الغاية الأساسية من بعثة الأنبياء
  • يبعث الله الرسل لصالح البشر لا لنفسه إنه غني عن العالمين .
  • عندما كان المسلمون يعملون بالقرآن ويطبقون ما أمرهم الله والرسول ، فاقوا العالم كله .
  • إن الناس في إحتياج دائم الى سند يعتمدون عليه في حياتهم ومع ذلك لايتوكلون على الله، لأنهم محرومين من اليقين الكامل بالله تعالى بينما يكون النبي قد اختبر الالطاف الالهية وشاهدها، لذلك يتوكل هو واتباعه عليه بكل قناعة وحماس.
__
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (الآية: 8)

شرح الكلمـات:

تَأَذَّنَ: تأذّن الرجلُ: أقسَم. تأذّن الأمر: أعلمه. تأذَّن الأمير في الناس: نادى فيهم يهدّد وينهى.

كَفَرتُم: كَفَرَ نعمة الله وبنعمة الله كفراناً: جَحَدَها وسَتَرها، وهو ضدُّ الشكر. وفي الكليّات: الكفرُ: تغطيةُ نعم المنعم بالجحود (الأقرب). (راجع أيضاً شرح الآية رقم 6 من سورة إبراهيم).

التفســير:

تذكّرنا الآية بقاعدة هامة رائعة ألا وهي أنّ الرقي بنوعيه المادي والروحاني منوط بالشكر. والشكر -كما أسلفنا- هو اعترافك بالصنيع وثناؤك على صانعه. وإنما يشكر الإنسان ربه على نعمه إذا أحسن استخدامها، لأن أحداً إذا وهب لك شيئاً فأسأت استخدام هبته فمهما شكرته عليها وأثنيت عليه بلسانك فهو ثناء فارغ لا قيمة له. بل الشكر الحقيقي أن تحسن استخدام هديته وفي محلها. هذه القاعدة نفسها سارية في المجالات كلها. إذا أحسنت استخدام علمك ازددت علماً، وإذا أحسنت استخدام أعضاء جسمك من يد وعين وأنف وأذن وغيرها فلا بدّ من أن تزداد هذه نشاطاً وفاعلية. فهذه -كما أسلفت- قاعدة عامة، وهي سرّ لكل نجاح ورقي، سواء فيها الهندوسي والمسلم والمسيحي.

إن المسلمين اليوم يسيئون استغلال أموالهم فيتردّون اقتصادياً، بينما يُحسن الهندوس استخدامها فيزدهرون. ونفس الحال بالنسبة للأمور الروحانية. خذوا القرآن مثلاً، فلما كان المسلمون يعملون به عملاً صحيحاً فاقوا العالم كله بفضل تعاليمه، ولم تستطع أية ملّة ولا طائفة الوقوف في وجههم، سواء الفلاسفة أو أهل المنطق أو اليهود أو النصارى أو غيرهم. ولكن انظروا اليوم كيف أن أهل الفيدا والتوراة والإنجيل يتباهون أمامهم كذباً بفضل كتبهم على القرآن، ومن جهة أخرى أصبح القرآن هدفاً لهجمات العلمانيين وأهل العلوم العقلية، ولكن المسلمين -لسوء أعمالهم- لا يستطيعون الرد عليهم. لقد كان الإسلام في الماضي يبتلع الكفر، أما اليوم فإن الكفر يحاول أن يبتلع الإسلام.

وإنما يشكر الإنسان ربه على نعمه إذا أحسن استخدامها، لأن أحداً إذا وهب لك شيئاً فأسأت استخدام هبته فمهما شكرته عليها وأثنيت عليه بلسانك فهو ثناء فارغ لا قيمة له. بل الشكر الحقيقي أن تحسن استخدام هديته وفي محلها.

لقد أهان المسلمون أنفسهم “الإسلامَ” لدرجة أن بعضهم صاروا يقولون اليوم بأن كذا وكذا من أحكام القرآن أصبح عقيماً لا جدوى منه، وأن كيت وكيت من تعاليم الإسلام أصبح قديماً لا يصلح للعمل به اليوم. هداهم الله، فلا يعزوا إلى الإسلام عيوبهم وتقصيراتهم. فإنهم لا يعملون بتعاليم القرآن عملاً صحيحاً، ومع ذلك ينسبون إليه سوء نتائج أعمالهم!

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (الآية: 9)

شرح الكلمــات:

غنيٌّ: غنِيَ فلانٌ غِنىً وغَناءً: ضدُّ فقَرَ، وكان ذا وفرٍ. غنِيَ به عن غيره: اكتفى به. الغنيُّ: المكتفي من الرزق. وهو غني عنه أي مستغنٍ (الأقرب) الغِنى: عدمُ الحاجات.

التفسـير:

يقول سيدنا موسى: يجب ألاّ تغترّوا بما يهيئ الله لكم من أسباب الهدى ببعث الأنبياء فتظنوا أنه يفعل ذلك عن عَوز وحاجة. كلا، بل إنه يبعث الرسل لصالحكم أنتم، لا لنفسه، لأنه غني عن العالمين. فالآية تقدم ردّاً حاسماً لما يثيره العلمانيون في هذا العصر من اعتراض قائلين بأنّ الله تعالى يدعو العباد لقبول رسالته، وهذا دليل على كونه محتاجاً إليهم. ولكن الآية تعلن أن الله غني، ومتى يحتاج الغني إلى غيره؟! كما أنه تعالى ( حميد ، يريد إنقاذ الغرقى الروحانيين.

لقد لفت القرآن الكريم هنا الأنظار إلى أمر هام ألا وهو أنه ليس من الضروري أن يقوم الإنسان بكل عملٍ لصالحه الشخصي، بل هناك أعمال يقوم بها الإنسان إحساناً إلى الآخرين وسدّاً لحاجاتهم. ولكن المغرضين يقيسون أعمال الآخرين بجشعهم هم، فيظنون خطأً أن الإنسان لا يقوم بأي عمل إلا لنفسه. وشتّان بين ما يفعله أحد عن حاجة ولمصلحة شخصية وبين ما يفعله غيره إحساناً وإكراماً للآخرين.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا الله جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (الآية 10)

شرح الكلمـات:

نبأ: النبأ: الخبر، يُقال: أتاني نبأ من الأنباء. وقال في الكليات: النبأ والأنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقعٌ وشأن عظيم (الأقرب).

أيديَهم: اليدُ: الكفُّ، أو من أطراف الأصابع إلى الكتف، والجمعُ أيدٍ ويُدِيٌّ. وجمع الجمع: أيادٍ. وأكثرُ استعمال الأيادي في يد النعمة. واليد أيضاً: الجاهُ والوقار، ويُقال: له يدٌ عند الناس أي جاهٌ وقدْرٌ؛ الطريقُ؛ القدرةُ والسلطان والولاية، يُقال: ما لك عليه يد أي  ولايةٌ؛ المِلكُ؛ الجماعةُ؛ الغياثُ؛ النعمةُ والإحسان تصطنعه. يقال: هذا في يدي أي في مِلكي، والأمر بيد فلان أي في تصرفه. ويدُ الريح: سلطانها (الأقرب).

مُريب: أرابَ زيداً: أقلقه وأزعجه (الأقرب).

التفسـير:

في قوله والذين مِن بعدهم لا يعلمهم إلا الله * جاءتهم رسلهم بالبيات إشارة إلى بعثة الرسل في أمم أخرى، الذين لم يرد ذكرهم في القرآن والتوراة، إذ بدأ بعد عاد وثمود النسلُ الإبراهيمي الذي سجّل القرآن والتوراة تاريخ الأنبياء المبعوثين فيهم. فالمراد من قوله تعالى والذين من بعدهم الشعوب الأخرى التي لم تكن من نسل إبراهيم، والتي لا يعلمها إلا الله أي لم تسجَّل أحوالهم في الكتب السماوية التي لا تزال محفوظة من يد التحريف إلى حد ما. فالآية تشكل دليلاً على أن الله تعالى لم يزل يبعث الأنبياء في هذه الشعوب في الفترة التي كان يبعث فيها أنبياء آخرين في النسل الإبراهيمي. وتقول بعض المصادر التاريخية أن النسل الإبراهيمي كان متزامناً مع النسل الثمودي. وإذا كان هذا القول صائباً فمعنى ذلك أنه حتى منذ الفترة الثمودية لم يزل الله يبعث الرسل في أمم أخرى أيضاً.

لقد اختلف المفسرون كثيراً في معنى قوله تعالى فردّوا أيديهم في أفواههم ، وقد وقعوا في هذه المشكلة بسبب حرف الجّر (في). فقال بعضهم بأن المراد: أن المعارضين عندما سمعوا قول الأنبياء ردّوا أيديهم في أفواههم، تعبيراً عن حيرتهم الممزوجة بالازدراء والسخرية (تفسير ابن كثير). وهذه العادة شائعة بكثرة لدى النسوة في بلادنا. وربما هذا يماثل قولهم: فلانٌ لطم وجهه أي تحير في أمره.

وقال غيرهم: إن (في) قد جاءت هنا بمعنى (على). وهذا يجوز لغةً، والمراد أنهم عند سماع قول الأنبياء وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إليهم أن يكفوا عن مثل هذا الحديث (فتح البيان).

أما أنا فأرى أننا نستطيع حلّ المشكلة بالنظر إلى معاني كلمة “الأيدي” التي تعني أيضاً الصنيع والإحسان والنعمة. فنظراً إلى هذا المعنى سيكون المراد أنهم ردّوا إلى الأنبياء صنيعهم هذا قائلين: لا نريد منكم أي وعظ ولا نصح، وهكذا قابلوا تعاليم الأنبياء بالرفض والاحتقار. وفي لغتنا يقولون أيضاً بهذا المعنى” عطاءِ تُو بلقاءتو”.

والجزء التالي من الآية يؤيد هذا المفهوم حيث ورد: وقالوا إنّا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريبٍ

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ    (الآية 11)

شرح الكلمـات:

فاطِر: فطَر الشيءَ فَطْراً: شقَّه. فطَر العجينَ: اختبزه من ساعته ولم يُخمِّره. فطَرَ الأمرَ: اخترعه وابتدأه وأنشأه (الأقرب)

مُسَمًّى: المُسَمَّى: المعلوم المُعيَّن (الأقرب)

سُلطان: السُّلطانُ: الحُجَّةُ؛ التسَلطُ؛ قُدرةُ الملِك (الأقرب)

التفسـير:

قال ابن عباس: كنت لا أدري ما هو فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر. فقال أحدهما: أنا فطرتُها: أي أنا ابتدأتها (الأقرب).

يبدو من هذه الرواية أن كلمة “فاطر” تشير إلى المراحل الأولى من الخلق. وقد ذكر القرآن الكريم أربع مراحل للخلق كالآتي:

المرحلة الأولى: وهي عندما لم يكن لأي شيء وجود سوى الله تعالى.

المرحلة الثانية: وهي التي خُلقت فيها المادة.

المرحلة الثالثة: وهي التي أخذت فيها هذه المادة في التفاعل والتشكّل نتيجة الاجتماع، وبدأت تنشأ فيها طاقات مختلفة، وتترتب فيها قوانين شتّى يُسمّى اكتمالها السنن الطبيعيّة.

فلما كان المسلمون يعملون به عملاً صحيحاً فاقوا العالم كله بفضل تعاليمه، ولم تستطع أية ملّة ولا طائفة الوقوف في وجههم، سواء الفلاسفة أو أهل المنطق أو اليهود أو النصارى أو غيرهم.

المرحلة الرابعة: وهي التي تكرّرت فيها عملية الخلق نتيجة هذه السنن الطبيعيّة، أعني بدأت سلسلة التوالد والتناسل وشَرَعَ الإنسان يولد من إنسان وأخذت الغلال تنبت من غلال.

وبما أن كلمة الفطور تدل على خروج شيء من شيء، فلذا أرى أن كلمة (فاطر) هنا تشير إلى المرحلة الثانية للخلق.

قال الرسل لأقوامهم: إننا نعظكم لأن الله تعالى أمرنا بهذا، ولا نقدّم لكم هذا الوعظ من عند أنفسنا. ولِمَ تشُكّون في قدرته على إنزال الوحي على البشر؟ إن ظنّكم هذا باطل، لأن الذي أتقن خلق السماوات والأرض على هذا المنوال، كيف يُتوقّع منه أن يخلق البشر ثم يتركهم سدىً دون هداية روحانية. هذا، وإنه من غير المعقول أن يخلق الله السماء والأرض الماديتين ولا يهتم بخلق السماء والأرض الروحانيتين.

ثم قال الرسل: يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخّركم إلى أجل مسمّى . ذلك أنه قد يقول الكفار بأننا لا نشكّ في قدرة الله على دعوتنا إلى الهدى، وإنما نقول إنه أسمى وأعظم من أن يدعونا نحن البشر المحتقرين، مع العلم أن هذا التفكير المريض شائع أيضاً لدى العلمانيين اليوم. فرّد الأنبياء على ظنون الكفار هذه وقالوا: لا شكّ أنه لا يليق بالعظيم أن يدعو من هم دونه لينصروه، ولكن أن يدعوهم العظيم ليساعدهم فهذا لا يقدح في شأنه وعظمته شيئاً، بل إنّ هذا ما تقتضيه عظمته. إننا لا نقول بأنه تعالى يدعوكم لمصلحة له، وإنما بَعَثَنا إليكم لصالحكم، ليسدّ حاجاتكم ويغفر لكم ذنوبكم، ويهب لكم حياة جديدة حقيقية.

فردّ عليهم الكفار: لو كان الأمر كما تعتقدون لاختار الله لرسالته رجلاً عظيماً، أما أنتم فبشر مثلنا، ولا يمكن أن يبعثكم الإله العظيم إلينا رسلاً. فلا شكّ أنكم تلفّقون هذه الأمور من عند أنفسكم لتمارسوا الحكم علينا وتصرفونا عن طاعة آبائنا إلى طاعتكم. فأْتونا بآيات ومعجزات تؤكد فضلكم علينا وتزيل مخاوفنا هذه.

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ  (الآية: 12)

التفسـير:

فأجابهم رسلهم: لا جرم أننا بشرٌ مثلكم، ولكن ألا تفكرون أن كل من يختاره الله سيكون أحداً من مخلوقاته، ولن تكون قواه وكفاءاته إلا هبة إلهية له. ولا يمكن أن يكون هذا المرسل شريكاً لله أو من غير مخلوقاته، إذ لا شريك له ولا وجود لموجود إلا من خَلْقه. وما دام الأمر هكذا فلا يليق بكم أن تعترضوا بالقول: لماذا اختار الله لرسالته بشراً مثلنا؟ لقد اختار من شاء من عباده، ومن أنتم حتى تحدّدوا اختياره أو تسلبوا سلطة الخيار منه سبحانه وتعالى؟!

أما مطالبتكم بأن نأتيكم ببرهان على فضلنا عليكم، فهي أمر غير معقول، لأننا لم ندّعِ قط بأننا أفضل من غيرنا من البشر، وإنما نعلن عن كوننا بشراً ورُسلاً فقط، بمعنى أن الله تعالى قد اختارنا ليُظهر آياته على أيدينا، وتكمن قوتنا في التوكل على نصرته هو، ولا ندّعي أبداً  بأننا قادرون على إظهار المعجزات من عند أنفسنا. بل من زعم لنفسه فضيلة ذاتية كهذه فلا يمكن أن يُعدّ مؤمناً، بل هو كافر، وذلك وفق المبادئ التي ندعو إليها.

وَمَـا لَنَـا أَلَّا نَتَـوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَـدَانَا سُـبُلَنَا وَلَنَـصْبِرَنَّ عَـلَى مَـا آَذَيْتُـمُونَـا وَعَـلَى الله فَلْيَتـَوَكَّلِ الْمُـتَوَكِّلُـونَ (الآية: 13)

شرح الكلمـات:

هَدانا: (راجع شرح الكلمات للآية رقم 28 من سورة الرعد).

  التفسـير:

وأضاف الرُسُل: إنه من المستحيل علينا، وقد رأينا مشاهد القدرة الإلهية، أن نتوهم أنه تعالى بحاجة إلى معونة منّا، بل إن رؤيتنا لقدرته هي التي دفعتنا لأن نسخّر في سبيله كل ما آتانا من مواهب وكفاءات كما آتاها غيرنا.

وفي قولهم قد هدانا سُبُلنا إشارةٌ إلى أن فضل النبي على غيره ليس فضلاً شخصياً وإنما يكمن فضله في كونه يؤكد بأعماله على حاجة البشر لسند خارجي، وبالتالي على ضرورة المعونة السماوية لهم.

كما أن كلمة (سُبُلنا) تكشف لنا سرّاً عظيماً آخر، وهو أن الشريعة إنما تأمرنا بما فيه خيرنا وفلاحنا نحن، لأنها تهدينا إلى ما نحن بحاجة إليه من أجل رقينا، وليس أن الله تعالى هو بحاجة إلينا.

كما أشار الله باستخدام صيغة الجمع (سُبُل) إلى أن ما أنزلهُ تعالى من شرائع من وقت لآخر كانت تراعي شتى الحاجات البشرية، وأنها كانت تعاليم مكتملة نظراً إلى متطلبات تلك العصور.

ثم يزداد الرسل اعترافاً بضعفهم إذ يقولون: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا) أي أننا لا ندّعي بأي قدرة وتفوُّق في أنفسنا، بل على العكس فنحن نقرّ  بتفوقكم علينا من حيث الوسائل والأسباب، ونعلم أنكم سوف تصبّون علينا أنواع الأذى، ولكننا نقوم بهذا الواجب بأمر من عند الله تعالى، لذلك سوف نتحمل أذاكم بصبر وجَلَد وعزيمة، لنؤكد لكم أننا لا نريد عليكم من فضل ولا نهدف إلى مصلحة شخصية.

ثم قالوا: وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون أي أن كلّ إنسان محتاج إلى سند يعتمد عليه، إذ لا أحد يستطيع سد حاجاته بمفرده. وما دام الأمر كذلك فلماذا نبحث عن سند عادي؟ بل سنتوكل على الله وحده، الذي تغني قدرته عن كل سند آخر.

بينما يكون النبي قد اختبر الألطاف الإلهية وشاهدها، لذلك يتوكّل هو وأتباعُه على الله تعالى بكل  قناعة وحماس. وهذه هي الغاية الحقيقية من بعث الأنبياء، بأن يخلقوا في قلوب الناس اليقين الكامل بالله تعالى، ويجعلوهم متوكلين عليه .

تعلّمنا هذه الآية عدة دروس منها:

الأول: إنما يليق بالمؤمن أن يكون صبوراً على الأذى كاظماً للغيظ، ولكن مع مراعاة التمييز بين الصبر وبين عدم الغيرة. فعليه بالصبر فيما يمس بمصالحه الشخصية، ولكن عليه بإظهارالغيرة على دين الله تعالى بكل جرأة وحماس، إلا أن التعبيرعن الغيرة الدينية يجب أن يتم أيضاً بطرق مشروعة.

الثاني: هناك سؤال يطرح نفسه: إن الناس في احتياج دائم إلى سند يعتمدون عليه في حياتهم، ومع ذلك لا يتوكلون على الله، لماذا؟ والجواب: ذلك لأنهم يكونون محرومين من اليقين الكامل بالله تعالى بينما يكون النبي قد اختبر الألطاف الإلهية وشاهدها، لذلك يتوكّل هو وأتباعُه على الله تعالى بكل  قناعة وحماس. وهذه هي الغاية الحقيقية من بعث الأنبياء، بأن يخلقوا في قلوب الناس اليقين الكامل بالله تعالى، ويجعلوهم متوكلين عليه .

Share via
تابعونا على الفايس بوك