أهمية المسجد الحرام
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (151).

شرح الكلمات:

خرجت –إلى جانب المعنى المعروف للخروج هناك معان أخرى له منها:

أوّلا-خرج عليه: برز لقتاله (الأقرب)، ومعنى القتال والحرب مذكور في آية أخرى حيث قال الله تعالى (فإن رَجعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا.. إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (التوبة: 83). فالخروج هنا بمعنى البروز للقتال.

وثانيا –خرج عليه: خلع طاعته، يقال: خرجت الرعية على الوالي: خلعت الطاعة.

وثالثا-خرج الوالي على السلطان: تمرّد (الأقرب).

حجة –الحجة: دليل يجعل المرء غالبا على خصمه. قال الأزهري: الوجه الذي يكون به الظفر يسمى حجة (لسان العرب). ومن حيث الغلبة على الخصم يسمى حجة (كليات أبي البقاء). وقد وردت الحجة بمعنى الدليل الغالب في الحديث النبوي الشريف عن الدجال، قال (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) (ابن ماجة –أبواب الفتن)..أي إذا خرج الدجال وأنا بينكم فسوف أقدم الأدلة التي ينهزم أمامها. هذا الحديث يؤكد من ناحية أن الحجة هي الدليل الذي يهزم الخصم، ويبين أيضا أن القتال ضد الدجال لن يكون بالسيف بل بالحجة والبرهان، لأن الرسول قال (فأنا حجيجه)أي غالبه بالحجة.. أي بالدليل والبرهان وليس بحد الحسام. إن العلماء المعارضين يعترضون على سيدنا المهدي والمسيح الموعود أنه لم يُهلك الدجال قتالا بالسيف، بل نسخ الجهاد بالسيف كلية؛ مع أن هؤلاء لو تدبروا في كلمات هذا الحديث أدنى تدبر لاتضح لهم أنه من الضروري التغلب على الدجال بالأدلة والبراهين، وإلا كان لا بد أن يذكر حديثا من الأحاديث أن الدجال سوف يهلك بالسيف.

والحجة أحيانا تأتي بمعنى الدليل الضعيف مع وجود قرينة معه..كما جاء في القرآن الكريم (حجتهم داحضة عند ربهم) (الشورى: 17).

والحجة الدليل المحض كما ورد في القرآن الكريم (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه)(البقرة: 259) فالحجة هنا بمعنى الدليل فقط، والقرينة أنه لا يمكن للفريقين التغلب على الآخر في وقت واحد.

إلا الذين ظلموا-تأتي “إلا” بمعنى “لكن” فيقولون: ما لك عليّ حجة إلا أن تظلمني..أي ولكنك تظلمني (البحر المحيط، وتفسير فتح البيان، تحت الآية نفسها). وتأتي “إلا” بمعنى العطف مثل(لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء)..حيث تعني “ولا من ظلم..”(مغنى اللبيب ج1 حرف الهمزة).

فمعنى قوله تعالى (لئلا يكون على الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم)..أي أن الناس..العاقل منهم والظالم..كلهم لا يستطيعون أن يقدموا دليلا يشكك في صدق المسلمين.

التفسير:

قال المفسرون في قوله تعالى (ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) أن معناه: يجب عليكم حيثما كنتم أن تجعلوا المسجد الحرام قبلتكم على أي حال. وسبب ذلك عندهم أن الله عندما أمر بالتوجه إلى القبلة..فربما يظن أحد أن هذا الأمر خاص بأهل المدينة لا للجميع، لذلك قال الله تعالى: من حيث خرجتم فاتجهوا نحو المسجد الحرام.

ولكن الحقيقة أنه..سواء كان الخطاب إلى رسول الله أم إلى المسلمين جميعا..فلا تعني الآية أن يتجهوا إلى القبلة..وذلك لعدة أسباب.

أولا-لأن الصلوات التي يؤديها الإنسان وقت إقامته في بلده أو قريته أكثر من تلك التي تحين وقت خروجه من البلد عموما..لذلك كان من الواجب أن يصدر أمر يُغطي أكثر ما يمكن من الصلوات بدلا أن يصدر أمر تقل الفرصة للعمل به في حالة السفر. فمثلا يمكن أن يخرج المرء من البلد في العاشرة صباحا أو بين العصر والمغرب أو في منتصف الليل..وكل هذه أوقات لا مجال للصلاة فيها عادة. إذن والحال هذه، فإن قول الله تعالى (من حيث خرجت فول وجهك شطر السجد الحرام) يصبح بلا فائدة أو معنى، لأنه قلما يخرج الإنسان من البلد وقت الصلاة..فإما أن يكون قد أدى صلاته قبل الخروج، أو يمكن أن يؤديها بعد خروجه. فلا علاقة للصلاة بوقت الخروج. كان من الممكن التسليم بهذا المعنى لو كان هناك صلاة لها علاقة خاصة بخروج الإنسان من بيته وبلده، ولكن الجميع يعرفون أنه ليس هناك صلاة خاصة بوقت الخروج. فإذن لا يصح تطبيق معنى هذه الآية أبدا على خروج الإنسان من بيته وبلده بإرادة السفر.

ومما يؤكد قولنا أن هذه الآية لا تتعلق بالتوجه إلى القبلة وقت الصلاة هو أنه في حالة السفر أحيانا لا يمكن الاتجاه إلى القبلة، وتجوز الصلاة عندئذ في أي جهة يكون عليها الإنسان. مثلا إذا كان على مطيته ولا يستطيع النزول عنها، فبحسب القرآن والسنة النبوية تجوز صلاته سواء كان وجهه إلى القبلة أم لا. ولا تبقى الجهة ذات معنى عندئذ، وإنما يستوي الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويكفي التوجه القلبي إلى الكعبة المشرفة (البقرة: 116ومسلم، صلاة المسافرين). في هذه الأيام، عندما يركب الإنسان في القطار، فلا يمكن أن يتقيد بجهة، لأن القطار يتجه مرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب أو إلى أي جهة أخرى، ولكن هذا لا يخل بصلاة الراكب فيه. فلو صح المعنى الذي يقول به المفسرون ما أمكن أن يعمل به المسافر على مطية أو قطار أو طائرة. وما دام الإنسان لا يستطيع وقت الخروج أن يتجه إلى جهة معينة فكيف يمكن أن يكون معنى هذه الآية أن يلتزم الإنسان بالتوجه نحو الكعبة المشرفة من حيث خرج مسافرا؟

ثم إنه لا يصح هذا المعنى أيضا لأن المعنى الحرفي للآية أنك من حيث خرجت يجب أن تتجه إلى البيت الحرام. والواضح أن الإنسان لا يؤدي صلاته وهو يخرج وإنما يؤديها عند توقفه في مكان ما. لو كانت كلمات الآية “فحيث ما كنت فول وجهك شطر المسجد الحرام “لصح المعنى الذي يذهب إليه المفسرون، ولكن الله تعالى يقول هنا (من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام). فتبين من كل ذلك أن هذه الآية لا تعني التوجه إلى المسجد الحرام وقت الصلاة.

يقول المفسرون إننا لو لم نربط هذا الخروج بالصلاة للزم التكرار في القرآن. ولكن قولهم هذا أيضًا خطأ. إنهم يجدون في القرآن تكرارا لأنهم لا يستطيعون الربط الصحيح بين مواضيع القرآن ومطالبه الصحيحة. فحيثما يجدون إشكالا يدخلون في متاهة الناسخ والمنسوخ، فيأخذون بآية ويعتبرون الأخرى منسوخة، ويتخلصون من الإشكال. مع أننا لو نظرنا إلى حقائق القرآن الكريم التي بينها سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)لم نجد في القرآن أي تكرار، ولم نضطر إلى القول بنسخ آية منه.

الواقع أن الرسول عندما أُخرج من مكة وجد أعداء الإسلام فرصة للاعتراض قائلين: إذا كان هو الموعود حقا ومصداقا للدعاء الإبراهيمي، وإذا كان له علاقة خاصة بالكعبة المشرفة..فلماذا طرد من مكة؟ إذن فليس هو مصداقا للدعاء الإبراهيمي. فيرد الله على هذا الاعتراض قائلا (من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)..يا محمد..إن خروجك من مكة مؤقت. ونعدك أننا سوف نمكنك من الرجوع إليها مرة أخرى والاستيلاء عليها. وعندما يقطع الله مع عباده المؤمنين وعودا فإنه يتوقع منهم أيضا أن يبذلوا من جانبهم جهودا لتحقيقها، ولا يصح أن يعدهم الله فيجلسوا عاطلين، ويظنوا أنه ما دام الله تعالى قد وعد فلا بد أن يحققها بنفسه، ولا حاجة لنا لبذل الجهود سعيا لتحقيقها.

لقد وعد الله قوم موسى أنه سيعطيهم”أرض كنعان”. فخرج موسى مع قومه..وعندما وصل إزاء هذا البلد قال لقومه: ادخلوها واستولوا عليها بالقتال. ولكن قومه أخطئوا وظنوا أن الله سوف يحقق لهم الوعد لا محالة ويعطيهم البلد بنفسه، إذ لا معنى للوعد في نظرهم إذا هم بذلوا الجهد وفتحوا البلد بمشقة القتال. فقالوا لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة: 23-25وخروج 8:3-17)..لقد أخْبَرْتنا يا موسى، أن الله وعدك سيعطينا هذا البلد، فمن واجبك أنت وربك أن تفتحا لنا البلد، ولو فتحناه بأنفسنا فما معنى وعودك لنا؟ فاذهب أنت وربك وقاتلا..أما نحن فسننتظر هنا، فإذا فتحتم لنا البلد فسوف ندخله.

وقولهم هذا يبدو معقولا في الظاهر، لأن الإنسان إذا وعد أحدا بمنحة شيئا، وجاء الموعود يسأل تحقيق الوعد، فقال له: اذهب واشترِه من السوق..لذم الناس هذا الإنسان وقالوا: إذا كان على الموعود أن يشتريه من السوق فلماذا الوعد بإعطائه؟ لكن قول أصحاب موسى –رغم معقوليته شكلا –إلا أنه في الحقيقة غاية الحمق فيما يتعلق بالجماعات الإلهية. فالله تعالى لم يمدح بني إسرائيل على ذلك، ولم يقل: لا حاجة بكم للقتال وسنعطيكم هذا البلد، بل قال لهم: إنكم تطاولتم علينا، ولذلك سوف نحرمكم هذا البلد، فاذهبوا تائهين في البراري ضائعين في الفيافي لأربعين سنة، ولن ترثوا هذه الأرض بل سيرثها أجيالكم بعدكم (المائدة 27،وسفر العدد 33:14).

فالقول الذي يبدو من حيث المعايير الإنسانية صحيحا معقولا، يعتبر غاية الحمق بالنسبة للجماعات الإلهية، ويجلب على الإنسان عذاب الله. ذلك أن الإنسان عندما يعِد، وهو لا يملك التصرف في التغيرات السماوية والأرضية..فإنه يعد فقط بشيء يكون تحت تصرفه. ولكن وعد الله تعالى يعني أنكم لا تستطيعون الحصول على هذا الشيء بجهودكم الشخصية.. فهذا مستحيل لكم.. ولكنكم سوف تنالونه بمعونتنا ونصرتنا. هذه الأمة التي عاشت لمئات السنين تحت نير العبودية عند فرعون، واشتغلت بالأعمال الشاقة المهينة من صنع اللبن وقطع الأخشاب..أنّى لها أن تستولي على بلد عظيم يحكمه قوم عاد؟ لم يكن ذلك الاستيلاء سهلا عليهم. يقول الله تعالى: إن استيلاءكم على هذا البلد مستحيل في الظاهر، ولكننا نعدكم بإعطائكم إياه، وسوف تستولون عليه بمعونتنا ونصرتنا. ووعد الله لعباده لا يعني أن الله تعالى يحقق وعده بنفسه ولا حاجة للعبد في بذل الجهود.. ولكنه يعني أنكم إذا بذلتم الجهود وأخذتم بالأسباب فسوف نعينكم وننصركم فتفلحون. فكأن وعود الله تعالى من نوع، ووعود العباد من نوع آخر، فوعود الله للعباد دور فيها..هو أن يأخذوا بالأسباب لتحقيقها، وإذا لم يتدخل العباد ويبذلوا الجهود لتحقيقها استوجبوا العقاب. ولكن وعود العباد تختلف عن الوعود الإلهية، لأن العبد لا يستطيع أن يعد غيره ويقول (سوف أغير لك قدر الله)..لأن هذا ليس من خياره، ولو وعد بذلك لقال له الناس: من أنت حتى تدّعي ذلك؟ ولكن الله تعالى هو القادر على أن يقول: لو فعلتم ذلك فسوف أنصركم وأغير لكم قدري؛ لأن القدر بيده، ويمكن أن يغيره متى يشاء.

فعندما وعد الله رسوله بفتح مكة قال للمسلمين: لا تكونوا مثل قوم موسى فتظنوا أنه ما دام الله تعالى قد وعدكم بالفتح فسوف يفتحها لكم بنفسه.. ولا حاجة لكم بالأخذ بالأسباب؛ بل عليكم أيضا أن تبذلوا جهودكم لتحقيقه. إن وعد الله يعني أنكم ضعفاء. إذا لو لم تكونوا ضعفاء ما تركتم مكة. فهجرتكم منها يعني أنكم ضعفاء، وأن عدوكم قوي، ولكن الله تعالى سوف يقويكم وسوف يمكنكم بفضله ونصرته من انتزاع مكة من أيديهم.

إذن فمعنى قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) أنكم من حيث خرجتم يجب أن يكون فتح مكة أول غاية وهدف لكم.

ثم من معاني الخروج البروز للقتال؛ فتعني الآية أنكم كلما خرجتم للقتال وحاربتم في أي مكان واتجهتم إلى أي اتجاه فيجب أن يكون خروجكم هذا تمهيدا لفتح مكة. فمثلا لو خرجتم للقاء عدو في الجنوب ثم أدركتم أن هناك أعوانا له في الغرب قد يهاجمونكم من الخلف فتصديتم لهم..فذلك يعني أن حربكم في الغرب هي تمهيد لحرب العدو الذي في الجنوب. وكذلك لو كان للعدو أنصار في الشمال أو في أي مكان، فمحاربتكم إياهم هو حرب للعدو الجنوبي..لأن هدفكم الحقيقي هو الهجوم على العدو في الجنوب. إلى هذا المبدأ يشير الله هنا ويقول: أيا كان البلد الذي تخرجون لمحاربة أهله فيجب أن تكون وجهتكم مكة، لأن الله تعالى يريد أن تفتحوها وتستولوا عليها.

وعندما نلقي نظرة على غزوات النبي نجد هذا العامل بارزا جدا، فكان فتح مكة هو الهدف الأسمى لقتاله وحروبه. لقد هب لقتاله عدد من الأمم، وأثاروه فعلا واشتبكوا معه، فإذا رأى في حرب أنها تُفوت عليه هدفه هذا ولا تحققه، أو أحس بأن القتال مع عدو سوف يؤخر فتح مكة.. فكان يغض النظر عنه رغم استفزاز العدو له. ولكن إذا أثاره قوم وكانت هزيمتهم خطوة لفتح مكة قاتلهم النبي. كل الغزوات الإسلامية كانت تنطوي على هذه الحكمة.. وعلى وجه الخصوص الغزوات التي تمت قبل فتح مكة.. فقد كان هدفها الوحيد التمهيد لفتح مكة.

فهذه الآية لا علاقة لها بأداء الصلاة والتوجه إلى الكعبة، وإنما معناها أنكم من حيث خرجتم متجهين إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب..فيجب أن تكون وجهتكم هي مكة …ويكون فكركم وخيالكم وعقلكم دائما متجها إلى فتح مكة والاستيلاء عليها، وبالتالي توطيد الإسلام في الجزيرة العربية.

ومن معاني “الوجوه” التوجهات والاهتمامات (المفردات). فالمقصود إذن أن يكون لكم اهتمام وهدف واحد، وهو فتح مكة، ولتكون لكم الكعبة المشرفة، لأنه ما لم تقع مكة في قبضة المسلمين لا يمكن أن يدخل سائر العرب في الإسلام.

هذا التحدي بالنظر إلى حال المسلمين كان ضربا من الخبل. ثم أنه لم يكن موجها لأهل الجزيرة العربية وحدها، بل كان له أثر واسع، فلم يكن يضمن نبأ عن فتح مكة، ولا نبأ بالتغلب على الجزيرة العربية فحسب، وإنما كان أيضا تحديا قويا لليهودية والمسيحية والمجوسية.. بأن الإسلام سوف يظهر على كل هذه الأديان ويسود في العالم كله.

هذه هي الخطة والغاية التي عينت للمسلمين..ولا شك أنها كانت خطة خارج نطاق مقدرة المسلمين. نعم، لم تكن في الجزيرة العربية حكومة منظمة، ولكنها لم تكن أيضا تحت حكم طائفي. كان ملوك عديدون على صلة بهم ، ويتعاهدون معهم. وصحيح أنه لم تكن لمكة حكومة منظمة حق التنظيم ولكنها على كل حال كانت عاصمة حكومة يبلغ سكانها ما يقرب من مليون ونصف المليون. كانت القبائل حولها تنظر إلى أهلها، وكانوا يطيعون حكامها في قراراتهم وأوامرهم. ثم إن مكة كانت بلدا كبيرا بمقياس ذلك الزمن يقطن بها خمسة عشر ألفا من السكان، ولم يكن أهلها فقط، بل كل سكان الجزيرة العربية كانوا محاربين مطبوعين على القتال ماهرين في فنونه. ولم يكن محاربتهم أمرا سهلا بالنسبة للمسلمين. عندما نزلت هذه الآية على النبي لم يكن عدد المقاتلين في المسلمين يزيد على أربع أو خمس مئات، أو ألفا على أكثر تقدير. وكان عدد المسلمين رجالا ونساء. وكبارا وصغارا عشرة أو اثني عشر ألفا. أما عتادهم الحربي فلا يستحق الذكر. وعندئذ حين لم يكن أي تناسب بين المسلمين والكفار في العدد والعدة، ولم يكن لقوتهم الحربية أي وزن..قال الله للكفار متحديا: إن هؤلاء المسلمين الذين ترونهم قلة ضعيفة بلا حيلة..سوف يفتحون بلدكم في يوم من الأيام، ويستولون على عاصمتكم، وينالون السلطة فيها حتى يقومون منها بنشر تعاليم الإسلام وأحكامه، ويمحون الكفر والشرك من أرض الجزيرة العربية.

هذا التحدي بالنظر إلى حال المسلمين كان ضربا من الخبل. ثم أنه لم يكن موجها لأهل الجزيرة العربية وحدها، بل كان له أثر واسع، فلم يكن يضمن نبأ عن فتح مكة، ولا نبأ بالتغلب على الجزيرة العربية فحسب، وإنما كان أيضا تحديا قويا لليهودية والمسيحية والمجوسية.. بأن الإسلام سوف يظهر على كل هذه الأديان ويسود في العالم كله.

كانت هذه الدعوة دعوة جنونية بحسب الظروف يومئذ، ولذلك كان الكفار يسمون الرسول مجنونا، وأصحابه مجانين. كانوا لا يرون في هذه الدنيا المادية أية أسباب مادية لتحقق هذه الدعوة. والحقيقة أن الأعمال غير العادية لا تُنجز ما لم يكن في الإنسان أحيانا ما يسميه الأطباء (هَوَس) وما لم ينس الأمور الأخرى كلها، وما لم يتولد في نفسه قلق واضطراب كل حين، وما لم يوجد فيه نوع من الجنون. وإلى هذا الأمر ينبه القرآن الكريم هنا ويقول: عليكم أن تنسوا كل الأهداف الأخرى، وتضعوا في حسبانكم أن فتح مكة للإسلام أول واجب عليكم، واعلموا أنه ما لم يتم الاستيلاء على هذا المركز وهذا الحصن لن يتم لكم فتح سائر العرب ثم الدنيا من بعدها.

وهنا ينشأ سؤال: لماذا قال الله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام).. ولماذا لم يقل: ومن حيث هاجمتم فاجعلوا المسجد الحرام غايتكم؟ والجواب: أن الإنسان وقت خروجه يقرر هدف هجومه، وليس بعد القتال يحدد هدفه. ولما كان الله يريد توجيه أنظار المسلمين إلى هدف فتح مكة قال: من حيث خرجتم..انظروا ماذا يكون أثر هذا الخروج على فتح مكة. إذا لم يكن مساعدا على إنجاز فتح مكة فدعوه.

ولكن هذا لا يعني أن الإسلام يعلم أتباعه بهذا الأمر الحروب العدوانية..لأن التاريخ يؤكد ويثبت أن الحروب مع الكفار قد بدأت قبل نزول هذه الآيات.

وجدير بالملاحظة أن الله خاطب هنا رسوله فقط حيث قال (ومن حيث خرجت)..ذلك لأنه لم يكن هناك بعد النبي حاجة إلى فتح مكة. لقد قدر سبحانه وتعالى ألا يقع هجوم بعد ذلك على مكة..بل ستبقى في قبضة المسلمين كلية. وكأن في هذا النبأ أنه لن يتم فتح مادي لمكة مرة أخرى..لأن الله تعالى قد خلق جماعة فعالة لتوطيد عظمة مكة، وسوف تبقى في قبضة المسلمين إلى الأبد.

قوله تعالى (وإنه للحق من ربك).. نزلت هذه الآيات بعد الهجرة بستة عشر شهرا، ولم تكن المصاعب عندئذ قد زالت من طريق النبي تماما، ولم يكن رعبه وهيبته وحكمه قد استتب بعد صورة كاملة. فكان من الأمور المضحكة أن يقال عندئذ بأن النبي سوف يفتح مكة. لذلك قال الله تعالى: ليقل المعارضون ما شاءوا، وليسخر المخالفون كما يحلو لهم..ولكن هذا الأمر سوف يتم بإذن ربك، ونبه المستهزئين: إنكم تعتبرون هذا مستحيلا، ولكن هذا النبأ سوف يتم أمام أعينكم.

كما أورد الله هذا القول أيضا لأن الإنسان يخاف الحرب ويخشى أن يخرج منها بالهزيمة بدلا من الفتح.. ولكن إذا توجه إلى أهدافه المخصوصة فإن ذلك يرفع من همته. فإذا شعر أحدهم بالقلق داخل نفسه طمأنه هذا القول الإلهي (وإنه للحق من ربك).. أي أنه حق من لدن الله تعالى وسوف يتم بإذنه، وهو حاميكم وناصركم.

ثم إن كلمة (ربك) تشير إلى أن وراء كل عمل دافعا، وإن أفضل دافع لإنجاز عمل أن يحس الإنسان أن هذه هي رغبة ربه المحسن إليه، وفي هذه الصورة فسوف يضحّي بحياته أيضا في كثير من الأحيان. فيجب أن تفكروا أيها المسلمون أن ربكم المحسن إليكم يريد أيضا أن يتم فتح مكة على أيديكم. لسوف يتم هذا في يوم من الأيام، ولكن عليكم أن تفعلوا شيئا تردون به إحسان المحسن..من واجبكم أن تبذلوا في هذا السبيل كل غال ورخيص، ولا تترددوا في تقديم أي تضحية لتحقيق هذا الهدف العظيم.

قوله تعالى (وما الله بغافل عما تعملون). لا تحمل هذه العبارة تهديدا بالعقاب، ولكنها تعني أن الله يرى تضحياتكم، ويعرف أن الإسلام لن يبلغ الكمال ما لم يتم فتح مكة، لذلك عليكم بذل جهودكم ومساعيكم باستمرار، ولا تدعوا هدف فتح مكة يغيب عن الأنظار، والله تعالى لن يضيع أعمالكم. لقد أثار الله بذلك المسلمين لتقديم التضحيات، وقال لهم: إني أرى تضحياتكم، ولكن جوائزكم لن تكتمل حتى تنجزوا مهمة فتح مكة. فحاولوا أن يتم هذا الإنجاز بأسرع ما يمكن..لأنه كلما تأخر إنجازه تأخر رقيكم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك