المفهوم الحقيقي لختم النبوة

القسط الثاني من خطاب ألقاه حضرة مرزا طاهر أحمد

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي

أثناء المؤتمر السنوي للجماعة في بريطانيا سنة 1985م،

رداً على تهم باطلة ألصقتها حكومة باكستان آنذاك بجماعتنا نشرتها في

كتيب تحت عنوان «القاديانية خطر رهيب على الإسلام» أثناء حملتها الشرسة

ودعايتها الكاذبة ضد جماعتنا ومؤسسها

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذا الخطاب على مسؤوليتها»

مفهوم ختم النبوة في ضوء الأحاديث

يدَّعون أنه لن يُبعث نبي أبدًا، ويركزون لإثبات موقفهم هذا على الأحاديث بدلاً من القرآن الكريم، فيقولون: إن هناك أحاديث عديدة تثبت قطعًا أن الرسول كان آخر الأنبياء من حيث الزمن.

والفكرة التي تبرز للعيان بعد قراءة أحاديث يقدمونها هي أنه لن يبعث في هذه الأمة إلا الدجالون والمتنبئون الكاذبون. وكأن سبل بعثة الأنبياء الصادقين قد أُغلقت على هذه الأمة على الدوام من ناحية، ومن ناحية أخرى فُتحت أبواب الأنبياء الكاذبين والدجالين على مصراعيها. هذا هو مفهوم ختم النبوة عندهم الذي يروجونه بحماس مفرط وبشدة متناهية. ففي هذا الصدد قدّموا بعض الأحاديث، ومنها:

«عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي». (أبو داود، كتاب الفتن)

يقولون: أين المجال لمجيء نبي من أي نوع، أو بأي مفهوم من مفاهيم ختم النبوة بعد هذا الحديث؟

نقول فَبِها ونعِمت! نحن معكم في هذا مائة بالمائة، ونقر بأن الباب الذي أغلقه النبيُّ لا يحق لأحد أن يفتحه بشكل من الأشكال. فآمنّا وصدّقنا بكل ما قاله الرسول . وإنني أعلن باسم الجماعة الإسلامية الأحمدية كلها أنه لا شك في أن الباب الذي سدَّه النبي بيده لا يُفتح أبدًا. وكذلك أُعلِن أيضًا أن الباب الذي فتحه النبي بيده لا يقدر أحد -كائنًا من كان- على إغلاقه. وهذا ما لا تقبلونه أنتم مما يجعل الأمر متنازعًا فيه بيننا وبينكم، وإلا فلا اختلاف في أن الباب الذي أغلقه النبيُّ سوف يظل مغلقًا، ولكن الباب الذي فتحه النبي لا بد أن يبقى مفتوحًا أيضًا.

والآن أقول لكم يا معاندينا! انتزعوا منه هذا اللقب والاسم ومرتبة الشرف التي أعطاه إياها سيدنا ومولانا محمد إن كنتم على ذلك من القادرين. وأنَّى لكم أن تغلقوا بابًا فتحه النبي بيده!!

المسيح المنتظر يكون نبي الله

قد قرأتم حديثًا في الموضوع الذي نحن بصدده، والآن اقرأوا حديثًا آخر حيث ذكر النبي نزول عيسى وسمّى المسيح الموعود بــــــــــ “نبي الله” أربع مرات، ولسوف أقرأ عليكم من الحديث الطويل الجزء الذي يخصنا:

«….. يُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ». (مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه)

فترون أن النبي سمّى المسيح المقبل “نبي الله” أربع مرات، علمًا أن صحيح مسلم من أهم الكتب في الصحاح الستة. ولو قيل بأنه كان نبيًا قديمًا لذا فلا يمكن أن يكون هناك صحابي في المستقبل، لقلنا: لماذا أُطلق على أتباعه كلمة «الصحابة» إذن؟

من الواضح أن النبي هنا يذكر حادثًا سوف يحدث بعد وفاته . فثبت على وجه اليقين أن المسيح المقبل سيكون نبيًا لأن الرسول سمّاه نبيًا. ومهما ظهر الدجالون الكذابون، ثلاثين كانوا أم ثلاثمائة ألف، فإن لقب ”نبي الله“ الذي وهبه الرسول للمسيح المقبل لا تستطيع قوةٌ من قوى الدنيا أن تنتزعه منه.

يروى عن «زار» ملك روسيا، أنه في إحدى المرات أمر أحد حراسه ألا يسمح لأحد -كائنًا من كان- بالدخول إلى مقصورته لانشغاله في أمور هامة. فحدث أن جاء ابن “زار” بعد برهة يريد الدخول إلى مقصورة الملك، فمنعه الحارسُ وقال: إنني مأمور بالا أسمح لأحد بالدخول. قال الأمير: مَن أنت حتى تمنعني من ذلك؟ قال الحارس إنني مأمور بتنفيذ أمر الملك. فاستشاط الأمير غضبًا وضرب الحارسَ بالسوط ضربًا مبرحًا وأهانه قدر المستطاع، ثم حاول الدخول من جديد. وعندما همَّ الأمير لذلك هبَّ الحارس الجريح وتصدّى له مرة أخرى وقال: لن أسمح لك بالدخول لأن الملك أمرني بذلك ولا بد لي من أن أنفِّذ أمره. فاستشاط الأمير غضبًا مرة أخرى وأشبع الحارس ضربًا وشتمًا غير أن الحارس لم يسمح له بالدخول هذه المرة أيضًا. كان الملك “زار” يشاهد كل هذا، فإذا به يخرج من مقصورته ويتوجه إلى الأمير ويسأله عمّا جرى. فقال الأمير إن هذا النذل لا يسمح لي بالدخول، ومَن هو حتى يمنعني؟ فسأله الملك” ماذا قال لك؟ أجاب الأمير: قد منعني قائلاً إن الملك أَمَره ألا يسمح لأحد بالدخول. فقال الملك” إذا كان الحارس قد قال لك ذلك وأخبرك أنه أمرٌ من الملك ومع ذلك حاولت التجاوز عنه فأنت الذي عصيتَ أمر الملك واعتديتَ على حارس مأمور منه. ثم توجه الملكُ إلى الحارس وقال: خُذِ السوط واضربْ بها ابني. فما كان من الأمير إلا أن قال على الفور: أيها الملك: إن قانون هذا البلد لا يسمح لجندي بسيط أن يضرب الضابط الأعلى منه رتبة. فوهب الملك للحارس رتبة الضابط وقال مخاطبًا إياه: يا ضابط فلان خُذِ السوط واضربْ بها ابني. فقال الأمير مرة أخرى: هناك قانون آخر أيضًا يمنع الضابط أن يضرب اللواء. فمنح الملكُ للحارس رتبة اللواء وقال مخاطبًا إياه: يا لواء فلان خذ السوط واضرب بها ابني. فصرخ الأمير مرة ثالثة وقال: هناك قانون آخر يمنع غير الأميرِ من أن يضرب الأمير. فأعطى الملك ذلك الحارس مرتبة الأمير وقال مخاطبًا إياه: يا أمير فلان خذ السوط واضرب بها ابني لأنه عصى أمري. فهكذا أصبح الحارس البسيط أميرًا في لمح البصر ولم يكن هناك أحد لينتزع منه الإمارة.

أفلا تعطون سيدَنا محمدًا المصطفى الحقَّ الذي كان يتمتع به ملكٌ لروسيا؟ الحق أن سيدنا ومولانا محمد يحظى في السماوات والأرض بمنزلة أرفع وأعلى بآلاف المرات من المنزلة التي كان عليها “زار” ملك روسيا يحظى بها في مُلكه. لقد سمّى رسولُ الله المسيحَ المقبل “نبي الله” في الحديث المذكور ولم يستعمل كلمة «نبي الله» في حق المسيح الموعود مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث بل استخدمها أربع في الحديث نفسه.

والآن أقول لكم يا معاندينا! انتزعوا منه هذا اللقب والاسم ومرتبة الشرف التي أعطاه إياها سيدنا ومولانا محمد إن كنتم على ذلك من القادرين. وأنَّى لكم أن تغلقوا بابًا فتحه النبي بيده!!

أما فيما يتعلق بالدجالين الثلاثين فاقرؤوا ما ورد في «إكمال الإكمال»، شرح صحيح مسلم بهذا الشأن، حيث جاء:

«هذا الحديث ظهر صدقه فإنه لو عُدّ من تنبأ من زمنه إلى الآن لبلغ هذا العددَ ويعرف ذلك مَن يطالع التاريخ». (شرح صحيح مسلم، المسمى بــــ إكمال إكمال المعلم، مكتبة طبرية، الرياض ج7 ص258)

من غرائب قدر الله أن عدد الكاذبين الدجالين قد بلغ إلى ثلاثين قبل بعثة الموعود الصادق. وإذا قلتم: من الممكن أن يكون بعض الكذابين الآخرين أيضًا قد ظهروا إلى زمن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، قلتُ: إذا كان الأمر هكذا فلا اعتبار للوعد المذكور في الحديث بل سوف يصبح الحديث عرضة للشك والريبة. ومن المستحيل أن يتعرض حديث من أحاديث النبي الشريفة لمثل هذا الموقف. وإليكم الآن ما قاله السيد نواب صديق خان الذي كان معاصرًا لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

«النبأ الذي كان النبي قد قام به عن ظهور الدجالين قد تحقق واكتمل العددُ». (حُجج الكرامة ص239)

يتضح من هذا الكلام أنه لن يظهر الآن دجال أو متنبئ كاذب مستغلاً الحديث السالف الذكر، لأن وقت ظهور المسيح الموعود قد أتى. فحُبست الألسنة كلها من الكلام، وساد الأمةَ سكوتُ الانتظار، فانتظرت ساكتة واجمة.

ومن غرائب قدر الله أيضًا أنه جعل أحدَ علماء أهل الحديث ليعلن أن وقت ظهور الكذابين قد مضى والآن لن يظهر إلا صادق.

كمال البناء يعني كمال الشريعة

وهناك حديث آخر يقدمه معارضونا ويقولون بناء عليه: هل بقي بعد هذا الحديث مجال للشك في انقطاع النبوة نهائيًا؟ يركزون كثيرًا على هذا الحديث ويقولون لم يبقَ مجال لظهور نبي ولو من الأمة المحمدية. فقد جاء في الحديث:

«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ. فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ». (البخاري كتاب المناقب، ومسلم، كتاب الفضائل، والترمذي، كتاب المناقب، ومسند أحمد بن حنبل)

يقولون: هل يبقى أي شك في الموضوع بعد هذا الإعلان الكامل والمفصل؟ فقد وُضعت اللبنة الأخيرة وسُدّ الخلل، فأين المجال لظهور نبيٍّ آخر، جديدًا كان أم قديمًا؟ أقول: كم هو غريب أمرهم إذ يعتقدون أنه لو أُخذت اللبنة القديمة من الأرض وأرسلت إلى السماء ثم أُنزلت فلا بأس في ذلك. هذا هو السبيل الوحيد لظهور نبي حسب زعمهم. اسمعوا الآن ما قاله العلامة ابن الحجر العسقلاني في شرح هذا الحديث:

“المراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة”. ( فتح الباري شرح البخاري للإمام علي بن حجر العسقلاني ج6 كتاب المناقب، باب خاتم النبيين، ص693، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان)

يقدمون الحديث المذكور بكل تفاخر وغطرسة ويخفون ما قاله الأسلاف في شرحه بمن فيهم العلامة ابن حجر العسقلاني! ولكن كيف يمكن لهم أن يقدموا القول السالف الذكر لأن العلامة ابن حجر العسقلاني لا يندرج في قائمة وضعوها للصلحاء الأسلاف والمفكرين القدامى والفلاسفة العظام. غير أنهم يعترفون بوجود العلامة ابن خلدون ضمن قائمتهم. فلنر هل ألقى العلامة ابن خلدون ضوءًا على هذه القضية؟ يقول حضرته:

“يفسرون خاتَم النبيين باللبنة حتى أكملت البنيان. ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة”. (مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون ص 300، المكتبة العصرية سيدا، بيروت، الطبعة عام 1988م)

نلاحظ أنه لم يذكر كونه آخر الأنبياء من حيث الزمن. كل ما قاله هو: “ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة”.

هناك حديث آخر يعاندوننا بناء عليه وهو:

“عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال، قال رسول الله لعليٌّ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وفي رواية للبخاري: إلا أنه ليس نبي بعدي. وفي رواية لمسند: إلا أنك لست بنبي”. ( البخاري، كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب، مسلم كتاب الفضائل، مسند أحمد 1/331)

المعنى ل “بَعْد”

الحقيقة أن النبي خَلَفَ سيدنا عليًا على المدينة قبل سفره لغزوة تبوك. وكان سيدنا علي كما هو معروف من المقاتلين والمجاهدين البارزين والبارعين، وكان قد اشترك في جميع الغزوات السابقة مع النبي . فكان للتخلف عن غزوة تبوك تأثيرا محزنا عميقًا في نفسه، ظنَّا منه أنه سوف يحرم من الجهاد من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يظن الناس أن الرسول غير راض عنه. فتوسل إلى النبي وقال ما معناه: أتتركني بين النساء والصبيان يا رسول الله؟ وبطبيعة الحال كان أسلوبه مثيرًا لحب النبي له. فقال النبي : لا تحزن يا علي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى. وكان المراد من هذا الكلام أنه عندما سافر سيدنا موسى إلى جبل الطور خلَفَ هارون في قومه بسبب ثقته فيه وحبه له وليس لأي سبب سلبي. كذلك أنا أيضا أخلفك بسبب ثقتي فيك وتقديري لك، ولا لأي سبب سلبي، غير أنك لن تكون نبيا أثناء غيابي كما كان هارون نبيّا في حد ذاته أثناء غياب موسى .

يصر العلماء اليوم ويقولون: إن الكلمة “بَعدي” هنا تفيد ال “بَعد” على الدوام، ولا تعني الغياب المؤقت الذي قال فيه النبي قولته هذه. ولكننا نتجه إلى أحد من صلحاء الأمة الكبار الذي يعترف بعظمته الكتيب الحكومي أيضا وهو حضرة ولي الله المحدث الدهلوي. لنعرف رأيه في هذا الحديث وما فهمه منه، يقول حضرته:

“إن مدلول هذا الحديث جَعلُ سيدنا علي نائبا وأميرا على المدينة أثناء غزوة تبوك فقط وتشبيهه بهارون حين سافر موسى إلى الطور. والكلمة “بعَدي” هنا تفيد “غيري” ولا تعني ال “بَعد” من حيث الزمن. كما في الآية: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ، المراد من “بَعد الله” هنا “غير الله”.لاحظوا كيف قدم حضرته الحجة أيضا من القرآن ووضح أن “بَعد” لا تعني ال “بَعد” من حيث الزمن دائما، بل تعني “غير” أيضا. إذ لا يمكن أن يطلق معنى البَعد الزمني على الله بشكل من الأشكال. فثبت على وجه القطيعة أنه ليس الفصحاء العرب فقط بل الله أيضا قد استخدم كلمة “بَعد” بمعنى “غير”. يضيف حضرة ولي الله الدهلوي ويقول ما معناه:

لا يمكن أن يرادُ من كلمة “بعدي” البَعْدية (في الحديث المذكور) لأن هارون ما عاش بعد موسى حتى يثبت البُعدُ الزمنيُ من أجل سيدنا علي “. ( قرة العينين في تفضيل الشيخين في الفارسية، ص 206)

ما أروَعَه من حجة! وما أجمَلَه من كلام! إن أهل المعرفة والتقوى الذين كانوا يحبون مشيئة رسول الله وكانوا يعشقون أقواله ، عندما يدرسون الأمورَ ولا سيما الأحاديثَ بنظرة عميقة يصلون في الحقيقة إلى حضرة شاه ولي الله إذ قال: إن هارون ما عاش بعد موسى حتى يُستمد من الحديث معنى الزمن، ويقال إن الحديث “لا نبي بعدي” يعني أنه لن يكون بعد النبي نبيٌ، وإنه لا نبي سوايَ.

حاجة العصر إلى نبي

هناك حديث آخر يجدر الانتباه إليه والذي يركز عليه معاندونا كثيرا، جاء فيه ما يلي:

“عن بكر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله : “لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَكَانَ عُمَر”. هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان” ( الترمذي أبواب المناقب، باب مناقب عمر )

إنهم يقدمون عادةً الجزء الأول من هذا الحديث ويخفون الجزء الثاني. والحجة التي يقيمونها في زعمهم هي: بما أن سيدنا عمر عنه عاش بعد وفاة النبي ولم يُبعث نبيا فثبت أنه لا يمكن أن يكون هناك نبي بعد الرسول بشكل من الأشكال.

يورد الإمام الترمذي هذا الحديث ثم يعلق عليه قائلا:

“هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان”.

عندما نبحث في مصداقية مشرح بن هاعان ومكانته التي يُنزله علماء الحديث نجد في “تهذيب التهذيب” وهو كتاب معروف يبحث في الرواة، ما يلي:

“قال ابن حيان في… “الضعفاء”… لا يتابَع عليها. فالصواب تُرك  ما انفرد به. (قال) ابن داود: بلغني أنه كان في جيش الحجاج الذين حاصروا ابن الزبير ورموا الكعبة بالمنجنيق”. (تهذيب التهذيب للإمام ابن حجر العسقلاني ج 10 ص 155)

هل يبقى أي اعتبار لرواية رواها مشرح بن هاعان؟ ثم لا يقتصر الأمر على هذا بل هناك أحاديث أخرى تتناول الموضوع بشرح أكثر. فقد جاء في رواية أخرى: “لو لم أُبعث لبُعثتَ يا عمر”. (مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح ج10 ص 403، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع)

وفي رواية أخرى أيضا: “لو لم أُبعث فيكم لبُعث عمر فيكم”. (الجامع الصغير في أحاديث البشير والنذير للإمام جلال الدين السيوطي وبهامش: كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق للإمام عبد الرؤوف المناوي، الطبعة الرابعة، الجزء الثاني، ص 74، دار الكتب العلمية)

فاتضح أكثر من هذا الحديث أن”بعدي” في الحديث السالف الذكر تعني “غيري” لا غير.

دليل آخر على بقاء النبوة

وإليكم الآن حديث آخر يشرح كلمة “بعدي” دون أن نقول شيئًا من عند أنفسنا. ومَن نحن حتى نفتح بابا أغلقه النبي بيده؟ يقول الرسول :

“عَن ابْن عَبّاسٍ قَالَ: لَمّا مَاتَ إبراهيمُ ابْنُ رَسُولِ الله ، صَلّى عَليْهِ رَسولُ الله وقَالَ: إنَّ لَهُ مُرضعًا في الْجَنَّة، وَلَو عَاَشَ لَكَانَ صدّيقًا نَبيًّا. وَلَو عَاشَ لَعَتَقَتْ أَخوالُهُ الْقبْطُ وَمَا اسْتُرِقّ قِبْطيٌّ”. (ابن ماجة، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله )

يقول المعاندون عن هذا الحديث إن النبي قال: “لَو عَاشَ لَكَانَ صدّيقًا نَبيًّا”، ولكن الله توفاه حتى لا يصبح نبيّا. وهذه هي الحكمة وراء وفاته في الطفولة المبكرة.

ولكن ليس قولهم هذا إلا كذب ومخادعة، ولا يُظهر الحكمة الكامنة وراء الحديث وإنما يوجه هجمةٌ قذرة إلى فصاحة النبي وبلاغته الذي كان أفصح العرب إطلاقا. وعندما نبحث في خلفية هذا الحادث نرى أن سيدنا إبراهيم تُوفي في بداية عام 9 هجري، في حين أن آية “خاتم النبيين نزلت عام 5هـ في حين أن آية أي بحوالي 4 أعوام قبل وفاة إبراهيم . لا يصعب على أي شخص يملك قليلا من العقل والفهم أن يستنتج أنه إذا كان النبي يفهم من آية خاتم النبيين أن النبوة -أيا كان نوعها- قد انقطعت بصورة دائمة، لَمَا قال: “لو عاش لكان صديقا نبيا”. بل كان الأجدر به والأفصح أن يقول: لو عاش إبراهيم إلى ألف سنة لما كان نبيا لأن أبواب النبوة قد أُغلقت على مصراعيها على الدوام.

وكذلك لم يقل الرسول -كما يزعم معاندونا- بأن ابنه توفي لسبب واحد فقط وهو: ألا يصبح نبيا، على الرغم من قدر الله أنه لن يكون هناك نبي بعد اليوم. إذن فالنبي الذي كان الله قد أخبره -على حد قولكم- أنه لن يكون هناك نبي منذ الآن كان بإمكانه أن يقول -على الأكثر- حين وفاة ابنه الغالي أمام عينيه: إن ابني هذا صبي يملك فطرة طاهرة وطيبة نقية صالحة للغاية ولكنه مهما عاش ما كان له أن يكون نبيا لأنه لقد سبق القول من الله وقد أخبرني أنه لن يكون هناك نبي أبدًا بشكل من الأشكال. ولكن الرسول لم يقل هذا كما نرى بل قال: “لو عاش لكان صديقا نبيا”. وهناك رواية ممتعة أخرى أيضا تحل هذه المسألة إلى الأبد. فلقد رُوي عن علي بن أبي طالب :

“لما توفي إبراهيم أرسل النبيُّ إلى أمه “مارية” فجاءت وغسلته وكفّنته، وخرج به وخرج الناس معه فدفنه. وأدخل النبي يده في قبره فقال: أما والله، إنه لنبيٌّ ابنُ نبي”. (التاريخ الكبير لابن عساكر ج1، ص295/ الفتاوى الحديثية لأحمد شهاب الين بن حجر الهيثمي، ص 176 دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان)

وبما أن سيدنا علي كان من أهل البيت فروايته أوضح وأشمل من غيرها لتبين خلفية الحديث السالف الذكر.

المعنى الحقيقي لـ “لا نبي بعدي”

 حادث وفاة سيدنا إبراهيم وقع بحوالي 4 سنوات بعد نزول آية خاتم النبيين، وإن العلماء الأسلاف قد انتبهوا إلى كل هذه الأمور وقرؤوا هاتين الروايتين فاستنبطوا منها ما يلي:

يقول حضرة العلامة ملا علي القاري رحمه الله وهو من كبار علماء السنة: “ومع هذا لو عاش إبراهيم وصار نبيا وكذا لو صار عمر نبيا لكانا من أتباعه كعيسى وإلياس وخضر عليهم السلام. فلا يناقض قوله تعالى “خاتم النبيين” إذ أنه لا يأتي نبي بعده ينسخ ملته ولم يكن من أمته”. (موضوعات كبير لمولانا علي القاري ص67 دار الطباعة العامرة سنة 1289) ما أوضحَه من استنباط !وكيف يحطم سندًا مزعوما يستند إليه علماء اليوم. ونعود الآن إلى ما قيل في الكتيب الحكومي وما افتروه فيه إذ قالوا: إن الصلحاء الأسلاف ما زالوا متفقين على أن كلمة “خاتم النبيين” لا تعني إلا أن النبوة قد انقطعت نهائيا بكل أنواعها.

والآن سوف أقدم شرحًا لِكلمات “لا نبي بعدي” قام به علماء الأمة الأسلاف وصلحاؤها. قد بينت الأحاديث مقابل الأحاديث التي يقدمها معارضونا في الموضوع الذي كنا بصدده قبل قليل، وذلك إلى جانب مقتبسًا واحدًا اقتطفته من كتاب ملا علي القاري رحمه الله ولم أقل شيئًا من عندي. وقلت إن الباب الذي أغلقه النبي بيده نعترف بإغلاقه مثل اعترافكم تماما. ولكن الباب الذي فتحه النبي بيده أيضا أنى لكم أن تغلقوه. فالعصاة هم الذين يقبلون بعضًا من أحاديث الرسول ويرفضون بعضها الآخر، الأمر الذي لا يليق بأحد من أمته . ولو تصرف أحد هكذا تجاه أقوال النبي لأخرج نفسه من دائرة أمته تلقائيًا. وهذا ما كان اليهود الفاسدون يفعلونه حسب ما يذكر القرآن أن جريمتهم التي احتلت رأس قائمة جرائمهم هي أنهم كانوا يخفون بعض الكتاب ويبرزون بعضه. ولو كان معاندونا متحلين بالتقوى لبيَّنوا أمام الناس بل أمام أهل الإسلام جميعًا كلا النوعين من الأحاديث ليحكم فيها أهل العلم والبصيرة ويستنتجوا منها ما إذا كان الحق مع الأحمدية أو معانديها. ولكنهم يخفون نصف الكلام ويبرزون نصفه الآخر حسب رغبتهم أما فيما يتعلق بقولهم إن علماء الأمة القدامى كانوا يعتقدون -من منطلق الحديث: لا نبي بعدي وغيره -بلا أدنى شك أنه لن يأتي بعد رسول الله نبي أبدًا، فقد قرأت على مسامعكم بعض المقتبسات من كتب الأسلاف في هذا الخصوص، ولكنها لم تتناول الكلمات “لا نبي بعدي” فيمكن أن يتساءل أحد: ألم يكونوا على معرفة بذلك رغم كونهم علماء كبارا؟؟ لذا سوف أقتبس لكم الآن بعضًا من أقوال العلماء القدامى حيث يذكر كل واحد منهم أنهم كانوا على علم بهذا الحديث أيضًا، ليتضح لكم ما فهموا من قول النبي : “لا نبي بعدي”.

قول السيدة عائشة رضى الله عنها 

‏‫أقدم في هذا الخصوص أولا قول السيدة عائشة رضى الله عنها المعروف الذي سمعتموه مرارا. الكتيب الذي نشرته حكومة باكستان يعلن جهارا أنه لم يستنبط أحد من صلحاء الأمة منذ زمن سيدنا رسول الله إلى يومنا هذا من الكلام المذكور غير ما يستنبطونه في حين تقول السيدة عائشة رضى الله عنها:

“قولوا إنه خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده”.

(الدر المنثور في التفسير المأثور للإمام جلال الدين السيوطي ج٦ ص٦١٨ الطبعة الاولى عام ١٩٨٣م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان)

مما يعني أن السيدة عائشة رضى الله عنها كانت على معرفة كاملة بقول النبي هذا وكانت تعرف أيضًا أنه من الممكن أن يستمد البعض معاني خاطئة منه فقالت بوضوح تام: “قولوا إنه خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده”.

لماذا رأت عائشة رضى الله عنها حاجة إلى هذا الشرح والإيضاح؟ من الواضح جليا أنها خشيت أن يسيء البعض فهمه، أو قد يفسره البعض بما لا يرضى به قائله، فشرحت الفكرة بوضوح أن النبي  لم يقصد من “لا نبي بعدي” أنه لن يكون هناك نبي من أي نوع.

رأي الإمام ابن قتيبة رحمه الله 

يورد الإمام ابن قتيبة رحمه الله المتوفي عام ٢٧٦ ه قول السيدة عائشة رضى الله عنها ويقول معلقًا عليه:

 “ليس هذا من قولها ناقضًا لقول “لا نبي بعده”، لأنه أراد لا نبي بعدي ينسخ ما جئت به”. (تأويل مختلف الأحاديث ص ١٢٧ دار الكتاب العربي، بيروت)

هذا هو نفس الاعتقاد الذي نعتنقه نحن جميعا وورثناه من سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بل ورثناه من كافة صلحاء الأمة.

رأي عالم صالح وتقي آخر

حضرة الإمام محمد طاهر المتوفي عام ٩٨٦ ه كان من الصلحاء المعروفين في الأمة فقال في شرح القول المذكور لعائشة رضى الله عنها:

“هذا ناظر إلى نزول عيسى، وهذا أيضًا لا ينافي حديث “لا نبي بعدي”، لأنه أراد: لا نبي ينسخ شرعه”. (تكملة مجمع البحار ص٨٥)

يبدو كأن الإمام طاهر يرى سببين احتاجت لأجلهما السيدة عائشة رضى الله عنها إلى هذا الشرح.

الأول: أنه لو ظل الناس يقولون إنه لا مجال لنبي أيا كان نوعه، لما تَرَكُوا مجالاً لعيسى الموعود أيضًا. لاحظوا كم يختلف رأي العلماء المعاصرين! إن هؤلاء يفسحون مجالا لعيسى ولا يتحملون مجيء نبي من الأمة المحمدية، يفعلون ذلك بإلباس الكلمات العربية معاني خاطئة لا تطيقها اللغة أبدا.

لماذا رأت عائشة رضى الله عنها حاجة إلى هذا الشرح والإيضاح؟ من الواضح جليا أنها خشيت أن يسيء البعض فهمه، أو قد يفسره البعض بما لا يرضى به قائله، فشرحت الفكرة بوضوح أن النبي  لم يقصد من “لا نبي بعدي” أنه لن يكون هناك نبي من أي نوع.

لأنه لو كانت كلمة “لا” في قوله : “لا نبي بعدي” تفيد نفي الجنس لكان المعنى أنه لن يأتي في هذه الأمة نبي أيا كان نوعه وصفته. ومن المعروف لدى العرب كافة أن “لا” إذا استخدمت لنفي الجنس لسدت طريق ذلك الجنس كله دون استثناء ففي هذه الحالة يشمل مفعولُ “لا” كل نبي ومن كل نوع قديمًا كان أو جديدًا. وتجدر الإشارة إلى أن النبي لم يقل: “لا يكون بعدي نبي” بل قال: “لا نبي بعدي”. وهناك فرق واضح بين القولين. مما يعني إن كُنتُم مصرين على ما تستنبطونه من قول النبي وتقولون إنه لن يأتي نبي بعده إطلاقا ففي هذه الحالة لا يبقى مجال لمجيء عيسى أيضًا. لذا وضحت السيدة عائشة رضى الله عنها ألا تظنوا أن “لا نبي بعدي” تفيد نفي الجنس مطلقا وبذلك سدت طريق هذا الاستنباط.

وكذلك منعت عن هذا الاستنباط لسبب آخر أيضًا وهو: “لأنه أراد لا نبي ينسخ شرعه”. (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك