في عالم التفسير

من تفسير القرآن المجيد الذي نشرته الجماعة الإسلامية الأحمدية باللغة الإنجليزية تحت إشراف الخليفة الثاني للمسيح الموعود ، حضرة أمير المؤمنين المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد . (التقوى)

المقدمة لتفسير سورة الكهف

النزول

يروى عن عبد الله بن عباس وابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم، أن هذه السورة نزلت بكاملها في مكة (در منثور)، ويتفق في هذه الرواية معظم المفسرين. ويظهر حسب رواية عبد الله بن مسعود أنها نزلت في اول أيام البعثة، ويضيف أن سورة بني إسرائيل (الإسراء) والكهف ومريم هي من بين السور التي نزلت في بداية بعث النبي (البخاري). وحسب بعض المصادر كانت هذه السورة من بين السور التي نزلت كاملة. وكان يحرسها سبعة آلاف من الملائكة (در منثور مجلد 4 ص 210).

ويجب ألا يفهم من هذا الحديث أن بعض سور القرآن المجيد حوفظ عليها أكثر من غيرها وقت النزول. فالأحاديث التي تذكر عن نزول كذا وكذا من الملائكة لأجل الحفاظ على هذه السورة أو تلك لا تتحدث عن الحفاظة في وقت النزول، بل بعد أن تم النزول. والحقيقة أن كل سورة من القرآن المجيد تبحث في موضوع معين. ومن بين السور ما تشتمل على أنباء يرتكز على تحقيقها صدق القرآن المجيد. وهذه الأنباء تشير إلى أفعال سيقوم بها بنو البشر. أما الأنباء الدالة على أفعال الناس فلها أهمية خاصة، لأن الأقوام الذين ينبئ القرآن المجيد عن عقابهم يعملون جهد طاقتهم كي ينجوا من ذلك العقاب. ولأن مثل هذه الأنباء تأتي عموماً في ظروف غير عادية، لذا يبدو تحقيقها بعيد الاحتمال، إلا أنها تتحقق بالفعل، ولكن في جملة ظروف غير عادية. فإذا اشتملت سورةٍ ما على نبأ معين، وسعت شعوب قوية جهدها لإبطال هذا النبأ، هنالك يأمر الله تعالى ملائكته المكلفة بالإشراف والمراقبة على مجرى الحوادث في العالم لخلق أوضاع وظروف تساعد على تحقيق ذلك النبأ. وواضح أن المؤامرات والمكائد التي يدبرها أعداء رسل الله الذين يأتون بمثل هذه الأنباء تكون متناسبة بمداها وحدتها مع عظمة تلك الأنباء وأهميتها، وبالنسبة لذلك تكون أيضاً الإجراءات التي يدبرها الله تعالى لإفشال هذه المكائد والمؤامرات. وبما أن تدبير شؤون العالم موكل إلى الملائكة، والملائكة بدورهم يعملون بأمر الله، فبديهي أن يجند عدد كبير منهم للحفاظ على سورة تشتمل على أنباء هي في غاية من الأهمية، ولاتخاذ التدابير والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأنباء بتوجيه من الله تعالى.

وبالاختصار فإن حراسة الملائكة لسورة ما لا يعني حراستها وقت نزولها على النبي . إن عمل الحراسة الحقيقي يبدأ عند النزول، ويستمر إلى أن تتحقق الأنباء التي اشتملت عليها تلك السورة. وبالنظر لعصمة القرآن المجيد من أي مس، سواء كان من الإنسان أم من الشيطان فإن كل سورة وكل آية بل وكل كلمة وحتى كل حرف من القرآن المجيد محفوظ وتحت وقاية الله، وليس فيه أي جزء يمكن القول بأنه محفوظ أكثر من غيره.

