غاية خلق الإنسان
  • هيئة جوهر الخلق الإنساني
  • الوحي والكمال الإنساني
  • دحض الزعم بعشوائية القرآن
__
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (27)

 شرح الكلمات:

صلصال: صلْصَلَ الشيءُ: صوَّتَ. وصلصل الجرسُ: رجّع صوتَه. وصلصل فلانًا: أوعَدَه وهدّده. وصلصل زيد: قتَل رئيسَ العسكر. (ذلك لأن قتل قائد الجيش يحدث ضجة كبيرة بين القوم). وصلصل الرعدُ: صفا صوتُه. والصلصال: الطينُ الحُرّ خُلِط بالرمل؛ وقيل: الطين ما لم يُجعل خزفًا (الأقرب).

وصَلَّ اللجامُ وصلصلَ وكُلُّ يابس يصلصل: امتد صوتُه. وفي رواية: “أحيانًا يأتيني (أي الوحي) مثلَ صلصلة الجرس”. والصلصال: الطين الحرّ خُلِط بالرمل فصار يتصلصل إذا جفّ، فإذا طُبخ فهو الفخّار. وقال مجاهد: الصلصال: حَمَأٌ مسنون. وصلصل الرجلُ: أوعَدَ وتهدَّد؛ وأيضًا إذا قَتَلَ سيدَ العسكر. وتصلصل الغدير: إذا جفّتْ حَمْأَتُه. وفرس صلصالٌ: حادّ الصوت دقيقُه. وقال أبو أحمد العسكري: يقال للحمار الوحشي الحادِّ الصوتِ صالّ وصلصالٌ، وبه فُسّر الحديث: أتحبّون أن تكونوا مثل الحمير الصالّة؟ كأنه يريد صحيحة الأجساد شديدة الأصوات لقوّتها ونشاطها. (تاج العروس)

وعن ابن عباس: الصلصال هو الماء يقع على الأرض فتنشقّ فيجفّ ويصير له الصوت. والصلصال: الطينُ اليابس يصلّ أي يصوّت عند النقر؛ أو (الطينُ) المنتِنُ. (انظر مجمع بحار الأنوار تحت “صلصال”)

حَمَأٍ: حَمَأَ يحمَأُ البئرَ: نـزع حَمْأَتَها. والحَمَأُ والحَمْأُ: كلُّ ما كان من قِبل الزوج مثل الأخ والأب. والحَمَأُ: الطين الأسود (الأقرب).

مسنون: سَنَّ السِكِّينَ يسُنّ سَنًّا: أحَدَّه وصقَله. وهذا مما يسنُّك على الطعام.. أي يشحّذك على أكله ويشهّيه إليك. وسنَّ الطينَ: عَمِلَه فخّارًا. وسنَّ الشيءَ: سهّله؛ صوّره. وسنَّ على القوم سُنّةً: وصَفها. (ومنه العمل المسنون.. أي ما أقرّه لنا النبي ). الحمأُ المسنون: المنتنُ. والمسنونة: الأرض التي أُكل نباتُها (الأقرب).

التفسـير:

اختلف المفسرون في تفسير كلمة مِن حمأٍ مسنون الواردة في قولـه تعالى: من صلصال من حمأ مسنون ، فقال بعضهم: إن مِن حمأٍ في موضع جرٍّ صفةٌ لصلصال.. أي الصلصال الذي تكوَّن من حمأ مسنون (الإملاء، والكشاف). بينما يرى الحوفي أن مِن حمأٍ مسنون بدلٌ من قوله تعالى مِن صلصال . (البحر المحيط لأبي حيان، وإملاء ما من به الرحمن لأبي البقاء)

فتعني الآية – على القول الأول – أن الإنسان في حالته الأولى كان حمأً مسنونًا ثم تحوَّلَ إلى صلصال؛ وتعني – على القول الثاني – أن الصلصال والحمأ المسنون إنما تشيران إلى شيء واحد، وقد جيء بهذين المترادفين توضيحًا للمراد فحسب.

وفي حالة قبول الرأي الثاني أرى أن الأصح هو ألا نعتبر كلمة “مِن حمأ مسنون” بدلاً، بل نعتبرها عطفَ بيانٍ، لأنه في حالة “البدل” يكون الاسم الثاني هو المقصود، بينما يُؤتى بالاسم الأول لتقريب المعنى فحسب؛ ولكن في حالة “عطف بيان” يكون الاسم الأول هو المقصود بينما يُؤتى بالاسم الثاني لتوضيح المراد أكثر. وأرى أن “من صلصال” في هذه الآية هو المراد الأصلي، وأن “من حمأ مسنون” بيان وتوضيح له.

وعليه فالمراد من الآية أن الله تعالى أخبر الملائكة أنني سأخلق بشرًا من تراب مصوِّت، أي من حمأ قد أُفرغَ على شكل معين؛ بمعنى أن الإنسان خُلق من ترابٍ ممزوجٍ بالماء، موضوعٍ في قالب معين، فارغٍ باطنُه، يُحدث صوتًا عند الضرب.

وقد أشيرَ في هذه الجملة إلى عدة أمور هي: الأول: أن الإنسان مخلوق من التراب. والثاني: أنه قد رُكّب تركيبًا خاصًا بحيث إنه يشعُر في داخله بفراغ. والثالث: أنه يُحدث الصوت عند الضرب.. بمعنى أنه قادر على تلبية النداء الإلهي، مثل الإناء الأجوف الذي إذا ضُرب رجّع الصوت. ذلك أن الله تعالى حينما يضرب الإنسانَ أي يختبره فإنه لو كان صالحًا سليم الباطن يستجيب له ويلبّي نداءَه . وهذا هو ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى.. أعني أن الإنسان صالح لقبول الاختبار الإلهي ولاستجابة ندائه.

أما الصورة التي خُلق عليها الإنسان في البداية والتي تشير إليها كلمة حمأ مسنون فلم يحدّدها القرآن الكريم، ومن الممكن أن تكون تلك الصورة البدائية غيرَ مرئية كليةً بالعين المجردة. ومهما يكن من أمر فإن تلك الصورة الإنسانية الترابية الأولى كانت منذ البداية صلصالاً، بمعنى أنها كانت صالحة لأن يختبرها الله فتستجيب له .

لقد اتضح من ذلك أن القرآن الكريم يسلّم بتطور الخَلق الإنساني، ولكنه تطورٌ مخطَّط مدروس منذ البداية، وليس تطورًا عشوائيًّا حدث صدفة. يخبرنا القرآن أن خلق الإنسان تم بالتدريج مرحلةً فمرحلة، ولكنه لا يسلّم بأن الخلية الحياتية التي قدِّر لها أن تصبح إنسانًا كانت في أي وقت شيئًا غير إنسان، بل إنه يؤكد أن تلك الخلية، منذ أن خُلقت وبأية صورة خُلقت، كانت مزودة بقدرة على أن تصبح إنسانًا وأن تتلقى الإلهام. إنها في كل مراحل خلقها كانت متجهةً إلى غاية محددة مخططة، وليس كما تقول نظرية داروَن أن بعض أجزائها لم تزل تتفرع عنها في حالتها الناقصة، بينما لم تزل بعض أجزائها الصالحة في التطور والتقدم منفصلة.

لقد فسّر المفسرون عمومًا كلمة “مسنون” بمعنى “مُنتِن”، بينما فسّرتُها بمعنى مصوَّر، ذلك لأن العلامة أبا حيان قال في تفسيره: “وقال غيرُه إن “المسنون” مِن أَسَنَ الماءُ: إذا تغيَّرَ. ولا يصحّ لاختلاف المادتين”. (البحر المحيط، تحت هذه الآية).. فما دامت كلمة “السَّنّ” تعني أيضًا إقرار العمل، والتصوير، وتشحيذ الشيء وصقله، وعمل الفخّارِ.. فيجب أن نقول إن المسنون بمعنى المتغير المنتن مجاز، وأن معناه الحقيقي هو الشيء المعمول على صورة معينة أو المركَّب تركيبًا يُحدث فيه الصوت.

هذه الآية تمثّل ردًّا على الذين يستغربون من ظاهرة الوحي الإلهي قائلين: كيف يمكن أن يكلّم الله البشرَ؟ فيردّ الله عليهم: ليس غريبًا أن يكلم الله البشرَ، وإنما الغريب ألا يكلّمهم. ذلك أن الإنسان مجبول، منذ بداية خلقه، على تلقي الوحي من عند الله تعالى، وأنه قد حدد غاية خلق الإنسان أن يصل إلى الكمال، فيتشرف بوحيه . فلا تقولوا: كيف تلقى محمد الوحي من الله تعالى، أو كيف يمكن أن يتشرف أتباعُه بالإلهام في المستقبل لحماية الوحي النازل عليه ، بل الحري أن تتعجبوا على حالتكم، لأنكم- رغم كونكم مخلوقين من صلصال- لا تزالون محرومين من نعمة الوحي الإلهي، فيجب أن تهتموا بإصلاح أنفسكم.

كان الحديث في الآية السابقة عن الحشر حيث قال الله تعالى: وإن رَبَّكَ هو يَحشُرهم إنه حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وأما الآن فبدأ الحديث عن خلق آدم. فهل هذا الأسلوب محض صدفة، يا تُرى؟

إن دراسة القرآن الكريم تكشف لنا أنه كلما تناول موضوعَ خَلْق آدم تحدث قبله دائمًا عما هو ذو صلة بالحشر أو البعث بعد الموت. وإليكم بيان ذلك:

أولاً– ورد في سورة البقرة قبل الحديث عن خلق آدم: كيف تَكفُرون بِاللهِ وكنتم أَمواتًا فأَحياكم ثم يُمِيتُكم ثم يُحيِيكم ثم إليه تُرجَعون (الآية: 29)

ثانيًا– وفي سورة الأعراف تناول الله تعالى موضوع الحشر من بدايتها حتى الآية رقم 11، ثم أردفه بحديث خلق آدم.

ثالثًا – وهنا في سورة الحِجر تحدث أولاً عن الحشر، ثم ذكرَ خلق آدم.

رابعًا – ثم في سورة الكهف ذكر الله الحشر والبعث والجزاء ثم قصة آدم فقال: ويومَ نُسيِّرُ الجبالَ وترى الأرضَ بارزةً وحشَرْناهم فلم نُغادِرْ منهم أَحَدًا * وعُرِضوا على ربَّكَ صَفًّا لقد جِئتُمونَا كما خَلَقْناكم أوّلَ مرّةٍ بل زعَمتم أَلَّنْ نجعَلَ لكم مَوعِدًا * ووُضِعَ الكتابُ فترى المجرمين مشفِقين مما فيه ويقولون يا وَيلَتَنا مَالِ هذا الكتابِ لا يغادِرُ صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ووجَدوا ما عمِلوا حاضرًا ولا يظلِم ربُّك أَحَدًا * وإذْ قلنا لِلملائكةِ اسْجُدوا لآدَمَ فسجَدوا إلا إبليسَ….. (الآيات: 48-51)

خامسًا– وفي سورة طه ذكر الله   أولاً موضوع الحشر مفصلاً مِن قولـه تعالى يَومَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ونَحشُرُ الْمُجرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا حتى قوله وقُلْ رَبِّ زِدْني علمًا ، ثم تحدث عن آدم وقال ولقد عَهِدْنا إِلى آدَمَ.. (الآيات 103- 116).

سادسًا – ثم في سورة ص ذُكرت الجنة والنار قبل الحديث عن خلق آدم (الآيات:50- 89)

فبالنظر في هذه الأماكن كلها يمكن حتى لمعارضي القرآن أن يدركوا أن الذي أنـزل القرآن قد راعى ترتيبًا معينًا، سواءً فهموه أم لا، وأن القول بعدمِ وجودِ ترتيبٍ ولا ربطٍ في الوحي القرآني زعمٌ باطل تمامًا. وإلا فلمَ لم يتناول القرآن موضوع الحشر قبل الحديث عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، بينما تحدث دائمًا عن هذا الموضوع بالذات قبل أن يتطرق إلى قصة آدم؟

هناك أمثلة كثيرة على ذلك حيث تكررت في أماكن معينة من القرآن الكريم بعضُ المواضيع المعينة بأسلوب معين في كل مرة. وعلى سبيل المثال، كلما أنبأ الله عن ازدهار الإسلام وانتشاره انتشارًا عالميًّا سجّل هذا النبأ مشفوعًا بذكر المسيح . لقد تكرر هذا الموضوع في ثلاثة أماكن، وفي كل مرة تطرق الحديث إلى المسيح.

وأرى أن لمعارف القرآن كلها مفتاحًا وسرًّا، وهذا المفتاح يطّلع عليه الإنسان من خلال الإلهام الإلهي أحيانًا، وفي أحيان أخرى بإعمال الفكر والتدبر في آيات القرآن الكريم. فقد أُلقيَ في روعي مرة أن مفتاح معارف سورة البقرة هو قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فيهم رسولاً منهم يَتلُوا عليهم آياتِك ويعلِّمهمُ الْكتابَ والحِكمةَ ويزكِّيهم إنك أنت العزيزُ الحكيمُ (الآية:130). فتمكنتُ – بمساعدة هذا المفتاح – من حل جميع الأماكن الصعبة من سورة البقرة. كذلك ألقى الله في قلبي مرة أن البسملة مفتاح لمعارف كل سورة من سور القرآن الكريم، ومن أجل ذلك وردت في مستهل كل سورة. مع العـلم أن سورة التوبة خالية من البسملة لكونها في الواقع تكملةً لسـورة الأنفال. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك