الأمانــة

تفرَّد سيدنا الإمام المهدي بتبيان أثر الأخلاق على الحالة الروحانية. فلقد بيّن أنَّ الأخلاق الفاضلة ما هي إلا الأُسس التي تقوم عليها الحالة الروحانية. وهي ليست مجرّد مظهر للمؤمن يميّزه عن غيره بل هي ضرورات لنشوء الحالة الروحانية واستمرارها. فلا يمكن أن تنشأ الحالة الروحانية دون اكتمال بنيان الأخلاق وتمامه وعندها تجعل الحالة الروحانية هذه الأخلاق حالاتٍ طبعيةً يفرزها هذا النشوء الجديد والذي هو النشأة الأخرى أو الخلْقُ الآخر الذي تنعكس فيه صفات الله بجلاءٍ وهيبة. وهكذا فإنَّ نظرة سيدنا الإمام إلى الأخلاق تعدّت الفهم السائد عند العلماء وتخطّته إلى آفاقٍ لم تكن معروفة سابقاً. ومن هنا فإنَّ على المسلمين الأحمديين أن يحرصوا على التحلّي بهذه الأخلاق بأقصى درجاتها وفي أبهى صورها كي يصلوا إلى مُبتغاهم الروحي ويصبحوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولا بد من تذكّر حقيقة أنَّ هذه الأخلاق الفاضلة لا ينبغي أن يعتريها نقصٌ أو أن تخضع للمساومة مهما كان الغرض وأيّاً كانت النتيجة. كل ذلك طبقاً لما أمر به الله تعالى في القرآن المجيد واتِّباعاً لسُنّة المصطفى ذي الخـــُلُقِ العظيم. وسنتحدَّث وسنتذاكر في هذه الأخلاق والقيم في حلقات راجينَ من الله العون والتأييد وهو الموفِّق.”

الأمانة

الأمانة هي الصفة الثانية التي اتَّصف بها رسول الله فكان الصدوق الأمين. ذلك بأنَّ الصّدق والأمانة هما صِنوان متلازمان. ويمكن القول الأمانة هي تطبيق الصدق الذي يُترجم إلى أمانةٍ في الأقوال والأفعال. وكما أنَّ الصدق يجب أن يكون مطلقاً كذلك الأمانة ينبغي أن تكون مطلقة، ولنا في رسول الله أسوةً حسنة، فلم يساور أعداءه وأشدَّ معارضيه أي شك من أمانته في القول والفعل. وتذكر السيرة كثيراً من المناسبات التي أعلنوا فيها عدم شكِّهم في صدقه كما أنّهم، رغم عداوتهم له، كانوا يأتمنونه على أموالهم وودائِعهم لأنّهم كانوا يعلمون أنَّ لا أمانة فوق أمانته . ولكن المفارقة أنَّ ذلك لم يدفعهم إلى التسليم بصدقه في دعواه فخسر من مات منهم على الكفر خسراناً مبيناً.

والأمانة هي كما قلنا تطبيق الصدق. فهي صدق النيّات والأفعال والأقوال. فالنيّات يقوّمها الصدق، كما أنَّ الأمانة التي تبرز في القول والفعل تنعكس على صدق النيّات. فلا يلبث المتورّط بخيانة الأمانة أن يقع في فساد النية ومنها إلى الكذب. ثم يعود الكذب بالضرر على النيّات والأقوال والأفعال وهكذا حتى يدمّر الكذب الأمانة وتدمّر خيانة الأمانة الصدق. فيسقط عندها الإنسان في الفجور ويصبح فساده ظاهراً للعيان. كذلك فإنَّ فساد طوّيته وسوء سلوكه سينعكسان على مرآة وجهه فيقرأ المؤمنون بنور الله ما تنطوي عليه قرارة نفس هذا الإنسان من فساد وإن لم يجرّبوا أمانته.

والمؤمن كما لا يمكن أن يتصف بالكذب فهو كذلك لا يمكن أن يتصف بخيانة الأمانة. فلا إيمان لمن لا أمانة له كما قال المصطفى . فالأمانة إيمان، وهي إيمان المؤتمِن بأنَّ المؤتَمَن سيحفظه بالغيب. وكذلك هي أمن، فهي أمن المؤتمِن لصاحبه وعدم توقعه أن يأتيه الضرر من تجاهه. فأي إيمانٍ للإنسان لو انهار بنيان الصدق في قلبه وذُبحت الأمانة في سلوكه؟! وكيف يمكن لم يحمل أمانة الناس أن يحمل أمانة الله وأعباء شريعته التي ناءت منها السماوات والأرض والجبال وأشفقنَ منها؟!

وينبغي أن تكون الأمانة مطلقة وغايتها هي وجه الله تعالى بحيث لا تكون مرتبطة بأهواء الإنسان وعواطفه. فلا ينبغي أن يكون أميناً مع قومه وأحبّته ومقرّبيه بينما يحجب الأمانة عن غيرهم. فمن يفعل ذلك فلا يمكن أن يوصف بالأمين. فما أمانته تلك إلا ابتغاء رضوان هؤلاء وعندما يؤدّيها فقد وقع أجره وارتفع ذكره بينهم. أما المؤمن الأمين فهو الذي يؤدّي الأمانة للعدو قبل الصديق وللمبغض قبل المحب وللبعيد قبل الأخ القريب. ذلك لأنَّ المؤمن يبتغي رضوان الله ولا يبتغي مرضاة الناس، مع أنَّ مرضاة الناس ستأتيه طائعةً دون السعي إليها عند ذلك. وهو إذ يتدرّج في مقام التوكّل على الله، لا يهتم أبداً فيما إن كان أداء الأمانة للعدو ستقوّيه وتشدُّ من أزره. فينبغي على المؤمن أن يؤدّي ما أمره الله به ويترك الفصل والحكم لله. وهو إذ يفعل ذلك فإنّه يثقل جانبه بأن يجعل الله في صفه، فهل من منتصر من دون الله؟. فقمة العقل ورأس الحكمة هو التوكّل على الله. فمن ذا الذي يُعطي ويمنع ويعزّ ويذلّ ويرفع ويخفض، ومن هو مالك الملك من دونه. سبحانه وتعالى عما يصفون.

ونرى أنَّ القرآن الكريم قد حضَّ على أداء الأمانات إلى أهلها فيقول الذكر الحكيم:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْل (النساء: 59)

فنرى أنَّ القرآن الكريم قد جعل أداء الأمانات إلى أهلها واجب المؤمن أيّاً كان أهلها. فليس أداء الأمانة مقتصراً على فئة من الناس دون غيرهم. كذلك فإنَّ الآية تؤكّد أنَّ أداء الأمانة يجب أن يكون لأهلها أي لأصحابها لأنَّ تحرِّي صاحب الأمانة واجبٌ أيضاً. فلا ينبغي أن تؤدّى الأمانة إلى من هو ليس بصاحبها ومن لا يستحقّها فإنَّ ذلك ليس من الأمانة في شيء.

ونلاحظ أنَّ الآية الكريمة قد أتبعت أداء الأمانة بالحكم بين الناس بالعدل. وفي هذا تأكيد على أنَّ تحقيق إيصال الأمانة إلى أهلها يجب أن يكون بالحكم بالعدل. فلا نحكم بأنَّ الذي يستحق الأمانة هو هو إلا إذا ثبت بالحكم العدل أنّه هو هو . وبذلك فإنَّ القرآن الكريم قد استدرك باباً للظلم كثيراً ما يستغل في أكل حقوق الناس وهضمها. فلا يكفي أن تُؤدّى الأمانة بل ينبغي أن تؤدّى إلى من يستحقها. وبذلك تكتمل شروط الأمانة وتستقيم.

وأداء الأمانة بمفهومه الشامل لا ينحصر في أداء الأموال أو الودائع التي أودعت من قبل شخص عند آخر بل تتعدَّاها إلى جوانب كثيرةً جداً تشمل نواحيَ مختلفة من السلوك الإنساني. فأبسط أنواع الأمانة هو أداء الأموال والودائع إلى أهلها الذين استودعوها عند من أمَّنوه. والآية الكريمة تُشير إلى معظم هذه الجوانب الأخرى بكلماتٍ إعجازية معدودة.

فأبرز هذه الجوانب ما يتعلق بأمور الحكم والسياسة. فترتب هذه الآية واجباتٍ على الحاكم والمحكوم. فبالنسبة للحاكم ينبغي أن يُعطي الناس ما يستحقونه من حقوق وفرص عمل ومراكز بحسب تأهيلهم وأهليتّهم. وبذلك فإنّه يحقّق العدل الذي يطبّقه في الحكم على من هم مؤهّلون دون غيرهم دون أن يكون في ذلك مراعاة لعلاقات الصداقة والقرابة وغيرها. وتُكمل الآية الكريمة فتبيّن أنَّ هذه العِظة من الله ستجعل الحاكم يشعر بثمراتها وينعم بهذه الثمرات.

وبالنسبة للمحكوم فينبغي على الناس أن يوصلوا إلى الحكم من هم مؤهّلون للحكم. فلا يقومون بانتخاب منهو ليس بأهل لذلك بسبب القرابة أو الصداقة أو المصلحة الشخصيّة. وعليهم أن يحكموا بين المرشحين للحكم بالعدل بحيث يضعون أهليتهم وإمكاناتهم في الميزان ويُفاضلونهم على هذا الأساس فقط. كذلك فإنَّ الآية الكريمة تبيّن أنَّ في ذلك نعمةً عظيمة سيستشعرها هؤلاء إن أخذوا بهذه العظة. وفي حقيقة الأمر فإنَّ الحاكم إذا شعر أنَّ مؤهّلاته وأهليته هما السبب في وجوده على كرسي الحكم وبقائه عليه فإنّه سيسعى للمحافظة على هذه الأهلية وتلك المؤهّلات. أما إذا صعد على كرسي الحكم نتيجة محاباة فئةٍ له ولأنه يُحقّق مصالحها الخاصة فإنّه سيسعى إلى تحقيق مصالح هذه الفئة التي أوصلته إلى الحكم دون الالتفات إلى مصالح الآخرين. وهكذا فإنّه قد وصل إلى الحكم بالظلم وسيستخدم الظلم في حكمه لمحكوميه. فبذلك تحل المصائب عليه وعليهم.

ومن الجوانب الأخرى التي تبيّنها هذه الآية الكريمة ما يتعلّق بالحكم على أي فعل أو قول أو سلوك إذا كان المؤمن في موضع الحَكَم على أي منها. فينبغي أن يكون المؤمن أمينا في النقل وفي ردّ الفضل إلى أصحابه، ولا ينبغي أن يحجب ذلك عن عدوّه. ومن هذا الباب ما يتعلّق بالأمانة العلميّة بحيث ينبغي ألا ينسب شيئاً إلى غير صاحبه أياً كان السبب وتحت أي ظرف.

فعبد الله الحق يجب أن يعي أنَّ الله هو الحق وهو الذي يقصُّ الحق وهو خير الفاصلين. فالتزييف والتزوير في حق أعداء الحق ما هو إلا إثمٌ كبير وكذبٌ وخيانة لا يرضى الله تعالى عنها. وكيف يكون المؤمن عبداً لله الحق وهو يلتجأ إلى وثنٍ من كذب وخيانة ويتخذه إلهاً من دون الله. فأيُّ معركةٍ التي يخوضها في سبيل الحق. إنّه إن فعل ذلك فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. وخسر هنالك ووقع فيما لا ينبغي له أن يقع فيه.

ومن الجوانب العظيمة لأداء الأمانة ما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الله تعالى. فإن وعى الإنسان أنه لله وأنه راجعٌ إليه، وأنه ينبغي أن تكون صلاته ونُسكه ومحياه ومماته لله وحده رب العالمين، ربّ كل الناس من المؤمنين وغيرهم ورب الأكوان والكائنات. وأنه يجب أن يؤدّي ما أمر به الله ويجتنب ما نهى عنه.. عند ذلك سيحمل الأمانة العظمى التي ناءت بها السماوات والأرض والجبال، وعند ذلك تتحقق الغاية من خلقه. فما خلقه الله إلا لذلك.

ولقد كان المصطفى هو المظهر الحقيقي للأمين الكامل الذي حمل الأمانة العظمى على كاهله. فاستحقّ أن يصفه الله تعالى بالأمين في القرآن الكريم كما شهدت له الأرض بأنه الأمين قبل ذلك. فكان هو الإنسان الكامل الذي حقّق الغاية من خلقه وشقّ نهجاً وسنَّ سُنّة وسلك مسلكاً للسالكين يؤدّي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان وجنّاتٍ فيها نعيمٌ مُقيم. فنال المجد الدنيوي والديني جاءته الدنيا طائعةً ذليلة وهو كان عن طلبها وعنها من المعرضين. فطوبى لمن سار على نهجه واستنَّ بسنّته واهتدى بهديه وسلك مسلكه المستبين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك