في رحاب القرآن
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (135).

شرح الكلمات:

خلت- خلا: مضى. يقال خلا الشيء أو الزمان: مضى (المفردات). وخلا فلان: مات (للسان). خلت: ماتت؛ انفضت؛ صارت إلى الخلاء.. وهي الأرض التي لا أنيس فيها.

التفسير:

يظن الناس عموما أن أعمال آبائهم سوف تغنيهم وتفيدهم. كانوا صلحاء فنحن أولادهم سوف نكن معهم في الآخرة. ولكن الله تعالى يدحض هذا الظن فيقول إن أعمالهم كانت معهم، وأعمالكم معكم.. ولا تسألون عما كان يعمل آباؤكم، وإنما تسألون عما كنتم تعملون أنتم. لو كنتم مسئولين عن أعمالهم أمكن أن تكتب لكم النجاة.. ولكن السؤال الذي سوف يوجه إليكم: ماذا كنتم أنتم تعملون؟ فقال الله تعالى (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم).. أي أن أعمالكم الحسنة هي التي سوف تفيدكم، أما أعمالكم السيئة فلا تكتب في أعمالهم. لن تسألوا عما كان إبراهيم وإسحاق وغيرهما يفعلون، وإنما تسألون عما كنتم أنتم تعملون.

ولا يعني قوله تعالى (ولا تسألون عما كانوا يعملون) أنكم لا تسألون عما ارتكبه آباؤكم من ذنوب، وإنما يعني أنكم لن تسألوا عما كانوا يأتونه من الأعمال الحسنة، بل تسألون عن أعمالكم الذاتية، لذلك لا تظنوا أن نجاتكم متوقفة على أعمال أسلافكم.

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(136)

شرح الكلمات: 

حنيفا –الحنيف: المائل عن الشيء؛ والمائل عن الضلالة إلى الهدى (المفردات)؛ والحنيف: المستقيم؛ الصحيح الميلان إلى الإسلام (أقرب المارد).

وهناك معنى آخر ثابت من القرآن الكريم وهو الذي يؤمن بالرسل كلهم، لأن الله تعالى يذكر بعد هذه الآية مباشرة (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. .إلى قوله تعالى. .وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون). وقد ذكر ابن كثير قولا لأبي قلابة، وهو أن الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم (تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية). ولا أدري من أين استدل على هذا القول، ولكن استدلالي من الآية التالية.

التفسير:

يقول الله تعالى إن اليهود يدَّعون أنه إذا صار الإنسان يهوديا نجا، ويدعي النصارى أنه إذا كان الإنسان مسيحيا نجا.. ولكن الفئتين كلتيهما على خطأ، بل الحق أن الإنسان لا يفوز بالنجاة إذا اعتنق اليهودية أو النصرانية، وإنما تتوقف نجاته على أن يتبع ملة إبراهيم. ولم يقل الله هنا أن نجاة الإنسان متوقفة على أن يُدعى إبراهيميا، لأن ذلك يكون مثل ادعاء اليهود والنصارى بالانتساب إلى دين ما.. ولكن النجاة الحقة أن يتبع الإنسان طريق الهداية، وهذا ما كان يفعله إبراهيم، وهذه هي ملَّته.. إذ كان دائما مطيعا لأوامر الله تعالى.

الواقع أنه تتسرب إلى أذهان أتباع أي دين من أديان العالم زمن انحطاطهم فكرة أن النجاة متوقفة على الانضمام إلى هذا الدين أو ذاك، ولكن هذه الفكرة خاطئة، لأن النجاة متوقفة على فضل الله تعالى، وطريقة جذب هذا الفضل الإلهي هو الطاعة لله. هناك إمكانية النجاة في دين صادق ما دام الانضمام إليه يؤدي إلى طاعة الله، أما إذا لم يؤد إلى طاعة الله فلا مكان للنجاة عن طريقه. لذلك عنَّف الله اليهود والنصارى الذين كانوا يؤكدون بأن من أراد الهداية فعليه أن يدخل في دينهم. .فقال لهم: هل مجرد الانضمام إلى دين ما يؤدي إلى النجاة؟ كلا، بل إنما النجاة تتوقف على أن يتبع الإنسان ملة إبراهيم، وكانت طريقة إبراهيم أنه كان يُسْلم إلى كل أمر يأتيه من الله ويقبله. هذا هو دين إبراهيم، واتِّباع هذا الدين فريضة على كل من يحترم إبراهيم.

لقد ذُكر من معاني (الحنيف) أنه ذلك الذي يكون مائلا عن الضلالة إلى الهدى، والحنيف أيضا من يحب الإسلام ويفديه بكل شيء، ويوجه كل اهتماماته إلى الله. وقد ذكرنا قول أبي قلابة المفسر الكبير وهو من التابعين أن الحنيف هو من يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، ولا يرفض أحدا منهم. إذن فقوله تعالى (ملة إبراهيم حنيفا) يبين أن إبراهيم كان حائزا على مقام من العبادة والطاعة بحيث إن مجرد تصور الضلالة لم يكن ليتطرق إليه أدنى تطرق، وإنما كان دأبه الطاعة الكاملة والاستسلام التام لأوامر الله تعالى.

ثم قال (وما كان من المشركين)، وبهذه الجملة المضافة إلى قوله (حنيفا)-أي من يؤمن بكل رسول –ألقى الضوء على حقيقة أن الذي يقفل باب الإلهام والنبوة والرسالة ويتوقف عند مقام فإنه في الحقيقة مشرك. .لأن أنبياء الله كمرآة تعكس صفاته، وعن طريقهم يتجلى التوحيد الحقيقي في العالم. التوحيد لا يعني فقط أن يعتبر الإنسان الله تعالى واحد أحدا، بل إن أهم مقومات التوحيد أن يؤمن الإنسان أن الله تعالى وحيد فريد في جميع صفاته، ولا شريك له من المخلوق في هذه الصفات. والحق أنه عندما ينقضي زمن طويل على بعث نبي فالذين يقرون بالتوحيد أيضا يقعون في أنواع الشرك، ويختفي عنهم الوجه الحقيقي لله تعالى، كما كان الحال عند بعث سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود –عليه السلام. فالمسلمون كانوا يؤمنون بوحدانية الله تعالى، ولكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون بأن المسيح الناصري –عليه السلام –قادر على أن يحيي الأموات، ويخلق الطيور، ويعلم علم الغيب. والظاهر البين أن كل هذه الأمور هي من عقائد الشرك. إن سيدنا المهدي –إلى جانب إصلاحه للعقائد الأخرى لدى المسلمين –قام بدحضٍ قويٍّ لمثل هذه العقائد الشركية، وأقام في الدنيا توحيد الله الخالص: فبدون الإيمان بأنبياء الله تعالى يكون من المستحيل قيام التوحيد الحقيقي في العالم. ولذلك عندما ذكر الله أن الإيمان بذاته –عز وجل-ضروري. .ذكر أن الإيمان بأنبياء الله أيضا ضروري،       وأنه لو لم يأت هؤلاء الأطهار إلى العالم لم يستطع الناس رؤية وجه الله، ولم يستطيعوا الخروج من هذه الضلالة والظلمات. وما دامت معرفة الله منوطة بالإيمان بأنبيائه.. لذلك أضاف قوله تعالى (وما كان من المشركين) إلى قوله (حنيفًا).. لينبه إلى أن إبراهيم لم يكن من المشركين، لأنه كان يؤمن بدوام سلسلة النبوة. ولذلك أمر في الآية التالية على الفور: قولوا إننا نؤمن بالأنبياء السابقين جميعا وما أوتوا من ربهم، ونؤمن أيضا بما يُعطَى النبيّون في المستقبل.

ومما لا شك فيه أن قوله تعالى (وما كان من المشركين) يعني أيضا أن إبراهيم كان بريئا من الشرك تماما، وكان يعبد إلها واحدا، والدليل على ذلك أنه على الرغم من أن مشركي مكة كانوا قد وضعوا في الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستين صنما.. ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن إبراهيم كان يعبد أحدا منها، بل كانوا يقرون أنه كان موحدا كاملا، ورواياتهم القديمة تصدق ذلك. كما تؤكد أحوال إبراهيم الواردة في التوراة أنه لم يكن في تعاليمه أي شائبة من الشرك. هذا المعنى صحيح وفي محله، ولكن إضافة (ما كان من المشركين) إلى قوله (حنيفا) يبين أن المراد من الشرك هنا ليس ذلك الذي يقع في أعمال الشرك المعروفة وإنما المراد الذي يعتقد أن النبوة قد انقطعت، وأن باب الوحي مسدود..لأنه بهذه العقيدة الفاسدة التي اخترعها يحول دون انتشار توحيد الله الحقيقي، في حين أن الطاعة الحقيقية هي أن يصدق ويؤمن ويقبل الإنسان ما يأمر به الله تعالى، ويلبي دعوة كل نبي من عند الله في أي زمن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك