لا إكراه في الدين
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ(194)

التفسير:

يقول الله: ما دام الكفار هم الذين بدءوا القتال فامضوا في قتالهم إلى أن يرتدعوا عن التدخل في الدين، ويعترفوا أن أمر الدين في يد الله وحده، ولا يحق للإنسان الجبر فيه. فإذا كَفّوا عن التدخل في دين الآخرين، فكفوا أنتم أيضا عن حربهم فورا إذ لا يجوز لكم محاربتهم عندئذ، لأن العقوبة إنما تنزل بالظالمين.

يجب ملاحظة أن الله تعالى قال في الآية السابقة (والفتنة أشد من القتل)، وعَّرف الفتنة بـ “الـ” التعريف. وهنا قال فتنةً بدون تعريف.. ذلك أنه في الآية السابقة أشار إلى فتنة الكفار، وقارن بينها وبين القتال نفسه. لذلك جعل الفتنة معرفة بـ”الـ”. وهنا لم يكن أية مقارنة لذلك استخدم الكلمة نكرة دليلا على عِظمها. والمعنى: عليكم أن تستمروا في الحرب حتى تزول هذه الفتنة الكبيرة.

ويرى البعض أن المعنى هنا: إلى أن لا يبقى الكفر (القرطبي). ولكن هذا خطأ، فليست الفتنة هنا بمعنى الكفر، وإنما بمعنى التدخل في دين الآخرين.. كما ذُكر في قوله تعالى (أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا)(الحج: 40-41). أي أن المسلمين وهم قد ظُلموا وبدأهم العدو بالقتال.. مأذون لهم بالقتال.. والله قادر على نصرتهم ولا شك. هؤلاء المسلمون الذين أُخرجوا من ديارهم، ولا جريمة لهم إلا قولهم ربنا الله. ولولا أن الله يدفع الظالمين بيد غيرهم لهدموا أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. فلتوطيد الحرية الدينية في العالم يأذن الله بالحرب للذين أُعلنت عليهم الحرب من قبل أعدائهم الظالمين.

يتضح من ذلك جليا أن المراد من قوله (حتى لا تكون فتنة) عند الصحابة أيضا ألا يتدخل الناس في دين الآخرين بالجبر والإكراه، فلا يقتلون ولا يعذبون أحدا لاعتناقه دينا آخر. وإلا، فما معنى قوله تعالى (فإن انتهوا)؟ فهذه العبارة تخالف المعنى الذي ذهب إليه العلماء الآخرون وتؤيد ما ذهبنا إليه.

فالله بيّن أنه يجوز لكم الاستمرار في الحرب فقط إلى زمن بقاء الفتنة، أي ما دام الناس يتدخلون في حرية الدين، ولكن إذا تغير الحال، وانتهى تدخلهم هذا، وتركوا أمر الدين لضمائر الناس، فلا يجوز لكم الحرب إلا أن تدافعوا عن أنفسكم. ونرى أن الصحابة الكرام فهموا نفس المعنى من هذه الآية. فقد ورد أن شخصا جاء إلى عبد الله بن عمر أيام الحرب بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهم، وقال: لماذا لا تشترك في هذه الحرب في صف علي.. مع أن القرآن يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة). فقال (فعلنا على عهد رسول الله وكان الإسلام قليلا، فكان الرجل يُفتَن في دينه: إما قتلوه وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة) (البخاري، التفسير).

يتضح من ذلك جليا أن المراد من قوله (حتى لا تكون فتنة) عند الصحابة أيضا ألا يتدخل الناس في دين الآخرين بالجبر والإكراه، فلا يقتلون ولا يعذبون أحدا لاعتناقه دينا آخر. وإلا، فما معنى قوله تعالى (فإن انتهوا)؟ فهذه العبارة تخالف المعنى الذي ذهب إليه العلماء الآخرون وتؤيد ما ذهبنا إليه.

وقوله (ويكون الدين لله) يؤيد أيضا تفسيرنا، ويبين أن المراد أن يكون أمر إنزال العقاب على اختيار دين أو رفضه في يد الله، ولا يكون هناك خوف من أحد. أي يكون الإنسان حرا في اختيار الدين الذي يريد، فإذا أراد الناس أن يدخلوا في الإسلام فليدخلوا بدون خوف من أحد.

فمن الخطأ أن يقال بأن هذه الآية تعلم الجبر في الدين أو تعني الاستمرار في قتال المشركين إلى أن يدخلوا في الإسلام وينمحي الشرك والكفر. ولو كان كما يظن هؤلاء لما تصالح النبي مع المشركين في معاهداته.

 

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (195)

شرح الكلمات:

الحرام-الممنوع منه (المفردات).

اعتدوا عليه-من قواعد العربية أنهم يستخدمون الفعل كجزاء على فعل سابق، فقد قال صاحب المفردات: “(من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليم) أي قابِلوه بحسب اعتدائه، وتجاوَزوا إليه بمثل ما تجاوزه”. وقد تناولنا هذا البحث عند تفسير قوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (البقرة: 16). وهنا أيضا جاءت للجزاء كلمة الجريمة نفسها. وليس المعنى أن يعتدوا على الآخرين وإنما أن يعاقبوهم على جريمة عدوانهم.

التفسير:

يقول الله: إذا لم يقاتلكم الكفار في الأشهر الحرم مراعين حرمتها. وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم ورجب.. فلا تقاتلوهم فيها. أما إذا لم يحترموها وقاتلوكم فيها فأنتم مضطرون لمحاربتهم إلى أن ينتهوا عن ذلك.

وقوله تعالى (والحرمات قصاص) يتضمن تعليما مبدئيا بأن يُقتص للأشياء ذات الحرمة، فحرمتها لا تمنع من أخذ القصاص. وقد شرح ذلك في قوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).. أي لو اعتدوا عليكم ولم يحترموا الأماكن المقدسة، فعاقِبوهم على شرهم واعتدائهم هذا، ولا تحترموا أماكنهم المقدسة، لأنهم قد هتكوا حرمتها بأنفسهم، ولكنه أضاف (واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين).. عليكم أن تخافوا الله دائما، ولا تتجاوزوا الحدود، بل تذكّروا دائما أن الله ينصر المتقين. لقد سمحنا لكم بالقصاص إذا هتكوا حرمة الأماكن المقدسة، ولكن الذي يريد مقاما عاليا في التقوى عليه أن يضع في الاعتبار قول الله (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى: 41).. فلو عفا عن العدو، إذا كان العفو وسيلة لإصلاح العدو، فهذا عمل مستحسن، وينال فاعله الأجر من الله تعالى.

 

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(196)

التفسير:

لقد أخطأ الناس في فهم هذه الآية. فكلما يطالَبون بعمل فيه مشقة في سبيل الله يقولون على الفور: كيف نفعل ذلك، إنه بمثابة إلقاء النفس في التهلكة؟ مع أن الآية لا تعني أبدا أن يجبن المؤمن أو يخاف من موقف فيه خطر الموت، وإنما المعنى الحقيقي لها أنكم إذا كنتم في حرب العدو فيجب أن تُكثروا من إنفاق أموالكم في سبيل الله، أما إذا بخلتم بها فهو بمثابة إلقاء أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم. فقد ورد في الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وهو مع الجيش لفتح القسطنطينية، فقال إن هذه الآية نزلت فينا نحن الأنصار. (لما نصر الله نبيه ، وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها. فأنزل الله (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد) (أبو داود،الجهاد). فلا تجمعوا الأموال وتبخلوا بها، بل أنفقوها في سبيل الله بكثرة وإلا تهلكون أنفسكم، لأن العدو يهاجمكم وتكون العاقبة هلاككم.

كما أن الآية تنبه المسلمين إلى إعانة إخوانهم الفقراء وتقول: أدوا ما عليكم من زكاة وعُشر، إلى جانب اشتراكات تطوعية عليكم أداؤها. فأنفقوا في سبيل الله على إخوانكم الفقراء، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. أيها الأثرياء، لو تطوعتم بأموالكم الزائدة عن حاجاتكم.. فهي أموال لن يضركم إنفاقها لأنها فوق حاجتكم، ولكن إذا لم تفعلوا ذلك فسوف تهلكون.

وكأن الله قد صوّر هنا أفضل تصوير الأحداث التي وقعت مؤخرا للقيصر الروسي، فكأنه قال: إذا لم تفعلوا ما أوصيكم به فسوف تتعرضون لما تعرّض له هذا الملك والأمراء الروس، وكذلك الملك والأمراء الفرنسيين، فإن عامة الناس سوف يضيقون بكم ذَرعا، ويضطرون لنهب أموالكم، ويقرءون عليكم الفاتحة كما قرأها أهل شاهبور! وقصة أهل شاهبور هذه كان يرويها سيدنا الخليفة الأول للإمام المهدي، وتتلخص في أن الفلاحين هناك كانوا يستدينون من تجار هندوس، وكان الديْن يتراكم عليهم بحيث لا يستطيعون سداده. فكانوا يجتمعون ويبحثون فيما بينهم كيف يدفعون للتاجر، فلا يجدون وسيلة فيقولون: لنقرأ الفاتحة! ثم يذهبون إلى قصره ويقتلونه وينهبونه ويحرقون دفاتر الديون. وهكذا كانوا يفعلون مع التجار واحدا بعد الآخر.

فالله يشير هنا إلى هذه الحقيقة نفسها، ويقول: نأمركم بإنفاق ما زاد من أموالكم في سبيل الله، وألاّ تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. اكتسبوا الأموال كما يحلو لكم، ولكن لا تجمعوها وتكنزوها في بيوتكم، وإلا فإن الناس سوف يثورون عليكم في يوم من الأيام فتهلكون.

(وأحسنوا) أي أدوا واجباتكم أحسن أداء. أو إذا كان الله قد أعطاكم سعة من المال فيجب أن تتحملوا نفقات إخوانكم الفقراء، وتبحثوا عن طرق جديدة للخير والبر.. بأن تقللوا من نفقاتكم الذاتية، وتوفروا مزيدا من المال للإنفاق في سبيل الله. ويجب ألا تفعلوا ذلك خشية الناس، بل لتفعلوا ذلك عن طيب خاطر. لو فعلتم ذلك مخافة الناس لتحققت معونة الفقراء، ولكن الله لن يرضي عنكم. أما إذا قدَّمتم هذه التضحية عن طيب خاطر.. جمعتم بين فرح الفقراء ورضوان الله.

(إن الله يحب المحسنين) لو فكرتم: ما الفائدة من كسب الأموال؟ فالجواب أنكم سوف تنالون الجزاء على إنفاق هذه الأموال.. أي تكونون محل رضا الله ومحبته، وبذلك تصلحون عقباكم فضلا عن دنياكم.

هذا المعنى لقوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) يُفهم بالنظر إلى السياق، ولكن هناك معنى آخر وهو: فيما يتعلق بالعبادات أو الأكل والشرب أو بذل المجهود وتحمل المشقة أو النظافة والطهارة.. لا تسلكوا طريقا يؤدي إلى الإضرار بصحتكم أو نفسكم أو عقلكم أو أخلاقكم. فكلمة (التهلكة) تعني كلّ فعل تكون نتيجته هلاكا وعقباه سيئة، وباستخدامها أشار الله إلى أن الإسلام لا يمنع من تعريض النفس للموت لأجل الحفاظ على الدين والشرف والجاه والحضارة، وإنما يمنع من أعمال لا يُرجى منها نتائج طيبة وفيها خطر ضياع النفس أو ضياع أي منفعة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك