حقيقة عقوبة الرِدّة في الإسـلام!!

خطاب هام لإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

حضرة مرزا طاهر أحمد أيده الله بنصره العزيز،

الخليفة الرابع للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام،

ألقاه في 27/07/1986 في الاحتفال السنوي لجماعة بريطانيا بإسلام آباد، تلفورد.

 الحلقة الثانية والأخيرة

الآيات القرآنية بشأن الارتداد الخالية من ذكر قتل المرتدين

والآن أعرض عليكم بعضًا من الآيات القرآنية العديدة.. التي تناقش موضوع الارتداد بوضوح وتفصيل، ومع ذلك لم تتناول أي ذكر لعقوبة قتل المرتدين بتاتًا، بل تخالف هذا الزعم الفاسد في صراحة ووضوح وتفصيل، لدرجة أنها لا تترك أي مجال للشك في بطلان هذه العقيدة.

الآية الأولى

قال الله تعالى:

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (المنافقون: 2-6).

أي يا محمد! عندما يأتيك المنافقون يقولون، أو سيقولون: نحن نشهد إنك رسول الله، والله يعلم حقًا أنك رسوله.. هو الذي بعثك بالحق، فمن يعرفك أكثر منه؟ ولكنه مع ذلك يشهد إنهم كاذبون في قولهم هذا، فهي كلمة حق يريدون بها الباطل، ذلك لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

هذه هي أول حالة نعرفها في صدد هذا الموضوع، وما كان لبشر أن يطَّلع عليها بنفسه.. ما لم يخبره بها الله، الذي يعلم ما في الصدور. فالله العليم الخبير يخبر: أن من الناس من يقِرُّون بالإيمان باللسان، ولكنَّا نشهد إنهم لكاذبون مرتدون، ولم يبق لهم أية علاقة بالدين .. بل اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ، أي جعلوا عهودَهم أو إيمانهم سِترا يستترون به (لفظ أيمان هنا يسع المعنيين كليهما: القَسَم والإيمان)، كما أنهم يصدُّون الناس ويمنعونهم عن سبيل الله، سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

والذي يزيدهم خبثًا على خبث، وسوءًا على سوء.. أنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان، مما يعني أن ارتدادهم كان واضحا بيّنا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، فلن يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك أبداً؛ بل بلَغ بهم ارتدادُهم الصريح بحيث انغلقت دونهم سائر أبواب التوبة للأبد. فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ .. أي رغم ذلك كله لا يكادون يشعرون بما يجري عليهم.

الرسول وأصحابه عرفوا المرتدين

فمن كان هؤلاء القوم؟ وهل كان الرسول وأصحابه يعرفونهم على وجه التحديد والتأكيد أم لا؟ وإذا كانوا يعرفونهم.. فلِم لم يأمرهم الله تعالى بقتلهم، رغم وجود هذه الشهادة القطعية على ارتدادهم، بل وإنهم مرتدون ممن لن تقبلَ توبتهم أبدًا؟ ثم لِمَ لم يأمر الرسول بقتل أحد منهم؟

فيما يختص بتعيين وتحديد هؤلاء القوم.. فقد وصفهم القرآن الكريم قائلاً:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ..

أي أنهم أشخاص معينون، تعرفونهم؛ وصِفَتهم أنهم.. رغم علمكم بحالتهم السيئة.. لا يستجيبون لكم كلما تدعونهم ليتوبوا ويستغفروا، ليستغفر لهم الرسول أيضًا. ولاحِظوا أنه ، لم يقل هنا: ليقتُلَهم الرسولُ على الفور بعد توبتهم.. إذ ليس للمرتد إلا القتل رغم توبته كما يزعم البعض، بل قيل لهم: استغفروا وتوبوا حتى يستغفر لكم الرسول أيضًا. وماذا عسى أن يتمنوا أكثر من ذلك؟ ولكنهم مع ذلك يلْوُون رءوسهم طعنًا وتحقيرًا واستخفافًا، وترونهم يصدون أنفسهم عن سبيل الله.. ويصدون الآخرين أيضًا، ويصرُّون على غيّهم مستكبرين.

فما رأي المشائخ عن هذه الآيات القرآنية.. التي شهِد فيها اللهُ وهو العليم بذات الصدور، على كفر وارتداد قومٍ، وكشف عن أمرهم صراحةً، حتى أن الرسول وأصحابه عرفوهم معرفة تامة، وخصُّوهم بالدعوة إلى التوبة والاستغفار؟.. ولكنهم رغم ذلك استمروا في صدهم عن سبيل الله، وتماديهم في استكبارهم وإصرارهم على الارتداد. ومع ذلك كله لم يأمر الله بقتلهم، والرسول أيضًا لم يقتل أحدًا منهم.

معاملة نبوية كريمة الزعيم المرتدین

بل على العكس.. يخبرنا القرآن الكريم بأمر غريب جدًا.. ذلك أن الله لما أعْلَمَ رسولَه برئيس المنافقين، وسمَّاه له، علِم أن رسوله ذا القلب الرحيم سيحاول جاهدًا طلب المغفرة لهذا اللعين.. لذلك نهاه نهيًا خاصًا وقال:

ولَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (التوبة: 84).

وذلك عندما يموت حتف أنفه، وليس قتلاً بيد الرسول وأصحابه.

ويمضي القرآن في سرد أحوال هذا المنافق، ويذكر أنه لم يزل طوال حياته يسعى سعيًا دؤوبًا لإهانته ، والنيْل من كرامته، وبلغ به خبثه ونفاقه حدًا جعله يقول (والعياذ بالله):

لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ (المنافقون: 9).

والجدير بالذكر، أن الله تعالى لم يذكر هنا اسم نبيه .. والحكمة في ذلك أنه كان بإمكان الصحابة أن يعكسوا المفهوم الذي أراده هذا المنافق اللعين. وهذا هو بالضبط ما حدث؛ فحينما كان أحد الصحابة يخبر الرسول بتفاصيل الحادث، قال: يا رسول الله، لقد صدق عدوُّ الله هذا، فإنه يقول: ليخرجن أعزُّ الناس، أي أنت يا رسول الله، أذلَّ الناس وأرذلهم، أي عدوَّ الله هذا، من المدينة.

ولكن الرسول لم يُخرجه من المدينة، مع وجود هذه الإشارة القرآنية الواضحة. وظل الرجلُ سادرًا في غيّه، مارِدا على نفاقه وبغيه، يصد الناس عن سبيل الله، متزَعّمًا عصابة كانوا يخذلون المسلمين في أحلك الظروف أثناء الحروب، وما من ظلم وعدوان وسخرية وعصيان إلا ارتكبوه. والرسول مع كل ذلك كان يعاملهم بمنتهى الكرم والنبل والمروءة، حتى إن الله تعالى حذَّره .. نظرًا لما في قلبه من رأفة ورحمة، قائلاً:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ،

وقال له أيضًا:

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ (التوبة: 84).

استحُيوا من نبي الرحمة!

فهاتُوا یا قوم برهانكم إن کنتم صادقين، وأرُونا مرتدًا هو أكبر جرمًا وأوضح ارتدادًا من هذا المرتد، ودلُّونا على معاملة أكرم وألطف من معاملة النبي ! فإن لم تستطيعوا، ولن تستطيعوا، فكفُّوا عن هذه الجسارة الوقحة الخطيرة، واتركوا هذه الدعاوی الباطلة، ولا تلوّثوا سمعة النبي الأعظم ولا تمرغوها في الأوحال. یا قوم! لماذا تسعون جاهدين لتصغّروا شأنه أمام العالم، معرضين عن كلام الله؟ لم لا تموتون خجلاً وندمًا، ولا ترتدعون عن لصق هذه التهم بسيدنا محمد رحمة الله للعالمين وأكرم الناس أجمعين؟ ولم تحاولون، والعياذ بالله، تعريضه ودينه للإهانة أمام العالم؟

الآية الثانية

يقول الله :

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (آل عمران: 73).

وكما تذكر كتب التفسير فإن هذه الآية نزلت بعد قدوم وفد نصارى نجران إلى النبي ، وكان هذا في أواخر أيام البعثة النبوية .. أي وقت استتباب الدولة الإسلامية. مما يعني أنه لم يكن إلى ذلك الحين أي وجود لنظرية قتل أهل الردة؛ إذ كيف يمكن أن يشير بعض أهل الكتاب على إخوانهم بأن يؤمنوا بالقرآن صباحًا ويرتدوا عنه مساءً، وذلك في وقت قد استتبت فيه الدولة الإسلامية واستحكمت، وكان أهل الكتاب فيه مغلوبين محكومين؟ فكيف يمكن أن يتجاسر هؤلاء على تقديم هذه المشورة إلى أصحابهم مع علمهم أن عقوبة الارتداد هي القتل. بل لو كان الأمر كما يزعم القائلون بقتل المرتد.. لردَّ على هؤلاء أصحابُهم: هل جننتم حتى تشيروا علينا بقبول الإسلام صباحًا والارتداد عنه مساءً؟! ألا تعلمون أن محمدًا وأصحابه سوف يضربون رقابنا على الفور لو ارتددنا؟

ولكن القرآن يذكر هذا الأمر.. مما يدل على أنه لم يكن هناك أي خطرٍ عليهم لو أنهم أسلموا في الصباح ثم ارتدوا في المساء.

الآية الثالثة

يقول الله في موضع آخر:

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُون * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران: ۸۷ إلى 90).

لقد أوضح الله تعالى موضوع الارتداد هنا أيَّما إيضاح، حيث قال:

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ،

ولم يقل: كيف يسمح الله لهؤلاء الكافرين بعد الإيمان بالبقاء على قيد الحياة؟ أو كيف يليق به أن يتركهم بعد ارتدادهم أحياء يمشون على الأرض مطمئنين. وإنما تناول موضوع الهداية، وقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ . ثم قال: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ .. أي أنهم أنكروا هذا الدين بعد تأكدهم من صدق هذا الرسول، وشهدوا على ذلك. ولم يكونوا معترفين بصدقه باللسان فحسب، بل جاءتهم الآيات البينات على صدقه، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .. ولكن المشائخ يَهدِّدونهم بحد السيف!!

ثم يقول عز وجل: جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .. ولم يقل: إن الله وملائكته والناس سوف يقتلون هؤلاء المرتدين.

معنى يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

والمراد من قوله تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، أنه لا يهدي بالجبر والإكراه. فلو شاء لهدى، ولكنه لا يهدي جبرًا. كما لا يسمح لكم أيضًا بأن تجبروا أحدًا على الهدى.. وإنما منح المرتدين فقط حقًا أن يتوبوا بأنفسهم.. كما سبق وارتدوا بأنفسهم. وفي هذه الحالة يجدون الله غفورًا رحيمًا، وليس ظالمـًا منتقمًا.

الآية الرابعة

ويقول الله سبحانه وتعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (آل عمران: 91-92).

انظروا إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ، وفكّروا لو أنهم قد ضربت أعناقهم فور ارتدادهم.. فمتی وكيف استطاعوا ليزدادوا في الكفر؟ ثم يقول : لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ .

استدلال خاطئ

ومن العلماء من يحاول استنباط قتل المرتدين من هذه الآية قائلاً: ألا ترون أنه تعالى يقول: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ، أي أنهم يُقتلون على أية حال. ولكن الآية التالية تبطل هذا الاستدلال كلية، حيث يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، أي ماتوا في حالة الكفر، ولم يقل : إن الذين كفروا وقتلوا وهم كفار، بل قال: “ماتوا وهم كفار” .. أي ماتوا موتًا طبيعيًا حال كونهم كافرين.

ثم قوله تعالى:

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ..

قد أوضح الموضوع تمامًا حيث يخبر بأن لا دخل للبشر في قبول توبة المرتدين في هذه الدنيا، بل في الآخرة أيضًا لن يقبل منهم أي فدية مهما عظمت. وحيث إن هؤلاء يموتون في حالة الكفر.. فلا بيع وشراء يوم القيامة أيضًا.. بل لهم عذاب أليم، وليس لهم من ناصر يدفع عنهم.

الآية الخامسة

إنها تناولت موضوع الارتداد، ومع ذلك لم تتحدث عن قتل المرتدين فتقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (آل عمران: 150).

أي أيها المؤمنون، إن تطيعوا الكفار يجعلوكم ترتدون عن دينكم وتعودون إلى الكفر.. فتنقلبوا خاسرين. لاحِظ ْأنه لم يقل فتنقلبوا مقتولين.

الآية السادسة

يقول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا* بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (النساء: ۱۳۸).

ويعني قوله تعالى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُم أنه ليس من سنة الله أن يغفر لهؤلاء القوم، وأن يهديهم سبيلاً.

الآية السابعة

يقول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 55).

وترى أن هذه الآية أيضًا لم تحدد حكم المرتد بالقتل، وإنما قالت فقط باستبداله بمن يحبهم الله ويحبونه.

الآية الثامنة

يقول الله :

وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: ۲۱۸).

فالآية تتحدث عن حبوط أعمال المرتدين في الدنيا والآخرة، وعذابهم في النار يوم القيامة، ولا تشير أبدًا إلى أي عذاب دنيوي بأيدي الناس.

هذا، وهناك آيات عديدة أخرى تتحدث عن موضوع الارتداد، ولكنها لا تذكر مطلقًا قتل أصحابه، وإنما تعارض هذا الزعم الفاسد بكل شدة وصراحة.

مناقشة في ضوء الحديث النبوي

والآن أتوجه إلى مناقشة الموضوع في ضوء الأحاديث النبوية الشريفة. فالمشائخ عندما لا يجدون في القرآن الكريم ما يؤيد مزاعمهم يرجعون إلى الأحاديث. إنني لا أقول أن هذا غير جائز، بل يتحتم علينا الرجوع إلى الحديث النبوي عندما تتقاصر أفهامنا عن استخراج مسألة ما من القرآن الكريم، وإن كان كل علم وكل مسألة في القرآن بلا مراء.. فلا أنكر ذلك، ولا اعتراض على ذلك في حد ذاته، وإنما أقول بأن الذين عبثوا بالقرآن الكريم هذا العبث الشنيع، واستخفوا به هذا الاستخفاف المشين، كيف يتوقع منهم أنهم سيرتدعون عن هذا العبث والاستخفاف بالأحاديث النبوية. والذين لم يبالوا بكلام الله ولم يحترموه، بل عزوا إليه ما هو منه براء، كيف يرجي منهم ألا يفعلوا نفس الأفعال الشائنة الوقحة بالأحاديث النبوية الشريفة. وكذلك يفعلون.

 روايات يستشهد بها المشائخ

 الرواية الأولى

إحدى هذه الروايات أن عبد الله بن أبي سرح كان أحد كتاب الوحي، فأزله الشيطان فارتد. ولما فتحت مكة أمر الرسول بقتله. ولكن سيدنا عثمان استجار له الرسولَ، واستعفاه له، فعفا عنه. (المودودي، عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي، ط1، المكتبة المركزية للجماعة الإسلامية، لاهور، 1951 ص 15).

هذه هي الرواية التي يستدلون بها على قتل المرتدين، ولكنهم ارتكبوا في ذكرها خيانة كبرى، إذ لم يذكروا سياقها، وأخفوا عليكم خلفية الحادث ظلمًا وزورًا، وأوهموكم كما لو أن النبي أمر بقتله فور ارتداده، ثم لم يزل يتحين الفرصة ليتمكن منه فيقتله. کلا! بل الحقيقة أن الرجل كان من أعدى الأعداء وأبغى البغاة الذين استثناهم الرسول ممن عفا عنهم من مشركي مكة يوم الفتح، ولكنه لأجل رحمته الواسعة عفا عنه أيضًا مثلما كان عفا عن معظمهم، رغم استثنائه إياهم. فلم يكن عبد الله بن أبي سرح هذا مرتدًا فحسب، بل كان بغى وطغی، ولحق بالأعداء، وحارب المسلمين، ولما فتحت مكة أدخله الرسول في زمرة الذين استثناهم من عفوه. ولكنه استجار عثمانَ فأجاره. وهاكم بعض الروايات التي توضح ذلك:

 (أ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ ” (سنن أبي داوود، كتاب الحدود).

(ب) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَالَ اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ”. (سنن النسائي، كتاب تحريم الدم).

(ج) «..أن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ عَلَى مِصْرَ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ “. (سنن النسائي، كتاب تحريم الدم).

هذا، وفي ضوء استدلال المشائخ.. كأن عثمان لم يكن يعرف إلى يوم الفتح بأن القرآن الكريم يأمر بقتل المرتدين. إذن فإعطاء الجوار لمثل هذا المجرم في حد ذاته جريمة فادحة ومخالفة شديدة للقرآن الكريم؛ أعني أن المشائخ لا يشعرون كيف أنهم يلصقون بعثمان ، تهمة خطيرة جدًا، بأنه رغم هذا الحكم القرآني الصريح أجار هذا المجرم المرتد. وبلغت به جسارته أن جاء به وأوقفه على الرسول ليقبل منه البيعة. ولم ينته الأمر إلى هذا الحد، بل إن الرسول نفسه لم يعنّفه على ذلك ولم يقل له: ما هذا، یا عثمان، ألا تعلم كيف أغار على حدود الله ؟! ألا تتذكر أنهم عندما شفعوا عندي لامرأة سارقة زجرتُهم قائلاً:

“وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”. (صحيح البخاري، كتاب الحدود).

إذ لا رأفة في حدود الله. فكيف تتجاسر يا عثمان، حتى تشفع لهذا المرتد عندي؟

إنه لم يقل ذلك، بل الواقع أن عثمان لما سأل النبي أن يقبل بيعة ابن أبي سرح أعرض عنه. فكرر سؤاله، فسكت. فسأله ثالثة، فلم يجب. وفي المرة الرابعة مدَّ سيدنا محمد وهو رحمة الله للعالمين.. مد يده وقبل بيعته. (سنن النسائي، كتاب تحريم الدم، الحكم في المرتد).

حادث آخر

هذا، وهناك حادث صغير آخر حدث إثر هذه الواقعة، يستشهد به أيضًا العلماء على قتل المرتدين أن:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: “أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ”. فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ”. (سنن النسائي، كتاب تحريم الدم)

أي لو أردت قتله فعلاً لأمرتكم بكل صراحة، وقلت: اقتلوه. ولكني لست أنا الذي يفعل مثل ذلك. والأسف أن المشائخ يغضون النظر عن هذا القول الواضح، ويستنبطون استنباطًا خاطئًا.

معنى: خائنة أعين

فمعنى قوله : “لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين”. بيّن واضح، وهو أن مثل هذه الأفعال الخسيسة لا تتفق وعظمة أخلاقي.. فلو أردت قتله الآن لقلت لكم بكل صراحة: قوموا واقتلوه. وإنما أسألكم لأعرف السبب الذي منعكم من قتله رغم علمكم بقراري السابق.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لو كان في القرآن الكريم حكم صريح بأن عقوبة المرتد هي القتل، فهل كان للنبي أن تأخذه رأفة في حد من حدود الله؟! كلا، ثم كلا.. لا يمكن أبدًا أن يتصور عن النبي أن يقصر ويتهاون أدنى تهاون في تنفيذ حد فرضه الله في القرآن الكريم.

الرواية الثانية

ولقد استدل المودودي بحديث آخر قائلاً:

“ورد في حديث آخر أنه قال في شأن امرأة مرتدة، تدعى أم رمان، بأن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت وإلا قتلت. ذكره الدارقطني والبيهقي. وفي رواية أخرى للبهيقي: فأبت أن تسلم فقتلت”. (عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي ص 17).

ولكن العلامة الإمام محمد بن علي الشوكاني يقول في هذه الرواية:

“قال الحافظ: وإسناداهما ضعيفان”. (الإمام محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقي الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، مطبعة البابي الحلبي بمصر، أبواب أحكام الردة والإسلام، باب قتل المرتد، رقم الحديث 2).

كما قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني: “إسنادهما ضعيفان”. (شمس الدين العظيم آبادي، التعليق المغني على الدارقطني، ط 1966، دار المحاسن للطباعة، مصر، ج 3، كتاب الحدود والديات، رقم الحديث 122).

أي لا يُحتجُّ بهما.

فها أنتم ترون أن المودودي إذا لم يجد من القرآن الكريم ولا من الأحاديث النبوية الصحيحة شيئًا، دفعه ولوعه بالقتل وتعطشه لدماء القوم.. إلى الاعتماد على رواية يقول عنها كثير من كبار العلماء إنها ضعيفة الإسناد ولا يحتج بها.

الرواية الثالثة

وهناك حديث آخر ذكره المودودي:

“روى أبو موسى الأشعري أن النبي بعثه إلى اليمن واليًا عليها، ثم أرسل معاذ بن جبل نائبًا له. فلما قدم معاذ عليهم قال: أيها الناس، إني رسول الله إليكم. فألقى له أبو موسى وسادة يجلس عليها. وبينما هم في ذلك إذ أُتي برجل كان يهوديًا، فأسلم ثم كفر. فقال معاذ: لن أجلس حتى يقتل هذا، وهذا قضاء الله ورسوله. وكرره ثلاثًا. ولما قتل اليهودي جلس”. (عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي، ص 14).

ومما يلاحظ أن معاذ من ناحية يقول: قضاء الله ورسوله، ولكننا من ناحية أخرى لا نجد أي ذكر معين لمثل هذا القضاء أو الحكم، لا في القرآن ولا في الحديث النبوي؛ أعني أن يقتل أحد لمجرد ارتداده. ومن هنا فمن الأقرب للقياس أن نقول بأن قول معاذ هذا إنما هو مجرد استنباط شخصي منه، لأن معاذ من ناحية يقول: قضاء الله ورسوله معًا، ثم لا يشير إلى قضاء معين من الله ورسوله. مما يدل على أن لا يذكر قضاء معينًا للنبي ، وإنما يستنبط ويقول: هكذا ثابت من القرآن الكريم وسنة الرسول .

وعلاوة على هذا، فإنه لم ترد أية تفاصيل للحادث، لماذا جيء باليهودي؟ وما هي جريمته؟ فكل شيء مبهم. مما يدع مجالاً واسعًا لاحتمالات عديدة.. فيمكن أن يكون قد حارب المسلمين أو ارتكب جرمًا آخر. ونظرًا لهذا الغموض، يكون من الظلم أن نعتمد في مثل هذه المسألة البالغة الأهمية على رواية مبهمة التفاصيل لا تذكر إلا مجرد استنباط صحابي، فنحكم بما يخالف النصوص القرآنية الصريحة.. رغم أنه من المسلم به أنه إذا وجد نص قرآني صريح وخالفه حديث، ولو كان صحيح السند في ظاهره، فالأقرب للتقوى أن نرفض ذلك الحديث المعارض لآيات الله البينات. هذا فضلاً عن أن هناك أحاديث أخرى تعارض هذه الرواية في صراحة كاملة، كما سبق أن قرأت عليكم حديثًا منها. بالإضافة إلى أن الرواية لا تذكر ما إذا كان الرسول كان أُخبر بهذا الخبر أم لا؟ وإذا أخبر، فماذا كان رد فعله؟

فالآيات القرآنية البينة، والسنة النبوية الشريفة، وتاريخ الإسلام، وأسوة النبي المتواترة بأنه لم يأمر بقتل المرتد، حتى عاش ومات موتًا طبيعيًا.. كل ذلك يدل دلالة واضحة على أنه لا قيمة ولا اعتبار مطلقًا لمثل هذا الاستدلال الواهي السخيف إزاء هذه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وأنه من المحال أم نعتمد عليه في مثل هذه القضية الجوهرية البالغة الخطورة والأهمية.

الارتداد والعهد الصدّيقي

والآن ندخل في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ، ذلك لأنك تجد سائر الكُتّاب المؤيدين لنظرية قتل المرتد عندما يتناولون الموضوع في ضوء القرآن الكريم والأسوة النبوية يتحدثون عنه حديثًا عابرًا، ويلمسونه لمسًا خفيفًا، ثم لا يلبثون أن يسرعوا إلى العهد الصديقي، بحثًا عن ملاذ لهم وطلبًا لتعزيز موقفهم.. زاعمين أن هذه سنة صديقية.. متناسين السنة المحمدية تمامًا، ويطيلون ذكر السنة الصديقية المزعومة.

حقيقة قتل الصدّيق للمرتدين

ولكن السُّنة الصديقية ليست، في الحقيقة، تلك التي يعزونها إلى سيدنا الصديق ، بل إن التاريخ ينفي نفيًا باتًا الزعم القائل بأن أبا بكر الصديق قتل أحدًا لمحض الارتداد، أو أنه بالرغم من إسلامه وإصراره على الشهادتين، واستقباله قبلة المسلمين، وإقراره بالزكاة، ثم قيامه بأدائها، أفتى الصديق بارتداد أحد أو أمر بقتله. كلا، بل الأمر الواقع أنه لم يقاتل من المرتدين إلا من ارتدوا وثاروا على الدولة الإسلامية، وأخرجوا ولاته وعماله، وعذبوا المسلمين أشد عذاب، وقتلوهم شر قتل.. قاتَلهم لأن هؤلاء الأشقياء بدأوا بالظلم والعدوان، حيث وضعوا السيف في رقاب المسلمين الأبرياء.. زاعمين أن المسلمين هم المرتدون، لأنهم هم الذين خرجوا عن ملتهم، وتركوا دينهم وأسلموا. وقالوا لهم: لنقتلنكم أو لتعودن في ملتنا. وآذوهم كل أذى جزاء لارتداهم في زعمهم. فقام الصديق بمحاربتهم ليكفّهم عن هذا العدوان السافر والظلم العظيم. وقاتلهم لأجل خروجهم وتمردهم على الدولة الإسلامية.

شواهد على تمرد المرتدين

تذكر لنا كتب السيرة والتاريخ تفاصيل فتنة التمرد كالآتي:

“إن المتمردين عذبوا المسلمين أشد العذاب، فمن استطاع أن ينفلت من أيديهم ذهب إلى المدينة المنورة. ولم يكتف المتمردون بذلك، بل أعدوا العدة لشن الغارة على مركز الخلافة الإسلامية.. المدينة المنورة. وتصادف أن كان عمرو بن العاص راجعًا من قِبَل البحرين في تلك الأيام، فوجد المتمردين معسكرين فيما بين اليمن إلى المدينة، وكانوا كثيرين مثل ذرات الرمال. أما المسلمون في المدينة فكان عددهم مقارنة بالأعداء ضئيلاً جدًا، فضلاً عن أنهم كانوا بدون عدة وعتاد” (شيخ محمد إقبال، قصة الإسلام، الخلافة الراشدة، مطبعة بنجاب، لاهور، 1970، ص 23).

ويقول غيره:

“ما أن لقي سيدنا محمد رفيقه الأعلى إلا وظهرت بوادر الثورة والتمرد على دين الله في الجزيرة العربية طولاً وعرضًا، ولم يبق على الإيمان إلا أهل مكة والمدينة والطائف. واندلعت نيران فتنة الارتداد والتمرد بسرعة البرق، حتى تضرمت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.. فطرد المتمردون ولاةَ وعمّال الحكومة الإسلامية، وقتلوا المسلمين كل قتلة.. ومن استطاع الانفلات من أيديهم لاذ بالمدينة. وطمع الكثيرون في النبوة لما رأوا من فتح وظفر حالف النبي . فقام المتنبئون في قبائل مختلفة، ومن أشهرهم طليحة بن خويلد الأسدي.. كان اسمه الحقيقي طلحة، إلا أن المسلمين كانوا يسمونه طُليحة تحقيرًا لشأنه. وكان بين قبيلته بني أسد وبين قريش عداوة قديمة، وكان قد ادعى النبوة في عهد الرسول “.

هذه الجملة جديرة بالانتباه، لأنهم يقولون: انظروا كيف حارب أبو بكر المرتدين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يقولوا: انظروا كيف أن النبي حارب المتنبئين، لأننا نجد أن طليحة هذا يتنبأ كغيره ممن تنبأوا في حياة الرسول ، ولكنه لم يتعرض لأية مقاومة أو هجوم من قِبل الرسول ، وكذلك أمثاله من الكذابين الآخرين. وكأن الذي نزلت عليه الشريعة، والعياذ بالله، لم يستطع فهمها حقًا، ولكن علماء اليوم فهموها وأدركوا كنهها! بل وليسوا وحدهم الذين فهموا هذه الحقيقة، وإنما أبو بكر الصديق أيضًا كان يفهمها.

فانظر كيف يظلمون ظلمًا بعد ظلم، ولا يخشون الله العزيز القهار! يسيئون إلى الإسلام هذه الإساءة الفادحة، ولا يرتدعون عن النيل من ذات النبي . ويستمر المؤلف قائلاً:

“ولكنه ما استطاع أن يسحر الناس في حياة النبي ، ولم تنفق بضاعته. ولكنه بعد وفاة النبي أزل قبيلته كلها وأغواها.. فوضع السجود من الصلاة بحجة أن فيه مشقة وتعبًا، وأعفاهم من الزكاة. فاجتمع حوله كل مانعي الزكاة. فجند جيشًا كبيرًا، ووجهه للهجوم على المدينة المنورة”.

فترى أنه يرسل جيشًا أيضًا، وما لم يرسل الجيش، ما فكر الصديق في محاربة هذا المتنبئ الكاذب جزاء لكذبه. ويستطرد الكاتب:

“فعندئذ خرج الصديق بالمسلمين لقتال العدو، فلاذ بالفرار”. (غلام أحمد الحريري، دستور الحياة في الإسلام، دار بوليمر للطباعة، لاهور، ص 335-336).

نبذة من تاريخ ابن خلدون

“جاء الخبر بارتداد العرب عامة وخاصة إلا قريشًا وثقيفًا. واستغلظ أمر مسيلمة. واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد. وارتدت غطفان. وتوقفت هوازن فأمسكوا الصدقة.. وقدِمتْ رسل النبي من اليمن واليمامة وبني أسد ومن كل مكان بانتقاض العرب عامة وخاصة. وحاربهم أبو بكر بالكتب والرسل، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة. فعاجَلته عبس وذيبان، ونزلوا في (الأبرق)، ونزل آخرون (بذي القصة). وبعثوا وفدًا إلى أبي بكر يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة. فأبى أبو بكر من ذلك، وجعل على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود. وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد. ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلة أهل المدينة. فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة.. فبعثوا إلى أبي بكر، فخرج في أهل المسجد على النواضح (أي الإبل).. فهربوا والمسلمون في إثرهم إلى (ذي خشب).. ثم نفّروا إبل المسلمين بلعبات اتخذوها. فنفرت ورجعت بهم، وهم لا يملكونها إلى المدينة، ولم يصبهم شيء. وظن القوم بالمسلمين الوهن. فبعثوا إلى أهل ذي القصة يستقدمونهم. ثم خرج أبو بكر في التعبية، وطلع عليهم مع الفجر، واقتتلوا. فما ذر قرن الشمس إلا وقد هزموهم.

ووثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين، فقتلوهم. وفعل ذلك غيرهم من المرتدين، وحلف أبو بكر لَيقتُلَنّ من المشركين مثل من قتلوهم من المسلمين وزيادة”. (تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981، المجلد الثاني، القسم الرابع، الخبر عن الخلافة الإسلامية والردة، ص 857- 859، باختصار).

نبذة من تاريخ الطبري

“وقع بنا الخبر بوجع النبي ، ثم بلغنا أن مسيلمة قد غلب على اليمامة، وأن الأسود قد غلب على اليمن. فلم يلبث إلا قليلاً حتى ادعى طليحة النبوة، وعسكر بسيمراء، واتبعه العوام، واستكثف أمره. واجتمعت ربيعة بالبحرين وارتدت، وقالوا: نرد الملك في آل المنذر. فملَّكوا المنذر بن النعمان بن المنذر. فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي من كل مكان بانتفاضة عامة أو خاصة، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين. فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله حاربهم به.. أي بالرسل. وكان أول من صادم (عبس) و(ذبيان).. عاجَلوه. فقاتلهم قبل رجوع أسامة.. فوثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين، فقتلوهم كل قتلة. وفعل مَن وراءهم فِعلهم. وحلف أبو بكر ليقتلن المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة. ثم لم يصنع إلا ذلك. وكتب أبو بكر إلى خالد: لا تظفرن بأحد قتلَ المسلمين إلا قتلتَه، ونكلتَ به غيره. ومن أحببتَ ممن حادّ الله أو ضادّه ممن ترى أن في ذلك صلاحًا، فاقتله.

معسكرات المرتدين المتمردين

كان رسول الله قد بعث عمرو بن العاص إلى (جيفر)، فمات رسول الله وعمرو بعمان. فأقبل إلى المدينة مرورًا بالبحرين حتى قدم المدينة. فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم: إن العساكر معسكرة من (دبا) إلى حيث انتهيت إليكم.

أخبار الأسود المتنبي

إن أول رِدة كانت في الإسلام باليمن.. كانت على عهد الرسول على يد الأسود. فكاتبته (مذحج)، وجعل أمره يستطير استطارة الحريق. وكان معه سبعمائة فارس سوى الركبان. فهدد عمال الدولة الإسلامية قائلاً: أيها المتوردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم. فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه. ثم وثبوا على عاملَين من عمال الدولة الإسلامية عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، وأنزلوه منْزَلَهما. فلم ينشب الأسود أن سار إلى صنعاء فأخذها. وقتل (شهرَ بن باذان) عامل رسول الله ، وأثخن في الأرض. وخرج معاذ بن جبل هاربًا، حتى مر بأبي موسى وهو (بمأرب). فاقتحما حضرموت. وصفا للأسود اليمن، وثبت ملكه، واستغلظ أمره حتى قُتل في اليمامة.

طليحة بن خويلد

ادعى طليحة النبوة، وعسكر بسيمراء. واتبعه العوام، فلم تحملهم البلاد. فافترقوا فرقتين، وبعثوا وفودًا، فقدموا المدينة. فردهم أبو بكر. فرجع وفد مَن يلي المدينة من المرتدين، فأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة، وأطمعوهم فيها. وجعل أبو بكر.. بعدما خرج الوفد.. على أنقاب المدينة نفرا، وقال للمسلمين: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة. إنكم لا تدرون أليلاً تؤتَون أم نهارًا، فاستعدوا وأعِدُّوا. فلما لبثوا إلا ثلاثًا حتى طرقوا المدينة غارةً مع الليل. فقاتلهم أبو بكر وهزمهم.

مسيلمة المتنبي الكذاب

اتفقت معه أكثر بني حنيفة، فغلب على حجر اليمامة. فأخرج منها ثمامة بن أثال عامل الرسول ، واستغلظ أمره. ولما جاءته سجاح.. تحاربه، وكانت تنبأت هي الأخرى.. فهابها وصالحها، وقال لها يحرضها على حرب المسلمين: لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفُها، لو عدلتْ. هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب. وكان عدد جيشه أربعين ألف مقاتل. فحاربه خالد بن الوليد وهزمه. (محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، دار المعارف مصر، 1962، ج 3، سنة 11، ذكر الأحداث التي كانت فيها ص 185- 281 باختصار).

نبذة من تاريخ الخميس

“اتفقت مع مسيلمة أكثر بني حنيفة، وغلب على حجر اليمامة، وأخرج ثمامة بن أثال عامل رسول الله على اليمامة. فكتب ثمامة إلى رسول الله يخبره. فلما توفي رسول الله كتب إلى أبي بكر الصديق يخبره أن أمر مسيلمة قد استغلظ فبعث أبو بكر خالد بن الوليد في جيش كبير إلى حرب مسيلمة.” (حسن بن محمد الدياربكري، تاريخ الخميس، مؤسسة شعبان، بيروت، ج 2، الموطن 11، في وقائع السنة 11 من الهجرة، ص 160).

فترى أن الصحابة لم يحاربوا مسيلمة وقبيلته بني حنيفة لارتدادهم فقط، بل لأنهم ارتكبوا جريمة التمرد والخروج على الدولة الإسلامية، ولأنهم هاجموا المسلمين.

نبذة من عمدة القاري

“وإنما قاتَلَ الصديق مانعي الزكاة، لأنهم امتنعوا بالسيف، ونصبوا الحرب للأمة.” (العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ط 1، مطبعة البابي الحلبي مصر، 1972م، ج 19، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نسبوا إلى الردة، ص 366).

أسْر المرتدين

هذا، وقد ذكر الطبري وابن خلدون في تاريخهما: “أن أبا بكر الصديق عندما انتصر على هؤلاء المتمردين أخذ بعضهم أسرى” (تاريخ الطبري، ج 3، حوادث السنة 11، ص 259، 260، 263؛ وتاريخ ابن خلدون، المجلد الثاني، القسم الرابع، ص 864-865)

وأقول: إذا كان جزاء المرتد هو القتل، وإذا كان الارتداد هو السبب الوحيد لقتال أبي بكر إياهم، وإذا لم يكن في الإسلام للمرتد، وإن تاب، إلا القتل، فلِمَ نسي أبو بكر هذا الحكم الإسلامي الخطير، وخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة.. فلمْ يقتلهم بعدما انتصر عليهم، بل أخذهم أسرى.. مع أن الله.. كما يزعم أنصار القتل.. قد أمر بقتلهم في كل حال، وألا يمهلوا أكثر من ثلاثة أيام.

قصة قتل مرتدة

ثم يذكر المودودي أن امرأة مرتدة تدعى (أم قرفة)، قُتلت بأمر أبي بكر الصديق . ويوهم القارئ كما لو أنها قتلت بسبب ارتدادها فقط. على الرغم من أن الرواية لا تذكر مطلقًا أنها قتلت لمحض الارتداد، ولكنه مُصِرٌّ على ذلك ويقول: “إن قتلها أيضًا حلقة من حلقات هذه السلسلة” (عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي، ص 18).

ولكن العلامة السرخسي يقول: “وأم قرفة كان لها ثلاثون ابنًا، وكانت تحرضهم على قتال المسلمين، وفي قتلها كسر شوكتهم” (شمس الدين السرخسي، كتاب المبسوط، ط 2، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ج 10، ص 110).

أي أنها قتلت لأجل تحريضها أبناءها على قتال المسلمين، وقتلت لكي تُكْسرَ شوكةُ أولادها المحاربين الذين أظهروا في الأرض الفساد. وكأن في قتل أمهم تحديًا بأنهم إذا كانوا من القوة والمنعة في شيء فليمنعوا المسلمين من قتل أمهم. ومع ذلك لم يقتل الصديق أبناءها الثلاثين الذين كانوا يسعون في الأرض فسادا. وذلك لأنه رأى أنه إذا كان يستطيع قمع هذه الفتنة بقتل نفس واحدة فقط، فلتقتل واحدة فقط.

فهذا هو الشأن الصدّيقي وهذه هي السُّنة الصديقية، وهذه هي التربية المحمدية التي ربى بها النبي أصحابه. ولكن انظروا إلى هؤلاء المشائخ كيف يستنتجون من هذه السنة الصديقية هذه الاستنتاجات الدموية الباطلة.. ذات الوجه القبيح غاية القبح!

رواية من العهد الفاروقي

والآن ننتقل من العهد الصديقي إلى العهد الفاروقي، والرواية التي استشهد بها المودودی هي:

“أن عمرو بن العاص ، والي مصر من قبل عمر ، كتب إليه أن رجلا أسلم، ثم ارتد، ثم أسلم، ثم ارتد. وقد فعل ذلك مرارًا. فهل نقبل منه إسلامه بعد ذلك أم لا؟ فرد عليه عمر قائلاً: ما دام الله يقبل إسلامه فعليك أيضًا أن تقبل. فاعرض عليه الإسلام، فإن أسلم فخَلّ سبيله، وإلا فاضرب عنقه”..

ويعض المودودي على كلمة (وإلا فاضرب عنقه) قائلاً:

أنظر إلى قول عمر هذا، أليس دليلاً قاطعاً على قتل المرتدين؟. (عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي، ص ۱۸، نقلا عن كنز العمال).

أقول: إذا كان جزاء المرتد هو القتل، فمن المستحيل من الخليفة الصارم عمر أن يجيب الوالي هذا الجواب، بل بالعكس كان لابد وأن يزجره بشدة قائلاً: كيف تتجاسر وتعطي المرتد مهلة أخرى لقبول الإسلام؟ كيف ساغ لك ذلك.. وقد رأيت أنه قد فعل ذلك، لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا وتكرارًا؟ فلِم لم تكف عن هذا العبث، ولم لم تضرب عنقه؟ ولكنه يقول: ما دام الله يقبل إسلامه، فعليك أن تقبله أنت أيضًا أي كلما تقبض عليه، فيقول: قد أسلمت، فمن واجبك أن تخلي سبيله، فليس لك عليه من سبيل.

غير أن هذا استنباط من عمر . وهذا الاستنباط أيضا لا يمنح القائلين بقتل المرتدين أي حق على حياة الآخرين؛ ذلك لأن عمر يقول لواليه: إنه كلما يعلن الإسلام مع سبْق ارتداده مرة بعد أخرى، فعليك بإخلاء سبيله في كل مرة. مما يدل على أنه يمنح المرتد وحده الخيار، ويجعل قوله هو فوق كل اعتبار، ويصدقه على كل حال. ولا يمكن أن يدعي أحد بأن عمر قال لواليه: أما وقد ثبت كفره وظهر غدره، فلا تقبل توبته بعد ذلك، مهما ادعى بالإسلام.

فكيف يمكن إذن، أن يجيز أحد بهذه الرواية قتل المرتدين، وعدم العفو عنهم. وذلك رغم توبتهم، بل تضرب أعناقهم فور الارتداد؟!

قاعدة هامة لقياس صحة الروايات

على أن تلك القاعدة لا تزال قائمة كما هي بدون خلل أو استثناء، أعني أن الأحاديث والآثار المروية التي تعارض سنة الرسول المستمرة، وتنافي الآيات القرآنية البينة الصريحة، سواء أكانت عبارة عن استنباط مروي عن عمر أو عن جميع الصحابة y، والعياذ بالله، فلن نقول بأن هذا القول استنباط منه أو منهم، بل نقول إن الراوي فاسق كذاب، حيث ينسب مثل هذا القول الباطل إلى عمر أو غيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. إذ يستحيل من هؤلاء الصلحاء الأبرار الأتقياء الكبار الذين رباهم النبي بنفسه الطاهرة، أن يتناسوا أسوته الحسنة وسنته المطهرة. فلذلك لا اعتبار ولا وزن لمثل هذه الروايات. وهذا لا يعني أننا نرفض قول عمر ، وانما نقول: حيث أن هذا الحديث أو الأثر يتعارض مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تعارضا بینا فلذا لا بد أن الخطأ من الراوي، فإما أنه أخطأ الفهم، وإما أنه كذب.

المرتد كان محاربا

وعلاوة على ذلك، فإن تفاصيل الحادث تذكر أن هذا المرتد قبض عليه أثناء الحرب. وهنا قاعدة أخرى، وهي أنه إذا وقع أحد أسيرًا في الحرب، ورأى الحاكم أو قائد الجيش قتلَه ؛ لأن القانون يخيره في أمرين: إما أن يقتله أو يعفو عنه. فلو استقر رأيه على قتله وأراد قتله، فأعلن الأسير أنه يسلم، وذلك إنقاذًا لنفسه، فتركه القائد. ولكنه لو عاد وارتد بعد ذلك فلا يعني ارتداده هذه المرة إلا أنه يقدم نفسه للقتل، لأن حق قتله الذي منحه القانون للحاكم لا يزال في يد الحاكم. فلا يسمح للمرتد بأن يخدع بإعلان إسلامه لينجو من القتل. هذا موضوع آخر مستقل بذاته، ولا علاقة له بالارتداد.

رواية من العهد العَلَوي

والآن ندخل في عهد سيدنا علي ، إذ يُروى من هذا العهد أيضًا حديث.. بل أثر.. في غاية الخطورة، ويذكر معه فقرة من حديث آخر، والأثر هو:

وعن عكرمة قال: أُتِي علي بزنادقة، فأحرقهم. فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لِنَهْي رسول الله : لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتُهم لقول رسول الله : من بدَّل دينه فاقتلوه. (صحيح البخاري، کتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة).

الراوي من الخوارج

هذه هي الرواية التي تعد من أكبر وأقوى الأدلة لدى القائلين بقتل المرتدين. ولكننا إذا فحصناها وجدنا أن عكرمة الذي رواها، كان خارجيًا عدوًا لعلي . وقد ورد في أمهات كتب رجال الحديث أنه كان من الخسة والخبث بحيث إن المسلمين لم يصلوا عليه صلاة الجنازة. ولذلك قال علماء الحديث ممن لهم خبرة واسعة وباع طويل في مجال السند، أنه لا اعتبار لهذه الرواية، لأن راويها كان زنديقًا خارجيًا. فقد كتب عنه كبار المحدثين ما يلي:

 (أ) قال الذهبي:

“حدثنا الصلت أبو شعيب، قال: سألت محمد بن سیرین عن عكرمة، فقال: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة، ولكنه كذَّاب”.

وأيضًا:

“عن يعقوب الحضرمي عن جده، قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر. قال: وكان يرى رأي الأبايضة”

وقال: «عن ابن المسيب أنه قال لمولاه بُرْد: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس». (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 هج، میزان الاعتدال في نقد الرجال، الطبعة الأولى، ۱۹۹۳، دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، القسم الثالث، ص 94 إلى ۹۷).

(ب) وكتب غيره:

عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عباس، فإذا عكرمة في وثاقٍ عند باب الحسن. فقلت له: ألا تتقي الله؟ قال: فإن هذا الخبيث يكذب على أبي»..

وقال أيضا:

“حدثنا وهيب، قال: شهدت يحي بن سعيد الأنصاري وأيوب، فذكرا عكرمة، فقال يحي ابن سعيد: كان كذابا”. (أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسی بن حماد العقيلي المكي، الضعفاء الكبير، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، السفر الثالث، ص ۲۷۳ و 274)

(ج) وقال عالم آخر:

قال يحي بن معين: إنما لم يذكر مالك ابن أنس عكرمة لأن عكرمة كان ينتحل رأي الصفوية.

وقال عطاء : كان أباضيًا.

وقال الجوزجاني: قلت لأحمد: عكرمة كان أباضيًا؟ فقال: يقال إنه كان صفويًا.

وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج.

وقال إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى وغيره: كان مالك لا يری عكرمة ثقةً، ويأمر ألا يؤخذ عنه.

سمعت بعض المدنيين يقول: اتفقت جنازته وجنازة كُثيّر عزّة بباب المسجد في يوم واحد، فما قام إليها أحد. فشهد الناس جنازة كثيّر، وتركوا عكرمة.

وعن أحمد نحوه.

عن هشام بن عبد الله المخزومي، سمعت ابن أبي ذئب يقول: كان عكرمة غير ثقة، وقد رأيته». (الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية ، حیدر آباد (الهند)، ط1، ج ۷، ص 267 إلى 271)

إذن فلا يجوز الأخذ برواية وضعها أعدى أعداء سیدنا علي .

تعليق ابن عباس

كما أن تعليق ابن عباس الواردة في الرواية أيضًا جدير بالانتباه. لا شك أن لابن عباس درجة ومقامًا، إلا أنه لا يمكن أن يباري عليًا .. فهو خليفة اختاره الله لخلافة نبيه . ومن المحال أن يتذكر ويراعي ابن عباس حكم الرسول ، في حين أن علي لا يبالي ولا يكترث به. إذن فأسلوب ابن عباس نفسه يدل دلالة واضحة أنه لم يصدق قول من أبلغه بإحراق الزنادقة، بل قال ما معناه: لست مستعدًا لقبول مثل هذا الخبر، لأنني أنا أيضًا لا أستطيع أن أفكر في مثل هذا الفعل مجرد تفكير، لأن الرسول قد نهى عن ذلك صراحة، فما بالك بعلي .

فالقول بأن عليا أحرق الزنادقة أحياءً كذب صریح وبهتان مبين، لأن الراوي خارجي وعدو من أعدائه، وكان يريد النيل من علي .

ويؤيد ذلك أيضًا رواية أخرى يذكر فيها عكرمة أنه لما بلغ عليًا قول ابن عباس رضي الله عنهما، قال غاضبًا: «ويح ابن عباس». (سنن أبي داود، كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن ارتد).

فالاستدلال من تلك الرواية غير مستقيم، لأن راويها كذاب فاسق خارجي، وأثبت رجال الحديث ممن جاءوا بعد الإمام البخاری، رحمة الله عليه، وإن لم يتسن للبخاري أن يدرك ذلك عنه، أنه كان خارجيًا عدوًا لعلي ، وبلغ به خبثه وفسقه أن المسلمين لم يصلوا عليه الجنازة.

حقيقة من بدل دينه فاقتلوه

أما فيما يتعلق بالقول (من بدل دينه فاقتلوه) وما في معناه، فهذا القول، إن صح، فقد ذكر هنا خارج سياقه الحقيقي الوارد في كثير من الأحاديث المفصلة الأخرى. وهي كلها، بدون استثناء، خالية من ذكر قتل المرتدين، وإنما تقول بقتل المرتدين المحاربين الذين شهروا السيف في وجوه المسلمين. وإليكم بعض هذه الأحاديث:

(أ): «عن عبد الله قال، قال رسول الله : “لا يحِلُّ دم امرىء مسلمٍ يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ النفس بالنفس، والثيّبُ الزاني، والمارق من الدين التاركُ الجماعة». (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: أن النفس بالنفس).

(ب): «حدثني أبو قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا… قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟.. قلت: فوالله، ما قتل رسول الله أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال؛ رجل قَتَلَ بجريرة نفسه فَقُتِل، أو رجل زنی بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام. فقال القوم: أوليس قد حدّث أنس بن مالك أن رسول الله قطع في السَرَقِ وسَمَرَ الأعين، ثم نبذهم في الشمس؟ فقلت أنا أحدثكم حديث أنس، حدثنی أنس أن نفرًا من عكل ثمانيةً قدموا على رسول الله ، فبايعوه على الإسلام. فاستوخموا الأرض، فسقمت أجسامهم. فشكوا ذلك إلى رسول الله . قال: أفلا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا: بلى. فخرجوا. فشربوا من ألبانها وأبوالها، فصحُّوا. فقتلوا راعي رسول الله ، وأطردوا النعمَ. فبلغ ذلك رسول الله . فأرسل في آثارهم، فأُدْرِكُوا. فجيء بهم، فأمر بهم؛ فقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا. قلت: وأي شي أشد مما صنع هؤلاء؛ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا، وسرقوا». (المرجع السابق ، باب القسامة).

(ج): عن ابن عمر، أن أناسا أغاروا على إبل رسول الله ، فاستاقوا، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله مؤمنًا. فبعث في آثارهم، فأُخذوا. فقطع أيديَهم وأرجلَهم، وسمل أعينَهم. قال: ونزلت فيهم آية المحاربة». (سنن أبي داود، كتاب الحدود ، باب ما جاء في المحاربة).

(د): عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ رجل زنی بعد إحصان، فإنه يُرجَمُ، ورجل خرج محاربًا الله ورسوله، فإنه يُقتَلُ أو يُصلب أو ينفى من الأرض، أو يَقتُل نفسًا فيُقتَل بها». (المرجع السابق، باب الحكم فيمن ارتد).

(ه) : «عن عائشة أن رسول الله قال: لا يحل دم امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث خصال؛ زانٍ محصن يُرجَم، أو رجل قتل رجلاً متعمدًا فيُقتل، أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله، فيقتل أو يُصلب أو ينفى من الأرض». (سنن النسائي ، کتاب المحاربة، باب الصلب).

(و) : «عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله : لا يحل قتل امرىء مسلم إلا في ثلاث خصال؛ زان محصن فيرجم، ورجل يقتل متعمدًا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض». (سنن الدارقطني، کتاب الحدود والديات).

معانٍ أخرى للقتل

هذا، وقد قال جهابذة اللغة:

من المجاز أن يقال قتل الشئ خبرًا وعلمًا: عَلِمه علمًا تام. وقَتَل الشراب: إذا مزجه بالماء فأزال بذلك حدته. وقَتَل فلانًا: أذلّه. وتَقتَّل الرجل للمرأة: خضع لها. وناقة مقتَّلةٌ: مذللة.

وقوله تعالى : قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَهُ : لُعِن، قاله الفراء. وقوله تعالى : قَاتلهم اللهُ أنّى يُؤفَكُونَ : لعنهم. وفي الحديث: قاتل الله اليهود: قتلهم الله، وقيل: لعنهم، وقيل: عَاداهم. وفي حديث المارّ بين يدي المصلي: قاتِلْه فإنه لشيطان: أي دافعه من قِبلتك. وليس كل قتل بمعنى القتل.

وقتل الله فلانًا فإنه كذا: أي دفع شره. وفي حديث عمر: من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من المسلمين فاقتلوه: أي اجعلوه كمن قُتِلَ ومات؛ بألاَّ تقبلوا له قولاً، ولا تقيموا له دعوةً. ولذلك الحديث الآخر: إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما: أبطِلوا دعوتَه، واجعلوه كمن مات. (لسان العرب، تاج العروس، المعجم الوسيط، تحت مادة: قتل).

فما دام للقتل معان أخرى غير القتل المادي، فمن الخطأ الفاحش والمخالفة الصريحة للآيات البينات والسنة النبوية الواضحة الجلية، أن يفسر القتل هنا بالقتل المادي.

 القتل بمعنى المقاطعة الاجتماعية

كما ثبت عن عمر ، أنه استخدم كلمة القتل بمعنى المقاطعة الاجتماعية وعدم المبالاة؛ وذلك أن صحابيًا من كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، لم يبايع أبا بكر في بادئ الأمر، فقال عمر فيه : «اقتلوه قتله الله». (تاریخ الطبري، ج ۳، ص ۲۲۲).

وكان جميع الصحابة قد فهموا منه أنه يشير إلى مقاطعته، أي أن يجعلوه كمن قُتِلَ، وأن يحسبوه في عداد من مات وهلك، فلا يعتدّوا به ولا يقبلوا له قولاً.

فما دام قد ثبت من ناحية أن للقتل معانٍ أخرى غير الإعدام، ومن ناحية ثانية، وجدنا رواية صحيحة وردت فيها كلمة (فاقتلوه) بدون قيد أو شرط، ومن ناحية ثالثة وجدنا أن القتل الظاهري يخالف الآيات القرآنية الصريحة التي فسرها النبي بنفسه تفسيرًا عمليًا لا خِفاء فيه، إذ لم يقتل المرتدين المعروفين ممن كانوا أئمة الارتداد وزعماء النفاق، مع أنه كان قادرًا عليهم، بل لم يزل يستغفر لهم الله .. فلذلك كله لم يبق لنا إلا أن نفهم من لفظ القتل المذكور في مثل هذه الرواية أنه القتل المجازي، أي اعتبارهم قتلى، وذلك بمقاطعتهم والتجنب عنهم وعن تأثيراتهم السيئة.

أحاديث صحيحة تعارض قتل المرتد

هذا، وهناك أحاديث صريحة تبطل نظرية قتل المرتدين، وإليكم حديثًا من صحيح البخاري يرفض هذا الاعتقاد الزائف، ويدمغه فإذا هو زاهق. ورواة هذا الحديث رجال ثقات لم يتكلم أحد في عدالتهم.

الحديث الأول

إن أعرابيًا جاء المدينة، وبايع النبي . فأصابته الحمی. وكان بدويًا وهميًا ساذجًا، فظن أن الحمّى إنما أصابته بسبب دخوله في الإسلام. فجاء النبي ، فقال: يا رسول الله أقِلني بيعتي، وردّني إسلامي .. فلا أرغب في بيعة أكابد منها هذا التعب والعناء. وفطن إلى سذاجة البدوي، فأبى قائلاً: لا أردك بيعتك.

(انظروا أنه ، ما قال له: لو ارتددت لضربت عنقك، بل أبى في صراحة، وقال: لا أرد بيعتك).

ثم جاءه الأعرابي من الغد مرة ثانية وكان لا يزال محمومًا. وظن المسكين أنه ما لم يعلن النبي رد بيعته لن تتركه الحمی. فجاء وقال: أقِلني بيعتي. فأبى النبي قائلاً: لست براد إليك بيعتك. ثم جاءه مرة ثالثة، وقال: أقلني بيعتي: فأبى النبي . فخرج الأعرابي من المدينة غاضبًا. فقال النبي : إنما المدينة کالكير تنفي خبثها. (صحيح البخاری، کتاب الحج، أبواب المحصر وجزاء الصيد، باب المدينة تنفي الخبث).

أي إن الرجل كان فاسدًا خبيثًا، لا خير فيه، فلذلك لم يستقم على الإسلام رغم محاولاتي. وإن طهارة المدينة وصفاءها وطيب مجتمعها الروحاني لم تتحمله، بل لفظته منها، كما تنفي الكيرُ الخبيثَ الردي الفاسد.

والواضح الجلي أن البدوى كان مرتدًا في رأي النبي ، بل كان بنفسه يطالب برد إسلامه في صراحة تامة، ويقر بلسانه أنه لا علاقة له بالإسلام. وكرر ذلك ثلاثًا. وعندما خرج بنفسه من المدينة قال بأنه كان فاسدًا شریرًا خبيثًا. وإلا فلو كان في قلبه ذرة من الخير والصلاح لقبلته المدينة.

ها أنتم ترون أنه لم يأمر بقتله أبدًا. وإذن فكيف يعقل أن أبا بكر وعمر وابن عباس، كل أولئك كانوا يعرفون أن عقوبة الارتداد هي القتل، ولكن إذا كان هناك من لم يعرف ذلك فهو والعياذ بالله، الرسول !!

الحديث الثاني

ثم إن الرسول تصالح مع المشركين يوم الحديبية. وكان فيما تصالح عليه أنه مَن فر من أصحاب محمد وجاء قريشًا لم يردوه إليه. (أبو محمد عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ۱۹۷۱م، المجلد الثاني، الجزء الثالث ص ۲۰۳).

أقول: إذا كان قتل المرتد فرضًا من فرائض الدين، وحدًّا من حدود الله، وحكمًا من أحكام الشريعة الإسلامية، ما كان الرسول ليتهاون في حكم من أحكام الله ، فيقبل هذا الشرط المعارض لحكم صريح.

الحديث الثالث

وعلاوة على ذلك، قد ذكرتُ من قبل رواية بأن أحدا من المرتدين اختبأ عند عثمان فأجاره، بل استعفی النبي لهذا المرتد، فعفا عنه. (سنن أبي داود ، کتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد).

فهذا الحادث أيضًا دليل قاطع على أنه لم يكن عنده أي تصور لقتل المرتدين.

الحديث الرابع

“عن أنس قال: بعثني أبو موسى بفتحٍ إلى عمر. فسألني عمر، وكان ستة نفرٍ من بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل؟ فقال عمر: لأن أكون أخذتُهم سلمًا أحب إليَّ مما طلعتْ عليه الشمس من صفراء وبيضاء! قلت: يا أمير المؤمنين، وما كنت صانعًا بهم لو أخذتَهم؟ قال لي: كنت عارضًا عليهم البابَ الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه.. فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن». (کنز العمال).

مما يعني أن الخليفة الراشد عمر أيضًا كان يعارض قتل المرتد.

مناقشة الموضوع في ضوء أقوال السلف

إن القائلين بقتل المرتدين عندما لا يجدون، برغم محاولاتهم المضنية، في عهد النبي ولا في عهد خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، دليلاً حقيقيًا على موقفهم فإنهم يتعللون بحجة الإجماع.. وبناء على الاستنباطات الواهية من أقوال علماء من العصور الإسلامية الوسطى.. التي كثر فيها الجهل والضلال وظهر الفساد في البر والبحر، يعلنون بأن علماء الأمة قد أجمعوا على هذه المسألة، وأنه لا اعتبار لما  يخالف هذا الإجماع.

الأدلة على بطلان الإجماع المزعوم

أما دعوى الإجماع هذا فستنكشف لكم حقیقته فيما يأتي:

(أولا) سبق أن ذكرت بأنه جيء أبو بكر بالمرتدين الأسرى فلم يقتلهم. ( تاريخ الطبري ، الجزء الثالث ، حوادث السنة الحادية عشرة ، ص 259 و2600 و263 وتاريخ ابن خلدون ، المجلد الثاني ، ص 864 و865 ). مما يدل على أنه إن كان هناك في زمن أبي بكر أي إجماع فإنما كان على خلاف ما يدعون، إذ لو كان هناك إجماع على عقيدة قتل أهل الردة فكيف يمكن ألا يأمر أبو بكر بقتل هؤلاء المرتدين، وكيف لم يعترض عليه حتى ولا صحابي واحد قائلا: إن القرآن يأمر بقتل المرتد، يا أبا بكر، وهذا حد من حدود الله، ومن واجبك أن تنفذه، ولا يحق لك أن تعاقبهم بعقوبة غير القتل.

فكيف أسرهم، ثم أطلق سراحهم، ولم يقتلهم رغم هذا الحكم الرباني الصريح كما يزعمون، فهذا، بلا شك، إجماع تقريري للصحابة الكرام، إذ لم يرتفع ولا صوت واحد من الصحابة ضد فعل أبي بكر هذا مما يدل على أن إجماع الصحابة هو أن الإسلام لا يأمر بقتل المرتدين.

(ثانيا) وهناك رواية أخرى عن ابن عباس تقول: (عن ابن عباس قال: المرتدة عن الإٍسلام تحبس ولا تقتل). ( مسند الدارقطني، كتاب الحدود والديات )

ثم إن الرسول أيضا قد نهى عن قتل النساء حتى في الحرب فهاتان الروايتان تتعارضان مع ما يقدمه المودودي من دليل على قتل المرتدة.

(ثالثا) يقول العلامة المرغيناني المتوفى سنة 593 ه: “ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء، ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء وإنما عدل عنه دفعًا لشر ناجز بخلاف الرجال”. (على بن أبي بكر المرغيناني، الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأخيرة، شركة البابي الحلبي بمصر، 1965، ج 2، كتاب السِيَر، باب أحكام المرتدين، ص 165)

ألا ما أحسنه وما أقواه من استنباط حيث يقول: لا يقتل النساء لأجل ارتدادهن ولم؟ لأنه لم يقتل كل مرتد، وإنما الذي يرتد ويحارب أيضا، والذي تخافون أنه إذا أُطلِق فلا بد أن يلتحق بالعدو ويحاربكم من جديد وحيث إن النساء لأجل تكوينهم البدني لا يصلحن عموما للاشتراك في الحروب، لذلك لا يحل لأحد قتلهن بمجرد الارتداد.

وبالمناسبة، فإن المشائخ في باكستان لا يعرفون ذلك، لأنهم يفتون بقتل السيدات الأحمديات، ولقد قتل بعضهن بالفعل.

(رابعا) يقول الإمام الفقيه ابن الهمام المتوفى سنة 681 ه: ( …يجب في القتل بالردة أن يكون لدفع شر حرابة لا جزاءً على فعل الكفر، لأن جزاءه أعظم من ذلك عند الله تعالى فيختص بمن يتأتى منه الحراب وهو الرجل، ولهذا نهى النبي عن قتل النساء.. ولهذا قلنا: لو كانت المرتدة ذات رأي وتبع تقتل، لا لردتها، بل لأنها حينئذ تسعى في الأرض بالفساد). (الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام، شرح فتح القدير على الهداية، الطبعة الأولى شركة البابي الحلبي 1970، جزء 6، كتاب السير، أحكام المرتدين ص 72)

(خامسا) ويقول الإمام البابرتي المتوفى سنة 786 ه: (لا قتل إلا بالحراب فكان القتل ها هنا مستلزما للحراب، لأن نفس الكفر ليس بمبيح له، ولهذا لا يقتل الأعمى والمقعد والشيخ الفاني). ( المرجع السابق ص 74 ) .

(سادسا)

أصل الكفر من أعظم الجنايات.. ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء. وما عُجّل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس، وحد الزنا لصيانة الأنساب والفرش، وحد السرقة لصيانة الأموال، وحد القذف لصيانة الأعراض، وحد الخمر لصيانة العقول والإصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين، فيقتل لدفع المحاربة إلا أن الله تعالى نص على العلة في بعض المواضع بقوله تعالى فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ وعلى السبب الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك فإذا ثَبَتَ أن القتل باعتبار المحاربة، وليس للمرأة بِنْية صالحة للمحاربة، فلا تقتل في الكفر الأصلي ولا في الكفر الطارئ (شمس الدين السرخسي، كتاب المبسوط، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الجزء العاشر ص 110)

فانظر كيف أن المشائخ، رغم هذه الفتاوى الصريحة، يدّعون بالإجماع على هذه المسألة ولاحظ أن أصحاب هذه الفتاوى هم من علماء العصور الإسلامية الوسطى.

(سابعا) ثم إن الإمام إبراهيم النخعي ذا المكانة العالية بين علماء الحديث والفقه، والذي كان شيخا للإمام حماد الإمام أبى حنيفة، يرى أن المرتد يستتاب أبدا. (نيل الأوطار، أبواب أحكام الردة والإسلام، باب قتل المرتد). أي حتى موته وهذه بالطبع مهلة غير محدودة.

فترى أن هذا العالم الذائع الصيت أيضا يخالفهم بصراحة، ولكنهم لا يلتفتون إلى اختلافه، ويصرون على دعوى الإجماع التام، ويقولون: حيث إن الأمة قد أجمعت على ذلك فقد أصبح أصلا من أصول الإسلام وحكما من أحكامه!!

العلماء المعاصرون يخالفون هذه النظرية

وعلماء عصرنا هذا أيضا قد خالفوا هذا الاعتقاد الزائف فما كان هناك أي إجماع لا في القرون الوسطى ولا في هذا العصر، وإليكم أقوالهم:

يقول الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر سابقا: “.. الذي جاء في القرآن عن هذه الجريمة هو قوله تعالى:

وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

والآية كما ترى، لا تتضمن أكثر من حكم بحبوط العمل والجزاء الأخروي بالخلود في النار.

أما العقاب الدنيوي لهذه الجناية، وهو القتل، فيثبته الفقهاء بحديث يروى عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله : “من بدل دينه فاقتلوه”

وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات .. وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة إذا لُوحظ أن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس بمبيح للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه على الدين، فقال تعالى:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

وقال سبحانه أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . (الإسلام عقيدة وشريعة، طبعة دار العلم بالقاهرة، ص 292 و 293)

  • الأساتذة محمد محمود زغلف، والدكتور علاء الدين زيدان، وعبد المنعم يحي الكامل، ويحي كامل أحمد.. جميعهم يعارضون هذا الزعم الفاسد فيقولون:

(.. ليس هناك على الإطلاق أي دليل في القرآن أو السنة الصحيحة على وجود مثل هذا الحد المزعوم .. بل إن الآيات القرآنية العديدة تقطع ببطلان هذه المزاعم، وتترك المشيئة لأي إنسان في اختيار طريقه من الإيمان أو الكفر، وفي أن يدخل الإسلام أو أن يرتد عنه.. ثم تبين أن الحساب في النهاية لكل إنسان على إيمانه أو إعراضه عن الحق هو للمولى وحده.. فهو الأعلم بما تخفيه صدور عباده وبحقيقة ما في قلوبهم ..

وإذا كان البعض ممن يدعون لتطبيق هذا الحد المزعوم يستندون إلى حروب الردة في زمن سيدنا أبي بكر الصديق لتبرير مزاعمهم بقتل المرتد، فإننا إذا تناولنا الجوانب التاريخية لحروب الردة فسنجد أن المرتدين كانوا يشكلون جماعات تدعو إلى الفتنة داخل المجتمع الإسلامي، وتعمل على تهديد أمنه ووجوده.. إن المرتدين بلغوا في اعتدائهم على المجتمع الإسلامي حد محاصرة المدينة المنورة ، مما تطلب خروج سيدنا أبي بكر بنفسه لقتالهم وتخليص المدينة من حصارهم.. فلم يكن الأمر إذا هو محاربة أفرادٍ لمجرد أنهم ارتدوا عن دينهم.. وإنما كان ردًا للاعتداء على المجتمع الإسلامي وإثارة الفتنة فيه وتهديد أمنه وسلامه ، تنفيذا لأمر المولى في قوله تعالى:

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين (البقرة:  190).

وإذا توقفنا أمام قصة ثعلبة، كما أوردته كتب السيرة، فسندرك في وضوح بطلان هذه المزاعم عن مقاتلة سيدنا أبي بكر للمرتدين لمجرد إنكارهم لفريضة الزكاة.. إذ أن ثعلبة، كما ورد في هذه القصة، قد أنكر فريضة الزكاة، وامتنع عن دفعها لسيدنا رسول الله ، وتطاول على من جاء يطلبها منه ورغم ذلك لم يأمر الرسول بقتله أو أخذها منه بالقوة.. فلما عدل ثعلبة عن هذا المسلك وحاول تقديم الزكاة لسيدنا رسول الله رفض حضرته أخذها منه.. ثم جاء أبو بكر، فحاول ثعلبة أن يدفع الزكاة، ولكن سيدنا أبا بكر أصر على هذا الرفض طوال خلافته، كما رفضها منه سيدنا عمر وسيدنا عثمان طوال خلافتهما.

ولعل في هذه القصة ما يقطع بأن الزكاة في وقت سيدنا أبي بكر، كما كانت في وقت سيدنا رسول الله ، لم تكن جباية تُجبْى بالقوة.. ويتحايل من يمتنع عن أدائها، وإنما يقدمها المسلم بإرادته الكاملة طاعة للمولى وتزكية لنفسه.

وبطبيعة الحال فإن سيدنا أبا بكر الذي كان يتبع سيدنا رسول الله ، ويتأسى بحضرته في كل أموره، لم يكن ليجبر أحدا بحد السيف على الرجوع إلى الدين. فحاشا لله أن يُنسبَ إلى حضرته ما يخالف سنة سيدنا رسول الله .. وإنما كان يدفع العدوان والفتنة عن المجتمع الإسلامي الناشئ .. وهذه الحقائق تسقط كل المزاعم التي روج لها المستشرقون وأعداء الإسلام عن حروب الردة..

تتأكد حقيقة أن مزاعم ما يسمى بحد الردة ليست سوى إحدى الفتن التي دسها أعداء الإسلام من أن الآراء التي تتناول تطبيق هذا الحد المزعوم، والتي لا أساس لها من كتاب الله وسنة رسوله، تتناقض فيما بينها تناقضا كاملا.. ومن ذلك، على سبيل المثال، ما يلي:

  • الخلافات حول حالات ثبوت الردة.
  • الخلاف حول ما أسمي باستتابة المرتد.
  • الخلافات حول إقامة الحد على المرأة والصبي.
  • المزاعم حول ارتداد اليهود والنصارى.

(حقيقة الحكم بما أنزل الله، ط 1، دار نهر النيل للطباعة، القاهرة، ص 126 إلى 132، باختصار)

  • كما عارض هذه العقيدة الواهية، وبكل شدة كل من:

المولوي غلام أحمد برويز (في كتابه: نقطة بركار حيات، المفهوم الصحيح للجهاد في ضوء القرآن الكريم، إدارة طلوع الإسلام، مطبعة أشرف، لاهور، 1967).

والمولوي أبو كلام آزاد (في تفسيره المسمى: بترجمان القرآن، شركة زمزم المحدودة، لاهور، المجلد الأول).

والمولوي محمد علي جوهر رئيس الأحرار، (سيرة محمد علي، بقلم رئيس أحمد الجعفري، ط 1، دار كتاب منزل، لاهور)

والمولوي نواب أعظم يار جنك جراغ علي (في كتابه: أعظم الكلام في ارتقاء الإسلام، ط 1، حيدر آباد، الهند، 1910، ج 1)

والمولوي ثناء الله الأمرتسري، وكان من أكبر علماء فرقة أهل الحديث بالهند (في كتابه: الإسلام والمسيحية، مطبعة ثنائي برقي، هال بازار، أمرتسر، الهند 1941)

والأستاذ رحمة الله طارق (في كتابه: قتل المرتد .. الحيثية الشرعية، إدارة أدبيات إسلامية، ملتان، باكستان، ط3، 1987)

والقاضي س . أ . رحمان، قاضي القضاة بباكستان (سابقا) (في كتابه الذي أصدرته إدراة الثقاقة الإسلامية، باكستان.. بعنوان: Punishment of Apostasy in Islam

هذا بالإضافة إلى القاضيين الباكستانيين السيد محمد منير والسيد كياني.

فهذه هي حقيقة إجماعهم الذي لا ينفكون يدعون به بملء أفواههم!

هل المودودي جادّ في فتواه؟

هذا، وسبق أن ذكرت أن المودوي يقول بأن هذه الجموع الغفيرة الهائلة التي يطلقون عليها (المسلمون) إنها في الحقيقة، ليست من الإسلام في شيء فيجب أن نعرف ما إذا كان المودودي جادا في قوله هذا أم لا؟ وما هي حقيقة فتواه؟ فتعالوا نسمع بيانه التالي الذي يحذر فيه المنفصلين عن جماعته الجماعة الإسلامية المودودية، وليس المرتدين عن الإسلام، قائلا:

(إن هذا الطريق ليست تلك التي سواء فيها السير قُدمًا أو الرجوع عنها كلا، بل لا يعني الرجوع عنها إلا ارتداد). (روداد جماعت إسلامي، شعبة تنظيم الجماعة، مكتبة الجماعة الإسلامية، لاهور، ج 1، ص 8)

ولما كان الانفصال ، مجرد الانفصال عن الجماعة الإسلامية والانخراط في سلك جماعة أخرى ارتدادا في رأيه، فهل بقى بعد ذلك أي خفاء في أن الجماعة الأخرى لا تعنى إلا كفرا!

أهداف المشائخ

فما هي أهداف هؤلاء المشائخ؟ وماذا ينوون إن استطاعوا أن يستولوا على الحكم، لا قدر الله. وكما أسلفت أنهم لا يزالون يسعون لذلك جاهدين، وذلك حسب مؤامرة دولية، ولكي نطلع على أهدافهم علينا الرجوع إلى تقرير المحكمة التي تولت التحقيق في فتن مذهبية سنة 1953 في باكستان، يقول التقرير:

(إن المحكمة متأكدة من أصالة فتوى الديوبنديين المرقومة برقم إي اكس أو أي 13، القائلة بارتداد الشيعة الاثنا عشرين، لقد تم توثيق هذه الفتوى من مكتب دار العلوم ديوبند)

(أي إن المحكمة لا تتحدث عن فتوى مزورة منشورة في جريدة وهمية، بل تتحدث عن فتوى تأكدت من أصالتها)

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أهل القرآن الذين ينكرون الحديث النبوي ولا يعملون به هم أيضا كافرون، أي عند أهل الشيعة والسنة على سواء ونفس الحال بالنسبة للمفكرين الأحرار. مما يدل على أن أهل الشيعة وأهل القرآن وأهل الحديث والبريلويين كل هؤلاء كافرون عند بعضهم البعض ومن هنا فإذا تولت طائفة من هذه الطوائف زمام الحكومة فلا بد أنها، حسب قوانين الدولة الإسلامية التي يتصورها مشائخ هذه الطوائف، سوف تعاقب كل من يترك طائفته ويدخل في أخرى أو يستبدل عقيدة بدل أخرى (تقرير محكمة التحقيق في فتنة سنة 1953، ص 236 و 237)

فكما أخبرتكم آنفا، أن الإسلام مهدد من قِبل المسلمين أنفسهم، وأن العالم الإسلامي يواجه تحديا من العالم الإسلامي نفسه. وهذه هي المؤامرة الدولية المروعة التي يدبرها الاستعمار الأمريكي.. فكل الدول الإسلامية الخاضعة له تثار فيها نظرية قتل المرتدين وهدف الاستعمار الغاشم من هذه المكيدة الخبيثة أن يشغل المسلمين بضرب رقاب بعضهم البعض، ويلهيهم عن نفسه. وهو يدرك جيدا أن هذه الدول الفقيرة العائشة على ما يجود به هو عليها من غذاء وكساء وسلاح، لن تجتريء أبدا على قتل هندوكي ولا مسيحي ولا يهودي، وإنما تنزل صاعقتهم على إخوانهم المسلمين فقط، وأنهم لن يضربوا إلا أعناق الأشقاء.. فكل فرقة سوف تكفّر غيرها من الفرق الإسلامية، وأية فرقة قويت شوكتها سوف تقتل أهل الفرق الأخرى المرتدة في رأيها.. ولسوف تقوم القيامة في العالم الإسلامي، ويلعن العالم كله على دين كهذا، وعلى الذين لهم مثل هذه الاعتقادات السخيفة والرهيبة، والذين يستبيحون بهذه الطريقة المخزية دماء إخوانهم الأبرياء، ويضربون رقاب بعضهم البعض.

لُعبة مُعادة

هذه هي خلاصة تلك المؤامرة الخبيثة المـُخيفة، واعلموا أنهم قد لعبوا هذه اللعبة من قبل أيضا، وليست هذه قصة وهمية أو بدعًا منهم، بل بالفعل قد شهد العالم الإسلامي نفس المشاهدة المأساوية من قبل، فكل دولة إسلامية استولى فيها المولويون والمشائخ على الحكم، أو استخدم حكّامهم الغاشمون مشائخهم، فقد لعبت فيها باسم قتل المرتدين لعبة تقشعر منها الجلود، وتنخلع من هولها القلوب.

وإنني أسوق لكم الآن بعض الأحداث التي وقعت في عهد الملك العباسي المأمون ومن يليه من ملوك العباسيين، حينما ظن بعض العلماء الربانيين الأفاضل الذين كرسوا حياتهم لخدمة الإسلام، أنه بالنظر إلى صفات الله التنزيهية.. لا بد من الفصل بين الله تعالى وبين كلامه، وقالوا بأن القرآن مخلوق فاعتبر الفقهاء والمشائخ هذه النظرية مخالفة للإسلام، وأفتوا بأن القائلين بها خارجون عن دائرة الإسلام.. فأريقت دماء المسلمين الأبرار كالأنهار، فقط لأنهم أصبحوا عند أولئك المشائخ المرتدين، وعقوبة المرتد هي القتل وحجتهم على ارتدادهم هي أنهم قالوا بخلق القرآن. فإلى هذا الدرك السحيق وصل الظلم والجور في تلك الفترة المشئومة.

ولا ينتهى الأمر لعهده فحسب، بل لقد تكررت مثل هذه الأحداث المنكرة المروعة في الدول الإسلامية الأخرى على اختلاف زمانها مما ترك في جبينها وصمة عار، وجعل العالم يشمئز من الإسلام ويتنفر منه ويحتقره ويزدريه، ويرميه بالجهل والضلال والظلمات. غير أن المشائخ حتى الآن لا ينتهون عن ذلك، ولا يشعرون، ولا أي درس يتلقون، ثم لا يخجلون، بل لا يزالون يعزون إلى دين الله عقائد منافية للقرآن الكريم والسنة النبوية، ويلوثون سمعته، ويلطخون بالدماء تاريخه.

بداية هذه النظرية

(أول من عُرِف بهذه النظرية هو الجعد بن درهم مؤدب مروان الملك الأموي، والذي قتله بسبب هذه النظرية خالد بن عبد الله القسري والي العراق يوم عيد الأضحى سنة 118 ه عند صلاة العيد بالكوفة. والرجل الثاني هو الجهم بن صفوان الذي قتله “نصر” أحد قواد بني أمية سنة 128 ه.)

وفي العصر العباسي، في عهد هارون الرشيد على وجه التحديد، ظهر بشر بن غياث المريسي، وقال بخلق القرآن. ولما سمع الرشيد بذلك قال: لله علي، إن أظفرني به لأقتلنه فظل بشر متواريًا طيلة حكم الرشيد. ومن المفارقات الغريبة أن الرشيد الذي هدد العلماء المسلمين بالقتل بسبب قولهم بخلق القرآن.. صار بعد وفاة ابنه المأمون معتنقا بهذه النظرية، بل لم يزل طيلة حياته يهدد ويعذب علماء المسلمين ليجبرهم على قبولها، حتى أنه أوصى أصحابه، وهو على فراش الموت، بأن لا يخلى سبيل هؤلاء العلماء حتى يقولوا بخلق القرآن، فلم يزل تعذيب العلماء وتكفيرهم شغله الشاغل حتى مات. ولقد قام بأمر منه والي بغداد بإكراه خمسة وعشرين من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين بما فيهم الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، على قبول خلق القرآن فاضطر معظمهم إلى قبولها بعد أن واجهوا تعذيبا شديدا.

الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح رحمهما الله، بقيا على صمودهما فأرسلهما الوالي مقيدَين إلى المأمون في طرسوس شمال المملكة الإسلامية. ولكن شاء الله أن يموت المأمون وهما في الطريق إليه مقيدين بالسلاسل فرجعوا بهما إلى بغداد وشاءت المقادير أن يمرض محمد بن نوح في الطريق ويسلم الروح، ورِجلاه في الحديد.

وقدم الإمام أحمد مصفدًا في السلاسل إلى المعتصم ولما أصر على الإنكار بخلق القرآن أمر المعتصم بحبسه في مكان لا يرى فيه الشمس وجرت بينه وبين المشائخ مناظرات أمام الملك لأيام طويلة وقال المشائخ للملك: إنه ضال مضل مبتدع. اقتله، ولا تبال بشيء، فدمه في أعناقنا.

وكان المعتصم يخلو به، ويهمس في أذنه قائلا: ويحك يا أحمد، أنا والله عليك شفيق، وإني لأشفق عليك مثل شفقتي بهارون ابني فأجِبني حتى أخلي سبيلك ولكنه رحمه الله، كان لا يُّذعِن له فكان يأمر الجلادين أن يأتوا واحد واحدا ويضربوه بقوة وهو عاري الجسم، بل إنهم كانوا يضربونه في رمضان وهو صائم، حتى تدمى جروحه ويغشى عليه ولقد رأوا بجسمه، بما فيه وجهه، أثر ألف سوط وكان أثر الضرب بينًا في ظهره إلى أن تٌوفيَ رحمه الله.

كانوا يدوسونه في السجن بالأرجل وأحيانا بالأحجار الثقيلة كما شدوا يديه بقوة حتى تقلعت إحداهما فكان يتألم منها إلى حين الوفاة.

وبعد أن قضى حضرته 28 شهرا في سجن وحديد وضرب وتعذيب، أطلق المعتصم سراحه ولكن التعذيب أثر فيه بحيث لم يعد بعده يقدر على تحريك أطرافه فتداوى من الضرب لعدة شهور، ولكنه كان يتألم منه إلى أن توفاه الله تعالى.

ولما جاء الواثق بعد المعتصم فإنه لم يأمر بإيذاء الإمام بالدنيا ، ولكنه أوقفه عن التدريس، وطلب أن لا يساكنه في بلده.. وأما غيره من الناس فقد أعمَلَ الواثق فيهم السجن والقتل، فقد قتل بيديه أحمد بن نصر الخزاعي للسبب نفسه سنة 231 ه.

ولم تمتد هذه الفتنة إلى نواحي العراق وحدها، وإنما حلقت إلى الأقطار والأمصار، فشملت خراسان والمشرق ووصلت إلى الحجاز ومصر. وحُمِل من كل هذه الأقطار علماء وفقهاء وأئمة ازدحمت بهم سجون بغداد، وضاقت بهم سجون سامراء، وتعطرت بدمائهم الزكية أرض بغداد. ولم تنتج الأمة من هذه الفتنة التي اكتوى بضرامها مئات العلماء والأبرار إلا في 232 ه حين هلك الملك الواثق.

بعض الضحايا الأخرى

وإليكم أسماء بعض العلماء الذين وقعوا ضحايا لهذه الفتنة في عهد المأمون والمعتصم والواثق:

محمد بن نوح، نعيم بن حماد، يوسف بن يحيى المصري، محمد بن إبراهيم الإسكندري، أحمد بن الخزاعي، ومحمد بن عبد الله بن الحكم. “فمنهم من مات في السجن، ومنهم من أُعدِمَ بالسيف”.

(د. مصطفى الشكعة، الأثمة الأربعة، دار الكتاب المصري اللبناني، بيروت، ط1 الفصل الخامس، فتنة خلق القرآن، ص 797 إلى 838، بتصرف واختصار).

هذا بلاغ للناس

غير أن بعض المولويين والمشائخ، ممن أُشرب في قلوبهم سفك الدماء، وحُبّب إليهم قتل الأبرياء، لن يقلعوا عن ذلك بسهولة.

فإذا لم ينتبه العالم الإسلامي اليوم أيضا، ولم يرفض آراءهم الواهية السخيفة، ولم يأخذ على أيديهم، ولم يمنعهم عن إقحام الأمور الدينية المحضة في سياسة البلاد، وعن الظلم والعدوان على دين الله الإسلام، وأن يكتفوا بتلقين الناس الصلاة والزكاة والبر والصلاح فقط.. أقول إن لم يفعل العالم الإسلامي ذلك، فلا بد وأن يعيد التاريخ المخيف نفسه مرة أخرى. واعلموا أن وراء هذه المؤامرة دولاً عظمى تتربص بالمسلمين الدوائر، وتنوي ألا يتم قتل المسلم إلا بخنجر المسلم، وألا يتم القضاء على الإسلام إلا بقوى العالم الإسلامي نفسه.

اقتباسٌ هامٌّ آخر

والآن، وقبل أن أتناول الحديث عن الجزء الأخير من الموضوع، أقرأ عليكم مقتبسا آخر هاما من تقرير المحكمة الباكستانية السالفة الذكر ألا وهو: “إن المحكمة تسلّم بأن المشائخ متفقون على أن جزاء الارتداد هو القتل”.

يجب أن يلاحظ القارئ أن المراد من المشائخ هنا هم فقط أولئك المشائخ الذين اشتركوا في تلك المناقشات والاستجوابات التي أجرتها المحكمة معهم. وإلا فما كان جميع المشائخ في ذلك الوقت أيضا يرون قتل المرتدين، كما سبق أن قرأت عليكم أسماء بعضهم.. فهؤلاء لم يفتنوا بقتل المرتدين أمام أية محكمة؛ فمثلاً أن المولوي غلام أحمد برويز، كان قد حارب هذا هذا الاعتقاد في تلك الأيام وكذلك من قبل، وألّف العديد من المؤلفات ضده.. ولقد جرت بينه وبين المودودي مصادمات مثيرة ومناظرات ممتعة في هذا الشأن. للك فليس المراد من قول المحكمة هذا أن جميع المشائخ كافة قد أفتوا بقتل المرتدين، وإنما الذين استجوبتهم المحكمة فقط.

“كما تسلم المحكمة أيضا أنه لو أصبح أحد من المولويين كأبي الحسنات السيد محمد حسن القادري، أو المرزا أحد رضا خان البريلوي، أو أحد من هؤلاء المشائخ العديدين المذكورين في الفتوى المرقومة برقم ايكس دي14.. لو أصبح رئيسا لمثل هذ المملكة الإسلامية، فلابد للديوبنديين والوهابيين (الذي منهم المولوي محمد شفيع الديوبندي عضو هيئة التعليمات الإسلامية وعضو اللجنة التشريعية الباكستانية، والمولوي داود الغزنوي من أن يلقوا نفس المصير، أي القتل. ولو تولى المفتي محمد شفيع الديوبندي الحكم فلا بد أن يفتي بكفر من كفّر الديوبنديين، ويعاقبهم بالقتل، إذا انطبق عليهم تعريف الإرتداد؛ أي إذا لم يكونوا قد ورثوا عقائدهم من آبائهم، بل اعتنقوا بأنفسهم بدلا من غيرها من العقائد). (تقرير محكمة التحقيق في فتن مذهبية سنة 1953، ص 263).

تشدد المودودي

ولكن المودودي يختلف معهم في ذلك، ويظهر تشددا وعنفًا غريبين، حيث يرى بأن الذين وُلِدوا في بيوت المسلمين هم أيضا مرتدون في الحقيقة، لذلك فلن نقبلهم في مملكتنا الإسلامية كمسلمين، بل نمهلهم لمدة سنة، ونقول: حيث إنكم مرتدون في الحقيقة فاختاروا أحد الأمرين؛ فإما أن تكذبوا الإسلام بألسنتكم، وتنكروا صدقه صراحة. وفي هذه الصورة نخلي سبيلكم ونعفوا عنكم. وإلا فإننا نحذركم بصراحة أنكم لو بقيتم على نفس الحال التي نعدها ارتدادا، لنقتلنّكم ونستأصل شأفتكم، ونكرههم على ذلك الإسلام الذي نراه نحن إسلاما. يقول المودودي:

“كل منطقة نحدث فيها الانقلاب الإسلامي، فإننا نوجه إلى أهلها المسلمين بلاغا بأن الذين انحرفوا منهم عن الإسلام اعتقاديا وعمليا، ويريدون أن يبقوا منحرفين عنه، فعليهم أن يعلنوا إعلانا خاصا بكونهم غير مسلمين، ويخرجوا من نظامنا الاجتماعي، وذلك خلال مدةٍ أكثرها سنة واحدة. وبعد هذه المدة سوف نعتبر كل من ولد في بيوت المسلمين مسلمين، وننفذ فيهم كل القوانين الإسلامية، ونضطرهم إلى الالتزام بالواجبات والفرائض الدينية. وكل من يخرج بعد ذلك من دائرة الإسلام يُقتل”. (عقوبة الارتداد في القانون الإسلامي ص 80).

فهذه غاية غاياته وآخر حسراته بأن يسمع تكذيب الإسلام من أفواه المسلمين.

ويجب ألا ينخدع أحد بقوله: سوف نعتبر كل من وُلِد في بيوت المسلمين مسلمين، لأنه قد قال فيما مضى أن999 من الألف من المسلمين ليسوا في الحقيقة مسلمين. ومعنى ذلك أنه يرى أن هؤلاء المسلمين ليسوا في الحقيقة مسلمين. ومعنى ذلك أنه يرى أن هؤلاء المسلمين كافرون مولِدًا. مع أن الرسول يقول: “كل مولود يولد على الفطرة”.

فهذه هي نوايا وأهداف هؤلاء المشائخ، وهذا هو تصورهم للإسلام، وهذه هي حرية الرأي والعمل لديهم!

تاريخ الأنبياء والارتداد

والآن أقول كلمتي هي بمثابة الحرف الأخير للموضوع، وهي شيّقة ممتعة من ناحية، ومن ناحية أخرى محزنة مؤلمة جدا..

وهي أن القرآن الكريم يقدم لنا تاريخا للأنبياء المرسلين عليهم السلام، تاريخا صادقا حقيقيا مفصلا، من عقائد اعتقدوها من لدن آدم ونوح إلى سيدنا محمد المصطفى ، ومبادئ وقوانين تمسكوا بها، وعادات وأخلاق تخلقوا بها هم وأتباعهم، ودعاوٍ ادعوها، ثم أدلة وبراهين أتوا بها، واعتراضات واجهوها، ومباحثات ومناقشات جرت بينهم وبين أعدائهم.. كل هذه الأمور سجلها القرآن الكريم في صورة تاريخ متسلسل مفصل.

عقيدة أعداء الأنبياء

فيخبرنا القرآن أن كافة المكذبين بالرسل، بدون استثناء، كانوا يعتقدون “أنه لا بد من معاقبة من يخرج عن ملتهم إلى أخرى، ويرتد عن دينهم ويدخل في آخر، في حين أن الأنبياء كلهم كانوا يعارضون هذا الاعتقاد، ويرونه ظلما عظيما، ويقولون لا عقاب، إذ لا إكراه في الدين. ثم يخبرنا القرآن الكريم بأن الله كان مع أنبيائه، ولعن الذين أصروا على هذا الاعتقاد السخيف، وسعوا لتطبيقه؛ أي كانوا يرون أن كل من يخرج عن ملّة فلا بد من معاقبته على ارتداده هذا، إما بقتله أو بإحراقه أو بحبسه أو بنفيه من البلاد. ما كان جِدالهم مع أنبيائهم إلا على هذا المنوال. فأمعنوا النظر في القرآن من أوله إلى آخره تجدوا نفس الموضوع.

سيدنا نوح.. يتهم بالارتداد

يخبرنا القرآن الكريم أن قوم نوح وجهوا إليه نفس الاعتراض قائلين: إنك قد ارتددت عن ملتنا، بل تتسبب في ارتداد الآخرين أيضا، وهددوه بقولهم:

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء: 117).

قالوا له بصوت واحد: يا نوح إن لم تنته عن ارتدادك، ولم تمتنع عن التسبب في ارتداد الآخرين، فلا بد لنا من أن نقتلك رجما.

فإذا كان المشائخ في مدينة الكوئتة (باكستان) قد أفتنوا اليوم بارتداد المسلمين الأحمدين، وقالوا ليس جزاؤهم إلا الرجم، فلا عجب ولا غرابة، لأن أعداء سيدنا نوح أيضا أصدروا نفس الفتوى من قبل.

وسيدنا إبراهيم أيضا..

كما يذكر لنا القرآن أن أبا ابراهيم، أو عمه كما قال البعض، ولكن القرآن يسميه أباه، هدده قائلا:

أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (مريم: 47).

أي هل ترتد عن عبادة آلهتي يا إبراهيم؟ إذا لم تنته عن هذا الارتداد لأرجمنك. ومن الأفضل أن تغرب عن وجهي لبعض الوقت حتى يهدأ غضبي.

ثم بدأ قومه يرفعون نفس الصوت، بل ابتكروا لعقوبته أسلوبا جديدا فقالوا:

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (الأنبياء: 69-71).

فما دام أبوه نفسه هدده بالرجم فكان طبيعيا أن يسبقوا أباه في عداوته، فيعلنوا: حرقوه حيا، هكذا انصروا آلهتكم، إن كنتم فاعلين، لأنه قد أصبح خطرا يهدد دينكم، فعندئذ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وذلك لأنه ما كان لحكم القائلين بإحراقه لينفَّذ وإنما كان أمري للنار هو مفعولا، لأن النار من تخليقي. فأمرتُها لا تحرّقيه، بل كوني له بردا وراحة وسلامة.

إن في ذلك لعبرة

هذا، وإن في هذا الأسلوب القرآني لحكمةً وعبرة. وذلك أن الناس في بعض الأحيان يستبقون النار في الشر والإيذاء، فيكونون أشد إحراقا من النار. فالإنسان الذي خلقه الله على الفطرة وأودعه صفات الطين والنار.. هذا المخلوق لظلمه وجهله على نفسه، يتعدى حدوده، ويتجرئ لدرجة أنه يتخلى عن القيم الإنسانية، ويتصف بالصفات الجنية النارية، ويصبح شرا من النار، بل أظلم وأطغى. فلذلك ترى هنا أن الله تعالى لم يأمر هذا المخلوق لينتهوا ويهدأوا ويبردوا؛ لأنه كان على علم أنهم قد أصبحوا أكثر شرا وأشد حرًّا من النار، وإنما أمر النار لما كان يتوقع منه أنها لا بد أن تتمثل لأمره، فقال:

يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ .

ثم ذكر فشلهم في مكيدتهم الخبيثة قائلا: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ .

سيدنا لوط وقومه

ثم إن قوم لوط أيضا عاملوه بنفس المعاملة، وأصروا على معاقبته بحجة الارتداد، ولكنهم اقترحوا أن يعاقب بالنفي من الأرض، فقالوا:

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (الشعراء: 168-170).

قوله إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ يعني: فاقضوا ما أنتم قاضون، فإني أيضًا قد سئمت من سوء أعمالكم، وضجرت من خبث نفوسكم، فلا أتوقع منكم أي خير ولا أدنى رحمة. ثم انتقل ذهنه على الفور إلى ربه، فناداه:

رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ .

سيدنا صالح وتهمة الارتداد

وقوم صالح أيضا عاملوه بنفس الأسلوب، وتناقشوا ما إذا كان الخارج عن ملتهم والمتمرد عن دينهم يستحق العقوبة أم لا؟ حتى استقر بهم الرأي أنه لا بد من عقابه. فتآمروا على قتل صالح وقالوا:

تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (النمل: 50).

أي تعالوا نحلف بالله أننا سوف نهاجمه وأهله ليلا فنقتلهم غيلة. وإذا جاءنا ورثته يطالبون بدمه نقول لهم: نحن لا نعرف شيئا عن مقتلهم، إذ لم نشهد هلاكهم، وإنا لصادقون.

ومعنى ذلك أن أعداء الرسل أحيانا كانوا يعاقبون الخارجين عن ملتهم علنًا وفي بعض الأحيان يهاجمونهم سرًّا، كي لا يقعوا في أيدي القانون. فإذا كان نفس الشيء يحدث اليوم في باكستان، وترون المشائخ يحرضون الأراذل والرعاع على قتل المسلمين الأحمديين المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وينصحونهم أن يقتلوهم غيلةً كي ينجوا من العقوبة الدنيوية، فلا داعي للعجب، فقد سبق أن واجَهَ نبي الله نفس التهديدات، وعومل بنفس المعاملة القاسية من قِبَلِ قومه.

سيدنا شعيب يعارضهم

ثم يسرد القرآن الكريم الأحداث التي حدثت في زمان شعيب ، ويقول:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا (الأَعراف: 89-90).

انظروا إلى رد شعيب على قومه، فإنه رد رائع خالد حقًا، حيث يقول: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ .

أي هل تجبروننا على العودة إلى دينكم، وتعلمون جيدا أن قلوبنا تكره دينكم بشدة. فما دمنا غير مُقتنعين به، فلن تستطيعوا أن تدخلوه في قلوبنا جبرا وقسرًا.

غير أن علماء عصرنا اهتدوا إلى حيلة يتمكنوا بها، في زعمهم، من إدخال دينهم في قلوب الناس جبرا، وإن لم يهتد إليهم قوم شعيب.. حيث يحسبون أن لهم حقًا في مطالبة الناس بالرجوع إلى ملتهم باستخدام القوة والعنف، وأن هذا هو عين الإسلام، وما يؤيده القرآن والعقل أيضا. ولكن اسمعوا الرد على وهمهم هذا الباطل بلسان سيدنا شعيب حيث يقول:

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا .

أي لو عندنا في ملتكم خوفا من القتل أو الإخراج من الديار، لأصبحنا إذن مفترين على الله .

فهل يظن المشائخ أن الإسلام يأمر بإكراه الذي لم يعد يقتنع بالإسلام على ارتكاب جريمة أشد وأشنع، جريمة الافتراء على الله تعالى؟

ويستمر شعيب في الرد على القوم قائلا:

وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا .

أي من المحال لنا ولكم أيضا أن نرجع نحن أو ترجعونا إلى ملتكم، لأن القلوب بيد الله فقط، فما لم يرد الله ربنا أن نرجع إلى ملتكم التي أخرَجَنا منها، من المستحيل أن نقبل ما تقولون أو تكرهونا عليه.

ولكن العجب كل العجب.. أن علماء اليوم يدعون بأنهم يقدرون على أمر لم يقبل به نبي ذلك الزمان، ولم يقدر عليه أعدؤه.

كلا؟ إنما الأمر كله لله، فإنه، ولا ريب، هو القدير صاحب التصرف التام على القلوب، يقلّبها كيف يشاء.. فاليوم أيضا لا تتغير القوب إلا بإذنه.

سيدنا موسى.. وفرعون

ثم إن فرعون وقومه أيضا عاملوا موسى نفس المعاملة، بل تجاوزوا الحدود كلها في هذه المعاملة القاسية ظلما وزورا، فابتكروا أنواعا من العنف والتعذيب لم تخطر ببال أعداء الأنبياء السابقين. ولم يَدَعوا أي نوع من أنواع العنف إلا مارسوه على موسى وأصحابه، وذلك بحجة أنهم قد ارتدوا عن دينهم، وخرجوا عن ملتهم؛ يقول القرآن الكريم:

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (غافر: 26-28).

أي لما جاءهم موسى بالحق الذي آتيناه من عندنا، قالوا: لا تقتلوا المؤمنين فحسب، بل اقتلوا أيضا أبناءهم. إن كلمة (مع) يمكن أن تكون متعلقة بالإيمان، فيكون المعنى: اقتلوا أبناءهم أيضا مع موسى. وكلا المعنيين ثابت، لأن الآية التالية تخبرنا أنهم كانوا ينوون قتل موسى أيضا. وهكذا، فلم يقترحوا قتل موسى فحسب بل قالوا: اقتلوا أولادهم فهم أيضا داخلون في حكم المرتدين.

فإذا كنتم ترون أن نفس الصوت يرفع اليوم من قبل المشائخ في باكستان ضد المسلمين الأحمديين، فلا غرابة في ذلك لأن القرآن الكريم يخبرنا أن أعداء الحق دائما مايفكرون في مثل هذه المكائد، ويرفعون نفس الأصوات.

ثم قالوا: وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ، أي لا تقتلوا نساءهم، بل اتركوهن على قيد الحياة لنفضحهن ونُهينهن. ثم يقول تعالى: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ، أي أن مكائد منكري الحق لا تُفلح أبدًا، بل تكون عاقبة أمرهم خُسرانا.

ثم يخبرنا القرآن الكريم:

ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ،

أي اتركوني أقتل موسى، وليدع ربه، ونَرَ كيف ينجيه ربه من قبضة يدي القوية القاهرة.

ثم يبرر فرعون ما يمارسه من عنف وتعسف قائلا: ما كنت لأعترض له من أجل دينه هو فقط، فليعتنق أي دين، ولكن ما يقلقني هو أنه يبشر بدينه، ويبدل دين الآخرين، وهذه جريمة لا يستهان بها أبدا.

حجة حكومة باكستان

وهذه هي نفس الحجة التي قدمتها الحكومة الباكستانية فيما أسمته (البيان الأبيض) الذي نشرته ضد المسلمين الأحمديين.. يقول المتحدث باسمها للدول الأخرى: إنكم لا تدرون سبب عداوتنا لهم.. إنهم لا يكتفون باعتناق دينهم فحسب، بل يبشرون به الآخرين أيضا، وهكذا يظهرون في أرضنا الفساد. وهل تستطيع أية دولة السكوتَ على هذا الفساد.

أقول، بل كان الأليق به أن يقول: أَفلا ترون القرآن الكريم يذكر أن فرعون أيضا لم يتحمل هذا الفساد، فكيف نتحمله نحن.

إلهام الإمام المهدي يتحقق

هذا، وقد أوحى الله تعالى إلى المهدي والمسيح الموعود بنفس الآية القرآنية: “ذروني أقتل موسى، وليدع ربه”، وإن علماءهم في باكستان قد أتوا بنفس الفرعونية في حق هذا العبد الضعيف أيضا، وبنفس الكلمات.. حيث أصروا على قتلي مرارا وتكرارا. وتدل شواهد الأحوال أن الآمر الباكستاني قد قطع لهم وعدًا بالفعل، وقال: سوف ندبر مؤامرة، فنتهمه بتهمة القتل، تمامًا كما اتهِم سيدنا موسى بتهمة قتل رجل. كما أغروا الحكومة في إلحاح شديد بقتلي قائلين: لو قتلتموه لقطعتم، وتينَ الجماعة الإسلامية الأحمدية، وقضيتم عليها قضاء نهائيا.. والعياذ بالله.. اقتلوه لأنه يبغي ويُظهر في الأرض الفساد. حيث يحض جماعته على التبليغ ويقول: انتشروا في الأرض مسرعين، وبلغوا العالم رسالة الله جاهدين. وقام في هذا الصدد بتوجيه دعوة خاصة وسماها (دعوة إلى الله). بل إنهم قالوا: إن خلفاءهم السابقين كانوا شرفاء إلى حد ما، ولكنه خبيث ومفسد جدا، لأنه يبعث النشاط في الجماعة، وينفخ فيهم روح الحماس. فكيف نتحمل كل ذلك؟

هذا هو واجبي

أما أنا فأرد عليهم على لسان القرآن الكريم بنفس الرد الذي رد به نبي ذلك الزمان على أعداء الحق. أنا لا أساوي حتى ولا تربة أقدام الأنبياء عليهم السلام، إلا أنني أرى اتّباع سنتهم ضروريًا.

فلذا ها أنا أيضا أرد عليه أسوةً بموسى بلسان القرآن:

إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (غافر: 28)

! بالله إني عذت بربي وربكم منكم ومن أمثالكم، من كل شرير متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.. نعم، لا يؤمن بيوم الحساب، وإلا ما أتى أبدا بهذه الأفعال الخسيسة الدنيئة المنكرة.

نبينا صلى الله عليه وسلم يُتَّهم بالارتداد

وهكذا يستمر القرآن الكريم في توضيح هذا الموضوع بتسلسل دون انقطاع. والآيات في ذلك كثيرة جدًا، إلا أنني أريد إنهاء الخطاب، فأقول: إن خير البشر، وأفضل الناس، وأسماهم شأنًا، وأعلاهم مرتبة، هو مولانا سید الرسل وأفضل الأنبياء محمد المصطفي .. هذه هي عقيدتنا نحن المسلمين جميعًا، وهذا ما يقرره القرآن الكريم، وما تثبته المقارنة المفصلة بين الإسلام وبين غيره من الأديان. وليس هذا مجرد ادعاء فحسب، بل لدينا أدلة قاطعة وبراهين ساطعة على ذلك.

أقول: هذا الرسول الكريم الأعظم أيضًا كان قد اتهم بنفس التهمة.. تهمة الارتداد. وجاءه قومه بنفس الحجة الواهية قائلين: قد ترکت ملّة آبائنا، فلا بد أن تنال جزاء هذه الجريمة. ولم ترتد فحسب، بل إنك تتسبب في ارتداد الآخرين أيضًا. لو كنت وحدك لكان من الممكن أن نتغاضى عن ارتدادك، ولكن كيف نتحمل أن تستمر في الدعوة لدينك، وتقنع الآخرين بأرائك وعقائدك؟ فهؤلاء أيضًا كانوا يرون أنه من المستحيل أن تسمح بذلك أية ملة متحضرة كما يرى الشعب الباكستاني، بل يجب أن أقول: كما يرى الحكام الغاشمون في باكستان اليوم.. إذ أن الشعب الباكستاني بريء من كل ذلك لحد كبير.

يذكّر الله تعالى رسوله بالمؤامرة التي دبرها قومه قائلا:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال : ۳۱).

أي يا محمد، تذكر ذلك الوقت الذي كان فيه الكفار يمكرون بك ويكيدون کیدًا. كان بنيتهم أن يحبسوك أو يقتلوك أو يخرجوك من قريتك. مما يعني أنه ما من مکر أو کید دبره أعداء الرسل السابقين ضدهم إلا وفكر فيه أعداؤه . ولم يفكروا فحسب، بل عزموا على تنفيذ هذه المكائد، وبالفعل لم يدخروا وسعا في تحقيق أهدافهم الخبيثة، ومكروا مكرًا كبّارًا، والله خير الماكرين.

ما جوابكم؟

هذا تاریخ سجله القرآن الكريم في لوح محفوظ، ويعرضه علينا في صراحة وبأساليب متنوعة مرة بعد أخرى، ويذكر فيه أحوال وأحداث الأنبياء عليهم السلام، مع ذكر أسمائهم، من لدن نوح إلى سيدنا محمد .. ويخبرنا أن أعداء كل نبي، بدون استثناء، أيًّا كان زمنه أو وطنه، كانوا مجمعين على أنه لا بد من معاقبة المرتد، إما بالقتل أو بالقيد أو بالإخراج من الديار والنفي من البلاد.. يجب أن يعاقب على كل حال.

وترون أن المشائخ في باكستان اليوم أيضا يقترحون نفس العقوبات للمرتدين في زعمهم، ويصرون على تنفيذها، ويحضّون خاصة على قتل المرتدين الذين يبشرون الآخرين بدينهم قتلاً بدون هوادة. مع أن الله تعالى يخبرنا في هذا التاريخ القرآني في تسلسل واستمرار أن هؤلاء المصرين على عقوبة المرتدين بالقتل أو بأي طريق آخر، كانوا هم الخاطئين والكاذبين والظالمين؛ لأنهم كانوا يجيزون ويدينون بالإكراه في الدين. وأن الأنبياء، وعلى رأسهم سيدنا ونبينا محمد ، كلهم بدون استثناء، كانوا يرفضون هذه الدعاوي، ويعتبرونها دعاوي خاطئة باطلة مشينة للغاية، ويدعون إلى حرية الرأي وحرية الضمير وحرية الدين.

لا تتهموا النبي

فرغم هذا الإجماع الواضح من جانب رسل الله.. والذي سجله القرآن الكريم، كيف حدث فجأة، كما يتوهم المشائخ، والعياذ بالله، أن سيد الأنبياء وفخر الرسل محمدًا غيّر موقفه، وقال بقتل المرتدين، وانسحب، والعياذ بالله، من زمرة الأنبياء الطاهرة إلى زمرة أعدائهم الخبيثة النجسة؟ والله، إن فكري يلعن مثل هذا الاعتقاد الفاسد، وأستغرب أن هؤلاء المشائخ، وهم يدّعون بحب النبي ، كيف يعتقدون هذا الاعتقاد الباطل السخيف؟ ألا يستحيون؟ لم لا يتوارون في الأرض خجلاً وندمًا؟ كيف تجترئ ألسنتهم على هذا الادعاء الباطل؟ رغم أن أنبياء الله كلهم، بدون استثناء، وفي كل زمان ومكان، كانوا يرفضون مبدأ معاقبة المرتدين. وشهد الله في القرآن أن الأنبياء كانوا هم الصادقين؛ إذ لا إكراه في الدين، وأن القائلين بالجبر والإكراه في الدين كانوا هم الكاذبين، وأنه أهلكهم، واستأصل شأفتهم، ومحا آثارهم.

یا قوم، دعونا من كل دليل! على الأقل، فكروا وانظروا إلى أية زمرة تُحاولون أن تجروا سيدنا ومولانا محمدا . كلا، والله، إن رب العزة لن يسمح لكم بذلك أبدًا، بل سيُحبط أعمالكم. إن اعتقادكم هذا ميت، ولا بد أن يموت. ولو تطلب من المسلمين الأحمديين بذل نفوسهم فسيفدون بها.. وليمحُونّ بدمائهم الزكية كل تهمة ووصمة تمس شرف النبي .

نحن اليوم في عالم آخر

هذا، وإن الوضع قد اختلف الآن عما قبل.. فقد تناسى أعداء الرسل ماضيهم.. فمن كانوا يعاقبون المرتدين بشتى العقوبات، قد تابوا اليوم من هذا الاعتقاد، مع أنهم جميعًا عارضوا النبي بكلمة واحدة، برغم اختلاف أديانهم، وتباين آرائهم، وتعدد مذاهبهم، وتناسوا تاريخ أديانهم، وسيرة أنبيائهم. ادعوا بسبب عدواتهم للنبي بأنه لا بد من معاقبة المرتد، إما بالقتل أو السجن أو النفي من البلاد. وكأنهم كانوا يعلنون بأنفسهم عندئذ بطلان تعاليم أنبيائهم القائلين بحرية الرأي والعقيدة.. ذلك لأنهم رغم انتسابهم إلى أنبيائهم أيدوا عقيدة قتل المرتد المخالفة لأديانهم. أو بتعبير آخر، إنهم ادعوا عندئذ، كما يدعي المشائخ اليوم، بأن هذا هو الدين والتعليم الذي جاء به أنبياؤهم، فلا بد من اتباعه وتطبيقه.

أقول: حتى إذا افترضنا أن كل الأديان الموجودة في زمن الرسول كانت تأمر بمعاقبة المرتدين، فاعلموا أن الزمن قد تغير الآن، والوضع قد انقلب تمامًا.. فاليوم بدأ اليهود أيضًا يعارضون فكرة قتل المرتدين، ويقولون إن ذلك ظلم عظيم، وإهانة شديدة للإنسانية، ووصمة عار على جبين الدين. كما أن المسيحيين أيضًا أخذوا يعلنون بأن ما فعلناه في ماضينا الأسود.. من قتل فئات من المسيحيين بحجة الارتداد، فقد كان ذلك منا جهالة منكرة وظلمًا عظيمًا.. نحن نادمون جدًا على ذلك التاريخ، ورؤوسنا تنحني خجلاً عندما نقرأ تاريخ المظالم والعنف الديني الذي مارسناه في أسبانيا، وإن جبيننا ليتصبب عرقًا عندما نتصفح تاريخ القمع والتعذيب الذي مارسناه بحجة الارتداد في انجلترا.

فكلهم قد تابوا اليوم.. لقد تاب البُوذيون، وتاب الجَينيّون، وتاب المـُشركون الأرواحيُّون أيضا.. نعم، لقد تاب الهنادك العابدون للوثن (مَنُوسَمَرتي)، والذين كانوا بالأمس القريب يأمرون بتعذيب المرتدين عن دينهم أشد العذاب.. إذ كانوا يصبون الرصاص المغلي في أذن (الشودر) الذي يتجرأ على سماع کتابهم الديني. (الشودَر واحد من أحط الطبقات الأربع في الدين الهندوکی). قد تاب هؤلاء أيضًا عن هذا الاعتقاد الآن.

فما بال الوضع قد انقلب تمامًا؟ وما هذه المفاجأة المؤلمة.. فلا ترى اليوم أحدًا يطالب بقتل المرتدين إلا الذين ينتمون إلى سیدنا محمد !؟ فهل يمكن أن يتصور مشهد مأساوي أشد من هذا؟!

انظر أنّى يُؤْفَكون

إن للجهل حدودًا، ولكنهم قد تجاوزوا كل حدود الجهل والحمق والسفاهة. أما أنا فإن حالتهم عندما تثير عواطفي بشدة، يتملكني غضب شديد، ومن جهة أخرى يصيبني حزن عميق وألم شديد، ومن جهة ثالثة أضحك على جهلهم متسائلا: ماذا أصابهم حتى أفقدهم الوعي.. فلا يشعرون ماذا يفعلون.. وأنی يؤفكون.. وكيف يعتدون على دين الله الإسلام.. ويظلمون سیدنا خير الأنام محمد .. وكيف يشوهون دينه أمام العالم. ويحضرني برؤية حالتهم هذه طريفة حدثت بانجلترا: كان هناك ناد للعراة.. (وهي بدعة شائعة في هذه الأيام، حيث يجتمع أعضاء هذه النوادي عراةً تماما).. ففي يوم من الأيام دعا هؤلاء العراة أستاذًا من جامعة أكسفورد) ليقضي يومًا في صحبتهم. فحضر الأستاذ إلى النادي مرتديًا لباسًا جميلاً. وعندما اجتمع معهم على مائدة الغداء وجد جميع الحاضرين الجالسين حول المائدة عراةً. وكان هو المسكين الوحيد من بينهم الذي يرتدی لباسًا.

وكان من ضمن البرنامج أن يلقي الأستاذ خطابًا في المساء. فقال في نفسه: لا يليق بي هذا الشذوذ! يجب أن أفعل في روما كما يفعل الرومان. فأي حرج لو تعريت أنا أيضا اليوم، فلن يراني إلا العراة!

وأما هؤلاء العراة فهم أيضا فكروا وتشاوروا بأن الرجل على أية حال ضيف علينا. فأي بأس لو ارتدينا الثياب ليوم واحد تكريمًا واحترامًا له.

ولما حان المساء شهدت أرض النادي وسماؤه مشهدًا غريبًا جدًا .. إذ جاء جميع أعضاء النادي وقد ارتدوا الثياب، وكان الأستاذ المسكين هو الوحيد الذي حضر عاريًا!!

فقسما بالله العظيم، لقد لبس عراة التاريخ كلهم ثيابهم في عصرنا هذا، ولم يبق أحد عاريًا إلا هؤلاء المشائخ والمولويين وحدهم. نعم، تالله، لم يبق أحد عاريًا إلا هؤلاء المشائخ والمولويين وحدهم.

الآن أختتم خطابي.. فيا ليت هناك آذانا تسمع، وقلوبًا تعقل، وأفئدة تصغي للحق والهدى! مهما يكن من أمر، فليس موقفنا من القوم إلا كموقف النبي ، ولا أسوة لنا إلا أسوته الحسنة. صدق ذلك أحد أم لم يصدق. ولن نزال متمسكين بالسُّنة المحمدية الطاهرة.. طبقًا لقوله تعالى:

إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ . (الغاشية : ۲۲- ۲۳).

فنحن ما جئنا إلا لنداوي جروح العالم. ولا شك أننا بتوفيق الله تعالی نسعي جاهدين لتصحيح أخطاء الدنيا وتقويم عِوَجها، بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالبرهان والمحبة. ولكنا لسنا بمصيطرين. فإذا لم ينتصح أحد فهو حرُّ مختار من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وما علينا إلا البلاغ.

معجزة دعاء النبي

ولكن مع هذا البلاغ لا بد لنا من الدعاء أيضًا، لأن سلاح الدعاء أفضل الأسلحة وأقواها. ولقد شاهدت الجزيرة العربية معجزات دعاء الرسول ، ولا يزال العالم ينظر إليها حتى اليوم منبهرًا حيرانًا. الحق، والحق أقول: إن الانقلاب العظيم، والتطور المنقطع النظير.. الذي حصل في الجزيرة العربية، وتحقق في خلال بضعة أعوام فقط على عهد الرسول ، إنما كان بفضل دعواته.. أكثر منه بالدليل والبرهان. إنكم سمعتم أثناء الخطاب رواية، وربما لم تَسْتَرْعِ انتباهكم. تقول الرواية أن أهل الطائف، كأهل مكة والمدينة، الذين باشر الرسول تربيتهم بنفسه، لم يرتدّوا كما ارتدت سائر الجزيرة العربية عند وفاته. وذلك لأن الطائف إنما كانت أسلمت خالصةً بفضل دعواته الخاصة التي دعا بها يوم ذهب إليها يدعو أهلها إلى الإسلام.. فطردوه وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويرجمونه بالحجارة حتى أدموه. فنزل عليه ملك، وقال له: لو شئت لدّمرتُ هذه القرية الظالم أهلها. فلم يرض بهلاكها، بل دعا لها قائلاً: اللهم، اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

انظروا إلى دعاء سیدی لهداية هذه القرية، ثم انظروا كيف استجاب الله دعاءه.. فلما اكتسح طوفان الارتداد الجزيرة العربية كلها، فإن هذه القرية التي كانت في يوم من الأيام أظلم وأطغى القرى العربية، استقامت على الهدی وتمسكت بالاسلام بفضل دعاء سيدي ومولاي محمد ، رغم طوفان الارتداد الجارف.

لا شك أن انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، وكذلك في غيرها من أقطار الأرض، إنما كان بفضل دعواته . إلا أنه إذا تركزت الدعوات على أمر معين، واختصت بقوم، وإذا تمثل وجه المدعو له لأنظار الداعي عيانًا، فعندئذ تكون للدعاء تأثيرات خاصة ونتائج خارقة للعادة. وإلا فكل منا يدعو للجميع. فما الذي يجعل طالب الدعاء يحاول أن يتمثل لأنظار الداعي، ويسعی ليحظى بقرب رجل برٍ تقي، حتى ينال دعواته الخاصة؟ ما ذلك إلا لأن في الدعوات الخاصة تأثيرات خاصة غير عادية. وقد تمثلت قرية الطائف لأنظار النبي في ذلك الوقت، وتوجهت نحوها دعواته القلبية الحارة بحيث حظيت الطائف ببرکات وأفضال لم تحظ بها غيرها من المناطق العربية التعيسة الأخرى.

فادعوا لباکستان خاصة .. فنحن نحب هذا البلد، لا لأنه وطننا نحن الباكستانيين فحسب، بل لأنه، كما ذكرت ذلك مرارًا، هو البلد الوحيد الذي قام خالصًا باسم الإسلام، والذي يستخدمونه اليوم خالصًا لإبادة الإسلام. نعم إنه البلد الوحيد في العالم الذي تحرر وتأسس باسم كلمة الشهادة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وهو البلد الوحيد التعيس الذي يحاول حكّامه الغاشمون ومشائخه الجاهلون، أن يقضوا اليوم على هذه الكلمة المباركة. فتُخطَّط فيه مؤامرات، وتنسج فيه دسائس ضد العالم الإسلامي.. وتُمارَس فيه العديد من الأنشطة المعادية للإسلام.. والتي تشوّه وجهه، وتحط من شأنه أمام العالمين.

إننا حصلنا على هذا البلد أساسًا باسم حب الله وحب رسوله، فلذا لا نبرح نحبها، بل ونزداد حبًّا لها. بل وتشتد کروبُنا وتنفطر قلوبنا أكثر فأكثر حينما نرى استغلالهم المشين لبلدنا الحبيب. هذا أمر طبيعي، لأنه ما من شك في أن الأم تحب أولادها الذين يتمتعون عمومًا بصحة جيدة، ولكنه لو أصيب أحدهم بمرض فلا ينقص ذلك شيئًا من حبها له، بل يزيدها حبًا له وعطفًا عليه. ألا تذكرون قصة طفل ظن أن أمه لا تحبه الآن كما كانت تحبه من قبل. فلجأ الى حيلة بارعة ليختبر بها حبها له. فصعد على كرسي بحيث يختل اتزانه.. وتعمد السقوط على الأرض. فهرولت إليه الأم تسأله في لطف بالغ وحنان غامر عن سبب سقوطه. فأجابها: لم يحدث شي، وإنما كنت أختبر حبك لى یا أمي!

فيا باكستان، یا وطننا الغالى الحبيب! بالله، نحن نحبك. وكلما تزداد ظلمًا وجفاء كلما نزداد حبًا لك وعطفًا عليك، لكي ننقذك من الهلاك والدمار. بل إن جميع المسلمين الأحمديين، الذين بلغتهم دعوة الأحمدية، عن طريق أبناء أرضك المقدسة أيضًا يشكرونك، ولن يزالوا يشكرونك، ويدعون لك بالخير.

فادعوا لباکستان خاصة، ثم ادعوا للعالم الإسلامي، الذي تخطط ضده مؤامرة عالمية مخيفة جدًا. وادعوا لكل بنی نوع البشر. وادعوا للمسلمين الأحمديين الباكستانيين الذين يكابدون شتى المصائب والآلام، ومن كان منهم لا يكابدون آلام السجن فهم يعيشون في كرب عظيم، ويمارس عليهم الظلم والجور بشتی الأساليب.. فقد حُرموا من حقوقهم الأساسية حرمانا نغُص عليهم العيش، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فلا يجدون راحة في النهار، ولا يقر لهم بالليل قرار.. فادعوا لهم جميعًا.

ثم ادعوا للذين حضروا هذه الحفل، وللذين سوف يرجعون إلى بلادهم بعد الحفل. ثم ادعوا للإخوة الذين استضافوكم هنا، وادعوا للذين ما استطاعوا الحضور إلى هنا. ولا تنسوا في دعواتكم على وجه الخصوص، أولئك الإخوة الذين خرجوا من ديارهم بنِيَّة الحضور، ولكن أُلقي القبض عليهم في كراتشي؛ لأنهم اصطحبوا بعض الكتب الدينية. فادعوا لهم جميعًا.

ثمّ ادعوا لجميع الإنسانيّة بالخير والرّخاء والعافية. إنّ الحروب بلاء عظيم، لاتبقي ولا تذر، وكلّما يتطوّر الإنسان ويزدهر كلّما تزداد الحروب هولاً ودمارًا، فلا تستطيع القوانين الإنسانيّة والقيم الأخلاقيّة منع الإنسان من استخدام العنف والبربريّة أثناء الحروب، ولاسيما ممن كانت ثقافته سطحيّة،  وحضارته ضحلة، لاتقوم على قيم عميقة من الأسس الإنسانيّة والدّينيّة. فقد شاهدنا مرارًا وتكرارا أن الأمم الّتي كانت يطلق عليها بالأمم المتحضّرة.. هي نفسها التي قامت بالعنف والبربريّة أثناء الحروب. فظلم المسسيحيّون  المسيحيّين، واعتدى الاشتراكيّون على الاشتراكيين، ذلك لأنّهم كانوا ذوي حضارة سطحيّة زائفة، ولم تكن جذورها متأصّلة في تربة الإنسانيّة، كما لم تكن لهم معرفة حقيقيّة بالدّين.

أمّا اليوم فقد ساءت الأحوال أكثر من ذي قبل، ومن هنا فلا شكّ أنّ حررب الغدّ تكون أشدّ وطأة وأكبر هولاً ودمارًا. فادعوا أن يزيل الله تعالى شبح هذا الغول، ويقيم ذلك الاعوجاج والخلل الّذي من شأنه أن يؤدّي في آخر الأمر إلى الحروب.

ثمّ ادعوا للفقراء البؤساء واليتامى، ولأولئك الّذين يعانون من المجاعة، وكذلك للأفراد والدّول الفقيرة الّتي تطحنها رحى الحرب طحنا. وادعوا للإنسانيّة كلّها بالخير والعافية. وعندما تدعون بهذه الدّعوات فسوف تعود عليكم كلّها بالخير والعافية.. إن شاء الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك