لا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير من فهم القرآن و بينه
  • “ويوم نبعث من كل أمة شهيدا” برهان ساطع على صدق الإسلام.
  • العلاقة الطردية بين الوحي والأنبياء، فكل منها يكشف عظمة الآخر.
  • حبل الصداقة حتمًا سينقطع بين الكفار وبعضهم البعض.
  • حالات رفض الخشوع والتذلل.
  • النبي أدرى الناس بما نزل عليه من الوحي.

__

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (85)

شرح الكلمات:
شهيدًا: الشهيد هو: الشاهدُ؛ الأمينُ في شهادته (الأقرب).
يُستعتَبون: استعتبَه: أعطاه العُتبى؛ طلَب إليه – أي منه – العتبى، يقال: استعتبتُه فأَعْتَبَني أي استرضيتُه فأرضاني، ومنه: ما بعد الموت مستعتَب أي استرضاءٌ. العُتْبَى: الرِّضى (الأقرب). والاستعتاب: أن يُطلَب من الإنسان أن يذكر عَتْبَه (أي عذرَه) ليُعتَب (المفردات).

التفسير:
بعد الحديث عن هذه الجريمة الشديدة جريمة نكران النعم، أشار الله تعالى من جديد إلى الحياة الآخرة، تنبيهًا للكفار أنهم سيعذَّبون في الآخرة أيضًا على جريمتهم إضافةً إلى عقوبتهم الدنيوية، وسيكون ذلك العذاب أشد خزيًا وأكثر ذُلاً من عذاب الدنيا، إذ سيعذَّبونه هناك أمام جميع الأرواح الإنسانية من كل الأزمان والعصور، حيث يُؤتى برسول كل أمة ليشهد عليها؛ فلِمَ لا يفكّرون في الخزي الشديد الذي ينتظرهم في ذلك اليوم العصيب.
وهناك آية أخرى تتحدث عن هذه الذلة وتقول: فكيف إذا جِئْنا مِن كلِّ أُمّةٍ بشهيد وجِئْنا بك على هؤلاء شهيدًا* يومئذٍ يَوَدُّ الذين كفَروا وعصَوُا الرسولَ لو تُسوَّى بهم الأرض (النساء: 42و43).

علمًا أن كل نبي يكون النموذج العملي لما في وحي الله من تأثير، ومن أجل ذلك لا يأتي الوحي إلا مع النبي. فكأن النبي يكشف عظمة الوحي، والوحي يكشف عظمة النبي.

هذا، وتؤكد هذه الآية أن الله تعالى قد بعث رسله في كل أمة من الأمم. لقد بيّن القرآن الكريم هذه النظرية في آيات عديدة أخرى أيضًا، وهذا مما يميّز الإسلام عن الديانات الأخرى، ويشكّل واحدًا من البراهين الساطعة على صدقه.
أما قوله ثم لا يُؤذَنُ للذين كفَروا فقد فسره البعض بأنه لن يُسمَح لهم بالكلام مع الله تعالى (روح البيان، والتفسير المظهري). ولكن هذا المعنى خطأ، لأن القرآن الكريم قد أكد في آيات عديدة حوارَ الكفار مع الله تعالى يوم القيامة حيث يحاولون أن يقدموا إليه أعذارهم. وعليه فقد يكون المراد أنه لن يؤذن للكفار بدخول الجنة، أو لن يؤذن بالشفاعة في حقهم، ذلك حين يؤتى برسل الأمم يوم الحشر ليشفعوا في حق من لم يحقِّق الكمالَ الروحاني، ولكنه كان ضمنَ مَن يمكن أن يسميه الأنبياء من أتباعهم، فيشفعون له. ولكن هؤلاء الأشقياء من الكفار سوف يُحرَمون من شفاعة الشافعين.
مع العلم أن القرآن الكريم والحديث الشريف يؤكدان أن الشفاعة لن تتم إلا بإذن الله؛ حيث قال الله تعالى: ولا تنفَع الشفاعةُ عنده إلا لمن أَذِنَ له (سبأ:24). وقد تكرر هذا المعنى في الأماكن التالية أيضًا: البقرة: 256، يونس: 4، طه:110، النجم: 27. كما أكد الحديث الشريف هذا الأمر حيث ورد في رواية: “ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفَعوا” (مسند أحمد ج 5 ص 43 عن أبي بكرة).
هذا، وقد ذكر القرآن لقوله تعالى ثم لا يؤذن للذين كفروا معنى آخر إذ قال ولا يؤذن لهم فيعتذرون .. أي لن يُسمَح للكفار بتقديم الأعذار.
أما شهادة الأنبياء هذه فهي – عندي – تعني أسوتهم العملية، أي أنهم سيقدّمون أنفسهم كشهادة عملية لتأثير الوحي الإلهي حيث يقولون: انظروا، كيف أن الإيمان بالوحي رَفَعَنا من الثرى إلى الثريا، وأتاح لنا الوصال بالله تعالى. وهكذا سوف يخزي الله الكافرين يوم القيامة ويقول: انظروا إلى ما حققه وحيُنا من معجزة، حيث شحن رسولَنا بالقوى الروحانية التي حققت له هذا الكمال الروحاني، وكيف دفعكم إنكار الوحي إلى الحضيض.
علمًا أن كل نبي يكون النموذج العملي لما في وحي الله من تأثير، ومن أجل ذلك لا يأتي الوحي إلا مع النبي. فكأن النبي يكشف عظمة الوحي، والوحي يكشف عظمة النبي.

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86 – 87)

شرح الكلمات:
يُنظَرون: راجِعْ شرح الآية رقم 9 من سورة الحِجر.
دُوْن: نقيضُ فوقَ، تقول: هو دونَه أي أحطُّ منه رتبةً؛ ويكون ظرفًا بمعنى أسفل، تقول: هذا دون ذاك أي متسفِّلٌ عنه؛ وبمعنى أمامَ نحو: مشَى دونه أي أمامَه؛ وبمعنى وراء، يقال: قعَد دونه أي وراءه؛ وبمعنى فوق وهو ضد (المعنى) الأول؛ وبمعنى غير؛ وبمعنى الشريف؛ وبمعنى الخسيس، يقال: شيءٌ دونٌ أي خسيس. وحالَ القوم دون فلان أي اعترضوا بينه وبين من يطلبه فلم يقدر أن يناله (الأقرب).
ألقَوا: ألقاه إلى الأرض: طرَحه. ألقى إليه القولَ وبالقول: أبلَغَه إياه. ألقى عليه القولَ: أملاه. ألقى إليه السمعَ: أصغى (الأقرب). راجع للمزيد شرح الآية رقم 16.

التفسير:
اعلم أن العذاب المشار إليه هنا هو عذاب الآخرة.
الغريب أن الكافرين كانوا يعارضون أنبياءهم في الدنيا من أجل شركائهم، أما يوم القيامة فيتوسلون إلى الله أن يا ربّنا عَذِّبْ شركاءَنا لأنهم الذين دأبوا على تضليلنا.
لقد نبّهنا الله بذلك إلى أن صداقة الكفر والإثم لا تكون مخلصة ومتينة أبدًا؛ ذلك لأن الإنسان يمكن أن يتحمل الأذى من أجل الآخر إلى حد محدود، ولكن بما أن الكفر يجلب على صاحبه أنواعًا وصنوفًا من عذاب الله لذلك يأتي وقت تخمد فيه الصداقة بين الكافر وأصدقائه وتبرد، ويتبرم كل منهم من صاحبه ويتبرأ.
أما قوله تعالى فأَلْقَوا إليهم القولَ فله مفهومان: الأول: أن شركاءهم سوف يخبرون بموقفهم بكل صرامة وصراحة، وذلك من قولهم: ألقى إليه القول أي أبلغه إياه؛ والمفهوم الثاني هو أن شركاءهم سوف يردّون عليهم من فورهم دونما توقف، وذلك من قولهم: ألقاه أي طرَحه، والطرح ينطوي على معنى العجلة كما لا يخفى.
أما قوله تعالى فلا يخفَّفُ عنهم فالمراد منه أن عذرهم هذا غير معقول، لأن أحدًا إذا كان قد حاول تضليلهم فلماذا ضلّوا هم؟ أَمَا كان بوسعهم أن يرفضوا قول المضِلّ.

وذلك لأن الله تعالى قد منح النبيَّ فهمَ القرآن أكثرَ من إنسان آخر، فإذا كان هو قد فصّل بعض الأحكام القرآنية في أحاديثه فليس معناه أن القرآن الكريم ناقص، وإنما يعني أنه استطاع بفضل فهمه الكامل أن يستنبط من القرآن أحكامًا تقاصرت أفهامنا عن استنباطها منه بسبب دقّتها ولطافتها.

وَأَلْقَوْا إِلَى الله يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (88)

شرح الكلمات:
السَّلَم: راجع شرح الكلمات للآية رقم 29.
ضلَّ عنهم: ضلَّ يضِلُّ: ضدُّ اهتدى. ضلَّ فلان عن الطريق: لم يهتدِ إليه. وضلَّ الرجل في الدين ضلالاً وضلالةً: ضدُّ اهتدى. ضلَّ فلانٌ الفرسَ: ذهَب عنه. ضلَّ عني كذا: ضاعَ. وضل الماء في اللبن: خَفِيَ وغاب. ضلَّ الناسي: غاب عنه حفظُ الشيء. وضل فلان فلانًا: نسِيه. ضل سعيُه: عمِل عملاً لم يعُد عليه نفعُه (الأقرب).
يفتَرون: افترى عليه الكذبَ: اختلقَه (الأقرب).

التفسير:
يقول الله تعالى إن الكافرين حين يرون آلهتهم قد انقلبوا أعداءً لهم فسوف يغيِّرون على الفور نبرة حديثهم مع الله تعالى ويتوسلون إليه بمنتهى الخشوع والتذلل: ربنا، إننا عبادك أنت، وما كنا نهدف من عبادتنا لغيرك إلا التركيز على عبادتك. لقد فعلنا هذا بحسن نية، لا بقصد الخروج عليك. عندها ستغيب عنهم كل تلك الدعاوى العريضة التي كانوا يتشدقون بها في الدنيا.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (89)

شرح الكلمات:
فوقَ: الفَوق: مصدرُ فاقَ يفوق؛ وهو في الأصل ظرفٌ للمكان نحو: صعِدتُ فوق الجبل، وقد يُستعمل للزمان نحو: لبِثنا فوق شهر أي زمانًا أكثر من شهر؛ وهو مُعْربَ إلا إذا حُذف ما أضيف إليه ونُوِيَ معناه دون لفظه فإنه يُبنى على الضم نحو: عندي مائةٌ فما فوقُ، وإذا نُويَ لفظُه دون معناه أُعرب غيرَ منوَّن. وقد يُستعمل اسمًا كقوله: “فإذا ذُكِرتَ فكلُّ فوقٍ دونُ”. وقد يستعار للاستعلاء الحكمي ومعناه الزيادة والفضل فيقال: “العشرة فوق التسعة” أي تزيد عليها. “هذا فوق ذاك” أي أفضل منه (الأقرب).

التفسير:
لقد أوضح الله هنا مرة أخرى أن الكفار نوعان: الضالّ والمضِلّ، وأن الأخير يعاقَب بأشدَّ مما يعاقَب به الضال.
العجيب أن هؤلاء المضلِّين يقولون في الدنيا للجاهلين: اتّبِعونا ونحن نضمن لكم النجاة في الآخرة، ولكن الحق أنهم سيعذَّبون هنالك بأشدَّ مما يعذَّب به أتباعُهم الذين وعدوهم بالنجاة.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (90)

شرح الكلمات:
تِبْيانًا: بانَ الشيءُ يَبين تبيانًا: اتّضح. و(بانَ) لازمٌ وقد يتعدّى فيقال: بِنْتُه أي أوضحتُه (الأقرب).

التفسير:
هذه الآية تكملة لموضوع الآية السابقة حيث يخبر الله رسوله: سيُقدَّم الرسل يوم القيامة كنماذج لتأثير الوحي، وسوف نقدّمك أيضًا أمام هؤلاء الذين يكفرون بك الآن، وسنقول لهم: هذا الشخص كان منكم، ومع ذلك رأيتم كيف حمى نفسه من نجاسة الشرك وغيره من عقائدكم الفاسدة، وكيف صار عبدًا مطيعًا لله تعالى وتسبب في هداية الآخرين؟ أليس ذلك لأنه صار مهبطًا لوحي الله ، بينما كنتم محرومين منه، بل لم تروا له من حاجة.
ثم أشار الله تعالى إلى بركات هذا الوحي معلناً: يا محمد، لقد أنزلنا عليك الكتاب الذي يفصّل كل حاجة روحانية، ويهيئ أسباب الرحمة والهدى.. أي إنما تفضُل على قومك بفضل هذا الوحي.
أما كلمة كل شيء الواردة في قوله تعالى تبيانًا لكل شيء فلا يراد بها كل شيء موجود في العالم، وإنما يُقصد به كل ما له صلة بهذا الكتاب، ومثاله قول المعلم للتلميذ: خذ معك كل الكتب، فلا يعني بذلك كل الكتب الموجودة في المكتبة، وإنما يقصد به كُتبَه هو فقط. إذًا فالمقصود من كل شيء هنا كل ما يحتاج إليه المرء في سبيل رقيه الروحاني.
ورُب قائل يقول هنا: كيف تصحّ دعوى القرآن الكريم بكونه تبيانًا لكل شيء وهناك مسائل دينية كثيرة لا نجد تفصيلها إلا في الحديث الشريف؟ والجواب: أن أصول الأحكام كلها مذكورة في القرآن الكريم، أما التفصيل الذي نجده في الأحاديث فما هو إلا تفسير للقرآن الكريم، وذلك لأن الله تعالى قد منح النبيَّ فهمَ القرآن أكثرَ من إنسان آخر، فإذا كان هو قد فصّل بعض الأحكام القرآنية في أحاديثه فليس معناه أن القرآن الكريم ناقص، وإنما يعني أنه استطاع بفضل فهمه الكامل أن يستنبط من القرآن أحكامًا تقاصرت أفهامنا عن استنباطها منه بسبب دقّتها ولطافتها.
إن فرقة أهل القرآن قد ارتكبوا خطأً كبيرًا في هذه المسألة حيث يقولون: كان محمد بشرًا مثلنا فلماذا نقبل رأيه، وإنما نقبل ما يقوله القرآن نفسه!
والحق أن القضية لا تتعلق بقبول رأي القرآن أو رأي النبي ، وإنما تتعلق بواقع كونه أدرى الناس بما نزل عليه من الوحي. يقول الله تعالى عن نبيه الكريم وما ينطِق عن الهوى* إنْ هو إلا وحيٌ يوحَى (النجم: 4 و5).. أي أن كل ما قاله النبي عن القرآن الكريم إنما قاله بتوجيه إلهي، وما كان يخطئ في ذلك أبدًا. فالذي عصمه الله من الخطأ لا مناص لنا من تفضيل تفسيره للقرآن على تفاسير الآخرين. مما لا شك فيه أن من حقنا أن نناقش صحة رواية يقال أنها حديث للرسول ، ولكن لا يحق لنا أبدًا أن نقول: لا شك في صحة الرواية، ولكن النبي جانَبَ فيها الصوابَ – نعوذ بالله من ذلك! إن ما يقوله النبي تفسيرًا للقرآن الكريم لا بد لنا من قبوله، سواء فهمناه أم لم نستطع فهمه، شريطة أن تكون الرواية التي ذُكر فيها التفسير النبوي صحيحة وفقَ المقاييـس الموضوعة لمعرفة صحة الروايـات.

Share via
تابعونا على الفايس بوك