تاريخ العلوم و الآداب في ظل الدولة الإسلامية

تاريخ العلوم و الآداب في ظل الدولة الإسلامية

عيسى الحاج رحمون

عزيزي القارئ: تحدثنا في الحلقة الماضية وما سبقها عن موضوع العلم والعلماء في بلاد الشام والجزيرة العربية حيث وصلنا إلى نهاية القرن الأول للهجرة، والآن ننتقل للحديث عن تاريخ هذه العلوم والآداب في تلك البلاد اعتبارًا من نهاية القرن الأول ولغاية القرن الأول للهجرة، أي أننا سنتحدَّث عن تاريخ هذه العلوم والآداب في ظلِّ قوة وازدهار الدولة الإسلامية، تلك الدولة التي اعتبرت أنَّ النصر على النفس والواقع والمحيط لن يتم بالانتساب إلى السلام، بل سيأتي نتيجة لتطبيق أحكام هذا الإسلام وتعاليمه. كذلك فهم المسلمون الأوائل بأن التاريخ مدرسة للطبائع البشرية، وهو عبرة لمن أراد أن يعتبر، كون التاريخ يمثل مجموع الاختبارات البشريَّة المسجَّلة في جميع الأزمنة بل هو مدرسة عظيمة للحذر والاتِّباع، ولربط الأسباب بنتائجها والنتائج بأسبابها، وهذا المفهوم لن يغيب عن مخيلتنا حين نتحدّث عن التاريخ هذه العلوم و الآداب في ظل الدولة الإسلامية الفتيَّة التي أنشد أحد شعرائها قائلا:

من لم يعي التَاريخ في صدره

لم يدرِ حلو العيش من مُرِّهِ

.

ومن وَعى أخبار مَن قد مضى

أضاف أعمارًا إلى عمرِهِ

فإذا نظرنا من خلال هذه الزاوية إلى من دوَّن لنا التاريخُ سِيرَهم من علماء وأدباء القرن الثاني وما تلاه وحتى نهاية القرن الخامس للهجرة حيث كثر القرّاء والمتحدثون والشعراء والنّقَلَة والمترسِّلون والكتّاب. وهذه الكثرة كانت ناجمة عن اتِّساع رقعة الفتوحات الإسلامية وكذلك بسبب فرط العناية بالعلم والآداب في ذلك الزّمن نبغ الكثير أمثال رجاء بن حَيرَة الفلسطيني الِكندي، العالم الفقيه الذي جالس الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، ومكحول فقيه الدِّمشقيين ومولى بني هذيل الذي يُعَدُّ أحد أوعية العلم والآثار. ولن تفوتنا الإشارة إلى الأوزاعي البيروتي الغني عن التعريف. أما إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم فقد شهد لهما أهل زمنهم قائلين أنَّهما وعاءَا علمِ أهل الشّام. في البداية حرص المسلمون الأوائل على الاستفادة من علوم الدِّين والطب لحاجاتهم لها حيث نبغ فيها الكثير من الرجال أمثال الحكم بن أبي الحكم الدمشقي، وعيسى بن حكم الدِّمشقي، والطبيب العالم عبد الملك بن أجبر الكناني، ويبقى أمير الإنشاء العربي وواضع أسسه عبد الحميد بن يحيى الذي عاصر المترجم جبلَّة بن سالم رائد أهل الشام في النقل والترجمة، الأمر الذي جعل من الشاميين خير من ينتق لغات الأمم الأخرى والتَّفصُح فيها بحيث استمرت هذه النهضة العلمية حتى القرن الثالث بوتيرة أقل حيث تميز هذا القرن بزيادة التَّدوين، لتنتقل كوكبة العلم والعلماء بعد ذلك إلى بغداد بسبب انتقال مركز الخلافة العباسية إليها ورغم ذلك لم تُحرم الشام من لفتة كريمة من الخليفة المأمون الذي أقام فيها مرصدا فلكيا شيده له يحيى ابن أبي منصور، كما لم تعدم الشام من نبغ فيها مثل محمد بن عائذ صاحب المغازي والفتوح ومحمد بن سميح صاحب الطبقات، والوليد بن مزيد العذري البيروني الذي نبغ في الرواية والعلوم، والإمام الشافعي المشهود له بالعلم. كما يذكر من شعراء هذا القرن البطين الشاعر وديك الجن شاعر حمص وأبو تمام وعبد السلام بن رغبان. ويذكر في مجال الهندسة أبو بكر البناء الذي بنى لابن طولون ميناء عكا. وَيحقُ للقرن الرابع للهجرة أن نسميه قرن سيف الدولة أو قرن أبي العلاء المعرّي حيث كان للأدب العربي مظهرا عظيمًا لم يكن له شبيه فيما سبقه أو لحقه من القرون باستثناء بعض الفترات أيام الأمويين. فقد أطلق على عصر سيف الدولة اسم الطراز المذهّب لأن الشعراء الذين كانوا عنده أو حوله لم يَجُدْ الدهرُ بمثلهم بعد.

ولعل البعض يتساءل عن سبب تسمية هذا القرن بعصر سيف الدولة أو عصر أبي العلاء فيأتيه الجواب أنه بُدئ الشِّعرُ بمَلك وخُتم بملك، وسيف الدَّولة هو من وقف ببابه الشُّعراء فأقطعهم الضِّياع والأملاكَ ونثر عليهم ألوف الدنانير وليس هذا فحسب بل إنه وضع على خزانة كتبه الشاعرين الخالدَين أبو بكر وعثمان. وربما قلّ بين الملوك من مُدِحَ بما مُدِحَ به سيف الدولة، إذ يكفي أن نذكر من شعراء بلاطه ابن عمه الأمير أبا فراس وأبا الطيّب المتنبي، والسَّلامي، والببَّغاء، والوأواء، وأبا العباس أحمد بن محمد النَّامي، وأبا الرقعمق، وكشاجم والصُّنوبري، والشِّيباني، وأبا زهير المهلهل.

أمّا من علماء عصر سيف الدولة فنذكر أبا محمد عبد الله بن محمد الفيَّاض الكاتب، وأبا الحسن علي بن محمد السمسياطي الكاتب والأديب وصاحب السَّفارة وحسن العبارة المسلح بقوة البيان. أمَّا في عالم الأدب واللغة والعلوم فنذكر ابن خالويه، وابنَ جني، والمنجم الفلكي أبا القاسم الرقِّي وحكيم الإسلام الملقب بالمعلم الثاني المدعو أبا نصر محمد الفارابي. ومن النحويين أبا بكر محمد بن مسعود، وعبد الله بن سعد النحوي الحلبي وأحمد بن شرامي الغساني. وفي علم التاريخ نذكر أبا غالب همام بن الفضل بن المهذَّب صاحب التاريخ المشهور، ورشأ بن ما شاء الله المقري أوّل من أنشأ دارًا للقرآن في دمشق سنة 444 هجرية. أما في المجالات الأخرى فيذكر المهندس والبنّاء والرحالة والجغرافي محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي صاحب كتاب أحسن التقاسيم، والمؤدب أبو طاهر بن زكوان البعلبكي، والمهندس الرياضي صاحب التصانيف علي بت أحمد الأنطاكي، والعالم الطبيب أبو الحسين بن كشكرايا المعروف بالحاوي إضافة للمترجم النجم الطبيب عيسى الرقي، وخطيب حلب عبد الرحيم بن نباته الفارقي، والمهندس الرياضي المجتبى الأنطاكي، وعالم التاريخ يونيسيوس بطريرك اليعاقبة.

أما مفخرة العرب في القرن الرابع للهجرة فكانت في حكيمهم وأديبهم رهين المحبسين أحمد بن سليمان المعري التنوخي الذي كان الشعر والأدب و القضاء متسلسلاً في عائلته لأكثر من مئتي عام ، وهو مَنْ جعل من مدينته المعرّة كعبة للقصّاد من طلاب الآداب حيث تحولت إلى دار حكمة وأدب.

أمّا من أخذ عن أبي العلاء أو أعطاه فكُثر إذ يكفي أن نعلم بأنَّ من رثى أبا العلاء على قبره يوم مات سبعون شاعرًا فما بالك بمن رثاه من شعراء الشام. لقد ترك التنوخيون من أقارب وتلامذة وأساتذة أبي العلاء بصماتهم على آداب عصرهم في كل من المعرة وكفرطاب ، وحلب، وحماه، وحمص، ودمشق، وطرابلس، والرقة، وهكَّار، والمصيصة، وبغداد، وتبريز والأندلس. كما جعل سيف الدولة بإحسانه ومشاركته لشعراء زمنه من مدينته حلب مجمعا للأدباء والشعراء. وحين بزغت شمس القرن الخامس للهجرة الذي يمكن أن نسميه عصر الفلسفة اشتهر في بقية الأقطار العربية فلاسفة من أمثال ابن رشد والبيروني والغزالي وابن سينا والرازي. وقد امتاز ذلك العصر بنشوء طائفة من الرجال عنوا بالفلك والعلوم الطبيعة والرياضيات والطب ممن هم فخر العرب على تعاقب الحقب. ويصح القول أن العلم اقترب من الماديّات في هذه الفترة كون الدهشة والفصاحة والشعر ونقل الأحاديث والعناية بالدين ذهبت عن الناس بعد أن تم تدوين أقوال أرباب المذاهب والشعراء لينصرف اهتمامهم للعناية بعلوم الدنيا. حينئذ فقط نشأ في تلك الديار من هم أمثال أبي الفضل الحارثي الدمشقي الذي كان مهندسًا ورياضيًّا وعالما بالحساب والتقسيمات والهندسة وعلم الهيئة ونقش الرُّخام وضرب الخيط والطب. كما أنَّ له مؤلفات كثيرة، كذلك نذكر محمد القيسراني الدمشقي عالم الحساب والهندسة والنجوم والهيئة والمساحة والميقات والفلك. ولا ننسى العالم الرياضي رضوان الخراساني والمهندس محمد بن عبد الواحد الذي كان عارفا بالمواقيت ومواقع النجوم ومنازل القمر. أما جورجيوس بن يوحنا اليبرودي فكان عالمـًا وطبيبًا مثلما كان ابن القلانسي مؤرخًا مشهورًا . ويذكر لابن شرارة أبي الخير الحلبي نبوغه في الطب والكتابة واشتهاره بجرائده في الوقت الذي اشتهر به الحسن بن الصمد بن الشخباء العسقلاني بالخطابة.

ويجدر بنا الإشادة بالمدرس والعالم نصر بن إبراهيم المقسدي النابلسي وبعلي بن منصور الحلبي الملقب بدوخلة والمعروف لدى العامة بابن القارح الذي اشتُهِرَ برسالته إلى أبي العلاء المعرِّي فأجابه المعري برسالة الغفران.

ومما لا يسعنا تجاهله في هذا القرن القاضي جلال الـُملك بن عمار صاحب الأيادي البيضاء الذي أنشأ ما يشبه الجامعة الدينية في مدينة طرابلس وزوَّدوها بما يربو على مئة ألف مجلد وكتاب لتصبح أول بلدة علمية في الشام.

وللحديث بقية نتطرق من خلاله لأخبار القرن السادس للهجرة وما بعده والذي يمكن أن نطلق عليه عصر الفتن والعلم.

(يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك