إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

الماضي والحاضر

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعًا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارىء اليوم بعضًا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

عندي أن الفضيلة والرذيلة كالجمال والقبح أمران اعتباريان يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة، فكما أن الجمال في أمة قد يكون قبحا في أمة أخرى كذلك الفضيلة في عصر، قد تكون رذيلة في عصر آخر.

ليست الفضائل والرزائل أسماء توفيقية كأسماء الله تعالى لا يمكن تغييرها ولا تبديلها، وليست الفضيلة فضيلة إلا لأنها طريق السعادة في الحياة، ولا الرذيلة رذيلة إلا لأنها طريق الشقاء فيها، فحيث تكون السعادة في صفة فهي الرذيلة، وإن كان صفة الكرم.

اعتاد علماء الأخلاق في كل زمان وفي كل مكان من عهد آدم إلى اليوم أن ينشروا لنا في كل كتاب يؤلفونه أو رسالة يدونونها جدولين ثابتين لا ينتقلان ولا يتلحلحان، يكتبون على رأس أحدهما عنوان “الفضائل” وتحته كلمات الشجاعة والكرم والأمانة والوفاء والعفة والمروءة والصدق والعدل والرحمة، وعلى رأس ثانيهما عنوان”الرزائل” وتحته كلمات الجبن والبخل والخيانة والعذر والطمع والكذب والظلم والقسوة، وأرى أنه قد آن لهم أن يعلموا أن الناس اليوم غيرهم بالأمس، وأن أساليب الحياة الحاضرة غير أساليب الحياة الماضية، وأن كثيرا من الصفات التي كانت في عهد البداوة والسذاجة رذائل يحتويها الناس ويتبرمون بها، ويستثقلون منه قد أصبحت في هذا العصر عصر المدنية المادية المؤسسة على المنافع والمصالح حالة واقعة مقررة في نظام المجتمع البشري، وأساسا ثابتة تبني عليها جميع أعماله وشؤونه، فلا بد للناس منها، ولا غنى لهم عنها، ولا مندوحة لهم إن أرادوا أن يخوضوا معترك الحياة مع خائضيه من أن يتعلموها تعلمًا نظاميًا، ويدرسوها مع ما يدرسون من علوم الحياة التي يتوقف عليها نظام عيشهم ويتألف منها شأن سعادتهم وهنائهم.

كان الكرم فضيلة يوم كان الناس يحفظون الجميل لصاحبه، ويعرفون له يده التي أسداها إليهم، فإذا هوى به كرمه في هوة من هوى الفقر لا يعدم أن يجد من بين الذين أحسن إليهم أو عظم في نفوسهم شأن إحسانه – من يمد إليه يد المعونة ليستنقذه من شقائه، أو يرفه عليه، أما اليوم وقد أنكر الناس الجميل، واستثقلوا حمله على عواتقهم، بل أصبحوا يشمتون بصاحبه يوم تزل به قدمه، ويصبون على رأسه جميع ما في كتب المترادفات من أسماء الجنون وألقابه، فليس الكرم فضيلة، وليس من الرأي الدعاء له، والحض عليه. وكانت الرحمة فضيلة يوم كان الناس صادقين في أحاديثهم عن أنفسهم فلا يعترف بالبؤس إلا البائس، القديم إلا من  عجز عن لبس الجديد، أما اليوم وقد ذلت النفوس، وسفلت المروءات، فلبس ثوت الفقر غير الفقير، وانتحل البؤس غير البؤس وأصبح نصف الناس كسالى متبطلين لا عمل لهم إلا اللجوء إلى ضلال القلوب الرحيمة يعتصرونها ويحتلبون جدرتها حتى تجف جفاف الخشف البالي، فالرحمة هي الفقر العاجل، والخسران المبين.

وكانت الشجاعة فضيلة يوم كان الناس ينصرون الشجاع ويؤازرونه ويتبعون خطواته في طريقه التي يذهب فيها، فلا يتخلون عنه ولا يخذلونه حتى يتم له الظفر الذي يريد، أما اليوم وقد فترت همم الناس، ووهنت عزائمهم، وماتت في نفوسهم الحفائظ والغيرة، ووكل كل أمره إلى صاحبه، فإن رأوه قائمًا بدعوة وطنية أو اجتماعية أغروه بالمضي فيها، وقفوا عن كثب ينظرون ماذا يفعل فإن ظفر هتفوا له، وانحدروا إليه يقاسمونه الغنيمة التي غنمها، وإن فشل خذلوه، وتنكروا له، فالشجاعة لا يجد صاحبها من ورائها إلا التهلكة والشقاء.

وكانت القناعة فضيلة يوم كان الفضل هو الميزان يزن به الناس أقدار الناس وقيمهم، ويوم كان الفقر مفخرة للشريف إذا عقدت يده، وعزفت نفسه. والغني معرة للدنيء إذا سفلت مساعيه وأغراضه، أما اليوم وقد مات كل مجد في العالم إلا المجد المالي، وأصبح الناس يتعارفون بأزيائهم ومظاهرهم، قبل أن يتعارفوا بصفاتهم وأعمالهم، فالقناعة ذل الحياة وعارها، وبؤسها الدائم، وشقاؤها الطويل.

وكان الغضب رذيلة يوم كان الناس يعرفون فضيلة الحلم ويقدرونها قدرها ويطأطئون رؤوسهم إجلالا لصاحبها، أما وقد أصبح الناس أشرارًا يحملون شرورهم على كواهلهم، ويدورون بها في كل مكان يطلبون لها رأسا يصبونها عليه، ولا يعجبهم مثل الرأس الضعيف المتهالك الذي لا يحسن الذياد عن نفسه، فلا خير في الحلم، والخير كل الخير في الغضب.

الحياة معترك أبطاله الأشرار، وأسلحتهم الرذائل، فمن لم يحاربهم بمثل سلاحهم هلك عند الصدمة الأولى.

يجب أن يكون الناس جميعا إما فضلاء ليسعدوا بفضيلتهم، أو أدنياء ليتقي بعضهم بأس بعض، أما أن يتقلد سوادهم سلاح الرذيلة، والنزر القليل منهم سلاح الفضيلة وهو أضعف السلاحين وأوهاهما فليس لذلك إلا معنى واحد: هو أن يهلك أشراف الناس وفضلاؤهم، في سبيل أدنيائهم وأنذالهم.

إن الدعاء إلى البر والإحسان، والرحمة والشقفة، والعدل والإنصاف، والصدق والإخلاص، في هذا العصر، إنما هو حبالة ينصبها الأقوياء الماكرون للضعفاء الساذجين ليخدعوهم بها عن مائدة الحياة التي يجلسون عليها، فيستأثروا بها من دونهم، فلا يدعو الداعي إلى الكرم إلا لينقل ما في جيوب الناس إلى جيبه، ولا إلى العفو إلا ليصيب بشره من يشاء دون أن يناله من الشر شيء، ولا إلى القناعة إلا ليقلل من سواد المزاحمين له على أعراض الحياة ومطامعها، ولا إلى الصدق إلا ليتمتع وحده بثمرات الكذب ومزاياه.

كلنا يكذب، فلم يعيب بعضنا بعضا بالكذب والتلفيق؟ وكلنا يبتسم لعدوه وصديقه ابتسامة واحدة، فلم نستنكر الرياء والمصانعة؟ وكلنا يطمع في أن تكون له وحده جميع خيرات الأرض وثمراتها فلم نستفظع الطمع والجشع، وكلنا يتربص بصاحبه الغفلة ليختله عما في يده فلم نشكو من الظلم والارهاق؟ إننا لا نفعل ذلك إلا لأنا نريد أن نستخدم الفضيلة في أغراضنا ومآربنا كما كان يستخدم رجال الدين في الأعصر الماضية.

يجب أن يتعلم الطفل من أول يوم يجلس فيه أمام مكتب مدرسته أن الموجود في الحياة غير الموجود في الكتب، وأن قصص الفضائل التي يقرءونها ونوادر المروءات والكرم والإيثار، وأحاديث الشهامة والشجاعة وعزة النفس وإبائها إنما هي روايات تاريخية قد مضت وانقضى عهدها، حتى لا يصبح ناقما على العالم يوم ينكشف له وجهه؛ ويرى سوءاته وعوراته وحتى لا يضيع عليه عمره بين التجارب والاختبارات.

وليت الذين يعرفون من شئون الرذائل ودخلها فوق ما أعلم يضعون للناشيء كتابًا مدرسيًا على نمط كتب التاريخ يوضحون له فيه كيف يكذب التاجر، ويغش الصانع؛ ويلفق المحامي، ويدجل الطبيب؛ ويختلس المرابي، ويرائي الفقيه، ويصانع السياسي، ويتقلب الصحافي، ثم يقولون له: هذه هي الحياة، وهذا هو ما يجري فيها، فإن أردتها على علاتها فذاك، أو لا، فدونك مغارة موحشة في قمة من قمم الجبال فعش فيها وحيدًا بعيدًا عن العالم وما فيه، وكُلْ مما تأكل حشرات الأرض، واشرب مما تشرب منه، حتى يوافيك أجلك. الشر لا يقاوم إلا بالظلم. وحامل السيف لا يغمده في غمده إلا أمام حامل سيف مثله، والسيل الجارف لا يقف عن جريانه إلا إذا وجد في وجهه سدًّا يعترض طريقه، والظالم لا يظلم إلا إذا وجد بين يديه ضعيفًا، والمحتال لا يحتال إلا إذا وجد أمامه غبيًا، والناس لا يتحامون ولا يتحاجزون ولا يأمن بعضهم بأس بعض إلا إذا برزوا جميعًا في ميدان واحد، يتقلدون سلاحًا واحدًا، من نوع واحد.

من أراد الفضيلة للفضيلة فسبيلها المقدس الشريف معروف لا ريبة فيه فليسلكه كما يشاء، ومن أرادها على أن تكون وسيلة من وسائل العيش، في عصر مثل هذا العصر، وناس مثل هذا الناس، فليعلم أنه قد أخطأ الطريق، وأضل السبيل. ما أجمل الفضيلة وما أعذب مذاقها وما أجمل العيش في ظلالها، لو لا أن شرور الأشار وويلاتهم قد حالت بيننا وبينها، فرحمة الله عليها، ووا أسفا على أيامها وعهودها.   (النظرات، الجزء الثالث)

Share via
تابعونا على الفايس بوك