أفحكم الجاهلية يبغون

أفحكم الجاهلية يبغون

التحرير

لا بد من مراجعة الأدبيات ومنتجات وسائل الإعلام والمناهج التربوية في العالم الإسلامي مراجعة دقيقة متأنية، فلا شك أن الخلل الذي يعتريها ينعكس بشكل جلي على ثقافة وسلوك الأفراد في مجتمعاتهم. ونحن لا نتحدث هنا عن القيم المغلوطة التي تسربت بسبب ظروف معينة إلى هذه المجتمعات وإنما نتحدث عن الشروخ التي تتواجد في القيم الإيجابية الأصلية والتي قد تشوه هذه القيم أو تحرفها عن غايتها الحقيقية. إن المجتمعات الإسلامية بفكرها الجماعي تمقت بل تقاوم كثيرًا من العادات والأفعال القبيحة، ويرجع ذلك إلى مقاومة الفكر الديني لهذه العادات والأفعال، وإن كانت بعض هذه العادات والأفعال متفشية بين الأفراد. فإن هؤلاء الأفراد بذاتهم يرفضونها بل ينبذون من يتحلى بها أو يقوم بها. وإن كان هذا الجانب إيجابيا ويميز المجتمعات الإسلامية عن غيرها، إلا أن التعامل مع هذه العادات والأفعال لا يعالج هذه المشاكل ولا يلغي هذه العادات ولا يمنع تلك الأفعال، ولا شك أن الخلل في كثير من الأحيان إنما هو في ردود الأفعال أو ما يمكن أن نسميه بالعقوبة الجماعية التي ينزلها المجتمع بمن يفتضح أمره أو يهتك ستره من المخالفين. هذه النقطة التي تعامل معها الفكر الإسلامي الحقيقي ببراعة وحكمة متناهيين هي التي تتضمن القدر الأكبر من الخلل في الفكر الحالي للمسلمين، إذ أن كثيرًا من ردود الأفعال والعقوبات هذه لا مكان لها في أصول الإسلام ومرجع ذلك كله هو عادات ونعرات جاهلية أطلت برأسها بعد مرور أزمان. وتقوم هذه العادات والنعرات على إذكاء غريزة الظلم التي تتأجج في داخل الإنسان.

إن الإسراف في عقوبة المخطىء إنما هو ظلم يمقته الله الذي لا يحب الظالمين، فالإيمان شعبتان كما قال سيدنا المصطفى ، وهما الصبر والشكر، فإن كانت العقوبة التي قررها الله تعالى للمخطىء لا تطمئن لها قلوب هؤلاء الظالمين فلا بد لهم أن يصبروا ويقبلوا حكم الله العادل الحكيم الذي لو آخذ الظالمين بظلمهم لما ترك على الأرض من دابة، وعليهم أن يتفكروا حينئذ في أنفسهم ليبحثوا عن موطن الخلل الذي جعل نفوسهم ترفض حكم الله، عليهم أن يحذروا حينئذ فإنهم في وضع خطير لا يُطمَأَنُّ إليه، فهم بذلك يبغون حكم الجاهلية، أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يؤمنون. إن وسائل الإعلام والتربية والتعليم في العالم الإسلامي يجب أن تركز على قيم الصبر والتسامح والعدل. فهنالك تركيز شديد الآن على مقت وذم الأفعال السيئة التي يحاربها الإسلام، كما أن هنالك إمعانًا في إبراز ضرورة إلحاق أشد العقوبات بالمخطىء دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف والأحوال والمسببات.

إننا ينبغي أن نكون خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فالأمر بالمعروف هو أن نأخذ بما أمر الله وأن نقبل الحكمة وأن نعفو ونصفح فذلك أقرب للتقوى، وذلك مما يحض عليه الله تبارك وتعالى لأن العقوبة شرعت للردع والإصلاح فيخافها من حاك في صدره ارتكاب الجريمة فيكون له ردعًا كذلك إن عوقب بها المسيء فينبغي أن تصلحه، إلا فيما يتعلق بالقتل العمد فإن جانب الردع أقوى من جانب الإصلاح في العقوبة فهي لردع الآخرين ولمنع تكرار هذه الجريمة، على كل حال ينبغي أن ننظر بعين الرحمة إلى المخطىء أو المجرم ونتفكر في أنفسنا وننظر إلى ضعفنا ونعفو ونصفح إن كان لذلك مكانًا، فرب صفحٍ أبلغ في المخطىء من عقوبة، وتاريخنا يزخر بأمثلة لذلك ابتداء من الرسول الكريم مرورًا بصلحاء وعظماء الأمة.

إن كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، فالمظلوم اليوم قد يكون ظالـمًا غدًا، فليعف وليصفح عسى أن يجد من يعفو ومن يصفح عنه إن أخطأ، كيف يمكن لمسلم ألاّ يعفو عن أخيه المسلم أو عن أخيه الإنسان وهو يعلم أنه في حدّ ذاته غير قادر على التخلص من أخطائه كليةً، لماذا لا يسأل نفسه: كيف لي أن أرميه بحجر وأنا لست خيرًا منه؟

إن من أكرم الشيم التي تحلى بها المسلمون هي العفو عند المقدرة. ولقد كانت هذه الشيمة موجودة في الجاهلية أيضًا فجاء الإسلام وهذبها ووضعها في نصابها. ومن المهم هنا أن نوضح أن العفو الكريم يجب أن يكون عند المقدرة وإلا كان تفريطًا وكان فيه تشجيعا للجريمة، وعلى صاحب الحق عند ذلك أن يقرر وهو القادر هل أترك هذا المعتدي ينال العقوبة جزاء ما ألحق بي من ضرر أم أعفو عنه ابتغاء وجه الله. فإن اختار العفو وهو قادر والمعتدي مدرك أنه قادر عليه وأمره بين يديه فإن ذلك سيترك أثرًا بالغًا على الاثنين، فالذي يعفو عن طيب النفس ويجد نفسه قادرًا على العفو يتولد فيه شعور عظيم يذكي التقوى في قلبه ويرفع مراتبه عند الله وعند نفسه وعند الناس، كذلك فإن هذا الموقف قد يترك أثرًا أبلغ من العقوبة في صدر المعتدي فيشعر بالخزي ويلوم نفسه أشد اللوم مما قد يصلحه ويمنعه من ظلمه ومن تكرار جريمته إلى الأبد.

إن كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، فالمظلوم اليوم قد يكون ظالـمًا غدًا، فليعف وليصفح عسى أن يجد من يعفو ومن يصفح عنه إن أخطأ، كيف يمكن لمسلم ألاّ يعفو عن أخيه المسلم أو عن أخيه الإنسان وهو يعلم أنه في حدّ ذاته غير قادر على التخلص من أخطائه كليةً، لماذا لا يسأل نفسه: كيف لي أن أرميه بحجر وأنا لست خيرًا منه؟، إن الإنسان منذ خلقه الله على وجه هذه البسيطة خطاء ظالم كفار، وإن لم يكن هنالك أناس يخطئون ليتوبوا لاستبدل الله الناس بمن يخطىء ويتوب كما أخبر في الحديث القدسي. فإن كان بعضٌ لا يستطيعون احتمال هذه الدنيا بصالحيها ومخطئيها فليمددوا بسبب إلى السماء ثم ليقطعوا فلينظروا هل يذهبن كيدهم ما يغيظ، هذه هي حكمة الله منذ أن خلق السماوات والأرض، فمن يظن أنه لا يستطيع التكيف معها فلا مناص له.

إن الله تبارك وتعالى قد أمر المصطفى أن يسبح بحمد الله الذي يتنزه عن النقص وأن يستغفره لكي يغطي عيوبه ونقائصه -وهو الإنسان الوحيد المنقى من العيوب- وذلك عندما تأتيه أفواج المؤمنين وهم يحملون أخطاءهم وضعفهم وعيوبهم معهم، والمصطفى كما هو معلوم كان عفوًا كريمًا يتجاوز عن المسيء مع أن ذاته النقية لم تكن تعرف الاعوجاج ومع أنه لو ألحق أشد العقوبة بالمعتدين فلا لوم عليه لأن نفسه ترفض كل الذنوب والأخطاء رفضًا قاطعًا، ولكن مع ذلك فكان في صدره اتساع لأمة تحوي وتجمع أناسًا على مختلف الدرجات والنفسيات، فهلا كان لنا في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؟، ألا إن العفو أقرب للتقوى، ألا إن الكريم يعفو عند المقدرة، ألا إن الله يحب المحسنين، والحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك