في عالم التفسير

بسم الله الرحمن الرحيم

فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْـًٔا إِمْرًا ( الكهف: 72).

المفردات: إمرا مشتقة من أمر، أمر معناه أصدر إليه الأمر. يقال أمر القوم أي كثروا، أمر الأمر يعني اشتد وأصبح خطيرًا ومؤلمًا وعجيبًا. شيء إمرٌ: عنيف خطير ومؤلم، أو فظيع وباطل، أو باطل جدًا، أو شر، أو شنيع أو عجيب. واللفظ القرآني (لقد جئت شيئًا إمرا) يعني إنك فعلت شيئًا عنيفًا وخطيرًا ومؤلمـًا، أو شيئًا فظيعاً، أو باطلاً، أو شرًا أو كريهًا.

التفسير:

لقد وردت الآيات السابقة فقط كمقدمة لموضوع إسراء سيدنا موسى ، وبالآية هذه يبدأ ذكر الحوادث التي رآها موسى فعلاً في منامه.

ينسب إلى موسى هنا أنه عارض أول عمل قام به صاحبه العالم، رغم الحقيقة أنه قد وعد بأنه لا يسأل أو يعارض. بينما نرى النبي ظل صامتًا طيلة الوقت أثناء رؤياه. هذا الفرق بين سلوك هذين النبيين العظيمين يعكس مواقف أتباعهما نحو ديانتهم. فبينما ظل أتباع النبي مخلصين لدينهم تحت أقسى الظروف وأشد العذاب.. تنكّر أتباع موسى لدينهم عندما سنح لهم ذلك.

ومن الناحية الأخرى فإن الوقائع الثلاث التي حدثت في رؤيا النبيين مطابق بعضها لبعض في تفسيرها وأهميتها، رغم اختلاف المجازات المستعملة في الوصف.

فالسفينة في لغة الرؤى تعني “الغنى الدنيوي”، وهذا التفسير يؤيده القرآن الكريم لقوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (الإسراء: 67). ففي نطاق هذا المفهوم يكون معنى ركوب موسى السفينة مع صاحبه العالم الذي كان، كما أسلفنا، تجسدًا للنبي ، أن أتباع هذين النبيين سيحصلون على غنى مادي وافر في عصورهم وأزمانهم الخاصة.

وكلمة (خرقها) تفسر بأن النبي سيضع تعاليم تكون بمثابة خرق لسفينة الرخاء والغنى الذي سيتمتع به أصحابه، بمعنى بأن النبي سيعمل على ألا تتجمع الأموال بين جميع طبقات المسلمين بالعدل. من أجل فرض الإسلام الزكاة، ومنع التعامل بالربا، وتوزيع الأموال الموروثة عن طريق قانون الوراثة الإسلامية بين جميع الأبناء والآباء والأزواج وغيرهم من الأقارب. كذلك منع الإسلام المقامرة ووضع أصولاً وشرائع لتحسين وإصلاح أحوال العمال. والأغنياء من اليهود والنصارى لا ينظرون إلى مثل هذا التوزيع للمال بعين الرضى، ويعتبرونه ضياعًا فادحًا، وتميل جميع قوانينهم الاقتصادية إلى زيادة الأموال والغنى، وتساعد على تجميعها في أيد قليلة.

وقد عارض موسى خرق السفينة بواسطة صاحبه العالم، وهذا حسب تفسير الأحلام يعني بأن قوم موسى سيفتنون جدًا بالغنى المادي بحيث لا يقبلون بقوانين تهدف إلى توزيعه توزيعًا عادلاً، وأما النبي فرفض في رؤياه (المعراج) كأس الماء الذي قُدم إليه، مما يعني بأن أتباعه سيفضلون الدين على الدنيا. فكما أن موسى رأى خرق السفينة بواسطة صاحبه العالم عملاً خاطئًا، كذلك رأى قومُه طلبَ النبي من أتباعه بأن ينفقوا أموالهم في سبيل الله عملاً خاطئًا، إلى حد أنهم ذمّوه لطلبه هذا. كما جاء في القرآن الكريم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ (المائدة: 65)، وكذلك قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ (يس: 48).

قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (الكهف: 73)

التفسير:

أي أن قوم موسى لن يقبلوا النبي حتى يبدلوا حبهم للمال بحبهم لله.

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (الكهف: 74)

التفسير:

هنا يعتذر موسى لخطأه ويسأل العفو، ويَعِدُ بألا يسأل بعد. ومن الممكن تفسير ذلك بأن اليهود والنصارى في بداية الأمر سيقفون إلى جانب النبي، ولكنهم سينقضون عهودهم فيما بعد. وهذا قد حدث؛ فعندما هاجر النبي إلى المدينة عقد معه اليهود معاهدة نقضوها فيما بعد، عندما أدركوا أنها تلزمهم بتقديم تضحيات كبيرة، وانتهى الأمر إلى الوقوف بجانب أعدائه، ومثل ذلك حدث مع المسيحيّين الّذين كانوا في البداية على علاقات ودّيّة مع المسلمين، ثمّ تحوّلوا إلى أعداء ظاهرين، لقد نظر القيصر المسيحي إلى رسالة النّبيّ باحترام عظيم، وبدأ كأنّه سيقبل الإسلام، ولكن عندما رأى المسيحيّون فيما بعد أن مصالح المسلمين السّياسيّة تتعارض مع مصالحهم أعلنوا حربًا على المسلمين استمرّت انعكاساتها مدّة طويلة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك