيد البيت قائلا: “وكل نعيم لا محالة زائل “. فصاح عثمان مرة أخرى وقال: أمّا هذا فليس صحيحا، فإن نعيم الجنة لا يزول أبدا. فاستشاط لبيد غضبا، وقال للقوم: لقد أهَنتموني..ولن أنشد أمامكم. فقام أحدهم ولَكَم عثمان لكمة فقأت عينه، وهو جالس بجوار الرجل الذي كان يجيره من قبل. فلم يستطع هذا أن يتصدى للضارب، ولكنه عنَّف عثمان نفسه..كما تفعل الأم الفقيرة مع طفلها إذا ضربه طفل من أسرة كبيرة.. وتلومه قائلة: لماذا غادرت البيت، ولِمَ ذهبت إليه، فقال الرجل لعثمان بن مظعون: ألمْ أقل لك ألاّ ترُد جواري؟ أرأيت نتيجة ذلك؟ فقال عثمان: يا عم، إنك تأسف على عين واحدة، والله، إن عيني الأخرى مستعدة لأن تُفقأ هي الأخرى في سبيل الله! (أسد الغابة، ذكر عثمان بن مظعون).

فالمؤمن الحقيقي لا يخاف من التضحية، بل كلما أصيب بأذى، أو فقد شيئا ثمينا يقول: إن الفاني والباقي لله تعالى، وإذا كان هذا المتاع ملكا لله. فنحن أيضا ملكه.. فإذا استرد الله شيئا استأمن من عبده عليه، فأي مجال للشكوى من ذلك؟ إنني مستعد لبذل كل ما عندي من غال ورخيص.

خامسا-غير أن في الجملة الأولى (إنا لله) إعلان للاستغناء الإلهي، ولذلك فإن الله –ترحمًا بعباده-أضاف إليها جملة ثانية هي (وإنا إليه راجعون).. وهكذا أكمل العزاء للمصاب. لقد قال من قبل: إذا أنعمت عليكم، ثم استرددت نعمتي، فيجب ألا تعترضوا على ذلك. أيحق لأحد أن يعترض إذا أعطاه محسن شيئا، وانتفع به ثلاثين أو أربعين عاما، ثم استرده منه؟ كلا، بل إنه قد أحسن إليه إذ ترك

له متاعا ليستفيد منه. أما في الجملة الثانية فيقول الله تعالى: إذا ارتحل عنكم قريب لكم، فاعلموا أيها المؤمنون أن رحيله ليس رحيلا دائما. حتى ولو كان رحيلا دائما، ولم يكن هناك حياة بعد الموت تلتقون فيها بالراحلين، أفلا يحق لله تعالى أن يسترد الأمانة التي استأمنكم عليها؟ ومع ذلك فإنه يعدكم بالمزيد في قوله تعالى (وإنا إليه راجعون).. أي لِمَ لا تفكرون هكذا: إذا سبقنا أحد بالرحيل إلى الله.. فنحن أيضا لاحقون به وراحلون إلى الله. كل ما في الأمر هو أنه أكمل مسيرته أولا، وسيكملها غيره بعده، أما الغاية المقصودة فهي واحدة. وما دامت الغاية واحدة والرحلة واحدة..فعَلامَ القلق والخوف؟ الآباء يرسلون أولادهم للدراسة في خارج البلاد، ولا ضمان لحياة أحد..هل يستطيع أحد القول بأنه سيعيش ليوم أو اثنين؟ لا يعرف الآباء ولا الأولاد إلى متى يمتد بهم العمر ويبقون أحياء. ومع ذلك فإن الأمهات والآباء يصبرون على فراق أولادهم للدراسة التي قد تطول إلى خمس أو عشر سنوات.. ولا يشتد بهم القلق أو الجزع، لأنهم مطمئنون أن أبناءهم سوف يعودون في يوم من الأيام. أو مثلا قد تنوي جماعةٌ السفر إلى مكان، ويبادر أحدهم بالسفر قبل غيره، فلا يخافون ولا يقلقون.. لأنهم سوف يلحقون به بعد بضعة أيام لأن الغاية واحدة. يقول الله تعالى: اعترفوا أولا أن الله قد أحسن إلينا، ونحن نشكره على إحساناته، ثم لتعلموا أنكم جميعا سوف تجتمعون بين يديه في يوم من الأيام، وستكونون عنده معا في نهاية المطاف.. وما دام الأمر كذلك فلماذا الشكوى من الله تعالى إذا فارقكم أحد؟ أي حمق أكبر من ذلك؟! إذا جزعتم وفزعتم لصار اتصالكم بأعزائكم في الآخرة أضعف.. لأن الذي بيده أن يجمعكم في الحياة الآخرة قادر أيضا على أن يفصل بينكم عندئذ. فالعزاء الحقيقي للمؤمن هو (إنا لله وإنا إليه راجعون).

فالصابرون عند الإسلام هم الذين إذا حلت بهم المصيبة اتجه فكرهم فورًا إلى الله وقالوا: ما دام الله موجودًا فما الحاجة إلى اليأس والقنوط؟

أما الجسم فلا شك أنه إذا أصيب بجرح تألم الإنسان. إن الصحابة استُشهدوا في الحروب، واستُشهدوا برغبتهم ورضاهم، ولكن لا شك أنهم تألموا عند قطع أجسامهم.. فالجسم يتألم، ولكن الله يتفضل على عبدٍ لا تنفك روحه ساجدة على عتبته تعالى تقول: يا رب، إني لا أشكو. كل ما فعلتَ صحيح، وهو عين المصلحة، وفيه خير لي. وإنني وإن لم أفهم الحكمة في فعلك إلا إنني أعترف أنه لا يخلو من الحكمة.

سادسا-قوله تعالى (إنا إليه راجعون) يتضمن موضوعا آخر. فعندما يصاب الإنسان بألم فإن فطرته تقول له: لا بد أن بك نقصًا وفراغًا وبسببه تألمت. لو كنت قويًا ما أصابك ذلك، ولن يزيل عنك هذا الألم إلا ذو قوة. فالألم يدفع إلى الاستعانة بقوة خارجية. وعندما تدفع الفطرة الإنسانية صاحب الألم إلى الاستعانة بقوة من الخارج.. فإنه يفكر في أن الله تعالى هو الذي سوف يزيله عنه وينجيه منه، فيقول على الفور (إنا لله وإنا إليه راجعون). إننا مِلك لله تعالى وبه نستعين، ومنذا الذي يعينني غيره؟ لا شك أن قول (إنا إليه راجعون) يعني أننا راجعون إليه في آخر المطاف لا محالة، ولكنه يعني أيضا: إذا رجعنا فإننا نرجع إلى الله، وإذا تضرّعنا تضرّعا بين يديه.

لقد علّم الإسلام هذا الدرس بحسب مقتضى الفطرة الإنسانية تماما. فتألُّم الإنسان علامة على ضعفه، إذ لا يستطيع دفع الألم عن نفسه، وعلى الفور يفكر في أصدقائه وأهله ليستعين بهم، ولكن الله تعالى يقول: تذكروا أن الله تعالى هو أعز الأعزاء وأصدق الأصدقاء، فانحنوا أمامه واستعينوا به.

إن الذين عملوا بهذا الدرس لم يكونوا أبدًا من الخائبين أو الخاسرين، وإنما خاب وخسر من عمل بما يخالف الفطرة. فمثلا إذا دهم اللصوص بيتًا في الليل.. فإن العاقل يتجه إلى جيرانه وأصدقائه ليستنجد بهم، ولكن الأحمق يفر إلى الغابة أو إلى الخارج حيث لا يجد من يعينه. وكذلك في العالم الروحاني.. يتجه العاقل إلى الله ويستعين به، ولكن الأحمق يصيح عبثا: يا أماه، يا أماه؛ والظاهر أن أمه لن تعينه، وإنما كل ما يُفعل فإنما يفعله الله، ومع ذلك فإن الأحمق لا يتجه إليه.

فمن واجب الإنسان أنه كلما يصاب بمصيبة يقول على الفور (إنا لله وإنا إليه راجعون)..كما يقال في لغة البنجاب: “يجري الشيخ إلى المسجد “، ويقول المؤمن سوف أجرى أنا أيضا إلى ربي وأستعين به عند حلول المصيبة. وعندئذ يمنحه الله بركات منه ويزيل المصائب.

سابعا-وكذلك يتضمن قوله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون) موضوعا لطيفا آخر. إننا عباد الله ونرجع إليه، فلو صبرنا على الصدمة فإن الله تعالى يجازينا بأحسن الجزاء، فما الحاجة إلى الجزع والفزع؟ إنما يجزع ويفزع من يظن ألا جزاء على الصبر وتحمل الصدمة، ولكن المؤمن يرى أنه عندما يرجع إلى ربه فلسوف يجزيه على ما تحمل من آلام ومصائب في صورة نِعَمٍ غير عادية. ومن حاز هذا المقام العظيم من الإيمان واليقين..لن يكون عديم الصبر.

لقد بيّن الله في هذه الآية تعريفا للصابرين في نظره. فالصابرون عند الإسلام هم الذين إذا حلت بهم المصيبة اتجه فكرهم فورًا إلى الله وقالوا: ما دام الله موجودًا فما الحاجة إلى اليأس والقنوط؟ عندما يكون الولد في حِجر أمة فإنه لا يخاف..كذلك هؤلاء يرون أنفسهم في حضن الله تعالى، فلا ييئسون عند حلول بلية أو نزول مصيبة.

ولو كان الصبر بمعنى الامتناع عن السيئات..كان المعنى أن هؤلاء إذا حلّت بهم مصيبة لا يميلون إلى ارتكاب المعاصي..كما حدث في زمن القحط والمجاعة.. عندما يشرع الناس في السرقة، بل إنهم مع هذه الشدائد يتجهون إلى الله فقط.

ولو كان الصبر بمعنى الثبات على الخير فتعني الآية أنه كلما يدفعهم محرك شيطاني عن عمل الخير والحسنة يتجهون على الفور إلى الله تعالى، ويتضرعون إليه متوسلين بصلتهم الروحية معه.

فهذه جملة صغيرة، ولكنها تتضمن معاني واسعة، ويدرك أهل الخبرة والتجربة جيدا أنه بترديد هذه العبارة تزول الآلام والخطوب التي يمكن إزالتها، ليس هذا فحسب، بل إن الله يثبّت الإنسان على تحمل المصائب التي لا يمكن إزالتها ويعوضها بطريق آخر. فمثلا من سنة الله تعالى أن الموتى لا يرجعون مطلقا إلى هذه الدنيا، فلو مات لشخص قريب فإنه لن يرجع إلى الدنيا حيّا.. ولكنه لو قال هذه العبارة بإخلاص فإنه لا بد أن يثاب على هذه الصدمة بطريق آخر. ولو أن الإنسان أصيب بخسارة كان يمكن تعويضها ومع ذلك لم يُعوض عنها.. فليدرك أن قَدَرَ الله الخاص حال دون هذا التعويض..وإلا فلا بد أن يُعوض.

Share via
تابعونا على الفايس بوك