وبما أن هذه السورة تشتمل على أنباء هلاك شعوب قوية وعظيمة مثل يأجوج ومأجوج وعلى إحباط وإفشال الحملات الدعائية المسيحية الباطلة ضد الإسلام لذا فقد تجند للعمل على تحقيق هذه الأنباء الآلاف من الملائكة منذ اليوم الأول لنزولها.

وينسب بعض المستشرقين تاريخ نزول هذه السورة إلى السنة السادسة للبعثة، لكن الأرجح أنها نزلت في السنة الرابعة أو الخامسة للبعثة.

علاقة سورة الكهف بالسورة السابقة

-بني إسرائيل (الإسراء)

إن الذي يربط هذه السورة بالسورة التي قبلها حسب قول المفسرين المسلمين هو الأسئلة الثلاثة التي عرضها اليهود على النبي والتي تدور حول الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين. ويقول هؤلاء المفسرون أن الجواب عن السؤال الأول قد نزل في سورة بني إسرائيل، بينما جاء الجواب عن السؤالين الآخرين في هذه السورة (البحر المحيط). إلا أن هذا الرأي لا يتفق مع الحقيقة والواقع، إذ أن هذه السورة تبحث في مواضيع هامة أخرى عدا أصحاب الكهف وذي القرنين كمثال الرجلين الوارد في الآيات 33 حتى 44 وإسراء موسى الروحي الوارد في الآيات 61 حتى 83. ولا جواب لدى هؤلاء المفسرين عن سبب اشتمال هذه السورة على هذه المواضيع إلى جانب موضوعي أصحاب الكهف وذي القرنين.

لكن المستشرق “ويري” يذكر في تفسيره للقرآن المجيد أن هذه السورة يمكن تسميتها بسورة القصص العجيبة، إلا أن هذا الشرح الخيالي للأستاذ المحترم بعيد عن الحقيقة كبعد ما قاله بعض المفسرين المسلمين أيضاً. الحق أن هذه التفاسير الغريبة جداً جاءت بسبب عدم إدراك هؤلاء المفسرين لأهمية هذه السورة وغرضها. والواقع أن فكرة عرض اليهود على النبي الأسئلة الثلاثة التي تجيب عنها هذه السورة قد دخلت رؤوس هؤلاء المفسرين من أحاديث مشكوك في صحتها. ولأن هذه السورة تجيب على هذه الأسئلة فقد تبنوا هذه الفكرة الدخيلة التي لا أساس لها دون أن يجهدوا أنفسهم لفهم مضمون السورة.

كذلك لا يمكن التصديق بالقول أن القرآن المجيد إنما ذكر أمراً ما بالتفصيل لمجرد أن اليهود قد سأل عنه الرسول . فالقرآن المجيد كونه مجموعة شرائع كاملة من البديهي أن يتناول بالبحث كل أمر أو موضوع هام يتعلق بالأخلاق الإنسانية وعبادة الخالق والروحانية والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها من المواضيع، سواء يسئل النبي أم لم يسئل. فإن كانت للحوادث الوارد ذكرها في هذه السورة علاقة ما بأي من هذه المواضيع كان لا بد من التطرق إلى ذكرها وبحثها على كل حال، وإلا لما كان أشار إليها القرآن المجيد، ولو كان اليهود قد وجهوا إلى النبي من الأسئلة ما وجهوا. كذلك ليس من العقل أن يقال أن هذه الحوادث ذكرت في القرآن المجيد معاً لأن اليهود كانوا تحروا عنها في وقت واحد. من الممكن توجيه أسئلة في مواضيع مختلفة في آن واحد وفي لقاء واحد، ويجاب عنها بحسب ترتيب عرضها في ذلك اللقاء. ومن غير المعقول أن يظن أن أسئلة لا تعنى بمكان واحد أو زمان واحد من الضروري الإجابة عنها جملة واحدة في كتاب مقدس، بغض النظر إن كانت هذه الأسئلة مرتبطة بعضها ببعض أم لا. وحول هذا الأمر يبدو أن المفسرين قد وقعوا في خطأ فاحش.

هذا، ويجب ألا يغيب عن البال أن القرآن المجيد يسبق في إجابته على كل اعتراض شرعي متوقع دون أن ينتظر إلى حين نشوء ذلك الاعتراض فيجيب عليه. والقرآن المجيد، وهو يعالج أي موضوع، يسعى لإزالة الشك الذي قد ينتج بحث ذلك الموضوع أو يعرض له. ويترك جانباً كل ما له أهمية عابرة، لأن رسالته لا تنحصر في شعب معين أو زمن معين، بل تخص جميع الشعوب والأزمان، لذا فلا مكان فيه لبحث مواضيع تهم شعباً واحداً فقط، وتتعلق بزمن محدد فقط. كذلك نرى القرآن المجيد، وهو يعالج موضوعاً ما، يرد على الاعتراضات تلقائياً من حيث أنها قد تنشأ نتيجة بحث ذلك الموضوع، وليس فقط على الاعتراضات التي يمكن أن يثيرها شعب معين في حين نزوله.

والحقيقة أن هذه السورة تبحث بشكل خاص في المسيحية والمسيحيين. وهناك أقوال عن النبي يظهر منها أنه نفسه كان يعتقد ذلك. فقد روى عنه قوله : “من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وعشر آيات من آخرها عصم من فتنة الدجال.” (مسند أحمد بن حنبل مجلد 6 ص 446-449).

وإن الروايات التي بنى عليها المفسرون استنتاجهم غير صحيحة، فقد نسبت معظم هذه الروايات إلى ابن عباس ، الذي كان في الرابعة من عمره فقط عندما أرسل أهل مكة وفدهم إلى يهود المدينة الذين اقترحوا بدورهم على أهل مكة أن يوجهوا هذه الأسئلة الثلاثة إلى النبي . ثم إن هذه الأسئلة يناقض بعضها بعضاً، إذ إن مطالعة سريعة وعرضية لهذه الأسئلة لا تدع مجالاً للشك في أنها باطلة ولا أساس لها. فإما أن يكون اليهود قد علموا جواب سؤالهم عن الروح او لم يعلموا. فإن كانوا يعلمون الجواب كيف يمكن مع هذا إثبات صدق نبوته  على أساس جواب كان يعلمه اليهود؟ وإن لم يكونوا يعلمون الجواب كيف كان بمقدور اليهود أن يميزوا ما إذا كان جواب النبي صحيحاً أم لا؟

كل هذه الحقائق مجتمعة تبين بجلاء أن الروايات المذكورة أعلاه القائلة بأن تلك الأسئلة الثلاثة قد وجهت إلى النبي من قبل اليهود ما هي إلا بدعة ابتدعها أحد النوابغ المبتدعين، وتناولها الناس فيما بعد كأحاديث نبوية صحيحة.

وبعد ما بينا بطلان هذه الروايات المذكورة، من الضروري أن نضيف بعض القول حول علاقة هذه السورة بالتي قبلها.

ففي سورة النحل ورد بحث مستفيض حول النبأ القائل بأن النبي سيواجه معارضة شديدة من قبل اليهود والنصارى في المستقبل. وفي سورة بني إسرائيل (الإسراء) تبلور هذا الموضوع فجاء بأن النبي سينتقل إلى مناطق حيث يعيش بين اليهود، ويعقد معهم عهوداً، ثم أنه سيلقى منهم معارضة، وكذلك من النصارى، إلا أنه سيغلبهم في نهاية الأمر. كذلك جاء في سورة بني إسرائيل (الإسراء) ذكر رؤيا النبي تتضمن نبأ مفاده أن النبي سيمتد حكمه إلى الأرض الموعودة المقدسة لليهود. وإشارة إلى أن اليهود سيتمردون مرتين كما أخبر بذلك سفر التثنية. فقد مردوا في المرة الأولى بعد زمن داود ، وكانت عاقبة ذلك أنهم طردوا من ديارهم. وبعد أن ندموا على أعمالهم وتابوا أعيدوا إلى أوطانهم. إلا أنهم انغمسوا ثانية في المعاصي، واستهانوا بأوامر الله تعالى، فمردوا للمرة الثانية زمن المسيح ابن مريم . ونتيجة احتقارهم نبي الله هذه المرة أنزل الله بهم عقاباً أليماً. فدمرت مقدساتهم، وطردوا ثانية من وطنهم المحبوب – الأرض الموعودة. وقد ذكرت هذه النبوءات أيضاً الحالات والظروف التي سيمر بها الجزء الأول من بني إسرائيل أي اليهود. ولقد أثار وصف حالاتهم السؤال التالي:

عندما نجا النصارى وهم الذين يمثلون الشطر الثاني من الديانة الموسوية، نجوا من ذلك العقاب الذي لقيه اليهود الذين يمثلون الشطر الأول من الديانة الموسوية. أفلا يستدل من ذلك أن النصارى قد أصبحوا ورثة البركات الإلهية والفضل الموعود لبني إسرائيل؟

ولو نترك جانباً هذا السؤال في الوقت الحاضر يبقى سؤال آخر يتطلب الإجابة وهو: لماذا حذر المسلمون من اتباع طرق اليهود حتى لا يجلبوا غضب الله، وما الذي يخبئه لهم المستقبل؟

فالجواب على هذين السؤالين الطبيعيين المتعلقين بالموضوع قد جاء في هذه السور، كما وألقي فيها الضوء أيضاً على التطورات التي ستمر بها الديانة المسيحية. كذلك في السورة ذكر عن المسلمين وسلوكهم، وكيف سيعرضون أنفسهم لسخط الله باتباعهم طرق اليهود المعوجة. وتتضمن السورة أيضاً جواباً عن سؤال آخر هو: ما علاقة هذه الأمور بأصحاب الكهف وذي القرنين ويأجوج ومأجوج ومثال الجنتين وإسراء موسى ؟ فالجواب الذي تقدمه هذه السورة على هذا السؤال هو أن هذه الأمثال تصف بطريقة مجازية نهضة الشعوب المسيحية وانهيارها، وكذلك المصائب والمحن التي سيلقاها المسلمون من هذه الشعوب بسبب ذنوبهم هم – المسلمين.

أما أصحاب الكهف فكانوا أولئك النصارى الأوائل الذين بسبب معتقداتهم لاقوا من الاضطهاد والظلم ما لا مثيل له، فمن الله تعالى عليهم من فضله ببركات مادية وروحية كبرى، جزاء لما تحملوا في سبيله. وإن الحوادث التي ذكرت في السورة قد تمت ووقعت قبل النبي بوقت طويل، لأن الذين خلفوا هؤلاء المسيحيين الأوائل كانوا قد تركوا، عند ظهور النبي ، طريق الحق. ولقد جاء ذكر أهل الكهف، ولو بإيجاز، للتنويه إلى الحقيقة بأن الله تعالى اختار أولئك المسيحيين الأوائل واختصهم بنعمته وأفضاله، بينما أصر اليهود على معارضة الحق، فجلبوا لأنفسهم بذلك غضب الله. ولكن عندما انحرف المسيحيون عن طريق الحق والفضيلة فيما بعد، واتبعوا سبل الشر والفساد خسروا هم كذلك البركات السماوية. وهذا الموضوع قد وصف في مثال “الجنتين” اللتين رمزتا إلى عصرين من التقدم والازدهار تمر بهما الديانة السماوية. العصر الأول عصر ازدهار الشعب اليهودي والعصر الثاني عصر تقدم الشعوب المسيحية وازدهارها. ويمكن أن ترمز الجنتان كذلك إلى عصرين من التقدم الأول للشعوب المسيحية، قبل ظهور النبي ، والثاني ما نراه في ومننا هذا. وبينما تشتمل سورة بني إسرائيل (الإسراء) على ذكر النعم والبركات التي من الله بها على اليهود، تبحث هذه السورة في التقدم المادي العظيم الذي ستحرزه الشعوب المسيحية.

بعد هذا تواصل السورة الحديث عن الإسرائيليين كيف أساؤوا استعمال هاتين الجنتين، وتنكروا لنعم الله الكبرى، وأخذوا يحتقرون أبناء عمومتهم – بني إسماعيل، وفسدوا من حيث الروحانية إلى درجة أنهم أخذوا يظنون أن ما أنزل عليهم من بركات لم يكن إحساناً من الله عليهم، بل ثمرة جهدهم وسعيهم وحق مستحق لهم. فسمع الله تعالى تضرعات بني إسماعيل المحتقرين المظلومين، فدمر الله الجنتين التابعتين للسلسلة الموسوية، أي حطم الله قوة اليهود والنصارى، واختص لبركاته وأنعامه بني إسماعيل الذين كانوا ينظرون إليهم بالازدراء وأعطاهم جنات تفوق ما اُعطي اليهود والنصارى.

لأجل توضيح هذا الأمر وشرحه بصورة موسعة جيء بذكر إسراء موسى يصف مجازاً التقدم المادي والأخلاقي الذي سيحرزه اتباع موسى . كما ويصف التقدم الذي عرض لأصحاب النبي في إسرائه المذكور في سورة بني إسرائيل (الإسراء). وإسراء موسى يصف كذلك بالتفصيل متى وكيف سيبدأ هذا التقدم العظيم، وأين يقف، ومتى سيحرم الإسرائيليون من البركات الإلهية التي ستنقل منهم إلى بني إسماعيل. ثم تخبرنا السورة أن بني إسماعيل سيجلبون بدورهم أيضاً غضب الله عليهم بعد أن كانوا ورثة بركاته، وذلك بتنكرهم لأوامره تعالى. وسيحل بهم عقاب شديد على أيدي الشعوب المسيحية التي تشكل الشطر الثاني من السلسلة الموسوية. وسيعاقب أتباع محمد بعد فساد أحوالهم بواسطة يأجوج ومأجوج الذين سينتشرون في العالم يوما ما، ويحكمون الأرض بأسرها. وتبين السورة بأن هذه الشعوب عاشت زمن النبي ، لكن الله تعالى بحكمته الثابتة أبقاها في حالة سبات، وأعاق تقدمهم وانتشارهم إلى زمننا هذا، وقد ذكرت الأسباب التي أعاقت تقدمهم هذا. وفي آخر السورة جاء ذكر ذي القرنين الذي وقف في طريق سيطرة يأجوج ومأجوج على العالم، وهكذا ألقى الضوء على حالة المسيحيين المادية والروحانية في أول عهدهم بالمسيحية وفي الأزمنة المتأخرة عندما ستجرفهم السلطة والمال والازدهار المادي بعيداً عن طريق الحق والصلاح. فأهل الكهف يمثلون المسيحيين الأوائل في زمن ضعفهم، ويمثل يأجوج ومأجوج المسيحيين في أوج مجدهم – زمننا هذا. وهم (أي يأجوج ومأجوج) مسيحيون بالاسم فقط لابتعادهم عن روح الدين وحقيقته. وتنتهي السورة بتأكيدها للمسلمين أن الله تعالى سيحطم قوى الالحاد التي ظهرت بواسطة ذي القرنين الثاني غير الأول، وهذا هو سيدنا أحمد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.

وخلاصة القول تبحث هذه السورة في عصرين تاريخيين للمسيحية، العصر الأول عاش فيه المسيحيون حياة تقوى وصلاح، وفي العصر الثاني استسلموا كلية، وتهافتوا في مسعاهم وراء الغنى المادي ومتاع الدنيا. وبين هذين العصرين، عصر المجد الروحي للمسيحية أولاً ثم عصر انحطاطها الروحي ظهرت الديانة الإسلامية. كما وتخبرنا السورة أن المسلمين كذلك سيزول مجدهم السياسي على أيدي المسيحيين عندما يحيدون عن طرق الصلاح ويتبعون سبل الشيطان، لكن الإسلام سيخرج سالماً من هذه المحنة فيما بعد، وهذا ما نراه يتحقق اليوم.

هذه هي العلاقة الوثيقة القائمة بين هذه السورة والسورة التي سبقتها، وخاصة العلاقة بين الآيات الأولى من هذه السورة والآيات الأخيرة من السورة السابقة، إذ تنتهي السورة السابقة بقوله تعالى: “وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا”. وتفتتح هذه السورة بإنذار الذين يتخذون لله ولدا بالهلاك والدمار: “وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا”. وكذلك نرى السورة السابقة تثني على العلماء الذين يعبدون الله ويمجدونه ويؤمنون بوعده إيماناً صادقاً. وترمي السورة بالجهل وعدم المعرفة الصحيحة أولئك الذين يتخذون لله ولدا. وبينما تشرح السورة السابقة وتصف ما هو العلم الصحيح، نرى هذه السورة تبين وتحدد ما هو الجهل وعدم المعرفة الحقيقية.

وهناك علاقة أخرى بين الآيات الأخيرة من السورة السابقة والآيات الأولى من هذه السورة وهي: بينما نرى هذه الآيات في السورة السابقة تنكر بشدة وجود شريك الله نرى النبي يؤمر في الآيات الأولى من هذه السورة بأن ينذر الذين يفاخرون بقوتهم وأموالهم ووسائلهم، ظانين أنها باقية دائمة لهم، وأنهم ناجون من عذاب الله.

والعلاقة الرابعة بين هاتين السورتين هي الحقيقة أنه بينما تنتهي السورة السابقة بقوله تعالى “وكبره تكبيرا” تستهل هذه السورة بلوم وتقريع أولئك الذين يتخذون الله ولدا. ويروى عن النبي أنه قال: “من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وعشر آيات من آخرها عصم من فتنة الدجال” (مسند أحمد)، مما يظهر أن النبي كان يعلم أن هذه السورة تقي من شر الدجال الذي لم يذكر في السورة باسمه، لكن الآيات العشر الأولى الموصى بقراءتها للحماية من شر الدجال تتحدث عن قوم اتخذوا لله ولدا. وهؤلاء ليسوا سوى نصارى هذا العصر. أما الآيات العشر الأخيرة فتحدث عن قوم كرسوا جل وقتهم وقواهم وجهودهم للحصول على الغنى المادي ومتاع الدنيا، وانهمكوا في الاختراعات والاكتشافات المادية إلى حد أصبحوا يظنون أنه بمقدورهم الوصول إلى أسرار الخليقة. ولكن كلما تمادوا في اكتشافاتهم واختراعاتهم زاد ادراكهم أن لا حد هناك لأسرار الطبيعة ولا نهاية لما يخلق الله من أشياء عجيبة وعظيمة. وهذا الوصف ينطبق تماماً على الشعوب المسيحية الغربية المعاصرة. لذا تشتمل السورة على شرح لأفكار هذه الشعوب ومعتقداتها وأطماعها وأفعالها. فعندما تبحث السور السابقة وهذه السورة في العقيدة المسيحية وازدهار المسيحيين وتقدمهم العظيم يتبين من ذلك أن النبي عندما طلب قراءة الآيات العشر الأولى والعشر الأخيرة من هذه السورة للعصمة من شر الدجال كان يعني بالدجال الشعوب المسيحية الفاسدة في عصرنا هذا. وتتضمن هذه الآيات استنكاراً شديداً لاعتقادهم بالمسيح ابناً لله ولميولهم المادية. وهكذا فإن الشعوب المسيحية هي الدجال حقاً المذكور في الأحاديث النبوية.

يمكن تلخيص مضمون هذه السورة بما يلي:

لقد أنزل الله القرآن المجيد ليزيل الأخطاء التي تسربت إلى الكتب السماوية السابقة، ولينذر الذين اتخذوا لله ولداً بأنهم سيجلبون لأنفسهم بفعلهم هذا غضب الله. ومع أنهم يكرهون الإسلام إلا أن بدايتهم لم تكن كنهايتهم. ففي بداية عهدهم كانوا ضعفاء وعرضة للاضطهاد الشديد، فرحمهم الله وأنقذهم من تلك المصائب والشدائد، ووضعهم على طريق الازدهار والتقدم، لكنهم عندما أصابوا غنى ورخاء انغمسوا في أعمال وثنية، وبدل أن يتجهوا إلى الله انكبوا على الدنيا، فتاهوا فيها كلية. والسورة تحذر المسلمين بأن يعوا لأنفسهم ويتعلموا درساً من هذه الأقوام، ويحذروا من شرور ثلاثة وهم في حالة قوة ومجد، الأول إهمالهم في عبادة الله، والثاني التهافت على متاع الدنيا وحب المال الشديد، والثالث حياة الرفاهية والرخاء.

وفي “مثال الرجلين” صورة واضحة لقوة الشعوب المسيحية ومجدها وانحطاط المسلمين وضعفهم، أحدهما غني والآخر فقير. الرجل الغني يفخر بأمواله يعني الشعوب المسيحية بينما يتجه الفقير إلى ربه. ذلك التفاخر والغرور سينتهي في المدى البعيد بالحزن والأسى، وستنشأ ظروف يصعب على البشر إدراكها، تأتي بانحطاط هذا الرجل الغني وزواله.

ثم تشرح السورة تلك التغيرات الهائلة التي أوحيت لموسى أثناء رؤياه. فقد أخبر موسى أن التطور والتقدم الذي ستحرزه ديانته سيكون أقل بكثير من تلك الإنجازات التي ستحرزها ديانة أخرى ستأتي فيما بعد والتي ستكمل وتتمم التعاليم التي لم تأت بها الديانة الموسوية، وأن الإسلام سيغلب وينتصر على أطلال المسيحية المنهارة.

بعد بحث السورة في انحطاط الشعوب المسيحية وانهيارها ونهوض الإسلام بعد ذلك تشرح الأوضاع التي ستتبع انتصار الإسلام. ولقد أخبرنا أنه سيأتي وقت يبتعد فيه المسلمون عن الدين ويلتهون في سعيهم وراء الثروة والقوة المادية. فعقاباً لهم على ذنوبهم سيمنح الله التقدم مرة أخرى لهذه الشعوب المسيحية التي صد تقدمها نحو بلاد الجنوب والشرق.

بعدها يصيب العالم دمار عظيم، وتنقسم شعوب الأرض إلى معسكرين معاديين كل ينادي بفكرة أيديولوجية تعارض فكرة الآخر. وتتفشى الذنوب والمعاصي، ويسود الظلم والاستبداد. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد سيخلق الله تعالى ظروفاً تصد هذا الطوفان الذي بات يهدد العالم بأسره، والذي يبدو كأن ليس لأحد القدرة على صده. وأثناء بحث هذا الموضوع تشير السورة إلى الذين كسروا شوكة يأجوج ومأجوج مرة في الماضي هم الذين سيقومون بدور هام لإيقاف هذا الطوفان الجارف، هؤلاء هم أتباع محمد الصادقون.

والحقيقة أن هذه السورة جاءت متممة للسورة التي سبقتها، وتربطها بها علاقة وثيقة ولطيفة. ولا صحة لما يدعيه بعض المفسرين من أنه لا صلة ولا ارتباط بين المواضيع والحوادث الواردة فيها، بل إن جميع آياتها بالفعل مرتبة ومنسقة تنسيقاً رائعاً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك