تأملات عابد

تأملات عابد

تجارة خاسرة

من الظواهر السلبية التي تنتشر في حقل ما يسمى بـــ”الدعوة الإسلامية” برزت ظاهرة الاتجار بالدين، هذه الظاهرة التي ابتليت بها المجتمعات ليست مقصورة على المجتمعات الإسلامية، بل امتدت إلى مناطق عديدة في العالم، يمارسها صنف من الناس ليس لديهم مؤهل من مؤهلات العلم المطلوبة للحديث عن الإسلام بشتى تخصصاته الدقيقة، وفروع علومه التي لا تكاد تحصى كثرة ولا طولا ولا عمقا، وهؤلاء المتاجرون بالدين قفزوا إلى ساحة الدعوة والإرشاد -كما يقولون- من أبواب خلفية يرفضها الإسلام نفسه، وتنكرها تعاليمه وتوجيهاته.. وأعني بها أبواب الارتزاق وأكل الدنيا بالدين. فترى الواحد من هؤلاء يترك مجال عمله الذي تخصص فيه من هندسة أو طب أو تجارة أو صناعة، والقائمة طويلة، ويركض في شتى المجالات ليستخدم الدين كما يجب، ويؤوله كما يشتهي، فيضل الناس، وليرتبط بأسماء لامعة في دنيا المال والمصالح بحجة أنه الصوت الإسلامي المعبر عن وجوه الخير والبر والمدافع عن الدين والقيم.

سُئل عبد الله بن مبارك يوما: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال الذين يأكلون الدنيا بالدين وفي عبارة أخرى الذين يعيشون بدينهم. هؤلاء أدعياء العلم هم في حقيقة أمرهم طلاب حاجات، وأصحاب مآرب لأنهم لا يكفون عن القفز هنا وهناك بحثًا عن مظلمة تطفئ ظمأهم المادي وتوفر لهم شيئا من حاجاتهم التي يجرون وراءها ولا طاقة لهم بتحقيقها، وهم مضطرون -أو مختارون- لأن يسيروا وفق اتجاه الريح في الدائرة الدنيوية التي يعيشون فيها، لا حيث تريد أمانة الكلمة وحرمتها، ولا بأس بأن يقولوا ما لا يفعلون لأنهم – في أفضل حالاتهم ليسوا بأكثر من مكبرات صوت في واقعهم، وكثيرا ما يجترئون على خلط الحق بالباطل. ومن رحمة الأقدار أن هؤلاء المتاجرين في تجارة حرام لا يخفى أمرهم على الناس فلهم سمات مشتركة تهتك أستارهم.

(يُزهّدون الناس في الدنيا ولا يَزهدون، ويخوّفون البشر ولا يخافون، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، ويأكلون بألسنتهم، ويقربون الأغنياء دون الفقراء). ومن غريب الأمر أنهم جوعى لا يشبعون ولا يقنعون، بل كلما أعطوا ازدادوا نهما واشتهاء، فتراهم ينتقلون من مكان إلى آخر بحثا عن الأكثر دسما من المائدة حتى لو أراقوا على أرجل أصحابها كل مياه وجوههم. ومن هنا كان كلامهم ممسوخا ومملولا لأنهم أهل هوى وأهل طمع وليسوا بأهل قلوب ولا أصحاب علم، وقد أطفأ حب الدنيا نور الحكمة والبصيرة في قلوبهم فهم يقولون ما لا يفعلون. وقد مر النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ليلة الإسراء والمعراج بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار (فسألهم عن حالهم هذه فقالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه).

لقد تذكرت وأنا أفكر في أمر هؤلاء قول المصطفى الهادي – – وهو يرسم لنا صورة هؤلاء ضمن قوله الشريف: “ثلاثة أقسم عليهن.. ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاد بها الله عزا، ولا فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر.”

وقديما حذر الحكماء وأهل الفضل قائلين:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما

إذا عبت منهم أمورا أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا

فالموبقات لعمرى أنت جانيها

تعيب دنيا وناسا راغبين لها

وأنت أكثر منهم رغبة فيها

معذرة أيها الإسلام العظيم، فقد أصبحت كلأ مباحا، ولكن لك رب يحميك.

(جريدة الأهرام بتاريخ 15 مايو 1998)

Share via
تابعونا على الفايس بوك