المصلح الموعود.. آية سماوية بينة على صدق دعوة الإمام المهدي

المصلح الموعود.. آية سماوية بينة على صدق دعوة الإمام المهدي

محمد نعيم الجابي

إذا كان التاريخ الإسلامي يحمل لنا أنباء كثيرة عن شخصيات لعبت دورًا  هامًا في تغيير الخارطة الإسلامية فإنّ الشخصيّة التي نتحدَّث عنها في هذا العدد، هي شخصية متميّزة في التاريخ الإسلامي المعاصر.

لربما يكون هذا الكلام مألوفًا عند المسلمين الأحمديين ولكني أظنُّ أنه بحاجة ماسة إلى المزيد من الشرح لبقيّة قرَّاء “التقوى”.

ونحن نجد العذر لهم لأنهم لم يسمعوا ولم يقرأوا ما سنورده لاحقًا وذلك بسبب التَعْتِيم الإعلامي الذي يسود في العديد من البلدان العربية والإسلامية حيث يتم تجاهل كل ما يخصُّ الجماعة الإسلامية الأحمدية، وكأن الجماعة تشكّل ذلك .. “الغول” الذي سيقضي على ما تبقّى من الجسد الإسلامي.

الشخصيّة التي سنتناولها هي شخصية الخليفة الثاني لحضرة ميرزا غلام أحمد وإذا كان القارئ يتساءل الآن عن الميّزة الخاصة في هذه الشخصيّة الإسلاميّة؟.. وعلى ماذا تعتمد في حكمك الذي أصدرته باعتبارها فريدةً؟

فأقول له.. على مهلك قليلاً.. وتعالى الآن نتجوَّل معًا بين تفاصيل هذا الشخصيّة ولتوجّل حُكمَكَ إلى آخر جملة في هذا المقال.

معايير هامة

إنّ المعايير التي تميّز أي شخصية تكمن في ملامح معيّنة تميّز مراحل تطورها وأول تلك المعايير هو ذلك الذي يخصُّ قدومها إلى هذا العالَم وسنطلق عليه عنوان (الولادة) وأما ثاني تلك المعايير فهو تفاصيل حياتها المتداخلة وسنطلق عليه عنوان (المسيرة).

ومن دون أي شكّ أرى أنّ دراستنا العميقة لهاتين المرحلتين ستُمكِّننا بشكل يقيني من الحُكم على مدى تَفرُّد هذه الشخصيّة واتساع رقعة تأثيرها. وإذا كان القارئ الكريم قد تشوَّق للخوض في تفاصيل هذه الشخصيّة، فإنّي أزيده تشوّقًا وأخبره أنّ الرسول الأكمل محمد قد تنبّأ بنفسه عن ظهور هذه الشخصيّة كما تنبّأ عن قدوم المسيح الموعود والمهدي المعهود .

ونحن هنا لن نكتفي بمقولة أن ثمار الشجرة الطيّبة.. طيبة بل سنسعى للتدليل على جلال تلك الشخصيّة من خلال المعايير السابقة التي ذكرناها، ولنتناول الآن أولها:

  الولادة

إنّ الظروف التي أحاطت بولادة الخليفة الثاني حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد مُثيرة وغريبة في ذات الوقت، لأنّ ولادة هذا الطفل قد بشَّر بها أكمل الخلق سيدنا محمد قبل أربعة عشر قرنًا.. تصوَّروا!

وهذا ما أخبر به ابن عمر رضيَ الله عنهما الذي ذكر عن رسول الله قوله: “يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِلَى الْأَرْضِ، يَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ” (مشكاة المصابيح، باب نزول عيسى بن مريم). مما يدلُّ على أنّ لذلك الولد أهمية خاصة وإلا لما كان هناك حاجة لذكر الولد لأنّه أمرٌ عادي الحدوث.

وعند بعثة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود كان حضرته على يقين بأنّ هذه النبوءة ستتحقَّق في شخصه وأنّ الله سيَهَبه ولدًا صالحًا يكون من عِباد الله المكرمين.

طبعًا، كلٌّ منا يمكن أن يولد له ولد، ولكن هل يستطيع أحدنا أن يدَّعي أنّ الله قد أخبره أنه سيولد له خلال مدّة معيّنة ولد، وأنّ هذا الولد سيكون ذا صفات خاصة.

وما أعنيه أن يقول أحدنا.. سيولد لي ولد عظيم، ذكي، يحمل الكثير من العظمة والجلال؟ ويفيض بالعلوم الظاهريّة والباطنيّة؟ ويطَّلع على أسرار القرآن الكريم؟.. ويصل صيته إلى بقاعٍ بعيدة؟.. من منا يستطيع قول ذلك؟.. أظنُّ أن لا أحد لأنّه سيُعرِّض نفسه للتهكُّم والسُخرية.. ولكن مهلاً.. يمكن حدوث ذلك فقط في حالة واحدة، إذا كان مُطَّلِعًا على الغيب وهذا عادةً لا يحدث دون معونة ربّ العالمين الذي يُطلع على غيبه من يرتضي. وقد حدث ذلك بشكلٍ مُدهش مع حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود .

لقد قضى حضرته أربعين يومًا في ابتهال وتضرُّع مستمرين طالبًا من ربّه العون حيث كان مُحاطًا بتحديّات مستمرة من حوله.. ممن رفضوا أن يُصدِّقوا دعوته.. وسخروا منه.. وطالبوه بآيات صدق وإثبات لدعوته.

ومضت الأيام وهو مستمر بالدعاء يستمطر عون الله تعالى كي يحظى بآيةٍ سماوية بيِّنة تصدُّ هجمات المكذِّبين.

وانهالَ بعد ذلك المطر الروحاني وحَظِيَ حضرته بآيةٍ عظيمة يتعجّب لها المرء وهي تؤكِّد صدق قائِلها لأنّ تحقُّقها فيما بعد هو دليل على أنه وأنّها من الله سبحانه.. لا من الشيطان.

لقد بُشِّرَ حضرته بولادة ابن مُبارك خلال تسع سنوات وجاءت كلمات الوحي عظيمةً مُبشِّرة:

” سَمِعتُ تضرُّعاِتك ودَعوَاتِك، وإني مُعطِيكَ ما سَألتَ مني، وأنتَ مِنَ المــُــنعمين. ومَا أدراكَ مَا أُعطيت؟

آيةُ رحمةٍ وفضلٍ وقُربةٍ وفتحٍ وظَفَر. فَسلامٌ عليكَ، أنتَ مِنَ المـُــظفَّرين. إنّا نُبشِّركُ بغلامٍ اسمه عنموئيل وبشير.. والفَضلُ ينزِلُ بنزوله. وهو نورٌ ومباركٌ وطيّبٌ ومن المطهّرين. يُفشِي البركَاتِ، ويُغذِّي الخَلقَ مِنَ الطيِّبَات، وينصُرُ الدِّين. ويَسمُو ويَعرج ويَرقى، ويُعالج كلَّ عليلٍ ومريض وكان بأنفاسِهِ مِنَ الشَافِين. إنّه آيةٌ مِنْ آياتي، وعَلَمٌ لتأييداتي، لِيعلَمَ الذينَ كذَّبوا أني معكَ بفضلي المـُــبين. وليجيءَ الحقُّ بمجيئهِ، ويزهقَ الباطلُ بظهورهِ، وليُجلِّي قُدرَتي ويُظهِرَ عَظَمَتي، ويَعلو الدِّين وتَلمعَ البراهين، ولينجوَ طُلَّابُ الحياةِ مِنْ أكُفِّ موتِ الإيمانِ والنور، وليُبعَث أصحابُ القُبورِ مِنَ القُبور، ولِيعلَم الذينَ كَفروا بالله ورسُولهِ وكِتَابه أنهم كانوا على خطأٍ، وَلِتَسْتَبينَ سبيلَ المجرمين.

سَيُعطَى لكَ غُلامٌ ذكي ِمِنْ صُلْبِكَ وذُريَّتِكَ ونَسلِكَ، ويكونَ مِنْ عِبادِنا الوجيهين.

هوَ كَلِمةُ الله. خُلِقَ مِنْ كَلِماتٍ تمجيديَّةٍ. وهوَ فَهِيمٌ وذَهِينٌ وحَسِين. قد مُلِئَ قلبُهُ عِلمًا، وباطِنُهُ حِلمًا، وصَدرُهُ سِلْمًا، وأُعْطِيَ له نَفَسٌ مَسيحيّ، وبُورِكَ بالرُّوحِ الأَمِين..

وَلَدٌ صَالحٌ كَريمٌ ذكيٌّ مُبَارَك. مَظَهرُ الأوّلِ والآخِر. مَظَهرُ الحقِّ والعَلاء، كأنَّ اللهَ نزِلَ مِنَ السَّمَاء. يَظهَرُ بِظهُورِهِ جَلالُ ربِّ العَالَمِين. يأتيكَ نُورٌ ممسُوحٌ بِعطرِ الرَّحمن، القَائِمِ تحتَ ظلِّ اللهِ المنَّان. يَفُكُّ رِقَابَ الأسَارى ويُنجِي المسجونين. يُعظَّمُ شَأنُه، ويُرفَعُ اسمُهُ وبُرهَانُه، ويُنشَرَ ذِكرُهُ وَرَيحَانُه إلى أقصَى الأرْضِين.

إمامٌ هُمامٌ، يُبارَكُ منهُ أقوامٌ، ويأتي مَعهُ شِفاءٌ ولا يَبقَى سَقَامٌ، ويُنتفَعُ بهِ أنام..” (مرآة كمالات الإسلام ص 587)

أريد أن أوضِّح للقارئ العزيز أن النصَّ السابق هو مترجمٌ عن الأُرديّة وأنّ فحوى تلك النبوءة تحقَّق بشكلٍ مُعجز ولمن يريد تفاصيل أدق. أقول له: إنّ الدُعاء الذي دعاه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود قد حدث في الطابق العلويّ من بيت لرجلٍ من أشراف مدينة (هوشياربور) وذلك في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1886م. وأما البِشارة فقد جاءت في تاريخ 20 شباط (فبراير) 1886م. ثم جاء بعد ذلك مولد مصداق البشارة في 12 كانون الأول (ديسمبر) 1889م.

ترى ألا يحقُّ لنا أن نتساءل ونقول: أما يكفي تحقق هذه النبوءة بكامل تفاصيلها كما سنرى فيما بعد لنتأكد من صدق دعوة المسيح الموعود والمهدي المعهود .

المسيرة

طفولة هذا الولد الموعود حملت معها الوعد، كل من حوله لمسَ بنفسه ظواهر تَـمـــيُّزه. ومع أنه لم يتلقَّ من العلوم الدنيويّة إلا القليل (حتى أنّه لم يتجاوز امتحان المرحلة الثانوية) إلا أنّ مدرسته الحقيقيّة كانت في كَنفِ ربّه العليم الذي بَشَّر به. لقد أقبل هذا الولد الموعود على تعلُّم القرآن والحديث النبويّ الشريف وكان سنده في ذلك حضرة مولانا نور الدين الخليفة الأول لسيدنا الإمام المهدي .

وقبل أن يُكمل العشرين من عمره كانت له إنجازات تُعدُّ مميّزة بالمقارنة مع أقرانه، فلقد أصدر صحيفة باسم (تشحيذ الأذهان)، وكتب فيها مقالات قيّمة للغاية كانت السند للكثير من الشباب. ونظرًا لتميُّزه فقد عيَّنه الخليفة الأول أثناء مرضه إمامًا للصلاة بدلاً عنه، وذلك مع وجود كبار الصحابة الكرام لسيدنا الإمام المهدي . وعندما اعترض بعض المغرضين كان جواب الخليفة الأول واضحًا: إنّه أفضلكم تقوى.. إنني لا أرى مُتَّقيًا مثل محمود. (جريدة الفضل 19 كانون الأول “ديسمبر” 1940).

إنَّ نبوءات الغيب الإلهيّة لا تتحقَّق بالأُمنيات فقط ولا بُدَّ من العمل الجاد لتحقيقها. ولاشكَّ أنّ هذا ما جعل هذا الشاب الواعد يُدرك جَسَامة مُهمّته وأهميتها مما جَعَلهُ يقطع عهدًا على نفسه وهو يقف أمام الجثمان الطاهر لأبيه حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي فارق الحياة في مدينة (لاهور) بتاريخ 26 أيار (مايو) 1908.

كان الموقف رهيبًا، وكانت دموعه تقول: “اللهم، يا من لا تخفى عليه خافية، إنّي أُعاهِدك اليوم بكُلِّ صدق بانّه حتى لو انفضَّ جميع أتباع حضرته وتركوا طريق الأحمديّة فإنّي سوف أقضي بقيّة حياتي في تبليغ دعوتك هذه التي بَعثتَ بها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى جميع أنحاء العالَم”.

والحقيقة أنّ حياة هذا الشاب المخلص لدينه لم تكن سوى تحقيق لكلمات هذا الدعاء العهدي.

لقد كان موعودًا لأنّه مصداق البشارة الإلهيّة.. وكان مُصلحًا لأنّ الجماعة تقف على مفترق طرق.. بوادر فتنةٍ تبرُز من بعيد كما سنرى فيما بعد، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يوجد بناءٌ بحاجة إلى تدعيم أساسات لبناء المزيد من الطوابق ويحتاج إلى برنامج صيانة دائم يجعله قادرًا على مواجهة كل العوامل الخارجيّة التي تريد أن تنال من صموده وشموخه.

ولذلك كان لابدَّ أن يكون مُصلحًا موعودًا.. وهو اللقب الذي تعرفه به الجماعة الإسلامية الأحمدية.

وكي لا أظلم أي جانب من جوانب هذه الشخصيّة الإسلاميّة المتميّزة أجدني مُضطرًا لتناول مسيرتها من جوانب أربعة، هذه الجوانب الأربعة ترصد صفات شخصيّة المصلح الموعود التي كانت:

* شخصيّة روحانيّة.

* شخصية علم.

* شخصيّة اجتماعية.

* شخصيّة قياديّة مُنظمة.

“هو نورٌ مُباركٌ وطيّب ومن المطهَّرين”

(من كلمات النبوءة)

شخصيّة روحانيّة

إنَّ كلمة الروحانيّة نعني بها تمامًا عكس الماديّة.. وبكلماتٍ أخرى.. هي تلك الشفافيّة التي يحملها إنسانٌ عشق ربّه فأخلص له وتمنّى وِصَالَهُ. وهذا لا يعني أنّها شخصيّة حالمةٌ غير واقعيّة، بل إنّها تستمدُّ قوتها وهيبتها من قوة صلتها مع خالقها واتِباعها لتعاليمه وهي تتصرَّف بيقين كامل وتكون على الأغلب مؤثِّرة بشكل يقلب كل الموازين الدنيويّة.

كان المصلح الموعود يعتمد اعتمادًا كُليًّا على الدعاء. فالدعاء عنده يحمل بُعدًا أكبر من مجرّد التوسُّل بكلماتٍ إلى خالقه، بل كان يُدرك أنّ الدُعاء له القوة على تهييج رحمانيّة الخالق بحيث يتجلّى على عبده ويمكن أن نُشبِّه ذلك ببكاء الطفل الذي يدرُّ الحليب في صدر أمّه.

كنا نجد أن حضرته يلجأ دائمًا إلى بيتٍ سُميَّ “بيت الدُعاء” كلما حلَّ ابتلاءٌ بالجماعة.. حتى أنّه كان يأبى النوم على السرير ويذهب لينام على الأرض كلما حدث ذلك كأنه يُخضع نفسه لجزم من ذلك الابتلاء بشكل إرادي فكيف يهنأ بالراحة وجماعته في مخاض.

ويروي لنا قريبه ميرزا مُظفر أحمد أنه كان ذات ليلة نائِمًا في فناء داره في ليلةٍ صيفية عندما استيقظ على صوت نواحٍ وعويل مُفجع ومؤلم ولم يكن من الصعب تمييز صاحب الصوت.. لقد كان صوت المصلح الموعود أثناء صلاة التهجُّد التي كان يؤدِّيها في فِناء بيت زوجته (أم ناصر) المجاور لبيته.. كان الصوت يحمل كلمات.. اهدنا الصراط المستقيم وهي تتكرّر برقةٍ وألم.. لقد كان صوت العويل مؤثِّرًا بشكلٍ لا يُنسى.

كان المصلح الموعود يُدرك أنّ خير سبيل لتربية أفراد الجماعة هو زرع العامل الروحاني في نفوسهم وحثِّهم على التضحية بكل ما يملكون في سبيل الإسلام ونشر دعوته. كانت أُمنيته دائمًا أن يَهبَ كل أبنائه حياتهم في سبيل خدمة الدين ولكنه لم يُجبرهم على ذلك. والذي يقرأ رسالته لابنه مُبارك أحمد الذي وهب حياته لخدمة الجماعة يُدرك مدى إخلاص هذا الرجل.. تقول كلمات الرسالة: “لقد تلقّيتُ رسالتك ودعوت الله أن يقبل تضحيتك، في الحقيقة إنّ هذا الوقت هو الوقت الحقيقي للكفاح من أجل الإسلام. إنّ انشغال أحد أفراد أُسرتي بعملٍ آخر غير الدعوة هو ذنبٌ لن يُنسى.. لقد كنتُ سعيدًا جدًا عندما تلقّيتُ رسالتك التي تُعلن فيها وقف حياتك لخدمة الإسلام…”

وأدّت به شفافيته إلى درجة أنّه كان ينزعج عندما يرى المسلم متخلِّفًا وراء غير المسلم وحتى لو كان هذا في سباق دنيوي وهذا ما جعله يذكر في إحدى خطبه حادثة من حياة أحد الصلحاء (إسماعيل) شاهدًا يرمز إلى هذا المعنى.. فلقد كان ينتظر ذات مرةٍ على ضفة نهر (جهلم) القارب، حين شاهد أحد المسلمين يخوض سباقًا في السباحة مع أحد السيخ، وكان هذا الأخير يسبقه في كل مرة.. وما كان من إسماعيل إلا أن قام بما يقوم به المسلم الغيور على دينه. لقد أجَّلَ رحلته وجدَّ لتعلُّم السباحة حتى أتقنها ومن ثم تغلَّب على ذلك الرجل من السيخ ومن ثم تابع رحلته؟!

ومما لا شكَّ فيه أن شفافية وروحانية المصلح الموعود لم تأتِ عن ضعفٍ بل جاءت من خلال صفة الشجاعة التي تحلَّى بها، فلقد مَلَكَ عزمًا حديديًا. ويتذكَّر قريبه حضرة ميرزا مظفر أحمد اليوم الذي هُوجِمَ فيه حضرته أثناء الصلاة (تمامًا كما حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب ). فقد طعنه أحد الأشقياء في الرقبة.. وإلى حين وصول الطبيب الجرَّاح قام الدكتور ميرزا منوَّر أحمد بتضميد الجرح تضميدًا ابتدائيًّا. وفي وقت متأخر من الليل وصل الطبيب الجرَّاح الدكتور رياض قدير من لاهور ووجد الجرح متورِّمًا وتبيّن له أنّ عرقًا قد انقطع وأنّ الدم يتجمع في الجرح. فقرَّر إجراء عملية جراحيّة فوريّة وكانت هذه العملية تحتاج ان يُخدَّر المريض ولكن شجاعة حضرة المصلح الموعود رفضت ذلك وطلب إجراء العملية وهو في حالة وعيٍ كاملة.

وقد امتدَّ إخلاص حضرته إلى حرصه إلى عدم إنفاق أي قرش من أموال الجماعة في غير محلِّه. وأُورِدُ هنا بعض الأمثلة التي يتذكَّرها قريبه حضرة مرزا مبارك أحمد عن الإخلاص النادر الوجود في هذه الأيام.

فهو يتذكَّر أنّ أباه كان يدفع من ماله الخاص نفقات إقامته وأفراد عائلته خلال زياراته التبليغيّة لأماكن مختلفة. وفي إحدى المرات اجتمع مع بعض الضيوف. في إحدى مناطق الاصطياف واسمها (واهوس) وبعد الاجتماع أرسل سكرتيره الخاص إلى مقرّ إقامة حضرته بعض المأكولات ولكنه رفضها قائلاً إنّها من حقِّ الجماعة ويجب أن تُوزَّع على أفرادها.

وفي مرةٍ أخرى كان يُدقِّق الأموال المصروفة مع السكرتير الخاص، فوجد أنّه أُضيفت إلى المصروفات تكلفة بعث رسالة من سكرتيره الخاص لوالده. وما كان منه إلا أن طلب مسؤول الحسابات وأمره أن يخرج تلك التكلفة (على بساطتها) من كشوف الجماعة.

ومن الحوادث المميّزة ما حدث عندما دُعيَ في عام 1924 إلى لندن وذلك من قِبَل منظِّمي مؤتمر الأديان الحيّة كي يُمثِّل الإسلام، ورغم أنّ الجماعة عرضت توفير الأموال للرحلة إلا أنّ حضرته قرَّر أن يدفع من جيبه الخاص. ولما كان لا يملك المال الكافي فقرَّر أن يبيع بعض ممتلكاته وكان ذلك يتطلّب بعض الوقت ولهذا كتب إلى بعض الإخوة لاقتراض المال. وتعالوا نستمع إلى كلماته وهو يتحدَّث عن هذا الموضوع: “عندما ذهبتُ إلى إنجلترا كان الوضع المالي للجماعة في الهند صعبًا جدًا ولم يكن بمقدور الجماعة تحمُّل نفقات الرحلة. ولكن الله منح الكثير من الإخلاص والإيمان للجماعة في البلاد الإفريقيّة والعربيّة بحيث أنني تمكنت من تمويل رحلة التبليغ لكلّ الفريق المسافر وبكلماتٍ أخرى لقد كان الله وراء ذلك وسهَّل من خلالي الأمر كله. فحيث إنَّ الوضع كان صعبًا فلقد كتبتُ رسائل لبعض الإخوة في شرق إفريقيا لإقراضي المال اللازم ولكن حدث بعد ذلك أمر مُثير وكان علامة تأييد من عند الله. لقد كان هناك أخٌ أحمدي في العراق وما كانت أحواله الماليّة على ما يُرام ولقد كتبتُ إليه أيضًا ولربّما أخبر بعض أصدقائه بالأمر. وبعد مدّة وصلتني رسالة من بنك لندن تقول أنهم قد تلقُّوا بضعة مئات من الجُنيهات باسمي. وظننتُ أولاً أنّ جماعة قاديان هي التي دفعت المبلغ ولكن عندما تحقَّقت من الأمر تم إخباري أن مصدر المال هو العراق وليس قاديان. وأمرتُ بيت المال بتسجيل جميع مصادر الأموال كي نُعيدها في المستقبل لأصحابها.

وعندما عُدتُ أدراجي من إنجلترا، استفسرت من مدير بيت المال فقال إنّه أرسل عدة رسائل مسجّلة إلى الإخوة الأحمديين المعنيين بالأمر ولكنهم نفوا إرسالهم المال؟

ولذلك قمتُ شخصيًّا بكتابة رسائل إلى ذلك الشخص الكريم غير الأحمدي وشرحت له كيف أنني استلمت المبلغ المرسل من المال وكم مقداره وقلت إنه لا بدَّ أنّه أرسل المال استجابةً لطلبٍ من بيت المال أي كقرض ورجوته أن يرسل إلينا الجواب. وبعد عدة أشهر تلقّيتُ ردًّا واحدًا يقول إنّ هناك سوء فهم وأنّه لم يُقرض الجماعة أو بيت المال أية أموال وقال إنّه أرسل ستة أو سبعة مائة من الجنيهات إلى بنك لندن ولكن هذه الأموال لم تكن قرضًا بل هبة لي مما جعلني أندهشُ كثيرًا.

ولكن حيث أنّ الأموال كانت تخصُّ أمور الجماعة وكان المعطي غير أحمدي فلقد كتبت الأموال تحت بند يخصُّ بناء مسجد لندن.

وهكذا يمكنني أن أردَّ ديني وأشكر الله لأنّه أعطانا القوة لبناء مسجد في بلاد الكفر.

إنّ ذلك الأخ قدَّم لي معروفًا بإرسال المال إليّ والله أعطاني القوة لأنّ أُشرِّف ذلك المعروف بإنفاقي المبلغ على بناء مسجد لله جلَّت قدرته”.

لقد كان في هذه الرحلة بركاتٌ كثيرة فلقد عقد حضرته جلسات تبليغ مختلفة فاقَ عدد الحاضرين فيها المتوقّع وزرعت في قلوبهم حبَّ الإسلام. ولم تقتصر الجلسات على بريطانيا فحسب بل شملت فرنسا وإيطاليا التي التقى بها حضرته مع (بينتو موسوليني) الذي كان رئيس وزراء إيطاليا وبلَّغه رسالة السلام.

وإذا عاد معي القارئ إلى الوراء قليلاً سيجد أنّ هذه الرحلة كانت مصداقًا لِجُمَلٍ معيّنة ذُكِرت في النبوءة العظيمة التي تحدَّثنا عنها وأُورِدُ هنا هذه الجُمل:

“وليجيءَ الحقُّ بمجيئهِ، ويزهقَ الباطلُ بظهورهِ، وليُجلِّي قُدرَتي ويُظهِرَ عَظَمَتي، ويَعلو الدِّين وتَلمعَ البراهين، ولينجوَ طُلَّابُ الحياةِ مِنْ أكُفِّ موتِ الإيمانِ والنور، وليُبعَث أصحابُ القُبورِ مِنَ القُبور، ولِيعلَم الذينَ كَفروا بالله ورسُولهِ وكِتَابه أنهم كانوا على خطأٍ، وَلِتَسْتَبينَ سبيلَ المجرمين”.

شخصيةُ علم

“هوَ فَهِيمٌ وذَهِينٌ، قد مُلِئَ قلبُهُ عِلمًا، وباطِنُهُ حِلمًا، وصَدرُهُ سِلْمًا” (من كلمات النبوءة)

  إن العلوم التي أفاضها ربّ العالمين على حضرة المصلح الموعود تجعلنا نقف مذهولين لأنّ المعطيات لا تُشير إلى مصادر ماديّة متوفّرة، بل إنّ معظم تلك العلوم تلقَّاها من لدن ربّه بعد دعاء وتضرُّع مخلص.

ومنذ ريعان الشباب كانت ملامح رجلِ علمٍ متمكِّن تتوضَّح أمامنا، فلقد قاد حضرته أول صلاة جمعة في حضور الخليفة الأول وذلك في 29 تموز 1910 وكان عمره لا يتجاوز 21 سنة. وفي تلك الخُطبة قدَّم شرحًا جذَّابًا للآية من سورة النحل

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ

ما جعل الخليفة الأول يُسرُّ جدًا ويقول: لقد قدَّم محمود خطبةً رائعة جدًا، وإذا فتَّشتُم فستجدونها الأجمل، إنّي أُقدِّر هذه الخطبة واحترمها لأنها حملت الكثير من المعاني الجميلة. (الحكم 28 تشرين الأول “أكتوبر” 1911).

وفي مناسبةٍ أخرى حوَّل حضرة الخليفة الأول سؤال بعض الإخوة إلى حضرة المصلح الموعود وهو كان لا زال في مُقتبل العمر.

وإنّ صفاته الجميلة هذه حملت له رياح الحسد والضغينة من قِبَل حُسَّاده فكانوا يكيدون له، ولكن الخليفة الأول حَسَم الأمر عندما قال في خُطبةٍ ألقاها في مقر الجماعة في (لاهور) عام 1912 ما ترجمته: “لقد أصبح محمود الآن رجلاً ناضجًا أذهبُ إليه وأَسألُهُ، وهو مُطيعٌ لي جدًا، ومنكم من ينتقده ويقول أنّه ليس صادقًا تمامًا ولكني أعرفه وأعرف إخلاصه وليس أحدٌ منكم مثله”. (جريدة البدر، قاديان).

ولا بدَّ أن أُشرِكَ القارئ ببعض ما قاله وكتبه حضرته حتى يُدرك أبعاد تلك الشخصية الإسلاميّة وها أنا أقتطف فقرةً يتحدَّث فيها عن التصوُّف في الإسلام: “تقدَّم إليَّ مرةً رجلٌ غريب بعد ما فرَغتُ من صلاة الجمعة في هذا المسجد، وقال: أُريد أن أسئلكم سؤالاً، فقلت له: تفضل، سَلْ عمَّا بدا لك. قال: لو كنا في سفينة قد وصلت إلى الشاطئ، فماذا نصنع عند ذلك؟ فَألهَمني ربّي ببقيّة سؤاله وبما كان يرمي إليه. فلم أقل له انزلوا من تلك السفينة، لأنها وصلت إلى الشاطئ، بل قلت: إذا كان البحر الذي تسبح فيه السفينة محدودًا، فلا بأس أن تنزلوا منها، ولكن إذا كان البحر لا ساحل له، ولا مُنتهى لمياهه، فلا خير في النزول من السفينة، لأنكم حينما تنزلون ظانّين أنَّ هناك شاطئًا تغرقون.

وكان الرجل من تلك الطائفة البائسة من المسلمين التي تقول بأن الصوم والصلاة والأوامر الشرعيّة الأخرى كسفينةٍ للوصول إلى الرب، فلما وصل الإنسان إلى ربّه فلا معنى لمكوثه في السفينة، أي لا لزوم عندئذٍ للإتيان بالصوم والصلاة. وكأن السائل يُريد أن يقول لي: إنّني قد وصلتُ إلى الله، فلا أُصلّي، ولا أصوم، كما هو دأب هؤلاء القوم. وأما أنتم فلا تزالون في وسط البحر، فعليكم بالعمل بأوامر الشريعة.

ولكن الله علَّمني مُراده فأجبته بما لم يترك له مجالاً لهذا الاستنتاج الباطل، وقلت له: إذا كان البحر ذا سواحل وشواطئ، فالأمر أمرُك. وأما إذا كان لا ساحل له ولا شاطئ، لا بداية له ولا نهاية، فأينما هَمَمت بالخروج من السفينة غرقت.

فالإله الحقّ الذي خلقنا لعبادته لا يُحدُّ، ومراتب التقرُّب إليه لا نهاية لها، حتى أنّ سيد البشر وأكمل الأنبياء والمرسلين محمدًا أيضًا يترقَّى في تلك المراتب كل حينٍ وآن. فالقول إنّ هناك إنسانًا لم يبقَ أمامه مجالٌ للرُّقي يعني أنّه صارَ إلهًا.

كثيرا ما يقول الذين لا يُدركون الحقائق: هل يجزي الله عباده الصالحين على أعمالهم المحدودة جزاءً غير محدود؟ وفي أغلب الأحيان أقول لهم: نعم، يفعل الله هكذا ليُظهِرَ أنّه الإله الواحد الذي لا شريكَ له، ولو أنّ الله جزَى الإنسان جزاءً محدودًا، ثم أغلق عليه أبواب الرُّقي، لكان له أن يقول خشَى الربُّ ممن ترقِّياتي، وأوجسَ خيفةً مني أن أُشاركه في لاهوته.

ولكن الإله الحقّ يقول: أنا أجزيكم جزاءً لا نهاية له.. ترقُّوا، ثم تَرقُّوا دائمًا، وهناك تعرفون أنّ الإله واحدٌ لا شريك له.

فالتوحيد الكامل لا يثبت بدون نعمةٍ كاملة من الله. والأديان التي تقول بأنّ جزاء الأعمال محدود، هي التي تجعل مقام التوحيد الإلهي مُبهمًا غير واضح.

وموجز القول بأنّ مقامات تكميل الإنسان غير مُحصاة وغير محدودة، ولا بدَّ للإنسان أن يدأب على التوبة والاستغفار إلى الله، وأن يُوقِظَ ويُنشِّطَ روحه للحصول على تلك المقامات. فالدُعاء والاستغفار والإنابة إلى الله دائمًا لا بدَّ منه لتكميل الروحانيّة، وهي لا تدلُّ في كل حين على أنّ صاحبها مذنبٌ وأثيم.”

إذا كان القارئ قد ذاق بعضًا من العلوم اللَّدُنيّة لحضرته، فإنّي أُريد أن أُلقي القليل من الضوء على الطريقة التي كان يقضي بها أوقاته من خلال مشاهدات قريبه حضرة مرزا مظفر أحمد الذي يقول أنّه لا زال يذكر أيام حضرة المصلح الموعود في قاديان حيث كان يجلس على الأرض ملتحفًا بغِطاء أسمر وهو يُطالع الكتب أو يكتب على ضوء الشموع الكثيرة المتناثرة على صندوق خشبي، رغم أنّ حُنجرته كانت تتأثَّر كثيرًا من الدُخان.. وحتى عندما وصلت الكهرباء إلى قاديان في بداية عام 1930 كان ضغط العمل عليه شديدًا حيث كانت الجماعة تمرُّ في محنةٍ عظيمة.. وقد تكرَّرت المرّات حين لم يسترح في الليل دقيقة واحدة وكان يذهب لصلاة الفجر بعد العمل مباشرة.

ولقد كان حضرته يملك مَلَكَة الخطابة التي كانت تجعل لكلماته فعل السحر. لقد ألقى حضرته سلسلةً من الخطابات بعد فترةٍ قليلة من الهجرة من الهند إلى الباكستان، وفي مبنى الكليّة الإسلاميّة ألقى حضرته خطابًا تحت عنوان “مشروع الخلافات في الإسلام” وهو خِطابٌ قيّم يرصد الفترة التاريخيّة التي شهدت دسائس ومؤامرات حَرفت مسار الدعوة الإسلامية وأدَّت إلى ظهور فئة جديدة كالشيعة وغيرهم.. وبعد الاستماع لذلك الخطاب ما كان من أحد أساتذة التاريخ في الكليّة الإسلاميّة إلا أن علَّق قائلاً:

“كنت أظنُّ نفسي ماهرًا في علم تاريخ الإسلام، ولكنني بعد أن استمعت إلى خطابه أحسست كأنني طفلٌ يدرس في مدرسةٍ ابتدائيّة”.

  ولم تُغطِّ خطبه الرائعة موضوع الإسلام فحسب بل يذكر ابنه ميرزا مبارك أحمد أنّه دُعيَ ذات مرة إلى إلقاء كلمة في كليّة كويتا وذلك من قِبَل الجنرال (أختر ملك) عضو جهاز إدارة الكليّة، حيث طلب من حضرته أن يوجِّه كلمة إلى ضباط الكليّة حول موضوع (الدفاع عن باكستان).

وتصادف أن كان الجنرال (محمد أيوب خان، الذي انتُخِب فيما بعد رئيسًا لباكستان) يقوم بدورة في الكليّة، وقد اعتذر في البدء عن المحاضرة ولكنه حضر بعد ذلك لإصرار رفاقه وجلس في الصف الأمامي.

وتوضِّح كلماته التي صرَّح بها بعد المحاضرة عن مدى إعجابه وتقديره، حيث قال: “إنني سعيد لأنّ أصدقائي أقنعوني بالحضور إلى هنا. في الحقيقة إنّني قلت في سرّي عندما وقف حضرته لإلقاء الخطبة.. ترى ما الذي يمكن أن يقوله رجل دين. وكنت أعتقد أنه سيقول ذات ما يقوله بقيّة المشائخ ولكن بعد انتهاء حضرته، شعرت وكأنّي جنديٌ صغير في ميدان خبرته، فلقد شرح خططًا واستراتيجيّات عسكريّة رائعة ومُدهشة ولم أفكِّر بها قط.”

لربما كان سرُّ فيضان علوم حضرة المصلح الموعود هو عشقه للقرآن الكريم وحبّه للغوص في أعماقه. فلقد كانت دروسه حول تفسير القرآن دروسًا مشهورة للنساء والرجال على حدِّ السواء. كانت تستمرُّ هذه الدروس لساعات طويلة كل يوم.. وكانت نتائج تلك الساعات الطويلة تفسيرين للقرآن الكريم، التفسير الصغير والتفسير الكبير، وسيُدرك كل من يقرأهما مدى عشق حضرته لكلام وذات الله وكيف أنّ معارف القرآن تتجلّى للقارئ بطريقةٍ شيّقة ومدهشة وببلاغةٍ كبيرة.

واليوم أصبح للقارئ العربي نصيب في الاطِّلاع عن كثب على جزء هام من التفسير الكبير حيث طبعت الجماعة ترجمة سورة الفاتحة وسورة البقرة. وأظنُّ انّه ليس من العسير على القارئ الكريم الحصول على هذا التفسير ليُدرك بنفسه حقيقة رفعة ومكانة هذه الشخصيّة العلميّة الإسلاميّة التي نتحدَّث عنها.

“يُغذِّي الخَلقَ مِنَ الطيِّبَات، وينصُرُ الدِّين. ويُعالج كلَّ عليلٍ ومريض، وكان بأنفاسِهِ مِنَ الشَافِين” (من كلمات النبوءة)

        شخصيةٌ اجتماعيّة

إنّ سنوات الخلافة التي زادت عن الخمسين سنة (1914 – 1965) قضاها حضرته محاولاً غزو القلوب وكُلِّلت مساعيه بالنجاح إذ قدَّم آلاف الطيور الروحانيّين أرواحهم فداءً لدعوى الإسلام العظيمة.

وقد بدأ حضرته بالدارة الصغيرة لأُسرته وستلاحظون من خلال هذه الحادثة التي سأرويها على لسان ابنه، مدى حرص حضرته على أفراد منزله رغم كثرة مشاغله وكبر حجم المسئوليّة التي يحملها.

يذكر حضرة ميرزا مبارك أحمد ابن المصلح الموعود أنّه في صباه كان يحظى هو وإخوته بوجبة الغذاء مع والدهم كل ثلاثة أيام التي عادةً تحتوي على طبقين من الطعام. وقبل بدء الوجبة كان حضرته يتلقّى (حقيبة البريد)، ثم يضع أمامه الرسائل الكثيرة ونجد عيناه تنتقل من رسالةٍ إلى أخرى وهو يتناول بعض اللُقيمات القليلة بين الحين والآخر. ثم نجد يده تمتدُّ لتكتب التعليقات والتعليمات على هوامش الرسائل.

كان الابن يتساءل دائمًا كيف يمكن لهذا الأب أن يعيش مع هذا الطعام القليل؟ وقد حدث أن قرَّر أن يقلّد أباه فأخذ يأكل نصف رغيف فقط لمدة أسبوعين. وبعد مرور ثلاثة أسابيع نظر حضرة المصلح الموعود وقال له: إنني أُراقبك منذ 3 أسابيع وأرى أنّك تأكل نصف رغيف فقط وأنا لا أسمح لك بفعل ذلك في المستقبل لأنّك الآن في طور النمو وجسمك يحتاج للغذاء، وإلا ستصبح ضعيفًا جدًا عندما تكبر ويحين وقت تحمُّل المسؤوليات، ولذلك ضع المزيد من الأرز وخذ المزيد من الخبز ولا تفعل ذلك ثانية.

نعم لقد كان يبدو مشغولاً ولكن كانت له عين حاذقة تُراقب كل طفل من أولاده.. هل غسل يديه؟ هل يأكل بيمينه؟ هل يتناول مما أمامه؟ هل يصدر أصواتًا أثناء الطعام، وهل نظَّف أسنانه بعد الطعام؟

وكان هذا شأنه مع كل أطفال الجماعة الذين يعتبرهم أطفاله وقد تكرَّرت حادثة إيقافه لبعض الأطفال والشباب وسؤالهم عن صحّتهم وإذا كان مظهرهم يدلُّ على ضعف جسدي فكان يستدعي الأب ويُنبِّهه إلى ضرورة الاعتناء بصحة ولده.

ويتذكر مرزا مظفر أحمد كيف أن حضرته كان يتحدَّث إلى الصغار ويقول: إنّ القرآن بحرُ الحكمة والفِطنة. أنتم أيها الأطفال تعوَّدوا على تلاوته والتدبُّر فيه، لاستخراج الكنوز منه.

وفي أيام الشتاء كان حضرته يجمع أطفال الأسرة بعد صلاة العشاء ويقصُّ عليهم قصصًا لم تكن مأخوذة من كتاب بل يُحيكها هو بنفسه، ثم يوسِّعها. وكانت القصص دائمًا تحتوي على نصائح قيّمة، وعند الانتهاء من سرد قصصه كان الأطفال يغرقون في نومٍ عميق.

ونحن نتحدَّث الآن عن البعد الاجتماعي لا بدَّ لنا أن نذكر إخلاصه وتكريمه للسيدة (أمان جان) زوجة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . كان حبّه لها حبًّا يذكِّرها بوصية الرسول الأكرم محمد الذي يقول: أُمّك ثم أُمّك.. ثم أُمّك. كان يصطحبها عادةً في رحلاته التربويّة والتبليغيّة وكانت تناديه بكلمة “ميان” حبًّا له، وعندما كان يتأخّر في العودة من رحلة لم تكن فيها معه، كانت تضطرب وتُبدي قلقًا شديدًا.

ويتذكر قريبه حضرة مرزا مظفر أحمد عندما توفّيت “أمان جان” في ربوة وكان حضرة المصلح الموعود يرغب في دفنها بجوار زوجها سيدنا الإمام المهدي. وكان حضرة ميرزا مظفر أحمد وقتئذٍ في لاهور، واستلم أمرًا من أمير المؤمنين كي يتصل بالمندوب السامي الهندي بمركزه في دلهي ليحصل على الإذن من الحكومة الهنديّة. ولكن المندوب السامي أخبره أنّ الحكومة أذِنت لهذا الأمر بشرط ألا يُرافق الجنازة أكثر من عشرين فردًا من الأقرباء، ولا يمكن إعطاء التأشيرة لعددٍ أكبر.

ولكن المصلح الموعود رفض هذا العرض المشروط وقرَّر أن يُرافق الجنازة أكثر من عشرة آلاف تكريمًا للمقام العالي للفقيدة.

وكان حضرته يُشارك أفراد أُسرته في المسابقات الرياضيّة. وقد اهتمَّ حضرته بإعداد برامج خاصة للقيام باحتفالات معيّنة بالمناسبات الدينيّة مثل مولد النبي محمد حيث يتمُّ فيها إلقاء خُطب عن عظمة نبيّ الإسلام وحكمته، وقام أيضًا بتعيين يوم خاص لتكريم مؤسس الديانات الأخرى بطريةٍ تليق بمكانتهم وذلك لتعميق التفاهم والتآخي في أنصار هذه الديانات وإزالة جوّ التوتر بينهم.

“إمامٌ هُمامٌ يُبارَكُ منهُ أقوامٌ، ويأتي مَعهُ شِفاءٌ، ولا يَبقَى سَقَامٌ، ويُنتفَعُ بهِ أنام” (من كلمات النبوءة)

شخصيّة قياديّة مُنظِّمَة

لقد كان حضرته شخصيّة ذكيّة متبصِّرة، تقرأ المستقبل وتبني على أُسس علميّة متينة، ولا نُخطئ إذ نقول إنّ الهيئة الموجودة الآن للجماعة والشكل التنظيمي الرائع هو نتاج الإصلاحات الكبيرة التي أجراها حضرته.

إنَّ سرَّ نجاح خطواته أنّه كان يتصرَّف بناءً على بشارات إلهيّة تقوده ولا يعتمد على العقل وحده.

وكان أُولى تلك الخطوات إخراج الجماعة من مأزق الفتنة الذي سأُحدِّثكم عنه في الفقرة تحت عنوان:

الخروج من الفتنة

عند الشدائد يُمتحنُ الرجال، مقولةٌ تنطبق على حضرته حيث أثبت أنّه قادر بمعونة الله على إنقاذ الجماعة من المحنة التي أصابتها بعد رحيل الخليفة الأول وإليكم مضمونها: إنّ محور تلك الفتنة أنّ أحد صحابة الإمام المهدي اسمه (مولوي محمد علي) الذي تزعَّم حركة انفصال مُنتهِزًا فرصة مرض الخليفة الأول وكان يُحرِّر مجلة الجماعة (نقد الأديان) وكان أقوى سكرتير في اللجنة الإداريّة المركزيّة للجماعة. وكانت له مكانة عند أفراد الجماعة الذين نشأوا بين أحضان الغرب. وأمّا حركته فكانت تهدف إلى نقل المسئوليات بشكل كامل إلى اللجنة الإداريّة المركزيّة أي كل ما يتعلَّق بشؤون الإدارة والتنظيم، وكذلك إلغاء منصب الخلافة؟!..

ولما أبدت حركته نيّتها في أحد الاجتماعات عارض حضرة المصلح الموعود هذه الفكرة الخطيرة معارضةً شديدة، وأوضح لِلْمولوي (الشيخ) محمد علي وأصحابه بأنّه لن يُساهم في أي اتفاق يقضي بإلغاء منصب الخلافة.. هذه النِّعمة العظيمة التي أنعمَ الله بها على المسلمين بعدما قاسوا الأمرّين بفقدانها من أيديهم بسبب ضعفهم وتخاذلهم وتهاونهم.

وقد تفجَّرت هذه الفتنة في 14 آذار (مارس) 1914 عندما انتُخِبَ حضرته كخليفةٍ ثانٍ لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود وكان عمره لا يتجاوز 25 ربيعًا. فما كان من المولوي محمد علي ونفرٌ قلائل من أتباعه، ظنُّوا أنّه أحقُّ بالخلافة.. إلا أن ذهبوا إلى لاهور ليُؤسِّسوا هناك جماعةً منفصلة لم تجد دعمًا من الله ولم تقُم لها قائمة.

وما كان من حضرته إلا أنّ نظَّم إدارة الجماعة من جديد ونسَّق أمورها الماليّة والتربويّة. وقد ألقى حضرته خُطبًا هامةً رسَّخ من خلالها أهميّة الخلافة الإسلاميّة. ووضَّح النظام المـُحكم لانتخاب الخليفة في ضوء القرآن والسُنّة وتاريخ الخلافة الراشدة وتاريخ الأُمم. ثم وضَّح معالم الخليفة وحقوقه وواجباته مما جعل الجماعة تصمد فيما بعد في وجه كل العواصف والابتلاءات.

تنظيم الجماعة

عند تولّي حضرته الخلافة كانت خزينة الجماعة خاليةً، فقد أخذ المنفصلون عن الخلافة والذين كانوا ذوي المناصب الهامّة في الإدارة المركزيّة كل ما في بيت المال إلا بضعة قروش، ولكن الله مكَّن دينه وأيَّد حزبه ونصر جنده تحت قيادة الخلافة. فازداد عدد الجماعة بصورةٍ ملحوظة، كما امتلأت الخزينة أيضًا بتضحيات المخلصين.

وقام حضرته بتنسيق الإدارة المركزيّة للجماعة وتوزيع العمل بإنشاء مكاتب عديدة منها: مكتب السكرتير الخاص بأمير المؤمنين خليفة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود، مكتب النظّارة العليا وهو مكتب أكبر مسؤول عن الإدارة المركزيّة (صدر أنجمن أحمديّة)، بيت المال، ومكتب المحاسبة والأمْلاك ومقبرة أهل الجنة، مكتب التأليف والتصنيف، مكتب الإشاعة والنشر والتوزيع، مكتب الدعوة والتبليغ، مكتب الضيافة، مكتب التعليم أو التربية، مكتب الأمور العامة، مكتب الأمور الخارجيّة، مكتب الوقف الجديد (مؤسّسة تُشرف على تربية أبناء الجماعة القاطنين في القرى الباكستانيّة خاصة)، دار القضاء، ودار الإفتاء.

معارضة إغلاق المدرسة الإسلاميّة الأحمدية

في سنة 1908 وبعد وفاة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بقليل، أراد مسئولو الجماعة الذين انفصلوا فيما بعد عن الخلافة، إغلاق المدرسة الإسلاميّة (معهد تأهيل الدعاة)، زعمًا منهم بأنّ تعليم الدين بالعربيّة ليس ضروريًا، ونفقاته عبءٌ ثقيل على بيت المال. لقد أرادوا اتِّخاذ هذا القرار في أول اجتماع لهم بعد وفاة مؤسِّس الجماعة ! ولقد أيَّد هؤلاء في خُطبهم الملهبة إغلاق المدرسة، وكادوا يُقنِعون الجميع برأيهم، ولكن هذا الشاب هو الوحيد الذي تكلَّم ضد هذا الاقتراح القبيح، وغيَّر أفكار الأكثرية بصواب رأيه وحُسن بيانه وقوة أدلّته. فلم تزل هذه المدرسة تترقّى وتزدهر حتى صارت جامعة، وتُعرف الآن بالجامعة الإسلاميّة الأحمدية. ولقد تخرَّج منها العلماء الكبار والدُعاة الأفذاذ مثل مولانا جلال الدين شمس، أول داعية إسلامي أحمدي بُعث للديار العربيّة، ومولانا أبي العطاء الجالندهري، الذي بُعث إليها بعده مباشرةً، ومولانا نذير أحمد مُبشِّر مؤلف كتاب: القول الصريح في ظهور المهدي والمسيح.

 

التحريك الجديد

في 1934 قامت طائفة الأحراريّين (وكانوا من المشائخ المتعصِّبين وأتباعهم المتطرِّفين المعادين للجماعة، والمــُوالين للهنادك، والمعارضين لحركة تأسيس باكستان، والمخالفين للقائد الأعظم محمد علي جناح، مؤسِّس باكستان) بإحداث شغبٍ كبير في قاديان بمساندة الحُكّام الإنجليز. فقاموا أثناء أحداث هذا الشغب بضرب بعض المسلمين الأحمديين بما فيهم نجل سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود مرزا شريف أحمد. جاءوا بنيّة تدمير قاديان والقضاء على الجماعة الإسلاميّة الأحمدية. ولكن الله تعالى أفشلهم فشلاً ذريعًا، فرجعوا يجرُّون أذيال الخزي والهوان.

والتحريك الجديد (أي المشروع الجديد) هو ثمرةٌ طيّبة لهذه الابتلاءات، إذ أعلن سيدنا مرزا محمود أحمد إثرها: إنّهم يحاولون القضاء على الجماعة. حسنًا سوف ننشر ونوطِّد الدعوة الإسلاميّة الأحمديّة بعون الله في كل أرجاء العالَم. وفتح صندوقًا باسم (التحريك الجديد) لإنشاء شبكة كبيرة من المساجد ومراكز التبليغ وفروع الجماعة في مختلف بلدان العالَم. فقام أبناء الجماعة بتقديم تضحيات جسيمة وتحقَّق هذا المشروع بعون الله تعالى. والآن نرى هذه الشجرة الطيّبة تُعطي ثمارها بإذن ربّها في أكثر من 150 بلدًا من العالَم. وهكذا تحقّق وعد الله تعالى لحضرة المهدي والمسيح الموعود : “سوف أبُلِّغ دعوتك إلى أقصى أطراف الأرض”، على يد هذا الرجل العظيم الذي كان عاهد الله تعالى تحقيق هذا الوعد في عنفوان شبابه.

مجلس الشورى

ومن الأعمال الخالدة لحضرته إقامة مجلس الشورى للجماعة عام 1922.. تنعقد جلساته سنويًا لمناقشة شؤون الجماعة. فكان حضرته يؤمن ويُعلن أن لا خلافة إلا بالمشورة. انطلاقًا من قول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ .

والجدير بالذكر أن سيدات الجماعة أيضًا يشتركن في جلسات هذا المجلس، وذلك بمراعاة الحجاب حيث يشتركن في النقاشات وهنَّ جالسات في قاعة منفصلة عن قاعة الرجال.

إنشاء تنظيمات فرعيّة في الجماعة

قسَّم ونسَّق حضرته أبناء الجماعة رجالاً ونساء حسب سنِّهم، فأسَّس مجلسًا للشيوخ وسمَّاه مجلس “أنصار الله”، ومجلسًا للشباب باسم “مجلس خُدَّام الأحمدية”، ومجلسًا للسيدات باسم “لجنة إماء الله”، ومجلسًا للصغار الذكور باسم “أطفال الأحمدية” ومجلسًا للبنات باسم “ناصرات الأحمديّة”. وذلك لتتولّى هذه المجالس كلٌّ على حدة تربية الأعضاء تربية إسلاميّة. ولهذه التنظيمات فروعٌ في جماعات كل بلد ومدينة وقرية من العالَم يتواجد فيها المسلمون الأحمديون. ولها هياكلها الإداريّة، واجتماعاتها الشهريّة، واشتراكاتها الإلزاميّة، ومجلاتها الخاصة.

التصدّي لفتنة الارتداد بالهند

في 1912 قام الهنادك المتعصِّبون والمتطرِّفون في ولاية (ملكانه) الهنديّة بحملةٍ خطيرة باسم حركة “شدهي” لردّ المسلمين إلى الهندوكيّة، زاعمين أنّهم قد ارتدُّوا عن دينهم وأسلموا. فبذلوا أموال طائلة وجهودًا مُضنية لإرجاع هؤلاء المسلمين الفقراء والضعفاء. وبالفعل تمكَّنوا خلال عشر سنوات فقط من إدخال حوالي 6 ملايين منهم في الهندوكيّة، وذلك في القرى المجاورة للمدينة الهنديّة الشهيرة (آغرا). فتصدَّى حضرته في سنة 1923 لهذه الفتنة البالغة الخطورة، وحضَّ أبناءه الروحيين من كل الطبقات على الدفاع المستميت عن حوزة الإسلام، موضِّحًا لهم أنّه لن يُعطيهم شيئًا من نفقات السفر أو السكن وإنّما ينفق كل واحد لهذا الجهاد العظيم على حسابه الخاص.

فاجتمع حوله المخلصون من كل المجالات، من العلماء والدكاترة والمحامين والأساتذة والتجار والصناعيين فقراء وأثرياء. فشكَّل جندًا متكوِّنًا من حوالي مائة شخص، سلاحهم القرآن والسُنّة والدعوات أمام الله تعالى. فخاضوا غمار المعركة ببسالة وشجاعة، وهزموا العدو الماكر بالأدلة الدامغة بإذن الله تعالى، وتمكَّنوا من إنقاذ هؤلاء المسلمين المرتدِّين التُعساء من براثن الهندوكيّة الوثنيّة.

خدماته لمسلمي الهند

كان من ميزاته التي أخبر الله تعالى عنها أنّه يفكُّ رقاب الأسارى. ومصداقًا لذلك النبأ العظيم وُفِّق حضرته لمساندة مسلمي الهند بمختلف المناسبات ولا سيما في تأسيس باكستان. فلما يئِس مؤسِّس باكستان السيد محمد علي جناح من اتحاد المسلمين والهنادك توجَّه إلى إنجلترا ليشغل منصب مُحامٍ بعيدًا عن مشاكل مسلمي الهند، أقنعه حضرته عن طريق الداعية الإسلامي الأحمدي بلندن آنذاك، بالعودة إلى أرض وطنه وقيادة شعبه المقهور في خضم مشاكلهم السياسيّة. فَرَضِيَ السيد جناح وعاد ليقود شعبه المسلم إلى الاستقلال وتأسيس دولة باكستان.

كما ساهم حضرته مساهمةً مشكورةً في محاولة تحرير أبناء كشمير المسلمين حيث اختاره المسلمون رئيسًا (للجنة كشمير) التي تكوَّنت لتحريرها. ولكن حضرته قدَّم استقالته عندما اندسَّ الأحراريون في صفوف هذه اللجنة، وعرقلوا طريقه. وهكذا حُرم هذا الشعب المقهور من هذا القائد الجليل وبالتالي من الاستقلال.

مواقفه المشهودة من العرب

أحبَّ سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود العرب حبّا كبيرًا، كما غرس في أتباعه أيضًا حُبَّهم. ونتيجةً لهذا الحب للعرب الذي غرسه حضرته في نفوس أتباعه أحبّهم خلفائه بدورهم واهتمُّوا بقضاياهم اهتمامًا كبيرًا، وساعدوهم مساعدة مشكورة.

فحينما كان الاستعمار يُخطِّط لتمزيق فلسطين في الثلاثينات، وأحسَّ العرب بهذا الخطر، واجتمعت الوفود العربيّة لمناقشة هذه القضية الحسّاسة مع المستعمرين في لندن في 1939.. أيَّد حضرة إمام الجماعة الخليفة الثاني حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الوفود العربيّة كل تأييد، ودعا لهم بالتوفيق من الأعماق. وإليكم نص البرقيّة التي بعثها حضرته إلى الداعية الإسلامي الأحمدي حضرة جلال الدين شمس.. والتي قرأها على مسامع الوفود العربيّة في مأدبةٍ فخمة أقامتها الجماعة في الجامع الأحمدي بلندن ترحيبًا وتكريمًا لهم.. حضرها ما ينيف عن مائتي شخصية كبيرة عربيّة وغربيّة:

  “رحِّبْ بسموِّ الأمير الملكي فيصل نيابةً عني، وكذلك بقية المندوبين للمؤتمر الفلسطيني، وأَخبِرهم بأنّ الجماعة الإسلامية الأحمدية معهم بكل معنى الكلمة، وهي تدعو الله ان يُكلِّل مساعيهم بالنجاح، وينصر جميع الحكومات العربيّة إلى طريق النجاح والفلاح، ويمنحهم قيادة العالَم الإسلامي كتلك التي حازوها وتملَّكوها في القرون الأولى”.

كما دوَّنت صفحات التاريخ كُتيِّبين (هيئة الأُمم وقرار تقسيم فلسطين) و(الكُفر ملَّة واحدة).. ألَّفهما حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد سنة 1948 مُبرِزًا استنكار الجماعة الإسلامية الأحمدية الشديد للاحتلال الصهيوني.

بقي حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد (المصلح الموعود) في منصب الخلافة حوالي 52 سنة حافلة بجلائل الأعمال.

Share via
تابعونا على الفايس بوك