في ظلال نفحات الشجرة الطيبة
  • تفسير المسيح الموعود عليه السلام للآيات الكريمة بشكل جميل جدا
  • ذكر عليه السلام الصفات الخمسة لهذه الشجرة المباركة
  • لا يمكن للإنسان الروحاني أن يضل عن هذه الشجرة لأنها طيبة مباركة
__
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  (الآيتان 25و26).   

شرح الكلمـات:

ضَرَبَ: ضرَبه بيده: أصابه وصدمه بها. ضرَبه بالسَّوط: جَلَدَه. (الأقرب)

مَثَلاً: المثَلُ: الشِّبهُ والنظير؛ الصِّفةُ؛ الحُجّةُ، يُقال: أقام له مثلاً أي حُجَّةً؛ الحديثُ؛ القولُ السائرُ؛ العِبرةُ؛ الآيةُ (الأقرب). ضرَبَ له مثلاً: وصفه وقاله وبيّنه. فالمراد من قوله تعالى ضرب الله مثلاً… أنه تعالى قد بيّن مثال الكلمتين الطيبة والخبيثة أيما تبيان، ليعرف كل إنسان حقيقتهما.

طيِّبةً: طابَ الشيءُ يطيبُ طاباً وطِيباً وطِيبةً وتَطياباً: لذَّ وزكا وحسُن وحلا وجلّ وجاد. طابت الأرضُ: أَكْلأَتْ. طابت به نفسي: انبسطتْ وانشرحتْ. طابَ العيشُ لفلانٍ: فارقتْه المـَكارهُ. وطابَت نَفسي عليه: وافَقَها. والطيِّبُ: ذو الطِّيبة. (الأقرب)

التفسـير:

هذه الآية تُعَدُّ من تلك الآيات الصعاب التي فسّرها سيدنا المهدي والمسيح الموعود تفسيراً رائعاً وبالتالي دلّنا على الطريق الذي نستطيع به حل الآيات الصعبة الأخرى. ولكن قبل الخوض في تفسير هذه الآية أود توضيح إعرابها.

لقد ذكر النحاة في لفظة (كلمةً) وجهين للإعراب، فقال أبو البقاء: إن (كَلِمَةً) بدلٌ من (مَثَلاً)، والمراد: ضرب الله مثلاً أي كلمةً طيبةً. بينما يرى ابن عطيّة والزمخشري أن (مثلاً) و(كلمةً) مفعولان ل(ضَرَبَ) أي: ضرب الله كلمةً طيبةً مثلاً بمعنى جعلها مثلاً. و(كشجرةٍ طيبة) خبر لمبتدأ محذوف، بمعنى: هي كشجرة طيبة.

كذلك حال الوحي الحي فإنه يتلقى غذاءً ودعماً من الله باستمرار، أما الوحي الذي تم نسخه فيفقد السعة والشمولة وينضب معين معارفه، فلا يعود قادراً على تلبية الحاجات المتجددة للبشر.

والآن أتوجه إلى تفسير هذه الآية فأقول: لقد بيّن الله هنا حقيقة الكلمة الطيبة أعني حقيقة وحيه الصافي الحي المصون من تلاعب البشر وعبثهم.

والداعي لضرب هذا المثال هو أن الله تعالى قد أشار في الآيات السالفة إلى أن الذين يتبعون خطوات الشيطان يكون مصيرهم الهلاك، وأما الذين يؤمنون ويعملون الصالحات فيرثون جناتِ النعيم. فكان طبيعياً أن يهتم الإنسان بسلوك الطريق الذي ينجّيه من العذاب ويجعله وارثاً لنعم الله وجناته. بيد أن هناك أمراً يهمه ويُقلقه، وهو أن هذه السورة تذكر أيضاً أن الله تعالى قد بعث كثيراً من الأنبياء في مختلف الأزمان، مما يعني أنه تعالى قد نسخ شرائع بعض الرسل بشرائع جديدة أنزلها على غيرهم، فكيف يعرف الإنسان: أيٌ من هذه الشرائع لا تزال تمثل وحياً إلهياً صافياً صالحاً للعمل به، وأيها ليست كذلك، أو أي من التعاليم والمبادئ السائدة هو من وحي الله تعالى، وأيها من افتراء البشر واختلاقهم؟ فيجب أن يكون هناك مقياس للتمييز بين الصالح وبين الرديء. وقد بيّن الله هذا المقياس هنا ليسهل على الإنسان معرفة كلام الله الذي لا يزال صافياً طيباً صالحاً للعمل. فيقول الله : إن مثال الوحي الإلهي الذي لا يزال صافياً مصوناً من عبث البشر هو كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها .

لقد ذكر هنا خمس مواصفات لهذا الكلام وهي:

  1. أن يكون طيباً، أي حسناً جميلاً في ظاهره.
  2. أن يكون أصله ثابتاً.
  3. أن يكون فرعه في السماء.
  4. أن يؤتي ثماره في كل زمان.
  5. أن يؤتي ثماره بإذن الله تعالى.

فإذا توفرت هذه المزايا الخمس في كتاب سماوي فإنه منهج كامل للناس في ذلك الزمان وصالح للعمل به. أما إذا انعدمت هذه المواصفات في سِفْر من الأسفار أو في كلام يُنسب إلى الله فإنه لا يعدو أن يكون أحد الاثنين؛ فإما أنه مما قد تم نسخه وإلغاؤه بيد الله تعالى، أو أنه ليس من عنده بل هو من اختلاق البشر.

والآن أتناول كل هذه المزايا الخمس بالشرح والتفصيل.

الميزة الأولى:

(طيبة). ومعنى الطيّب: الحسن المنظر؛ المصون من العيب والنقص؛ ذو الطيب؛ اللذيذ؛ النقي الصافي؛ الحلو؛ العالي الجودة؛ العظيم؛ الموافق.

فالوحي الصالح للعمل هو ما يكون (أولاً): كالشجرة الطيبة مصوناً من العيوب والنقائص، بمعنى أنه ليس فيه ما يتنافى مع روحانية الإنسان أو مروءته أو مشاعره وعواطفه الطبيعية. (ثانياً): أن يكون هذا الكلام حسن الديباجة ذا طلاوة وروعة تأخذ بمجامع القلوب.

(ثالثاً): أن يجد العامل به متعة ولذة وسروراً.

(رابعاً): أن يكون حلواً عذبا. (خامساً): أن يكون عالي الجودة. (سادساً) أن يفوق كل كلام آخر في مزاياه.

… الذي يتسلق شجرة وصلت فروعها إلى السماء فإنه لا بدّ أن يصل إلى السماء.. التي يُراد بها في لغة الروحانيات القربُ من الله تعالى.

الميزة الثانية:

(أصلها ثابت) أي قوي راسخ. وإن لإثبات أصول الشجرة في الأرض عدة معانٍ منها:

  1. إنها شجرة حية طرية تمتص غذاءها من الأرض باستمرار. كذلك حال الوحي الحي فإنه يتلقى غذاءً ودعماً من الله باستمرار، أما الوحي الذي تم نسخه فيفقد السعة والشمولية وينضب معين معارفه، فلا يعود قادراً على تلبية الحاجات المتجددة الشمول للبشر. ولكن الوحي الحي الثابت يَظَل يسد كل حاجة من حاجات الفطرة البشرية. فما من قضية يواجهها الناس في حياتهم إلا ويجدون حلّها في ذلك الوحي على الفور، ويجدون فيه معارف جديدة، كشجرة تمتص غذاءها من الأرض متى دعت إليه الحاجة. مما لا شك فيه أن هذه المعارف تكون مكنونة فيه، ولكن ظهورها عند الحاجة إليها، إنما يتوقف على فضل الله المتجدد باستمرار. فكأن هذا الكلام لا يزال يتلقى من الله تعالى غذاءً ودعماً من وقت لآخر.
  2. ورسوخ أصول الشجرة إشارة إلى صلابة جذعها ومتانتها. بمعنى أنها تقف صامدةً ولا تخضع للهزات والصدمات. وهذه أيضاً إحدى مزايا الوحي الحق، فإنه يبقى صامداً في وجه المطاعن والاعتراضات، ومهما قسا عليه الأعداء بالنقد فإنهم لا يقدرون عليه، بل إنه يبقى ثابتاً شامخاً رغم عدائهم اللئيم.
  3. ورسوخ الأصول يشير إلى ثبوت الشجرة أيضاً فلا تتزعزع من مكانها. فالمراد من قوله تعالى: أصلُها ثابت أن أصول الكلمة الطيبة ومبادئها صلبة بحيث إنها لا تتغير ولا تتبدل وإنْ تغيّر الزمن، بل تبقى تعاليمها الحقة ثابتة على ما هي عليه. أما إذا مست الحاجة إلى تغيير الوحي فاعلموا أنه قد فقد الطلاوة والحيويَّة وصار كشجرة قد جفّت أغصانها واجتُثَّتْ من أصولها.
  4. ورسوخ أصل الشجرة إشارة أيضاً إلى طول عمرها، لأن الأشجار التي تضرب جذورها عميقاً في الأرض تعمَّر طويلاً. وهذه أيضاً من مزايا الكلام الإلهي فإنه يخدم الإنسانية لمدة طويلة، وليس أنه ينزل اليوم ويُنسخ غداً. والمراد من كلام الله هنا: التعاليم الأساسية الجوهرية التي هي كالأصول، وإلا فمن الممكن أن يلغي الله بعض الأمور الفرعية من الوحي بلاءً واختباراً للناس، بيد أن المبادئ الجوهرية لا تتغير أبداً. خذوا مثلاً التوراة، فقد نسخها الله بالقرآن الكريم ولكن بعد أن خدمت الإنسانيةَ لمدة ألفي سنة. لقد أرسل الله أنبياء كثيرين في هذه الفترة، ولكنهم ما جاءوا لنسخ التوراة وإنما لتطبيقها.
  5. وكما أن جذور الشجرة الطيّبة تشق طريقها في الأرض كذلك يجب أن يأخذ كلام الله الحي طريقه في أرض القلوب المؤمنة، فتنعكس تأثيراته الطيبة في سلوكهم وأعمالهم. فيجب أن تكون هناك جماعة من المؤمنين العاملين بالكلام الإلهي حتى يُكتب له الازدهار وتُعرف نتائجه وتأثيراته. فإن قلوب جماعة المؤمنين هي بمثابة الأرض لكلام الله تعالى، فيترك هذا الكلام تأثيراً عميقاً في القلوب المؤمنة حتى يتأصّل فيها .. أي أنهم يعملون بالأحكام الواردة في كلام الله ويكشفون للعالم محاسنه وكمالاته.
  6. أن يكون مصدر غذاء هذا الكلام واحداً، بمعنى أنه لا يتغذى كالحيوانات من هنا وهناك، بل يمتص -كالشجرة- غذاءه من منبع واحد هو الله تعالى. وفي هذا إشارة إلى أن ما يخترعه البشر من مبادئ وتعاليم تكون مستقاة من مصادر شتى، فيكون بعضها مقتطفاً من الفلسفة، وبعضها من الطبيعيات، وبعضها من التقاليد والعادات، وبعضها من القوانين السائدة حينذاك، ولذلك تجدون في هذه التعاليم المصطنعة بأيدي البشر شتّى أنواع التعارض. ولكن منبع كلام الله تعالى واحد وجذوره عميقةٌ.. بمعنى أن أحكامه وتعاليمه لا تكون متعارضة فيما بينها، كما تتناول كلّ قضيّة إنسانية ببحث تفصيلي عميق. ولا يكون هذا الكلام بحاجة إلى مساعدة من البشر للدفاع عن مبادئه، بل إن مورد غذائه وبقائه -أي الأدلة والبراهين- يكون من أصل واحد هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتولى الدفاع عنه.

الميزة الثالثة:

وفرعُها في السماء ، وقد أشار القرآن بذلك إلى المواصفات التالية لكلام الله الصافي الحيّ:

  1. 1. إن الإنسان إذا عمل بهذا التعليم تمكن من الوصول إلى الله تعالى. ذلك أن الذي يتسلق شجرة وصلت فروعها إلى السماء فإنه لابدّ أن يصل إلى السماء.. التي يُراد بها في لغة الروحانيات القربُ من الله تعالى.
  2. إن ذلك الكلام الإلهي يبين أحكام الشرع بكل تفاصيله. ذلك أن وصول الشجرة إلى السماء تشير إلى كثرة الفروع أيضاً. فالمراد أنه ما من حاجة بشرية إلاّ ويسدها هذا التعليم، وما من قضية روحانية أو أخلاقية إلا ويبحثها بالتفصيل. وكأن هذه الشجرة الروحانية الباسقة تغطي بأغصانها رقعة السماء الروحانية.
  3. إن تعاليمه مبنية على أسس مكارم الأخلاق. ذلك أن ارتفاع أغصان الشجرة الروحانية يشير إلى أن هذا الوحي لا يحتوي على أخلاق سطحية ومبادئ عادية، بل يدعو إلى المبادئ العليا والأخلاق السامية.
  4. إنه نافع للناس كافة على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، بدليل أن الشجرة الباسقة الوارفة الظلال تظل كثيراً من الناس. فالجملة إشارة إلى أن هذا الكلام قادر على استقطاب الناس من كافة المجالات والطبقات، ونافع لهم على حد سواء.

الميزة الرابعة:

تؤتي أُكُلها كل حين ، والمراد من ذلك:

  1. أن من علامات الوحي الطاهر الحي ظهورُ شخصيات روحانية عظيمة من بين العاملين به بين حين وآخر، وكأن هذه الشخصيات ثمارٌ لهذه التعاليم. بمعنى أن هؤلاء يكونون نماذج مثالية لتأثيرات هذا الوحي.
  2. أنه يضمن لمن يعمل به النجاة الأبدية من الآثام. ذلك أن قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين) كما يعني ظهور الشخصيات الروحانية على الدوام، فإنه ينص كذلك على ضرورة أن يتزوَّد الإنسان من ثمارها دائماً. وهذا الغذاء المستمر من تلك التعاليم الطيبة لن يتيسر لأحد ما لم تتيسر له الطهارة الأبدية التي لا يتخللها فتور ولا تقصير.

الميزة الخامسة:

(بإذن ربها) أي أن هذه الشجرة الطيبة تعطي الثمار بإذن ربها لا بحسب النواميس الطبيعية العادية. وهنا قد تميزت الشجرة الطيبة الروحانية عن الشجرة العادية، لأن الأشجار الطبيعية تثمر وفق النواميس الطبيعية، ولكن الشجرة الطيبة تثمر بإذن إلهي خاص. وفي هذا إشارة إلى أن نتائج كلام الله تعالى لا تكون طبيعية فحسب، بل تكون له نتائج شرعية أو روحانية أيضاً. وعلى سبيل المثال، إذا كان الإنسان صادق الحديث فلا شك أنه سيجني ثمراً طبيعياً لعادته المباركة هذه، إذ يزداد ثقةً واحتراماً لدى القوم، ولكنه سيجني ثمراً آخر شرعياً إذ يرث أفضالاً وبركات خاصة من عند الله تعالى. أو إذا كان يؤدي الصلاة، فثمرها الطبيعي هو أنه يُدرك المصلي أهمية الطاعة والنظام لإحراز المصالح القومية، إلاّ أنه يجني لصلاته ثمراً آخر شرعياً وهو أنه سيزداد قرباً من الله ويحظى برؤيته .

من علامات الوحي الطاهر الحي ظهورُ شخصيات روحانية عظيمة  من بين العاملين به بين حين وآخر، وكأن هذه الشخصيات ثمارٌ لهذه التعاليم. بمعنى أن هؤلاء يكونون نموذجاً مثالياً لتأثيرات هذا الوحي.

هذه هي العلامات التي ذكرها القرآن للشجرة الطيبة، والحق أنها تحدّد هُوية الوحي الإلهي الصافي الحي بحيث لا يبقى هناك أية صعوبة في التمييز بين الكلام الحق وبين الكلام الباطل. وعندما ننظر إلى القرآن الكريم نجده متحلّيًا بكلٍّ من هذه المواصفات بشكل مثير للإعجاب، حتى إنه لن يسع الأغبياء أيضاً إلا أن يعترفوا بكون القرآن زاخراً بمحاسن منقطعة النظير، وبطاقات روحانية خارقة بحيث يستحيل أن يباريه أي مصدر آخر، سواء أكانت الكتب السماوية السابقة أو كلام البشر من الفلاسفة أو غيرهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك