البخل قبح واضح وفحشاء

 

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة: 269-270).

من دروس: حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد المصلح الموعود عنه الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود .

شرح الكلمات:

يعدكم – وعده الأمر: قال له أنه يجزيه له أو يُنيلُه إياه. ويقال: وعدت الرجل خيرًا أو شرًّا. قال الأزهري: كلام العرب: وعدت الرجل خيرا ووعدته شرًّا؛ وأوعدته خيرا وأوعدته شرا (الأقرب). وغلب استخدام “أوعد” في الشر مالم يكن هناك قرينة صارفة. وبالمثل يكثر استخدام “وعد” في الخير مالم تكن هناك قرينة صارفة إلى معنى الشر.. كأن يُذكر معه مفعول به، مثلا يقال: وعده الأمير بعشر جلدات، فالمعنى هنا بالشر. وكذلك في هذه الآية ورد بمعنى الشر لأن المفعول به هو الفقر وهو شر، والمراد يخوِّفكم الشيطان الفقر.

الفحشاء – كل مايشتد قبح من الذنوب؛ البخل (الأقرب).

التفسير:

يقول الله: إن الشيطان يخوّفكم الفقرَ، سواء كان تخويفه من تضحيات المال أو تضحيات النفس أو من أي نوع آخر. يقول لكم الشيطان إذا أنفقتم المال في سبيل الله لن يبقى لكم شيء لسد حاجاتكم، وينزل بكم الفقر وتضطرون لسؤال الناس؛ أو إذا بذلتم أنفسكم هلكتمّ ودمِّرتم. وإلى جانب ذلك يحرضكم الشيطان على الفحشاء، ويحثكم على ارتكابها ولو بإنفاق المال دون هوادة. فكأن الإنسان إذا سلك طريق الخير يهُبّ الشيطان ناصحا مشفقا يمنعه عن سلوكه؛ أما إذا اتجه إلى الشر شجّعه الشيطان على المضيِّ قدما. فالمؤمن يضحي والكافر أيضا يضحّي، ولكن الأول يضحي لوجه الله تعالى، أما الثاني فيضحي لأمور تنأى به عن الله تعالى.

والمعنى الثاني أن الشيطان يعِدُ الإنسان من حيث الظاهر بالراحة والسكينة والمال والرخاء، يقول: إذا لم تنفق في سبل الله صنتَ مالك وأصبحت ثريًّا. تحوز الأملاك والعقارات، وتجمع أنواع المتاع والأثاث. ولكن الواقع أنه يدل الإنسان على طريق الفقر والدمار والذل والهلاك. ذلك أن الأمم التي لا تعتني بالفقراء وتصرف همها الى متعتها وراحتها تدمَّر وتُباد.. كما هو الظاهر من حال الأمم الميتة التي صارت كالجثث الهامدة.

ثم يقول: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ .

والفحشاء ما هو واضح القبح والفحش، أو هو البخل. فالمعنى أن ما يأمركم به الشيطان واضح العيب والفحش. فالمعنى الأول: إنه يأمركم بالبخل مع أن البخل عادة قبيحة؛ وكان العرب خاصة يكرهون البخل كراهية شديدة. أو المعنى أنه يأمركم دائما بما هو سيّء. فكأنه يأمر بما هو سيّء فعلا وأيضًا بما هو ضار بالإنسان في كرامته وعزته. وهذان الأمران هما اللذان يمنعان الإنسان من فعل شيء. فإما أن ينظر الإنسان إلى عزته وجاهِه، أو يرى إلى منفعته.

وفي مقابل ذلك يقول تعالى وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ..

أي أنه سوف يستر عيوبكم، ويمحو خطاياكم، ثم يعطيكم أكثر من ذي قبل. ولم يطلق كلمة “مغفرة”حتى لا يُظن أنها من العباد للعباد، وإنما قال مَغْفِرَةً مِنْهُ ليشير إلى أنه منه سبحانه. ولم يعد الله بالمغفرة فقط، بل يزيد عليها الفضل.. أي يكتب لكم مزيدا من الازدهار ويفتح عليكم أبواب البركات.

وإذا كان المراد بالفقر في قوله يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ هو الإفلاس والاحتياج، فالمعنى أن الشيطان يعتبر الفقر شيئا خطيرا، أما الله تعالى فيرى الإثم هو الشيء الخطير. لذلك أولا قدّم الفقر.. أما هنا فقدم المغفرة.. وهكذا بيّن الفرق بين الجماعات الشيطانية والجماعات الربانية فيما يتعلق بتعظيم الأشياء.

وكان الخليفة الأول عند تفسير قوله تعالى الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يضرب مثالا ما حدث في ولاية “أوده” بالهند، فعندما وقع الخلاف بين الإنكليز وحاكم “أوده” حذر الإنجليز كبارَ هذه الولاية ممن كان لهم أموال في البنوك الإنكليزية في “كلكتا”، وهددوهم أنكم لو تصديتم لنا وساندتم الحاكم ضدنا فسوف نصادر أموالكم في بنوكنا. فسكت هؤلاء ولم يحركوا ساكنا خوفا من الفقر، وأخيرا جاء الإنجليز واعتقلوا حاكم الولاية.

ولكن الأمم الغربية الأوربية معتادة على التضحية، ولا تبالي بهذه التهديدات. ففي الحرب العالمية الأولى (14-1918) كان هناك الملايين من أموال الإنجليز في بنوك ألمانيا، وبالمثل كان للألمان الملايين عند الإنجليز، فلم يبالوا بذلك ودخلوا الحرب بكل شدة وقوة. فالأمم الحية تعرف أن الأموال للإنفاق، فلا تتردد في إنفاقها، ولكن الأمم التي تبخل بالأموال ولا تنفقها على الفقراء فإنها تتضرر.

يقول الله هنا: إن الشيطان يخوفكم الفقر ولكن نتيجة اتباعه هو الدمار، عندما تعاملون إخوانكم الفقراء معاملة سيئة فإن أعداءكم سوف يرمونكم بخسة الطبعِ، إذ لا ترعون الفقراء منكم. وإزاء ذلك يعدكم الله أنكم إذا تصدقتم فسوف تنالون مغفرة منه. أي أنكم عندما تنهضون بفقرائكم وتنفقون عليهم فسوف تختفي عيوبكم، لأن من ينفع الناس يستر الناس عيوبه.

أما إذا أخذنا بالمعنى الآخر وهو أن ما يأمركم به الشيطان يوقعكم في الفقر.. فإن قوله تعالى وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا يعني أن ما يأمركم به الله نتيجته الأولى أن الناس سوف تستر عيوبكم، لأنكم سترتم عيوبهم، وهكذا تصبحون من الصالحين عند الناس وعند الله أيضا. ونتيجته الثانية أنه في هذه الدنيا أيضا تزداد أموالكم، لأن القوة الاقتصادية للقوم تزداد إذا أنفق الأثرياء في المشاريع القومية وفي تحسين أحوال الفقراء، فينتفع الفرد نفسه ماديا أيضا. أما في الآخرة فإن ما يعطيه الله إياه جزاء على إنفاقه لا يتصوره خيال.

ثم يقول  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .. أي إذا اتبعتم أوامر الله، فإن عنده كل شيء وسوف يجزل لكم العطاء، بل لا يمكن أن تقدروا سعة وعده بالمغفرة، ولا أن تتخيلوا معنى وعده بالفضل لأنه واسع. ثم إنه عليم.. مطلع على كل صغيرة وكبيرة تأتون بها، ولا يخفى عليه شيء، وسوف يُعِينكم بطرق لا تخطر ببالكم.

تدبروا هذه الآية وتأملوا ترتيب كلماتها الرائع. ففي الجزء الأول قدم “الفقر” على “الفحشاء”، وفي الجزء الثاني قدم “المغفرة” على “الفضل”، مع أن الظاهر يقتضي أن يقدم الفضل على المغفرة لأنه يقابل الفقر، ثم يذكر المغفرة لأنها تقابل الفحشاء.

لهذا الترتيب سببان: ظاهري، وروحاني. الظاهري هو أن الشيطان أوّلا يخوف من الفقر ثم يأمر بالفحشاء؛ ونتيجة لذلك ينصبُّ على القوم الانحطاط والزوال، ثم يشتهر اسمه بالعار في العالم كله. وإزاء ذلك يعامل الله هذا القوم أولا بالمغفرة ثم ينزل عليهم فضله حتما.. ذلك إذا تجاهلوا أمر الشيطان وعاملوا إخوانهم الفقراء بالحسنى. هذا هو السبب الظاهري. ولكن هناك سببا روحاني لهذا الترتيب، ذلك أن الشيطان يهتم بالمال أكثر من العزة والصيت، لذلك عندما ذكر هنا ما يفعله الشيطان ذكر المال أولا، ثم ذكر العزة والصيت. ولكن تأتي العزة والسمعة عند الله في المرتبة الأولى، ولذلك عندما ذكر ما يفعل الله تعالى فإنه ذكر المغفرة أولا ثم الفضل.. أي أنه فضّل الصيت والشرف على المال.

كما أنه بهذا الترتيب بيّن الفرق بين الأديان الصادقة والأديان الباطلة. فهذه تُؤثر المادة والدنيا، أمّا الصادقة فتؤثر الدين.. لأن الآية تصرح بوضوح تام أن هناك من ينفق الأشياء الرديئة خوفا من الفقر وغيره ينفق الحسن الطيب الأفضل لكي يزداد إيمانه ويرتقي فيه.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (270)

شرح الكلمات:

الألباب – اللُّب: خالص كل شيء؛ العقل؛ الخالص من الشوائب أو ما زكا من العقل. فكل لبٍّ عقلٌ ولا عكس (الأقرب).

التفسير:

يقول الله تعالى إنها أسرار الرقي التي يكشفها لكم رسولنا مصداقا للدعاء الإبراهيمي الذي سأل فيه أن يبعث الله فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة.. أي يكشف عليهم أسرار الرقي القومي. وتذكروا أن تعلم الحكمة ليس شيئا هينا، إنما إذا أُعطيَ أحد شيئا من الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. إذا وُفق المرء لعمل حسن فهذا خير، ولكن أن يطلع على أسرار الرقي في الحسنات وأن يعرف حِكم الأمور فهذا خير كثير، بل هو بمثابة أن يجد الإنسان منجما للجواهر الثمينة كالماس. فليس من شك أن كل تعليم حسنٍ موجودٌ في القرآن الكريم، ولكن إذا أدرك الإنسان الحكم وراء هذه التعاليم ازداد حماسا للعمل. أما في حالة عدم معرفته بها فإنه يتكاسل بالعمل بها. فالاطلاع على حِكم الأوامر نافع ومفيد جدا، ولكن الناس -يقول الله- لا يتذكرون ولا ينتصحون رغم ذلك، إلا الذين لا ينظرون إلى المصالح الشخصية وإنما يرون إلى المنافع القومية، فهم الذين ينتفعون من هذه الأمور.

Share via
تابعونا على الفايس بوك