بين التواصل والاتصال

بين التواصل والاتصال

التحرير

الروابط والصلات من الضروريات التي لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها وذلك للحفاظ على نوعه حيث إنه فُطِر على التعايش الجماعي. والإنسان هو أصغر خلية في التركيبة الهرمية الإنسانية.. فالأسرة تتكون من بعض أفراد، ومجموع أسرٍ يُكوِّن مجتمعاً وهذه المجتمعات تُكوِّن بدورها أمةً وفي آخر المطاف أمم الكرة الأرضية قاطبةً تُكوّن الإنسانية. وهكذا فالروابط والعلاقات أمرٌ لا غني عنه كون الإنسان اجتماعياً ومدنياً بطبعه. قال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 14)

لقد كرَّم الله الإنسان حيث جعله سيد المخلوقات ووهبه ملكات وقدرات

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (البلد: 9 و10)…

وأدى تناسب وتلاءم هذه القدرات والملكات مع طبعه إلى سلوكه حياةً جماعية مكّنته من تحليل وفهم ما يحصل في محيطه والتعامل مع الظواهر  الطبيعية بصورةٍ أحسن من ذي قبل. فمن مزايا تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات أن جعله الله عاقلاً وناطقاً. وفي هذا الأمر من الأهمية والدلالة ما يقوّي الصلة بين التفكير والتعبير الإنساني. وعلى هذا الأساس كانت اللغة نتاجاً طبيعياً ووظيفياً للتواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان بوصفها وظيفةً مشتقة من ملكة التفكير التي خصَّ الله بها الإنسان وجعله كائناً عاقلاً وناطقاً حيث قال الله عز وجل في حقه مشيراً إلى هذا التكريم الربّاني العظيم:

خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (الرحمن: 4-5).

إنَّ تفرّد الإنسان باللغة وتواصله بواسطتها منذ القدم داخل تجمّعاته أدّى به إلى التفكير في آليات إيصال واتصال خارج محيطه. ولم ينجم هذا التفكير عن فراغ وإنّما بعدما اكتشف أنه ليس للغة وظائف تتعدّى مهمتها التواصليّة فحسب بل إنّها تتمتّع بوظائف إضافية ذات قوة وتأثير وسيطرة. فقد توصّل أنَّ للكلمات سلطةٌ كبرى في التعبير والتأثير على المستوى الفردي والجماعي. وفي ظل هذه الظروف المنعشة فكّر الإنسان بكل جِدٍّ واهتمام في إيجاد آليات تُحقّق له سرعة التواصل والاتصال.

ونجد في بداية تاريخ الإنسانية الصورة البسيطة التي كان عليها نظام التخاطُب والمراسلة حيث كان مقتصراً على رسائل شفوية غير مكتوبة عبر ساعي بريد ينقلها إلى وجهتها ممتطياً دابّته وهو يقطع الفيافي والقفار، وقد يستغرق منه هذا الأمر وقتاً طويلاً ناهيك عن عبث قُطّاع الطرق به. ولكن مع مرور الزمن لم يتكاسل الإنسان في سعيه الجاد في إيجاد سُبل أفضل فكان استحداثه لرسائل الحمام آنذاك كأسرع ناقل للمراسلات. واستدعى الأمر ترويضاً وتدريباً لهذا الصنف الخاص من الحمام. فكان هذا الحدث قفزةً عملاقة بالنسبة لتلك الحقبة التاريخية، وكان له نفس صدى التقنيات الحديثة المبتكرة في أيامنا هذه. إلا أنَّ الإنسان في ظل تلك الظروف البدائية لم يجد مؤشرات تشجّعه أو تَعِده بالنجاح في مراميه خصوصاً بعدما اعترضته نواقص وعقبات شديدة. إلا أنَّ عزمه وإصراره كان وبدون أي شك تلك اللبنة التي أرست ما توصّل إليه الإنسان المعاصر من وسائل اتصالات وابتكارات ذات كفاءة عالية وخيالية لم يتصوّرها الإنسان حيث كان يعُدُّ ما يتخيّله آنذاك تكهُّناتٍ مستقبلية ودرباً من دروب الخرافة!!

ولا يخفى على أحد أنَّ وسائل الاتصال قد بلغت ذروتها القصوى في عصرنا الحالي. فأصبح الإنسان على تواصل مستمر مع أخيه الإنسان بالرغم من بُعدِ المسافات ووجود حواجز كثيرة. نعم لقد تخطّت تقنيات الاتصال الحديثة كل الحواجز الطبيعية واختزلت ظروف الزمان والمكان، ويمكننا القول بحسب ما نشهده اليوم من تطوّر مشهود في تقنيات الاتصال أنَّ عصرنا هذا عصرٌ مُميَّزٌ عما سبق من العصور، ونجد في نبوءات القرآن الكريم ما يُشير إلى هذه الثورة العظيمة حيث قال عز شأنه:

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (التكوير: 8).

بالفعل عصرنا عصر مزاوجة للأنفس، ومهما فكّرنا في إيجاد صياغة تعبيرية إجمالية لوصف هذه الصيحة فلن نجد من التعابير الوصفية والمجازية ما يمكنه أن يُعطينا من الشمولية والدقة بمثل ما أوصله إلينا هذا التعبير القرآني الإعجازي!

لقد أمكن للإنسان الحديث أن يتواصل مع أخيه الإنسان عبر الهاتف والبريد المصوّر (الفاكس) والبريد الإلكتروني إلى أن تمكّن من التواصل المرئي المباشر عبر الأقمار الصناعية، مهما نأت مسافات القارات واختلفت العوامل الزمانية والمكانية بين المتخاطبين وكأنه لا يفصلهما أي فاصل، أو بالأحرى كأنَّ نفسيهما قد تمازجتا، وبعبارةٍ أدق.. تزوّجتا.

ولا يستطيع الإنسان في أيامنا هذه أن يستغني عن وسائل الاتصال الحديثة حيث أصبحت من الضروريات أو متطلبات الحياة اليومية التي لا غنى عنها. وبالرغم من هذا الخضوع التام أمام وسائل الاتصال الحديثة والاعتراف بما جلبته علينا من إيجابيات إلا أننا لا نستطيع أن ننكر بعض السلبيات التي ظهرت كنتيجة مباشرة للإفراط المتزايد. فقد أظهرت إحصائياتٌ عدّة أنَّ العديد من الناس قَلَّت ارتباطاتهم وصِلاتهم الاجتماعية المباشرة مع الآخرين واقتصرت على اتصالات هاتفية يستحيل عليها بحالٍ من الأحوال إيصال تلك المشاعر والأحاسيس بنفس الطريقة والكيفيّة التي يُوصلها إقدام الإنسان بعضهم على بعض.

إنَّ الصِلات والروابط الاجتماعية المباشرة تأثّرت من إفراط البعض في اتخاذ هذه الوسائل كبديل لعلاقات صلة الرحم ولقاء الأهل والأحبة. حتى إننا غالباً ما نرى بعض الأُسر قد قلَّ احتكاك بعضها ببعض رغم وجود أفرادها في نفس المدينة بل وأحياناً في نفس البيت! ويُعدُّ هذا الأمر آفةً كبرى تهدّد كيان المجتمع بتفكّك أُسري خطير. من الحكمة أن لا يناقض استعمالنا لوسائل الاتصال واجباتنا الاجتماعية ما دمنا نُراعيها وفق إطارٍ مُتعارف عليه.

وفي هذا المقام يفرض علينا المنطق والحكمة والحاجة ضرورة توجيه المجتمع وتربيته على أدبيات استخدام وسائل الاتصال بحيث لا تنعكس سلبياتها على حياتنا ولا تؤثر في التزامنا بواجباتنا الاجتماعية. وكي لا نُصاب بمركب دونية من جرّاء قلة اهتمامنا بوسائل الاتصال الحديثة علينا أن لا ننسى أنَّ إقدام الإنسانية عبر التاريخ على إيجاد وسائل اتصال كان غايةً نبيلة أساسها التواصل والاتصال لا القطيعة والانفصال!؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك