كمالات ومزايا القرآن الكريم
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (221)

شرح الكلمات:

لأعنَتَكم – أعنت الراكب الدابة: حمّلها ما لا تحتمله (الأقرب).

التفسير:

هناك ظلم وإجحاف يتعرض له اليتامى في عالم اليوم، فإما أنهم يعاملون بقسوة، أو برفق وحب مبالغ فيه، وبالتالي يفسدون. يقال إن أباهم قد مات، ويرحمونهم رحمة كاذبة تفسد أخلاقهم وتدمر حياتهم، مع أن الواجب ألا يعاملوا بقسوة ولا أن يدلّلوا فيفسدوا. يقول القرآن: يجب أن تراعوا الإصلاح في كل حال، وتسلكوا سبيلا وسطا معتدلا في معاملتهم.

وفي موضع آخر حث الله على تفقّد أحوال اليتامى، وقال للذين يهملون في أمرهم: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) (النساء:10). وهكذا نبه الله إلى العناية باليتامى وتربيتهم، وبين أن هذه فريضة هامة. فالناس إنما يخافون الموت فقط لأنهم يرون أحدهم قد مات وترك أطفالا يلتمسون المساعدة من كل بيت، أو يضطرون للخدمة عند من يسيء معاملتهم ويقسو عليهم، فيضربهم ويلطمهم غير مكترث لصراخهم وبكائهم، فيقول المرء: لو متّ عامل الناس أولادي هكذا.

أما إذا كان السلوك القومي عاليا ساميا، بحيث إذا مات أحدهم وترك يتامى تحركت عاطفة الحب والإخوة في القوم كلهم تجاه أولاده، وقال كل واحد: هؤلاء أولاد أخي، يجب أن يسلّموا إليّ لأربيهم كما أربي أولادي.. فعندئذ يخلو كل قلب من خوف الموت، ويوقن كل واحد أنه لو مات وترك أيتاما فإن أبناء قومه موجودون، وهم طيبون، وسوف يرعون أولاده كرعايته لهم، ولن يكون نصيبهم اللطم والركل بالأقدام. إذًا، فتفقّد اليتامى وحسن معاملة الأرامل يخلق في القوم الشجاعة والبسالة. أما إذا كانت الأمة عارية عن هاتين الصفتين، واعتبر أبناؤها اليتامى خدماً في بيوتهم ، أو عاملوهم بأسوأ من معاملة الخدم، وأهانوهم على كل صغيرة، فمنذا الذي يريد أن يموت؟ كل امرئ سوف يفر من الموت في سبيل القوم، ويرى أن في موته موت أولاده وزوجته.. فكيف يموت؟ ولأي غرض يضحى بنفسه؟ إذاً، يجب أن يصبح سلوك القوم كله سويا قويا بحيث إذا مات أحدهم لا يكون هناك سؤال: فمنذا الذي سوف يتفقد أولاده اليتامى؟ بل يُهرَع الناس ويحتضنون أولاده ويأخذونهم إلى بيوتهم، ويربونهم كما يربون أولادهم بحب ورفق وشفقة.

في زمن النبي تيتّم طفل فتشاجر الصحابة أيّهم يكفله. كان كل منهم يريد أن يرعاه ويربيه، ووصل الخبر إلى النبي فقال: أحضروا اليتيم واتركوه ليختار بنفسه من يشاء. أما في أيامنا هذه فإذا أشرف أحد على الموت فإنه يكون أخوف ما يكون على زوجته وأولاده، ويفكر من ذا الذي يرعاهم ويربيهم، وينظر إليهم نظرة محبة ولطف؟ وبعد موته تنشأ قضية تربية أولاده، فتسمع كل واحد يقول: ليتني أستطيع رعايته، ولكنني مثقل بأعباء كثيرة، وظروفي صعبة. وهكذا يتهرب كل منهم من هذا العبء. ولكن الصحابة لم يكونوا يفرون منه، وإنما كانوا يسعون لينالوا هذا الثواب. فإذا تحلى قوم بهذا الخلق، واعتنوا باليتامى والمساكين، وتولد في قلوبهم تقدير واحترام تجاههم، واعتبروا تربيتهم مدعاة لسكينتهم وراحتهم، واعتبروا اليتامى بمثابة أولادهم الحقيقيين.. فإن هذا القوم يكونون شجعانا ولا شك، وإن لم يكونوا من المؤمنين. فإذا جمعوا هذا مع الإيمان بالحياة بعد الموت، والتوكل على الإله الحي.. نالت قلوبهم قوة لا يدنو منهم خوف الموت. إذا كنا نجد في الأمم الأوربية شجاعة، فذلك راجع أيضا إلى شعور شبابهم أنه إذا حلت بهم مصيبة الموت فإن قومهم سوف يُعنون بأولادهم وأراملهم، لذلك لا يخافون فيتقدمون ويقدمون أرواحهم. الإيمان شيء آخر، ويتحلى به أولئك الذين ينالون نعمة تصديق نبي من عند الله تعالى، ولكن مثل هذا السلوك القوي لقوم أيضا يجعل أفراده شجعانا وإن لم يكونوا مؤمنين.

إذا كان السلوك القومي عاليا ساميا، بحيث إذا مات أحدهم وترك يتامى تحركت عاطفة الحب والإخوة في القوم كلهم تجاه أولاده، وقال كل واحد: هؤلاء أولاد أخي، يجب أن يسلّموا إليّ لأربيهم كما أربي أولادي.. فعندئذ يخلو كل قلب من خوف الموت، ويوقن كل واحد أنه لو مات وترك أيتاما فإن أبناء قومه موجودون، وهم طيبون، وسوف يرعون أولاده كرعايته لهم

قوله (وإن تخالطوهم فإخوانكم).. لو أشركتموهم في أمور الحياة المتنوعة فلكم أن تفعلوا ذلك. ونبّه بقول (فإخوانكم) إلى أن تكون المعاملة بينكم وبينهم كما تكون معاملة الإخوة الكبار مع الإخوة الصغار. فالإخوة الكبار المسئولون عن أخوتهم الصغار يرعونهم بالحفاظ على أموالهم، وإطعامهم، ورد مالهم إليهم عندما يكبرون.

وكذلك نَبّه الله تعالى بقوله (فإخوانكم) إلى أن الإخوة الكبار لا يتوقعون أن يأخذوا من إخوتهم الصغار، وإنما يعطونهم من عندهم. وهذا هو ما يتوقع منكم.

وأشار بقوله (والله يعلم المفسد من المصلح) أنكم لو أفسدتم باسم الإصلاح، وعاملتم اليتامى بالقسوة والإيذاء، أو خربتم أخلاقهم بتدليل مبالغ فيه.. فسوف تحاسبون عند الله على ذلك.

وقوله تعالى (ولو شاء الله لأعنتكم).. أي لو أراد الله لأمركم بما يشقّ عليكم، كأن يأمركم بوضع أموال اليتامى على حدة، والإنفاق عليهم من أموالكم، ولكنه رحمكم وأمركم بما فيه تيسير عليكم. فيجب ألا تؤدي بكم هذه السهولة إلى الإهمال في تربية اليتامى أو إلى اغتصاب شيء من أموالهم.

ثم قال (إن الله عزيز حكيم). وبهاتين الصفتين_العزيز والحكيم_وجّه الانتباه إلى أمرين. أولا: بين أن اليتيم لا يقدر على أخذ حقوقه من الآخرين، ولكن الله (عزيز) فإذا كنتم غالبين على اليتيم فالله غالب عليكم، وإذا حاولتم إضاعة حقوقه، أو مارستم عليه ضغطا وقسوة لا داعي لهما، أو أكلتم ماله.. فإن الله سوف يبطش بكم، وثانيا قال (حكيم): أي يجب أن تعاملوا اليتيم برفق، وتخلطوا ماله إلى مالكم بحكمة، فإن الله تعالى حكيم، فعليكم أن تفعلوا ما فيه الخير والنفع والصلاح.

الترتيب والربط

إن علاقة هذه الآية بالآيات التي قبلها هي أنه كان من الطبيعي أن ينشأ سؤال: بسبب الحرب سوف يستشهد كثير من الناس ويصبح أولادهم أيتاما.. فكيف يعاملون؟ فردّ الله على هذا السؤال الطبيعي، ونظم الموضوع كله في سلسلة من الحلقات.

والواقع أن ترتيب مواضيع القرآن ليس كترتيب الكتب العادية، بل هو ترتيب طبعي، ويخالف ترتيب الناس في كتبهم. إن القرآن الكريم يذكر أولا ما يستحق أن يُذكر أولا، ثم يزيل الوساوس التي تتولد في قلب الإنسان عن الموضوع. فعن الحرب مثلا يتناول أولا السؤال المتعلق بالحرب، ثم يردّ على الأسئلة التي تنشأ عن هذا السؤال، ثم يذكر الأمور التي يمكن أن ينتقل إليها ذهن الإنسان. ولما كانت هذه الأسئلة طبعية يكون للرد عليها وقع خاص على القلب.. لذلك يراعي القرآن الكريم هذا الترتيب الطبعي. وقد راعاه هنا. فعندما تناول موضوع الحرب ذكر معه الخمر والميسر اللذين لهما علاقة مباشرة بالحرب. وعندما منع من القمار لتغطية الحرب نشأ سؤال طبعي: من أين نغطي هذه النفقات؟ فقال: تغطونها بما يزيد عن حاجاتكم الضرورية للحياة.

ثم باستخدام كلمة واحدة (العفو) بيّن المدارج المختلفة للإنفاق من الدرجة العليا حتى الدرجة الدنيا.

ثم تناول ذكر حقوق اليتامى لأن هذه القضية ستبرز وتزداد أهميتها بعد الحرب. إذاً، فمن كمالات القرآن الكريم ومزاياه أنه راعى في تناوله للمواضيع ترتيبا رائعا يتفق مع فطرة الإنسان. فبمجرد أن ينشأ سؤال في الفطرة الإنسانية يجد الإنسان جوابا عليه في القرآن الكريم فورا.

 

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (222)..

شرح الكلمات:

لا تنكحوا – نكح المرأة تزوجها (الأقرب).

التفسير:

يقول الله: لا تتزوجوا النسوة المشركات ما لم يدخلن في الإسلام. يعني إذا أسرتم بعض المشركات في الحرب فلا تتزوجوهن. أما إذا آمنّ فلكم أن تتزوجوهن. وهذا أيضا من أحكام الحرب، لأن المسلمين في أيامها كانوا يمكثون بعيدين عن بيوتهم، وكان من الممكن أن يخطر ببال أحدهم أن يتزوج امرأة مشركة وقعت في أسره.

وقوله تعالى (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) يعتبر هنا الأمَة المؤمنة خيراً من المشركة الحرة، لأن المؤمنة لا يكون منها تحت العبودية سوى جسدها، أما المشركة الحرة فروحها أسيرة لدى الشيطان. وعبودية الجسم لا حقيقة لها أمام عبودية الروح.

ثم أمر ألا يزوّج المؤمنون نساءهم بالمشركين حتى يؤمنوا. والسبب أن المشركين يدعون إلى النار، بمعنى أن المؤمن إذا تزوج بامرأة مشركة أو إذا تزوجت المؤمنة برجل مشرك.. فبما أن العلاقات الزوجية تؤثر على كل منهما.. فإن هذا الزواج يُبعد المؤمنين عن الله تعالى وعن دينه، ويدفعهم إلى جهنم.. مع أن الله يدعوهم إلى الجنة والمغفرة من عنده. والجنة هي المكان الذي يُنزع من قلوب سكانه كل نوع من الضغن والغِل، ولكن لا يمكن للمؤمن والكافرة، أو للمؤمنة والكافر أن يتفقا أبدا، لأن هناك بعداً كبعد المشرق والمغرب بين التوحيد والشرك.. وما دام لا يمكن أن يتحدا في عقائدهما الدينية والحضارة والفكر.. فكيف يمكن أن يتفقا ويقضيا حياتهما الزوجية في وفاق ووئام؟

فمن كمالات القرآن الكريم ومزاياه أنه راعى في تناوله للمواضيع ترتيبا رائعا يتفق مع فطرة الإنسان. فبمجرد أن ينشأ سؤال في الفطرة الإنسانية يجد الإنسان جوابا عليه في القرآن الكريم فورا.

مع العلم بأن المشرك في الاصطلاح الشرعي يراد به من لا شريعة له. أما أهل الكتاب فلا يندرجون تحت المشركين.

وكلمة (بإذنه) ترِد دائما بمعنى أن الله يخلق الأسباب لإنجاز ما يريد.. سواء كانت هذه الأسباب قدره العام أو قدره الخاص. ولكن لا يعني ذلك أن الله ينجز هذا الأمر بخرق قانونه الطبيعي، وإنما يعني أنه بأمره الخاص يخلق عوامل لتحقق هذا الأمر. وقد وردت هذه الكلمة في أماكن أخرى من القرآن الكريم أيضا بهذا المعنى.

وأخيرا قال (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) فنبّه إلى أننا قد بيّنا قانون الزواج، فمن واجبكم مراعاته، والعمل بالهدي السماوي حتى في حالة الحرب التي تعمي الإنسان بسبب العداوة بين المتحاربين.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (223)

شرح الكلمات:

المحيض – الحيض، ووقته، وموضعه(المفردات).

أذى_الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر. وقوله (يسألونك عن المحيض قل هو أذى) فسمّاه أذى باعتبار الشرع وباعتبار الطب على حسب ما يذكره أصحاب هذه الصناعة (المفردات).

المتطهرين_تطهرت المرأة اغتسلت (الأقرب).

التفسير:

عندما تنشأ العلاقة بين الرجل والمرأة بالزواج تزداد بالتدريج المسؤوليات الزوجية، وتتولد في قلب الإنسان بعض الأسئلة ولا بد من الإجابة عليها، وهنا رد الله على واحد من هذه الأسئلة وقال: يسألونك هل يجوز في أيام الحيض أن يمارس الرجل علاقاته الخاصة مع الزوجة؟ فقال إن الحيض نجاسة، فيجب تجنب العلاقات الجنسية في أيامه إلى أن تتطهر المرأة وتغتسل.

أما قوله تعالى (ولا تقربوهن) فلا يعني أنه لا يجوز لمس النساء باليد أو الجلوس بقربهن. وإنما النهي هن عن العلاقة الخاصة، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يقبّلها ويجلس عندها في أيام حيضها (الترمذي، الطهارة).

واختلف الفقهاء في الوقت الذي يجوز فيه اللقاء بين الزوجين.. أهو بعد انقطاع دم الحيض أم بعد الاغتسال. الحقيقة أنه يجوز فيه بعد انقطاع الدم، ولكن الأحب إلى الله تعالى أن يكون ذلك بعد أن تغتسل.

أما عن تطهر المرأة فقد قال النبي أن تضع المرأة شيئا من المسك في الماء وتغسل بها أعضاءها الداخلية وتنظفها (البخاري،الحيض). وقد تبين طبيا أن هذه العملية تترك أثرا طيبا على صحة المرأة وعلى أولادها.

وقوله تعالى (فأتوهن من حيث ما أمركم الله) يدل على أن هناك أمراً سبق نزوله في هذا الصدد، وهو (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) (البقرة: 188).. أي اتبعوا الطريق الطبيعي الذي حدده الله لكم. وابتغوا الذرية التي كتبها الله لكم. وكأنه قال: أقيموا علاقتكم الزوجية بحيث تُرزقون الأولاد، ولا تتبعوا أي طريق يتنافى مع الفطرة.

وقوله تعالى (إن الله يحب التوابين) وجّه أنظارنا إلى أن الإنسان إذا ارتكب معصية فيجب أن تتولد في قلبه الندامة عليها فورا، وأن يتوب إلى الله تعالى، لأنه عز وجل يحب التوابين.

ثم إن “التواب” يعني من يرجع إلى الله مرة أخرى ويدعوه ويتوسل إليه. وبناء على هذا يكون المعنى أن الذين يوقنون بأن نجاح أعمالهم منوط بالدعاء، فيرجعون إلى الله عند كل خطوة ويسألونه المعونة.. فهؤلاء ينالون آخر المطاف حب الله ورضوانه. وكأن الندامة على الذنوب وإظهار التوبة، ثم التوجه إلى الله في كل وقت عصيب هي من الذرائع التي تفتح أبواب حب الله تعالى.

ثم وجّه الله أنظارنا بقوله (ويحب المتطهرين) أيضا إلى أمرين: الأول_أن الله يحب المهتمين بالنظافة. والواقع أن النظافة من أهم المقتضيات الطبيعية الإنسانية؛ أي يهتم الإنسان بنظافة الجسم والفم والثياب، ولا يستخدم من الأشياء ما يؤذي حاسة الشم، بل يستخدم ما يبعث على الراحة. لقد اعتبر بعض الناس خطأً أن العمل بهذا المقتضى مخالف لطريق أهل الصلاح والتقوى الكبار، فاختاروا طريقا تصبح بها الطيبات التي خلقها الله للناس عقيمة لا فائدة منها، أو تُلمِح إلى عباد الله الذين يستخدمونها آثمين. إن الرسول قد هتك حجاب هذا الصلاح المصطنع والتقوى الكاذبة، وأخبر أن الله طاهر يحب أهل الطهارة والنظافة. وكان النبي صلى الله وعليه وسلم يستحم مرارا، وفرض الاستحمام في كثير من المناسبات (أبو داود، الطهارة). إن الإنسان بسبب انشغاله في أعمال البيت يتكاسل في شأن النظافة، لذلك فرض النبي بأمر من الله تعالى أن يستحم الزوجان بعد اللقاء (الترمذي، الطهارة). وكان النبي يغسل أعضاءه التي تتعرض عموما للغبار والوسخ قبل الصلوات الخمس اليومية، كما أمر الآخرين بذلك (المرجع السابق). وكان يحب نظافة الثياب، ويحبذ ارتداء الملابس النظيفة واستخدام العطر يوم الجمعة. كما كان يأمر الآخرين بالتعطر لحضور المناسبات والاجتماعات. ونظرًا لأن اجتماع الناس في مكان واحد يحمل خطر تفشي بعض الأمراض المعدية لذلك كان النبي يأمر بنظافة هذه الأماكن وتعطيرها (المشكاة، الصلاة. البخاري، اللباس). وكان النبي يتجنب استخدام المواد التي تحدث رائحة كريهة، وكان ينهى مَن تناول الأطعمة ذات الرائحة الكريهة أن يحضروا هذه الأماكن (الترمذي، أبواب الأطعمة). فكان يراعي طهارة الجسم ونظافة اللباس، ويهتم خاصة بما يؤذي حاسة الشم، ويوصي الآخرين بذلك.

كما كان ينصح أيضا ألا ينهمك المرء في نظافة جسمه بحيث ينسى طهارة روحه، وألا يهتم بطهارة اللباس بما يعطله عن خدمة دينه وبلده وينأى عن صحبة الناس.كما أوصى ألا يبالغ الإنسان في الاحتياط حتى يترك بعض الأطعمة الضرورية النافعة. نعم، عليه ألا يؤذي أهل المجالس حتى يعتبروه من المتمدنين الطيبين، وحتى لا تثقل عليهم صحبته، بل يرحبون به ويحبون لقاءه.

إذن فهؤلاء نصحوا بأن يُهمل الإنسان النظافة واستخدام العطور لأن ذلك في ظنهم يطهر الجسم ولكنه ينجس القلب.. ولكن الإسلام يعلن أن الله (يحب المتطهرين).. أي يحب الطهارة الظاهرة والباطنة. وكأن الإسلام بإعلانه هذا قد دحض أقوال الفرق المسيحية والهندوسية التي تحرم النظافة والتعطر على صلحائها، ويعتبرون من أعظم آيات الصلاح أن يلبس الإنسان أسمالا متسخة منتنة، ولا يقلم أظافره، ولا يخلص جسده من الأوساخ بالاستحمام. لقد أبطل الإسلام هذه النظرية، وبيَّن أن الله يحب من يرجع إليه مرة بعد أخرى، ويحب من يهتم بطهارة جسمه ونظافة لباسه ويتجنب كل الأوساخ.

ونظرا لهذا المعنى فإن قوله تعالى (ويحب المتطهرين) يوجه النظر إلى أن الله يحب للرجل أن يباشر زوجته بعد أن تستحم من الحيض؛ وأن اللقاء الجنسي معها قبل ذلك ينافي قوله (ويحب المتطهرين).

والمعنى الثاني للمتطهر: الذي يتطهر بالجهد والسعي الزائد. فيكون قوله (يحب المتطهرين) إشارة إلى أنه يحب من يجتهد ويسعى ليكون مثله سبحانه وتعالى. فعلى الإنسان أن يحاول التحلّي بالصفات الإلهية المذكورة في القرآن الكريم. إنك لا تستطيع أن تكون مُحْيِيًا مثل الله تعالى، ولكن تستطيع أن تكون متصفا بصفة الإحياء بأن تعالج المرضى. إنك لا تستطيع أن تكون مميتا مثل الله، ولكن بوسعك أن تتشبه بالرب المميت بأن تقضي على الشر. إنك لا تستطيع أن تكون “خالقا” مثل الله، ولكن يمكنك أن تشبهه بإنجاب ذرية صالحة. يقول عز وجل: إذا كنتم تحبوني فقلّدوني، واسعوا للاتصاف بصفاتي تنالوا حبي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك